1179 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى، في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1179):
مسند النوّاس بن سَمعانَ
قال الإمام أحمد (ج ٤ ص ١٨٢): حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري: عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تتعوجوا وداع يدعو من جوف الصراط فإذا أراد يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه والصراط الإسلام والسوران حدود الله تعالى والأبواب المفتحة محارم الله تعالى وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ﷿ والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم».
حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بقية قال حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «إن الله ﷿ ضرب مثلًا صراطًا مستقيمًا على كنفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو من فوقه ﴿والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ فالأبواب التي على كنفي الصراط [ص ٢٢٩] حدود الله لا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف ستر الله والذي يدعو من فوقه واعظ الله ﷿».
هذا حديث صحيحٌ.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الوادعي رحمه الله جعله في الجامع:
“كتاب الحدود”، “٢ – البعد عن حدود الله”، برقم (١٨٥٧).
و”كتاب التفسير”، “٢٠٢ – قوله تعالى: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾”، برقم (٤١٢٧).
و”كتاب: السنة”، “٧ – ضلال من لا يعمل بالسنة”، برقم (٣٢٥٧).
و”كتاب الأدب”، “١٠٨ – الشِّعْر”، برقم(٣٧١٣).
الأول: شرح الحديث:
وفي صحيح الترغيب عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: “َ ضَربَ اللهُ مثلًا صِراطًا مستقِيمًا ، وعَنْ جَنَبَتِي الصِّراطِ سُّورانِ فيهِما أبوابٌ مفتحةٌ ، وعلى الأبوابِ سُتُورٌ مُرْخاةٌ ، وعِند رأسِ الصِّراطِ داعٍ يقولُ : استقِيمُوا على الصِّراطِ ولا تَعْوَجُّوا ؛ وفَوقَ ذلكَ داعٍ يدعُو كلَّما هَمَّ عبدٌ أنْ يفتحَ شيئًا من تلكَ الأبوابِ ؛ قال : ويْلَكَ ! لا تفتحْه ، فإنَّك إنْ تَفْتَحْه تَلِجْهُ ، ثمَّ فَسَّرَهُ ، فأخبرَ أنَّ الصِّراطَ هو الإسلامُ ، وأنَّ الأبوابَ المُفتَّحةَ محارمُ اللهِ ، وأنَّ السُّتُورَ الْمُرخاةَ حُدودُ اللهِ ، والدَّاعِي على رأسِ الصِّراطِ هو القرآنُ ، والدَّاعِي من فوقِه هو واعظُ اللهِ في قلبِ كلِّ مُؤْمِنٍ”.
قال الشيخ فيصل في (تطريز رياض الصالحين): ذكر فيه صور كثيرة، وأقربها هكذا -، فالخط الأوسط هو الإنسان، والمربع: أجله، والصغار: الآفات تعرض له، والخارج من المربع أمله. وفي الحديث: التحريض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل”. انتهى.
“مِن الأساليبِ التي امتازَ بها البَيانُ في القُرآنِ والسُّنَّةِ النَّبويَّةِ: ضَربُ الأمثالِ لِتَقريبِ المفاهيمِ للنَّاسِ عندَ وَعْظِهم وتَعليمِهم.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “ضرَبَ اللهُ مَثلًا”، أي: بيَّن مَثلًا لعِبادِه، “صِراطًا مُستقيمًا”، وهو: الطَّريقُ المُمتَدُّ الَّذي لا اعوِجاجَ فيه، “وعن جَنَبَتَيِ الصِّراطِ”، أي: على طَرَفَيْ أو جانِبَيْ هذا الطَّريقِ، “سُورانِ”، أي: جِدارانِ يُحيطانِ به مِن جِهَتَيه، “فيهما”، أي: يتَخلَّلُ هذينِ الجِدارَينِ “أبوابٌ مُفتَّحةٌ، وعلى الأبوابِ سُتورٌ”، جمعُ سِتْرٍ، “مُرخاةٌ”، أي: مُرسَلةٌ، والمعنى: أنَّه مُلْقًى على تلك الأبوابِ ستائِرُ لا تُظهِرُ للمارِّ مِن على الصِّراطِ مَن بداخِلِها، “وعندَ رأْسِ الصِّراطِ داعٍ”، أي: في أوَّلِه، والمرادُ بالدَّاعي: هو مَن يُرشِدُ للنَّاسِ أمْرَهم على هذا الطَّريقِ، وهذا الدَّاعي يقولُ للناسِ: “استَقيموا على الصِّراطِ ولا تَعْوَجُّوا”، أي: سِيروا عليه دونَ أنْ تَمِيلوا إلى الأطرافِ والجوانبِ، “وفوقَ ذلك داعٍ يَدْعو”، أي: وهناك داعٍ آخَرُ فوقَ الدَّاعي الَّذي يَدْعو النَّاسَ على رأْسِ الصِّراطِ؛ وهذا الدَّاعي: “كلَّما همَّ عبْدٌ”، أي: قصَدَ وأراد “أنْ يَفتَحَ شيئًا”، أي: قدْرًا يَسيرًا “مِن تلك الأبوابِ”، أي: مِن سُتورِها، “قال له”، أي: هذا الدَّاعي: “وَيلَك” وهي كلمةُ تَرحُّمٍ وتَوجُّعٍ تُقال لمَن وقَعَ في هلَكةٍ لا يَستحِقُّها، ثم استُعمِلَت لِمُجرَّدِ الزَّجْرِ، “لا تَفتَحْه”، أي: زجَرَه عن فتْحِه لهذه الأبوابِ، وحذَّرَه مِن ذلك؛ “فإنَّك إنْ تَفْتَحْه تَلِجْهُ”، أي: لو فتَحْتَ هذه الأبوابَ لنْ تَستطيعَ أنْ تُمسِكَ نفْسَك عن الدُّخولِ، “ثم فسَّره”، أي: فسَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا المَثَلَ؛ “فأخبَرَ أنَّ الصِّراطَ هو الإسلامُ”؛ وهو طريقٌ مُستقيمٌ، والمطلوبُ مِن العبْدِ الاستقامةُ عليه، “وأنَّ الأبوابَ المُفتَّحةَ مَحارِمُ اللهِ”، أي: الأمورُ التي حرَّمَها، والشُّبهاتُ الَّتي نَهى عنها العِبادَ؛ فإنَّها أبوابٌ للخُروجِ عن كَمالِ الإسلامِ والاستقامةِ، والدُّخولِ في العذابِ والملامةِ، فلا يقَعُ أحَدٌ في حُدودِ اللهِ حتَّى يُكشَفَ السِّترُ الَّذي على تِلك الأبوابِ؛ فمَن انتَهَكَ المحارِمَ هتَكَ السُّتورَ، وقد قال اللهُ تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، “والدَّاعي على رأْسِ الصِّراطِ هو القرآنُ” يَدْعو الناسَ إلى الاستقامةِ على أمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ بما فيه مِن أوامِرَ ونواهٍ، وإرشاداتٍ وآدابٍ، وغيرِ ذلك ممَّا به يكونُ صلاحُ الناسِ وهِدايتُهم، “والدَّاعي مِن فوقِه هو واعظُ اللهِ في قلْبِ كلِّ مُؤمنٍ”، قِيل: هي لَمَّةُ الملَكِ في قَلْبِ كلِّ مُؤمنٍ، واللَّمَّةُ الأُخرى هي لَمَّةُ الشَّيطانِ”.[الموسوعة الحديثية].
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
مر في الصحيح المسند أنواع الفتن، وأسباب الثبات على السنة.
(المسألة الأولى):
جاء في غربة الإسلام للشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله:
قال الله تعالى: ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بِإذْنِهِ ويَهْدِيهِمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة ١٥ – ١٦].
قال البغوي رحمه الله تعالى: الصراط المستقيم هو الإسلام.
وقال في قوله تعالى: ﴿وعَلى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ [النحل ٩]: القصد من السبيل دين الإسلام.
وذكر ابن كثير هذا القول عن السدي.
وقال الله تعالى: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام ١٥٣].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: هو الإسلام الذي وصى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم.
ثم روى بسنده عن ابن زيد قال: سبيله الإسلام، وصراطه الإسلام، نهاهم أن يتبعوا السبل سواه، فتفرق بكم عن سبيله عن الإسلام.
وروى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، والآجري، عن النواس بن سمعان – رضي الله عنه – أن النبي – ﷺ – قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ..» الحديث، وفيه: «فالصراط الإسلام» قال الترمذي: حسن غريب.
وقال عاصم الأحول: قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا عن الصراط يمينا ولا شمالا. رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة.
