118 فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مشاركة أبي عيسى عبدالله البلوشي وعبدالله المشجري وعبدالملك وأحمد بن علي وناجي الصيعري وعلي الكربي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
118 – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج 3 ص 152): حدثنا عبد الصمد قال حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال: كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويرقصون ويقولون محمد عبد صالح فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «ما يقولون؟» قالوا يقولون محمد عبد صالح.
هذا حديث صحيحٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
أولاً: دراسة الحديث روايةً:
* قال محققو المسند (20/ 17): ” إسناده صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه ابن حبان (5870) من طريق هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد.
وانظر ما سيأتي برقم (12649). وفي الباب عن عائشة، سيأتي 6/ 56.”
* أخرج أبو داود في سننه 4923 عن أنسِ، قال: لَمَّا قَدِمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ لَعِبتِ الحبشة لقُدومه فَرَحاً بذلك، لَعِبُوا بحرَابِهم.
قال محققو سنن أبي داود: ” إسناده صحيح.
وهو عند عبد الرزاق في “مصنفه” (19723)، ومن طريقه أخرجه أحمد في “مسنده” (12649)، وعبد بن حميد (1239)، وأبو يعلى في “مسنده” (3459)، والبيهقي في “السنن” 7/ 92، والبغوي في “شرح السنة” (3768)، والضياء في “المختارة” (1780) و (1781) و (1782). وأخرج أحمد في “مسنده” (12540)، وابن حبان في “صحيحه” (5870) من حديث أنس قال: كانت الحبشة يَزْفِنُون بين يَدَي رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ويَرْقُصونَ، ويقولون: محمدٌ عبدٌ صالحٌ. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما يقولون”؟ قالوا؟ يقولون: محمدٌ عبدٌ صالحٌ. وإسناده صحيح.
وقوله: يزفنون معناه يرقصون، قال النووي: وحمله العلماء على التوثب بسلاحهم ولعبهم بحرابهم على قريب من هيئة الرقص؛ لأن معظم الروايات إنما فيها لعبهم بحرابهم فتأول هذه اللفظة على موافقة سائر الروايات”.
* الحديث أورده الهيثمي في غاية المقصد في وزائد المسند (2/ 493): وقال: قلت: له عند أبى داود حديث فى لعب الحبشة غير هذا.
* الحديث أخرجه المقدسي في المختارة 1680.
* جاء في مستخرج أبي عوانة في باب إباحة اللعب في المسجد والنظر إليه والاشتغال به يوم العيد برقم 2656 عن عائشة قالت: «بينا الحبشة يزفنون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطأطئ منكبه، فجعلت أطلع من فوق منكبه أنظر إليهم» قال محقق مستخرج أبي عوانة ط الجامعة الإسلامية: “أخرجه مسلم -كما تقدم- (2/ 609) ح 892/ 20، من طريق هشام به نحوه، وقول عائشة رضي الله عنها: “فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطأطئ منكبه” من زيادات المصنف، وهذا من فوائد الاستخراج في هذا الحديث.”
* قال صاحب أنيس الساري (7/ 4785) برقم 3412: “وإسناده صحيح رواته ثقات.”
وأصل الحديث في البخاري 950، 2907 ومسلم 892 ولفظه:
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ، تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَّا قَالَ: «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ» حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: «حَسْبُكِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاذْهَبِي»
في رواية للنسائي -8953 – :
عن عمرو بن منصور، عن الحكم بن نافع، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عروة، أن عائشة قالت: واللَّه لقد رأيت النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحراب في المسجد، يسترني بردائه، لكي أنظر إلى لعبهم، ثم أقوم من أجلي، حتى أكون أنا التي أَمَلُّ، فاقدروا بقدر الجارية الحديثة السنّ، الحريصة على اللَّهو
ثانيًا: دراسة الحديث درايةً:
شرح الحديث:
* قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 310): ” وقوله فى الحبشة: ” يزفنون ” فى الحديث الآخر ولم يأت عندهم فى سائر الأحاديث سوى اللعب بالسلاح، فقيل: معناه: يرقصون، والزفن: الرقص، وهو وثبهم بسلاحهم تلك، وحجلهم أثناء عملهم بها كحركة المثاقف، وإنكار عمر وحصبه لهم بالحصباء – مما تقدم – مخافة أن يكون ذلك فيما لا يباح، حتى زجره النبى صلى الله عليه وسلم عنهم، ولعله لم يعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم يرى لعبهم، حتى سمع كلامه.
وقوله: ” فأهوى إلى الحصباء “: أى أمال يده لأخذها. وقول عطاء فيه: ” فرس أو حبش ” شك من الرواى، والصواب حبش”.
* وقال القاضي في مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 312): ” (ز ف ن) قوله في الحبشة يزفنون بفتح الياء أي يرقصون والزفن الرقص وهو لعبهم وقفزهم بحرابهم للمثافنة وذهب أبو عبيد إلى أنه من الزفن بالدف والأول الصواب لأن ما ذكر لا يصح في المسجد وهذا من باب التدرب في الحرب وشبهه وكان فيما قيل تنزيه المساجد عن مثله”.
* جاء في ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (17/ 242) في شرح حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه قالت: جَاءَ السُّودَانُ, يَلْعَبُونَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ – صلى اللَّه عليه وسلم – فِي يَوْمِ عِيدٍ, فَدَعَانِي, فَكُنْتُ أَطَّلِعُ إِلَيْهِمْ, مِنْ فَوْقِ عَاتِقِهِ, فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ, حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي انْصَرَفْتُ.