وقد قال الله تعالى: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ وهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [آل عمران ٨٥]، فالإسلام هو دين الله الذي اصطفاه لرسله وأنبيائه ورضيه لعباده المؤمنين دينا، كما قال تعالى: ﴿ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة ١٣٢]، وقال تعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة ٣]، فمن ابتغى دينا غير الإسلام لم يقبل الله منه ولو عمل أي عمل، كما قال تعالى: ﴿وقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ [الفرقان ٢٣]، والإسلام أيضا سبيل الله، والصراط المستقيم الموصل إلى الله تعالى، فمن سلكه وجعل أعلامه نصب عينيه، لا يلتفت عنها يمينا ولا شمالا، واستضاء بهدى الله ونوره الذي أنزله على رسوله محمد – ﷺ – أفضى به إلى دار السلام في جوار ذي الجلال والإكرام كما قال تعالى: ﴿وعَلى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾، وقال تعالى: ﴿قالَ هَذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿إنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى﴾، وفي هذه الآيات أقوال أصحها قول مجاهد، والحسن، والفرّاء: أن طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى وإليه تنتهي، قال الواحدي في قوله تعالى: ﴿إنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى﴾: أي إن الهدى يوصل صاحبه إلى الله، وإلى ثوابه وجنته. انتهى.
فأما من خرج عن طريق الهدى، وضيّع أعلام الإسلام ومناره، ولم يقبل هدى الله الذي بعث به رسوله محمدا – ﷺ – ولم يرفع به رأسا فإن الشياطين تستهويه، وتسلك به مسالك الغي والضلال المفضيات بسالكها إلى الهلاك والردى، قال الله تعالى: ﴿قُلْ أنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا ولا يَضُرُّنا ونُرَدُّ عَلى أعْقابِنا بَعْدَ إذْ هَدانا اللَّهُ كالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرانَ لَهُ أصْحابٌ يَدْعُونَهُ إلى الهُدى ائْتِنا قُلْ إنَّ هُدى اللَّهِ هُوَ الهُدى وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالَمِينَ * وأنْ أقِيمُوا الصَّلاةَ واتَّقُوهُ وهُوَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام ٧١ – ٧٢].
قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فأنزل الله ﷿: ﴿قُلْ أنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا ولا يَضُرُّنا ونُرَدُّ عَلى أعْقابِنا﴾ أي في الكفر ﴿بَعْدَ إذْ هَدانا اللَّهُ﴾، فيكون مثلنا مثل الذي ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الأرْضِ﴾ يقول: مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق فضلّ الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد – ﷺ -، ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام. رواه ابن جرير.
وروى أيضا أن رجلا قال لابن مسعود – رضي الله عنه -: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد – ﷺ – في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثَمّ رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود – ﵁ -: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ الآية.
وقد ذكر الله الإسلام الحقيقي في آيات كثيرة من كتابه، ومن أجمعها قوله تعالى: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إلَيْهِ واتَّقُوهُ وأقِيمُوا الصَّلاةَ ولا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم ٣٠ – ٣٢].
قال البغوي رحمه الله تعالى: إقامة الوجه إقامة الدين، قال سعيد بن جبير: أخلص دينك لله، وقال غيره: سدد عملك.
وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ لدين الله، ﴿خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ دين الأولين، والفطرة الإسلام، ثم ساق حديث أبي هريرة – ﵁ – قال: قال رسول الله – ﷺ -: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾.
قال البغوي رحمه الله تعالى: وهذا قول ابن عباس –رضي الله عنهما- وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة الدين، وهو الإسلام.
وقوله: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ قال ابن كثير ﵀ تعالى: أي التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ فلهذا لا يعرفه أكثر الناس، فهم عنه ناكبون كما قال تعالى: ﴿وما أكْثَرُ النّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف ١٠٣]. انتهى.
وقوله: ﴿مُنِيبِينَ إلَيْهِ﴾ قال البغوي ﵀ تعالى: أي راجعين إليه بالتوبة، مقبلين إليه بالطاعة. انتهى.
وقوله: ﴿واتَّقُوهُ﴾ أي خافوه وراقبوه.
وحقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله تعالى وسخطه وعقابه وقاية تقيه منه؛ وذلك بفعل ما أوجبه، واجتناب ما حرمه.
قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير.
وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
وقوله: ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ ولا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ قال الحافظ ابن حجر ﵀ تعالى: هذه الآية مما استدل به من يرى تكفير تارك الصلاة، لما يقتضيه مفهومها، وهي من أعظم ما ورد في القرآن في فضل الصلاة. انتهى.
قلت: وإقامة الصلاة وترك الشرك داخل في معنى قوله: {مُنِيبِينَ إلَيْهِ}، وإنما خصصا بالذكر لمزيد الاعتناء بالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام، وبالصلاة التي هي عموده.
ومن أجْمَع الآيات في ذكر الإسلام الحقيقي، قوله تعالى: ﴿فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف ١١٠]، وقوله تعالى: ﴿ومَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النساء ١٢٥]، وقوله تعالى: ﴿ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ [لقمان ٢٢]، وقوله تعالى: ﴿وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى تِلْكَ أمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة ١١١ – ١١٢]، فهذا هو الإسلام الحقيقي الذي يثاب فاعله، ويعاقب تاركه.
وإسلام الوجه لله تعالى هو: إفراده بالعبادة، وإخلاص الأعمال كلها له، وهذا هو توحيد الإلهية، ويسمى أيضا توحيد العبادة، وتوحيد القصد والإرادة، فمَن عَبَدَ الله ولم يشرك به شيئا، وكفر بما يُعبد من دونه فقد أسلم وجهه لله، واستمسك بالعروة الوثقى لا إله إلا الله، فإن مدلولها نفي الشرك وإنكاره والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده كما قال الخليل – ﵇ -: ﴿إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأرْضَ حَنِيفًا وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام ٧٩]؛ يقول: أخلصت ديني، وأفردت عبادتي لله وحده في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك قصدا إلى التوحيد، ولهذا قال: ﴿وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ وهذا الذي قاله الخليل – ﵇ – هو أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رُسُله وأنزل به كتبه، وهو سر الخلق والأمر، قال الله تعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات ٥٦]، وقال تعالى لنبيه محمد – ﷺ -: ﴿قُلْ إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ ولا أُشْرِكَ بِهِ إلَيْهِ أدْعُو وإلَيْهِ مَآَبِ﴾ [الرعد ٣٦]، وقال تعالى: ﴿فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ﴾ [الزمر ٢ – ٣]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهَ أعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِن دُونِهِ﴾ [الزمر ١١ – ١٥]، وقال تعالى: ﴿وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة ٥]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ﴿ومَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾: أي أخلص العمل لربه ﷿، فعمل إيمانا واحتسابا، وهو محسن أي اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعا للشريعة، فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاص كان منافقا، وهم الذين يراءون الناس، ومتى فقد المتابعة كان ضالا جاهلا، ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم، قال: والحنيف هو المائل عن الشرك قصدا أي تاركا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكُلِّيَته، لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد. انتهى.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: الذي أسلم وجهه لله هو الذي يخلص نيته لله، ويبتغي بعمله وجه الله، والمحسن هو الذي يحسن عمله فيعمل الحسنات، والحسنات هي العمل الصالح، والعمل الصالح هو ما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب، فما ليس من هذا ولا هذا ليس من الحسنات والعمل الصالح، فلا يكون فاعله محسنا.
قال: والإسلام هو أن يستسلم لله لا لغيره، فيعبد الله ولا يشرك به شيئا، ويتوكل عليه وحده، ويرجوه، ويخافه وحده، ويحب الله المحبة التامة، لا يحب مخلوقا كحبه لله، بل يحب لله ويبغض لله، ويوالي لله ويعادي لله، فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلما، ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلما، وإنما تكون عبادته بطاعته وطاعة رسوله، ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾، فكل رسول بعث بشريعة فالعمل بها في وقتها هو دين الإسلام، وأما ما بدل منها فليس من دين الإسلام، وإذا نسخ منها ما نسخ لم يبق من دين الإسلام، كاستقبال بيت المقدس في أول الهجرة بضعة عشر شهرا، ثم الأمر باستقبال الكعبة، وكلاهما في وقته دين الإسلام، فبعد النسخ لم يبق دين الإسلام إلا أن يولي المصلي وجهه شطر المسجد الحرام، فمن قصد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لم يكن على دين الإسلام؛ لأنه يريد أن يعبد الله بما لم يأمره، وهكذا كل بدعة تخالف أمر الرسول، إما أن تكون من الدين المبدل الذي ما شرعه الله قط، أو من المنسوخ الذي نسخه الله بعد شرعه كالتوجُّه إلى بيت المقدس، فلهذا كانت السنة في الإسلام كالإسلام في الدين هو الوسط. انتهى.
وقال أيضا في موضع آخر: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده، فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمَن عَبَدَه وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب عمل القلب والجوارح، وأما الإيمان فأصله تصديق القلب، وإقراره، ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له. انتهى.
وقال أيضا في موضع آخر: الإسلام هو الاستسلام لله وحده، ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام، ويتضمن إخلاصه لله، وقد ذكر ذلك غير واحد حتى أهل العربية كأبي بكر بن الأنباري وغيره، ومن المفسرين من يجعلهما قولين، كما يذكر طائفة -منهم البغوي- أن المسلم هو المستسلم لله، وقيل: هو المخلص.ش
والتحقيق: أن المسلم يجمع هذا وهذا، فمن لم يستسلم له لم يكن له مسلما، ومن استسلم لغيره كما يستسلم له لم يكن مسلما، ومن استسلم له وحده فهو المسلم، والاستسلام له يتضمن الاستسلام لقضائه، وأمره ونهيه، فيتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور {إنَّهُ مَن يَتَّقِ ويَصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ}.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن وراد، حدثنا آدم عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ﴿بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يقول: من أخلص لله، قال ابن أبي حاتم: وروي عن الربيع نحو ذلك، وقال: ذكر عن يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير ﴿مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ قال: ﴿مَن أسْلَمَ﴾ أخلص ﴿وجْهَهُ﴾ قال: دينه، وقال أبو الفرج: أسلم بمعنى أخلص، وفي الوجه قولان:
أحدهما: أنه الدين.
والثاني: العمل.
وقال البغوي: ﴿مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أخلص دينه لله، وقيل: أخلص عبادته لله، وقيل: خضع وتواضع لله، وأصل الإسلام الاستسلام والخضوع، وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه، وهو محسن في عمله قيل: مؤمن، وقيل: مخلص…”.إلخ.
تنبيه : تكلمنا على الأعمال الصالحة في شرحنا على:
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1153):
قال الحاكم رحمه الله (ج ١ ص ٧٤): أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا حماد، عن سماك، عن النعمان بن بشير: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «مثل المؤمن ومثل الأجل، مثل رجل له ثلاثة أخلاء، قال له ماله: أنا مالك، خذ مني ما شئت ودع ما شئت. وقال الآخر: أنا معك أحملك وأضعك، فإذا مت تركتك. قال: هذا عشيرته، وقال الثالث: أنا معك، أدخل معك وأخرج معك، مت أو حييت. قال: هذا عمله».
(المسألة الثانية): فوائد الباب:
1- (منها): “الأمرُ باتِّباعِ القُرآنِ وما جاء فيه مِن أوامِرَ ونَواهٍ، والنَّهيُ عن الوُقوعِ في مَحارِمِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
2- (منها): أنَّ اللهَ سُبحانه جعَلَ للعِبادِ حواجِزَ تَمنَعُهم مِن الوُقوعِ في المعاصي”.
3- (منها): “قوله: « خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا »، فيه: تنوع وسائل إيضاح العلم للمتعلمين؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مرة يشير بأصابعه: « أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بالسبابة والتي تليها »، ومرة خط خطوطا، ومرة أشار إلى سمعه وبصره، عند قوله تعالى: ﴿ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ لا من باب التشبيه، لكن من باب تحقيق أن الصفة حقيقية، وهكذا المتعلم يسلك مع المتعلمين أسهل الأساليب التي تعينهم على فهم العلم وعلى احتواء ما يقال لهم.
4- (منها): وقوله صلى الله عليه وسلم: « ثم قال هذا سبيل الله »، فيه: أن سبيل الحق واحد لا يتعدد، سبيل الحق واحد، ولهذا لاحظ التعبير أو لاحظ اللفظ: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾، أيضا ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ﴾ جمع، سبل الضلال ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي ﴾ واحد لا يتعدد.