(عَنْ عَائِشَةَ) – رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها (قَالَتْ: جَاءَ السُّودَانُ) المراد بهم الحبشة، لما في الرواية الآتية في الباب التالي: “وأنا أنظر إلى الحبشة، يلعبون في المسجد”، وفي رواية مسلم: “جاء حبش يلعبون في المسجد”، وفي رواية له: “والحبشة يلعبون بِحِرَابهم في مسجد رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلم -“.
قال في “الفتح”: قال المحبّ الطبري -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هذا السياق يُشعر بأن عادتهم ذلك في كلّ عيد، ووقع في رواية ابن حبّان “لما قَدِمَ الحبشة قاموا يلعبون في المسجد”، وهذا يشعر بأن الترخيص لهم في ذلك بحال القدوم، ولا تنافي بينهما لاحتمال أن يكون قدومهم صادف يوم عيد، وكان من عادتهم اللعب في الأعياد، ففعلوا ذلك كعادتهم، ثم صاروا يلعبون يوم كلِّ عيد.
ويؤيّده ما رواه أبو داود عن أنس – رضي اللَّه عنه – قال: “لما قدم النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – المدينة لَعِبَت الحبشة، فَرَحًا بذلك، لعبوا بحرابهم”. ولا شك أن يوم قدومه – صلى اللَّه عليه وسلم – كان عندهم أعظم من يوم العيد. قال الزين ابن المنيّر -رَحِمَهُ اللَّهُ-: سماه لعبًا، وإن كان أصله التدريب على العرب، وهو من الجدّ، لما فيه من شبه اللعب، لكونه يَقصد إلى الطعن، ولا يفعله، ويوهم بذلك قرنه، ولو كان أباه، أو ابنه انتهى.
(يَلْعَبُونَ) جملة حالية من الفاعل (بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ – صلى اللَّه عليه وسلم -، فِي يَوْمِ عِيدٍ) الظرف والجارّ والمجرور متعلقان بـ “يلعبون” (فَدَعَانِي) وفي رواية البخاري “فإِمّا سَألت رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلم -، وإما قال: تشتهين، تنظرين”.
قال في “الفتح”: هذا تردّد منها فيما كان وقع له، هل كان أذن لها في ذلك ابتداءً منه، أو عن سؤال منها، وهذا بناءٌ على أن “سألْتُ” بسكون اللام على أنه كلامُها، ويَحتملُ أن يكون بفتح اللام، فيكون كلام الراوي، فلا ينافي مع ذلك قوله: “وإما قال: تشتهين تنظرين”.
وقد اختلفت الروايات عنها في ذلك، ففي رواية النسائيّ -18/ 8957 – من طريق يزيد بن رُومان عنها: “سمعتُ لغَطًا، وصوت صبيان، فقام النبي – صلى اللَّه عليه وسلم -، فإذا حَبَشيّة تَزْفِن “أي تَرقُص” والصبيان حولها، فقال: “يا عائشة، تعالي، فانظري”. ففي هذا أنه ابتدأها، وفي رواية عُبيد بن عُمير، عنها عند مسلم أنها قالت للعّابين: “وددتُ أني أراهم”، ففي هذا أنها سألت، ويُجمَع بينهما بأنها التمست منه ذلك، فأذن لها. وفي رواية النسائي من طريق أبي سلمة، عنها: “دخل الحبشة، يلعبون، فقال لي النبي – صلى اللَّه عليه وسلم -: يا حُميراء، أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم”، إسناده صحيح.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا.
وفي رواية أبي سلمة هذه من الزيادة عنها، قالت: “ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبًا”، كذا فيه بالنصب، وهو حكاية قول الحبشة، ولأحمد، والسراج، وابن حبّان من حديث أنس – رضي اللَّه عنه -:”أن الحبشة كانت تَزفِن بين يدي النبي – صلى اللَّه عليه وسلم -، ويتكلّمون بكلام لهم، فقال: “ما يقولون؟ قال: يقولون: محمد عبد صالح. ولفظ أحمد: كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلم -، ويرقصون، ويقولون: محمد عبد صالح، فقال رسول اللَه – صلى اللَّه عليه وسلم -: “ما يقولون؟ “، قالوا: يقولون: محمد عبد صالح.
(فَكُنْتُ أَطَّلِعُ إِلَيْهِمْ) أي أنظر إلى لعبهم (مِنْ فَوْقِ عَاتِقِهِ) هو ما بين المنكب والعنق، وهو موضع الرداء، ويذكّر، ويؤنّث، والجمع عواتق، قاله في “المصباح”.
وفي رواية البخاري: “فأقامني وراءه، خدّي على خدّه”. وفي رواية مسلم: “فوضعت رأسي على منكبه”، وفي رواية أبي سلمة المذكورة: “فوضعت ذَقَني على عاتقه، وأسندت وجهي إلى خدّه”، وفي رواية عُبيد بن عُمير، عنها “أنظر بين أذنه وعاتقه”، ومعانيها متقاربة، ورواية أبي سلمة أَبْيَنُها. وفي رواية الزهري، عن عروة الآتية في الباب التالي: “يسترني بردائه، وأنا أنظر”.