5 -( منها )في الحديث الحث على لزوم صراط الله المستقيم، والتحذير من الاعوجاج، وارتكاب المعاصي، واتباع طرق الشيطان، قال الطيبي : ونظير هذا حديث ألا إن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في الأرض محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالسور بمنزلة الحمى وحولها بمنزلة الباب، والستور حدود الله الحد الفاصل بين العبد ومحارم الله، وواعظ الله هو لمة الملك في قلب المؤمن، والأخرى لمة الشيطان وإنما جعل لمة الملك التي هي واعظ الله فوق داعي القرآن لأنه إنما ينتفع به إذا كان المحل قابلا ولهذا قال تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)(3).
6- (منها): أن أحكام الشريعة ثابتة على اختلاف الأعصار وتباعد الأمصار، وأما القوانين الوضعية البشرية، في كل فترة نسمع تغيير مادة، حذف مادة، تقديم مادة، تأخير مادة، تعديل، تعليق مادة؛ وأما أحكام الشريعة فمنذ أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾.
7 – (منها): أن معرفة الحق مردها إلى الكتاب والسنة، إلى الدليل، لا إلى كلام الناس، وانظر إلى كلام رب الناس وكلام رسول الناس؛ ولهذا كان الرعيل الأول على حذر وعلى بصيرة من رد كل ما خالف، ومن عرض كل ما يأتي على الكتاب والسنة.
تذكر أن رجلا أتى إلى سفيان فيما أذكر أو غيره، وقال: يا إمام لقد رأينا رجلا يسير على الماء ويمشي في الهواء، وهو من أولياء الله. قال: دعك عن هذا، أعرضت عمله على الكتاب والسنة لتعلم؟ وقال الشافعي نظما:
إذا رأيــت إنســانا يطــير
أو فـوق مـاء البحر قد يسـير
ولم يقـف عند نصوص الشرع
فـاعلم أنـه مستدرج وبدعـي
إذا عرض كل شيء، ورد كل شيء إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام، على منهج السلف الصالح الصحابة، على منهج التابعين ومن بعدهم، فهم أدرى الناس بوقائع التنزيل وبمراد النبي عليه الصلاة والسلام.
8- (منها): وقوله: « ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل » فيه: كثرة سبل الضلال كما تقدم، وفيه اتفاق سبل الضلال على معاداة ومصادمة سبيل الحق.
9 – (منها): وقوله صلى الله عليه وسلم: « على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه » فيه: كثرة دعاة الباطل، في كل مكان، في كل بلد، في كل زمان، في كل مجتمع، كثرتهم؛ لأن الباطل يوافق الهوى، يوافق شهوات النفوس، والحق مر وثقيل، إلا من وفق لقبوله بقلب صادق.
10 – (منها): أن دعاة الباطل هم دجاجلة الناس، وهم أتباع الدجال الأكبر،
11- (منها): الحث على دعاة الخير أن يتبصروا في أمرهم فلا يحسنوا ولا يقبحوا، ولا يوالوا ولا يعادوا، ولا يخالفوا ولا يوافقوا، إلا ما كان من منطلق الدليل الشرعي على منهج السلف الصالح، أحبب صاحب الحق ولو كان بعيدا، وأنكر على صاحب الباطل ولو كان قريبا.
فمـا قربت أشباه قوم أباعـدا
ولا باعدت أشباه قـوم أقاربـا
العبرة بالحق. نعم يا شيخ”.[]
12- (منها): من فضل العلماء: “أن اتباعهم يهدي إلى الصراط السوي
قال الله – تبارك وتعالى -: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43].
وقال -تبارك وتعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
فمن اتبع العلماء؛ اتبع الصراط المستقيم، ومن خالف العلماء، وأضاع حقهم؛ فقد خرج إلى سبيل الشيطان، ففارق الصراط المستقيم الذي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه.
قال محمد بن الحسين الآجري – رحمه الله -: (فما ظنكم –رحمكم الله- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا؛ فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية.
ثم جاءت طبقات من الناس لابد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح، فبقوا في الظلمة؛ فما ظنكم بهم؟!
هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض، ولا كيف اجتناب المحارم، ولا كيف يعبد الله في جميع ما يعبده به خلقه؛ إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العالم تحير الناس، ودرس العلم بموتهم، وظهر الجهل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مصيبة ما أعظمها مصيبة)[(أخلاق العلماء)) للآجري (ص: 28-29)] اهـ”.[الدرر السنية]