قال الحافظ: ويتعقّب به على الزين بن المنيّر في استنباطه من لفظ حديث الباب جواز اكتفاء المرأة بالتستّر بالقيام خلف من تستتر به، من زوج، أو ذي رحم محرم، إذا قام ذلك مقام الرداء، لأن القصّة واحدة، وقد وقع فيها التنصيص على وجود التستر بالرداء انتهى.
(فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي إلى لعبهم (حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي انْصَرَفْتُ) وفي رواية الزهري عند البخاريّ “حتى أكون أنا الذي أسأم”، وفي رواية لمسلم من طريقه “ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا الذي أنصرف”، وفي رواية يزيد بن رُومان عند النسائي في – الكبرى 18/ 8957 – أَمَا شَبِعتِ؟ قالت: فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده”، وله من رواية أبي سلمة، عنها “قلت: يا رسول اللَّه لا تعجل، فقام لي، ثم قال: حسبك؟ قلت: لا تعجل، قال: وما بي حبّ النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي، ومكاني منه”.
وفي الرواية الآتية في الباب التالي “حتى أكون أنا أسأم، فاقدروا قدرَ الجارية الحديثة السنّ، الحريصة على اللَّهو”.
وأشارت بذلك إلى أنها كانت شابّة، وقد تمسك به من ادّعى نسخ هذا الحكم، وأنه كان في أول الإسلام، وردّ بأن قولها: “يسترني بردائه” دالّ على أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، وكذا قولها: “أحببت أن يبلغ النساء مقامُهُ لي” مشعر بأن ذلك وقع بعد أن صارت لها ضرائر، أرادت الفخر عليهنّ، فالظاهر أن ذلك وقع بعد بلوغها، وقد تقدّم من رواية ابن حبان أن ذلك لما قدم وفد الحبشة، وكان قدومهم سنة سبع، فيكون عمرها خمس عشرة سنة. قاله في “الفتح” .. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
المسألة الرابعة: في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وهو مشروعية اللعب بين يدي الإمام يوم العيد.
ومنها: جواز اللعب بالسِّلَاح على طريق التواثب، للتدريب على الحرب، والتنشيط عليه في المسجد، ويلتحق به ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد، وأنواع البرّ.
قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام -رَحِمَهُ اللَّهُ-: في تمكينه – صلى اللَّه عليه وسلم – الحبشة من اللعب في المسجد دليلٌ على جواز ذلك، فَلِمَ كره العلماء اللعب في المساجد؟، قال: والجواب أن لعب الحبشة كان بالسلاح، واللعب بالسلاح مندوب إليه للقوّة على الجهاد، فصار ذلك من القُرَب، كإقراء علم، وتسبيح، وغير ذلك من القُرَب، ولأن ذلك كان على وجه الندور، والذي يُفضي إلى امتهان المساجد إنما هو أن يتخذ ذلك عادة مستمرّة، ولذلك قال الشافعي – رضي اللَّه عنه -: لا أكره القضاء في المسجد المرّة والمرّتين، وإنما أكرهه على وجه العادة انتهى.
ومنها. جواز المثاقفة، لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب، ومنها: حسن خلق النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – مع أهله، وكريم معاشرته لهنّ. ومنها: فضل عائشة – رضي اللَّه عنها -، وعظيم محلّها عند النبي – صلى اللَّه عليه وسلم -. ومنها: ما قاله القاضي عياض -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجال الأجانب، لأنه إنما يكره لهنّ النظر إلى المحاسن، والاستلذاذ بذلك، وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أما النظر بشهوة، وعند خشية الفتنة، فحرام اتفاقا، وأما بغير شهوة، فالأصحّ أنه محرّم، وأجاب عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة. وسيأتي في الباب التالي ما يردّ عليه أن ذلك كان سنة سبع من الهجرة، وعائشة قد بلغت من غير شكّ.
قال: أو كانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم، لا إلى وجوههم، وأبدانهم، وإن وقع بلا قصد أمكن أن تصرفه في الحال انتهى.
قال الجامع – عفا اللَّه تعالى عنه -: سيأتي قريبًا أن الأرجح جواز نظر المرأة إلى الرجل عند أمن الفتنة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وقال الشيخ الإتيوبي رحمه الله في شرح النسائي في باب اللَّعِبُ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَنَظَرُ النِّسَاءِ إِلَى ذَلِكَ: ” بوّب -رحمه اللَّه تعالى- لمسألتين:
إحداهما: جواز اللعب في المسجد يوم العيد.
الثانية: جواز نظر النساء إلى اللعب.
وقد بوّب الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللَّهُ- في “كتاب النكاح” من “صحيحه”: “باب نظر المرأة إلى الحبش، ونحوهم من غير رِيبة”. ثم أورد حديث عائشة – رضي اللَّه عنها – المذكور في الباب.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وظاهر الترجمة أن المصنف كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبيّ بخلاف عكسه، وهي مسألة شهيرة، واختلف الترجيح فيها عند الشافعية، وحديث الباب يُساعد من أجاز، وقد تقدّم في “أبواب العيدين” جواب النووي عن ذلك بأن عائشة كانت صغيرة، دون البلوغ، أو كان قبل الحجاب، وقوّاه بقولها في هذه الرواية: “فاقدروا قدر الجارية، الحديثة السنّ”.
لكن تقدّم ما يعكر عليه بأن في بعض طرقه أن ذلك كان بعد قدوم وفد الحبشة، وأن قدومهم كان سنة سبع، ولعائشة – رضي اللَّه عنها -، يومئذ ست عشرة سنة، فكانت بالغة، وكان ذلك بعد الحجاب. وحجة من منع حديثُ أم سلمة الحديث المشهور: “أفعَمْيَاوان أنتما”، وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري، عن نَبْهان، مولى أم سلمة، عنها، وإسناده قويّ، وأكثر ما عُلّل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلّة قادحة، فمن من يعرفه الزهريّ، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة، ولم يجرحه أحدٌ، لا تُردّ روايته.
والجمع بين الحديثين احتمالُ تقدم الواقعة، أو أن يكون في قصّة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يَمنع النساءَ من رؤيته، لكون ابن أم مكتوم كان أعمى، فلعلّه كان منه شيء، ينكشف، ولا يشعر به.
ويقوّي الجوازَ استمرارُ العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد، والأسواق، والأسفار، منتقبات، لئلا يراهنّ الرجال، ولم يؤمر الرجالُ قطّ بالانتقاب، لئلا يراهم النساء، فدلّ على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتجّ الغزاليّ على الجواز، فقال: لسنا نقول: إن وجه الرجل في حقّها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل كوجه الأمرد في حقّ الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة، فقط، وإن لم تكن فتنة فلا، إذ لم تزل الرجال على ممرّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنساءُ يخرجن منتقبات، فلو استووا لأُمِرَ الرجالُ بالتنقّب، أو مُنِعْنَ الخروجَ انتهى.
قال الجامع – عفا اللَّه تعالى عنه -:
ما قاله الغزالي -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ عندي، وإن كان ظاهر تبويب المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- يوافق مذهب المانعين، حيث قيّد النظر باللعب، فإن اسم الإشارة في قوله: “ونظر النساء إلى ذلك” يرجع إلى اللعب، فكأنه يقول. النظر للعب، لا للرجال، وهو مخالف لظاهر تبويب البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، كما تقدّم.
والحاصل أن مذهب المجوّزين لنظر المرأة إلى وجه الرجل دون العكس عند الأمن من الفتنة هو الراجح؛ لظاهر حديث الباب، ولما شاع عند المسلمين في كلّ عصر ومصر من استمرار العمل على جواز خروج المرأة إلى المساجد ونحوها، محتجبة لئلا يراها الرجال، ولم يؤمر الرجال بذلك، فلو كان نظر المرأة كنظر الرجل إلى المرأة لأُمر الرجال بالاحتجاب كالنساء، وهذا أقوى حجة في هذه المسألة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
* قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (4/ 66): ” فَصْلٌ (يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنْ كَلَامٍ وَشِعْرٍ قَبِيحٍ وَغِنَاءٍ وَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ، وَيُبَاحُ فِيهِ اللَّعِبُ بِالسِّلَاحِ).
وَيُسَنُّ صَوْنُهُ عَنْ إنْشَادِ شِعْرٍ قَبِيحٍ وَمُحَرَّمٍ وَغِنَاءٍ وَعَمَلِ سَمَاعٍ وَإِنْشَادِ ضَالَّةٍ وَنِشْدَانِهَا وَيَقُولُ لَهُ سَامِعُهُ: وَلَا وَجَدْتهَا وَلَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَقُولَ: لَا وُجِدَتْ، إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُتَوَجَّهُ فِي نَشْدِ الضَّالَّةِ وَهُوَ طَلَبُهَا وَإِنْشَادُهَا وَهُوَ تَعْرِيفُهَا مَا فِي الْعُقُودِ مِنْ التَّحْرِيمِ.
وَلِهَذَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّ النَّهْيَ عَنْهَا يَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْعُقُودِ فَدَلَّ عَلَى التَّسْوِيَةِ لَكِنَّ مَذْهَبَهُ الْكَرَاهَةُ وَإِذَا حَرُمَ وَجَبَ إنْكَارُهُ قَالَ فِي الْغُنْيَةِ لَا بَاسَ بِإِنْشَادِ شِعْرٍ خَالٍ مِنْ سُخْفِ وَهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَوْلَى صِيَانَتُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الزُّهْدِيَّاتِ فَيَجُوزُ الْإِكْثَارُ إلَّا أَنَّ الْمَسَاجِدَ وُضِعَتْ لِذِكْرِ اللَّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجَلَّ عَنْ ذَلِكَ وَفِي الشَّرْحِ يُكْرَهُ إنْشَادُ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَعَنْ نَظَرِ حُرُمِ النَّاسِ وَعَنْ إقَامَةِ حَدٍّ وَسَلِّ سَيْفٍ وَنَحْوِهِ وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمِنْ السُّنَّةِ ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَتَرْكُ الْخَوْضِ، وَالْفُضُولِ وَحَدِيثِ الدُّنْيَا فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَقَدْ رُوِيَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ غَلِيظَةٌ صَعْبَةٌ بِطُرُقٍ جِيَادٍ صِحَاحٍ وَرِجَالٍ ثِقَاتٍ مِنْهَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ إمَامُهُمْ الدُّنْيَا لَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ}.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ {لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَجْلِسَ النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ لَيْسَ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ حَدِيثُهُمْ فِيهَا الدُّنْيَا.
} وَمِنْهَا مَا قَالَهُ الْحَسَنُ: سَيَاتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ حِلَقًا حِلَقًا حَدِيثُهُمْ الدُّنْيَا لَا تُجَالِسُوهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَرَكَهُمْ مِنْ يَدِهِ.
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حَدِيثِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ بِالْجِدَالِ، وَالْخُصُومَةِ وَإِنْشَادِ الضَّوَالِّ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ الْغَزَلِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ وَسَلِّ السُّيُوفِ وَكَثْرَةِ اللَّغَطِ وَدُخُولِ الصِّبْيَانِ، وَالنِّسَاءِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالْجُنُبِ، وَالِارْتِقَاءُ بِالْمَسْجِدِ وَاِتِّخَاذَهُ لِلصَّنْعَةِ، وَالتِّجَارَةِ كَالْحَانُوتِ مَكْرُوهٌ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَالْفَاعِلُ لَهُ آثِمٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَتَغْلِيظِهِ عَلَى فَاعِلِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَقَدْ سُئِلَ يُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَالَ: يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَهُ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ يُكْرَهُ الْكَلَامُ قَبْلَ الصَّلَاةِ إنَّمَا هِيَ سَاعَةُ تَسْبِيحٍ.
وَقَالَ مُهَنَّا سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْكَلَامِ، وَالْحَدِيثِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَكَرِهَهُ وَقَالَ عُمَرُ: نَنْهَى عَنْهُ، وَنَقَلَ عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ قَالَ كُنَّا نَتَنَاظَرُ فِي الْمَسَائِلِ أَنَا وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَنَقَلَ عَنْهُ صَالِحٌ أَنَّهُ أَجَازَ الْكَلَامَ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ لَيْسَ الْكَلَامَ الْكَثِيرَ قَالَ الْقَاضِي فَقَدْ أَجَازَ الْكَلَامَ فِي الْفِقْهِ وَأَجَازَ الْيَسِيرَ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
{وَلَعِبَ الْحَبَشَةُ بِدَرَقِهِمْ وَحِرَابِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ عِيدٍ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُ عَائِشَةَ وَهِيَ تَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَقَالَ دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ} رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ وَبَنُو أَرِفْدَةَ جِنْسٌ مِنْ الْحَبَشَةِ يَرْقُصُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَيُقَالُ: بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرُهَا أَشْهَرُ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِالسِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ فِي الْمَسْجِدِ وَيُلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْجِهَادِ وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّافَةِ، وَالرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ {جَاءَ جَيْشٌ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ.} يَزْفِنُونَ أَيْ: يَرْقُصُونَ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى التَّوَثُّبِ بِسِلَاحِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَيْئَةِ الرَّاقِصِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا فِيهَا لَعِبُهُمْ بِحِرَابِهِمْ فَتَنَاوَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَزَادَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ {لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ} وَلِأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ {لَمَّا كَانَتْ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْقُصُونَ وَيَقُولُونَ مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ فَقَالَ مَا يَقُولُونَ؟ قَالُوا: يَقُولُونَ مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ}.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ {بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرَابِهِمْ إذْ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَهْوَى إلَى الْحَصْبَاءِ يَحْصِبُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُمْ يَا عُمَرُ} قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.
* بوب النسائي في كتاب عشرة النساء إِبَاحَةُ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ النَّظَرَ إِلَى اللَّعِبِ، ومما أورد تحته من الأحاديث:
عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: دَخَلَ الْحَبَشَةُ الْمَسْجِدَ يَلْعَبُونَ فَقَالَ لِي: يَا حُمَيْرَاءُ أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ فَقُلْتُ: ” نَعَمْ، فَقَامَ بِالْبَابِ وَجِئْتُهُ فَوَضَعْتُ ذَقَنِي عَلَى عَاتِقَهُ فَأَسْنَدْتُ وَجْهِي إِلَى خَدِّهِ ” قَالَتْ: ” وَمِنْ قَوْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَبَا الْقَاسِمِ طَيِّبًا ” فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” حَسْبُكِ ” فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ، فَقَامَ لِي ثُمَّ قَالَ: ” حَسْبُكِ ” فَقُلْتُ: ” لَا تَعْجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ” قَالَتْ: ” وَمَا لِي حُبُّ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْلُغَ النِّسَاءَ مَقَامُهُ لِي وَمَكَانِي مِنْهُ ”
أَخْبَرَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، وَأَنَا جَارِيَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ ”
– قال النووي في شرح مسلم (ج 3 / ص 288): “وَفِيهِ جَوَاز نَظَر النِّسَاء إِلَى لَعِب الرِّجَال مِنْ غَيْر نَظَر إِلَى نَفْس الْبَدَن. وَأَمَّا نَظَر الْمَرْأَة إِلَى وَجْه الرَّجُل الْأَجْنَبِيّ فَإِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَحَرَام بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَة وَلَا مَخَافَة فِتْنَة فَفِي جَوَازه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا تَحْرِيمه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارهنَّ} وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَة وَأُمّ حَبِيبَة: (اِحْتَجِبَا عَنْهُ) أَيْ عَنْ اِبْن أُمّ مَكْتُوم فَقَالَتَا: إِنَّهُ أَعْمَى لَا يُبْصِرنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَيْسَ تُبْصِرَانِهِ)؟ وَهُوَ حَدِيث حَسَن رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره وَقَالَ: هُوَ حَدِيث حَسَن، وَعَلَى هَذَا أَجَابُوا عَنْ حَدِيث عَائِشَة بِجَوَابَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا نَظَرَتْ إِلَى وُجُوههمْ وَأَبْدَانهمْ، وَإِنَّمَا نَظَرَتْ لَعِبهمْ وَحِرَابهمْ، وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ تَعَمُّد النَّظَر إِلَى الْبَدَن وَإِنْ وَقَعَ النَّظَر بِلَا قَصْد صَرَفَتْهُ فِي الْحَال. وَالثَّانِي: لَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْل نُزُول الْآيَة فِي تَحْرِيم النَّظَر، وَأَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَة قَبْل بُلُوغهَا، فَلَمْ تَكُنْ مُكَلَّفَة عَلَى قَوْل مَنْ يَقُول: إِنَّ لِلصَّغِيرِ الْمُرَاهِق النَّظَر وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّافَة وَالرَّحْمَة وَحُسْن الْخُلُق وَالْمُعَاشَرَة بِالْمَعْرُوفِ مَعَ الْأَهْل وَالْأَزْوَاج وَغَيْرهمْ
قَوْلهَا: (وَأَنَا جَارِيَة فَاقْدُرُوا قَدْر الْجَارِيَة الْعَرِبَة حَدِيثَة السِّنّ) مَعْنَاهُ: أَنَّهَا تُحِبّ اللَّهْو وَالتَّفَرُّج وَالنَّظَر إِلَى اللَّعِب حُبًّا بَلِيغًا وَتَحْرِص عَلَى إِدَامَته مَا أَمْكَنَهَا وَلَا تَمَلّ ذَلِكَ إِلَّا بِعُذْرٍ مِنْ تَطْوِيل.”
– وقال ابن حجر في فتح الباري (ج 14 / ص 480): “قَوْله (قَدْر الْجَارِيَة الْحَدِيثَة السِّنّ) أَيْ الْقَرِيبَة الْعَهْد بِالصِّغَرِ، وَقَدْ بَيَّنْت فِي شَرْح الْمَتْن فِي الْعِيدَيْنِ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمئِذٍ بِنْت خَمْس عَشْرَة سَنَة أَوْ أَزْيَد، وَوَقَعَ عِنْد مُسْلِم مِنْ رِوَايَة عَمْرو بْن الْحَارِث عَنْ الزُّهْرِيِّ ” الْجَارِيَة الْعَرِبَة ” وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَكَسْرِ الرَّاء بَعْدهَا مُوَحَّدَة، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيره فِي صِفَة الْجَنَّة مِنْ بَدْء الْخَلْق.”
– وقال ابن رجب في فتح الباري (ج 3 / ص 255): “والمقصود من هذا الحديث: جواز اللعب بآلات الحرب في المساجد؛ فان ذلك من باب التمرين على الجهاد، فيكون من العبادات.
ويؤخذ من هذا: جواز تعلم الرمي ونحوه في المساجد، ما لم يخشى الأذى بذلك لمن في المسجد، كما تقدم في الأمر بالإمساك على نصال السهم في المسجد لئلا تصيب مسلما، ولهذا لم تجر عادة المسلمين بالرمي في المساجد.
وقد قال الأوزاعي: كان عمر بن عبد العزيز يكره النصال بالعشي، فقيل له: لم؟ قال: لعمارة المساجد.
ولكن أن كان مسجد مهجور ليس فيه أحد، أو كان المسجد مغلقا ليس فيه إلا من يتعلم الرمي فلا يمنع جوازه حينئذ. والله أعلم.
وحكى القاضي عياض، عن بعض شيوخه، أنه قال: إنما يمنع في المساجد من عمل الصنائع التي يختص بنفعها آحاد الناس وتكتسب به، فأما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة، وإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عمله فلا بأس به. والله أعلم.”
– وقال ابن حجر في باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم:
هذه الترجمة تخالف في الظاهر الترجمة المتقدمة وهي باب الحراب والدرق يوم العيد لأن تلك دائرة بين الإباحة والندب على ما دل عليه حديثها وهذه دائرة بين الكراهة والتحريم لقول بن عمر في يوم لا يحل فيه حمل السلاح ويجمع بينهما بحمل الحالة الأولى على وقوعها ممن حملها بالدربة وعهدت منه السلامة من إيذاء أحد من الناس بها وحمل الحالة الثانية على وقوعها ممن حملها بطرا وأشرا أو لم يتحفظ حال حملها وتجريدها من إصابتها أحدا من الناس ولا سيما عند المزاحمة وفي المسالك الضيقة
[فتح الباري لابن حجر (2/ 455)]
– وقال ابن بطال (ج 13 / ص 297): “قال المهلب: فيه جواز نقل الأخبار عن حسن المعاشرة وضرب الأمثال بها، والتأسى بأهل الإحسان من كل أمة، ألا ترى أن أم زرع أخبرت عن أبى زرع بحسن عشرته، فتمثله النبى، عليه السلام.
وفيه: جواز تذكير الرجل امرأته بإحسانه إليها؛ لأنه لما جاز من النساء كفران العشير، جاز تذكيرهن بالإحسان، وفيه فى قصة الحبشة أن تفسير حسن المعاشرة هو الموافقة والمساعدة على الإرادة غير المحرمة، والصبر على أخلاق النساء والصبيان فى غير المحرم من اللهو، وإن كان الصابر كارهًا لما يحبه أهله.
وقال أبو عبيد: سمعت أهل العلم يقولون فى تفسير هذا الحديث: قول الأولى: لحم جمل غث، تعنى المهزول. وقال أبو سعيد النيسابورى: ليس شاء من الغثات من الأزواج الثمانية هو أخبث غثاثة من الجمل؛ لأنه يجمع خبث طعم وخبث ريح.
وفى هذا الحديث: حجة لمن أجاز النظر إلى اللعب فى الوليمة وغيرها.
وفيه: جواز نظر النساء إلى اللهو واللعب، لاسيما الحديثة السن، فإن النبى عليه السلام قد عذرها لحداثة سنها.
وفيه: أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة، ألا ترى إلى ما اتفق عليه العلماء فى الشهادة على المرأة أن ذلك لا يكون إلا بالنظر إلى وجهها، ومعلوم أنها تنظر إليه حينئذ كما ينظر إليها، وإنما أراد البخارى بهذا الحديث، والله أعلم، الرد لحديث ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة، أنها قالت: كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: «احتجبا منه»، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: أفعمياوان أنتما؟»، وحديث عائشة أصح منه؛ لأن نبهان ليس بمعروف بنقل العلم ولا يروى إلا حديثين، أحدهما هذا، والثانى فى المكاتب إذا كان معه ما يؤدى احتجبت منه سيدته، فلا يشتغل بحديث نبهان لمعارضة الأحاديث الثابت له وإجماع العلماء.”
– وقال العراقي في طرح التثريب (ج 7 / ص 190): ” (فِيهِ) فَوَائِدُ: (الْأُولَى) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بِمَعْنَاهُ وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ (تَسْمَعُ اللَّهْوَ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَفِيهِ وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ إلَى لَعِبِهِمْ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَمُسْلِمٌ مُسْنَدًا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ وَفِيهِ حَرِيصَةٌ عَلَى اللَّهْوِ وَذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا سَاقَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمُعَلَّقَةَ مُخْتَصَرَةً، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ وَفِيهِ (الْحَرِيصَةُ عَلَى اللَّهْوِ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَفِيهِ {فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْغَرْبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ} خَمْسَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى تَرَكْتهَا اخْتِصَارًا.
(الثَّانِيَةُ) فِيهِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِالسِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْجِهَادِ وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَقَالَ الْمُهَلَّبُ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ: الْمَسْجِدُ مَوْضُوعٌ لِأَمْرِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَا كَانَ مِنْ الْأَعْمَالِ مِمَّا يَجْمَعُ مَنْفَعَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَسْجِدِ وَاللَّعِبُ بِالْحِرَابِ مِنْ تَدْرِيبِ الشُّجْعَانِ عَلَى مَعَانِي الْحُرُوبِ وَهِيَ مِنْ الِاشْتِدَادِ لِلْعَدُوِّ وَالْقُوَّةِ عَلَى الْحَرْبِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
(الثَّالِثَةُ) وَفِيهِ جَوَازُ نَظَرِ النِّسَاءِ إلَى لَعِبِ الرِّجَالِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ إيَّاهَا لِتَنْظُرَ إلَى اللَّعِبِ بِالْحِرَابِ لِتَضْبِطَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ وَتَنْقُلَ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْمُحْكَمَةِ إلَى بَعْضِ مَنْ يَاتِي مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَتُعَرِّفَهُمْ بِذَلِكَ.
(الرَّابِعَةُ) وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَاسَ بِتَرْوِيحِ النَّفْسِ بِالنَّظَرِ إلَى بَعْضِ اللَّهْوِ الْمُبَاحِ.
(الْخَامِسَةُ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا أَوْجُهٌ: (أَحَدُهَا) وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ جَوَازَهُ فَتَنْظُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ إلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
وَ (الثَّانِي) لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ مَا يَبْدُو فِي الْمِهْنَةِ فَقَطْ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُحْتَمَلٌ لِلْوَجْهَيْنِ.
وَ (الثَّالِثُ) وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ لِجَمَاعَةِ تَحْرِيمِ نَظَرِهَا لَهُ كَمَا يَحْرُمُ نَظَرُهُ إلَيْهَا وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} {وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمِّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا احْتَجِبَا عَنْهُ أَيْ عَنْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَتَا: إنَّهُ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ}.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَحَسَّنَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا بِجَوَابَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا نَظَرَتْ إلَى وُجُوهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَإِنَّمَا نَظَرَتْ لَعِبَهُمْ وَحِرَابَهُمْ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعَمُّدُ النَّظَرِ إلَى الْبَدَنِ وَإِنْ وَقَعَ بِلَا قَصْدٍ صَرَفَتْهُ فِي الْحَالِ.
وَ (الثَّانِي) لَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَةً قَبْلَ بُلُوغِهَا فَلَمْ تَكُنْ مُكَلَّفَةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الصَّغِيرَ الْمُرَاهِقَ لَا يُمْنَعُ النَّظَرَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ النَّظَرُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَا خَوْفِ فِتْنَةٍ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ حَرُمَ قَطْعًا.
(السَّادِسَةُ) وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّافَةِ وَالرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَمُعَاشَرَةِ الْأَهْلِ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: (مِنْهَا) تَمْكِينُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَائِشَةَ مِنْ النَّظَرِ إلَى هَذَا اللَّهْوِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ عَلَيْهَا بَلْ جَعَلَ الْخِيرَةَ إلَيْهَا فِي قَدْرِ وُقُوفِهَا.
(وَمِنْهَا) مُبَاشَرَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِتْرَهَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَبِرِدَائِهِ وَمُرَافَقَتُهَا فِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكِلْهُ إلَى غَيْرِهِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَتْ بِقَوْلِهَا: ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي.
(السَّابِعَةُ). (إنْ قُلْت) فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَوَضَعْت رَاسِي عَلَى مَنْكِبِهِ وَكُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا.
(قُلْت) لَا تَنَافِي بَيْنَهَا فَإِنَّهَا إذَا وَضَعَتْ رَاسَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ صَارَتْ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ فَإِنْ تَمَكَّنَتْ فِي ذَلِكَ صَارَ خَدُّهَا عَلَى خَدِّهِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ قَارَبَ خَدُّهَا خَدَّهُ.
(الثَّامِنَةُ) قَوْلُهَا فَاقْدُرُوا هُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مِنْ التَّقْدِيرِ أَيْ قَدِّرُوا فِي أَنْفُسِكُمْ قَدْرَ رَغْبَةِ مَنْ تَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ حَدَاثَةِ السِّنِّ وَالْحِرْصِ عَلَى اللَّهْوِ وَلَا مَانِعَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ وَأَشَارَتْ بِذَلِكَ إلَى طُولِ مُدَّةِ وُقُوفِهَا لِذَلِكَ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تُحِبُّ اللَّهْوَ وَالتَّفَرُّجَ وَالنَّظَرَ إلَى اللَّعِبِ حُبًّا بَلِيغًا وَتَحْرِصُ عَلَى إدَامَتِهِ مَا أَمْكَنَهَا وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ.
وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْعَرِبَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَاهُ الْمُشْتَهِيَةُ لِلَّعِبِ الْمُحِبَّةُ لَهُ.
(التَّاسِعَةُ) قَوْلُهُ: الْحَرِيصَةُ لِلَّهْوِ، كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِنَا مِنْ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا حَرِيصَةٌ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهَا مِنْ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَلَمْ تَتَّصِفْ بِالْحِرْصِ لِأَجْلِ مَحَبَّةِ الْمَالِ كَمَا يُعْهَدُ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَمَا كَانَ حِرْصُهَا إلَّا كَحِرْصِ الصِّغَارِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا تَهْوَى نَفْسُهَا مِنْ النَّظَرِ لِلَّعِبِ، وَفِي الصَّحِيحِ حَرِيصَةً عَلَى اللَّهْوِ وَهُوَ أَظْهَرُ تَوْجِيهًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ” الْحَدِيثَةِ السِّنِّ تَسْمَعُ اللَّهْوَ ” أَيْ إنَّ حَدَاثَةَ سِنِّهَا مَعَ سَمَاعِ اللَّهْوِ يُوجِبُ مُلَازَمَتَهَا لَهُ فَمَا ظَنُّك بِرُؤْيَةِ اللَّهْوِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ مِنْ سَمَاعِهِ.
(الْعَاشِرَةُ) قَوْلُهَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ (وَاَللَّهِ) فِيهِ الْحَلِفُ لِتَوْكِيدِ الْأَمْرِ وَتَقْوِيَتِهِ وَقَوْلُهَا رَأَيْت بِضَمِّ التَّاءِ وَالْحُجْرَةُ أَرَادَتْ بِهَا مَنْزِلَهَا وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّ أَصْلَهَا حَظِيرَةُ الْإِبِلِ وَالْحَبَشَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ وَالشِّينِ وَيُقَالُ فِيهِمْ: حَبَشَ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَقَدْ قَالُوا: الْحَبَشَةَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَاحِدَ لَهُ عَلَى مِثَالِ فَاعِلٍ فَيَكُونُ مُكَسَّرًا عَلَى فَعَلَةٍ.”
عن عَائِشَةَ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابٍ فِي الْمَسْجِدِ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَمَلُّ، فَاقْدُرُوا بِقَدْرِ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابٍ لَهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي صَدَرْتُ
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ” لَعِبَتِ الْحَبَشَةَ فَجِئْتُ مِنْ وَرَاءِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يُطَاطِئُ ظَهْرَهُ حَتَّى أَنْظُرَ.
عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: ” كَانَ زِنْجٌ يَلْعَبُونَ بِالْمَدِينَةِ، فَوَضَعَتْ عَائِشَةُ حَنَكَهَا عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ”
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ الصِّبْيَانِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ ” تَعَالَيْ فَانْظُرِي، فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ ذَقَنِي عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى رَاسِهِ فَقَالَ لِي: ” أَمَا شَبِعْتِ؟ ” فَجَعَلْتُ أَقُولُ: ” لَا، لِأَنْظُرَ مَنزِلَتِي عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ عُمَرُ فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا ” فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ ” قَالَتْ: ” فَرَجَعْتُ ”
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ خَوْخَةٍ لِي فَدَنَا مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى مَنْكِبِهِ وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” خُذْنَ بَنَاتِ أَرْفِدَةَ، فَمَا زِلْتُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، وَيَزْفِنُونَ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي انْتَهَيْتُ “