1175 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1175):
قال أبو داود رحمه الله (ج (4) ص (126)): حدثنا عبيد الله بن معاذ أخبرنا أبي أخبرنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: صلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى بهم ركعتين، ثم سلم فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين، ثم سلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أربعًا ولأصحابه ركعتين ركعتين.
وبذلك كان يفتي الحسن.
هذا حديث حسنٌ، رجاله رجال الصحيح، إلا أشعث وهو ابن عبد الله الحُدّاني، وهو حسن الحديث.
الحديث رواه النسائي (ج (3) ص (179)).
===================
الحديث سيكون من وجوه:
ذكر الإمام أبو داود رحمه الله في السنن، 4 – تفريع صلاة السفر، “بابُ: مَن قالَ: يُصَلِّي بِكُلِّ طائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ”، برقم (1248).
والوادعي رحمه الله جعله في الجامع،
“4 – كتاب الصلاة”، وبوب عليه: ” (210) – بعض كيفيات صلاة الخوف”، برقم (1121). وسيأتي ذكر الأحاديث التي أوردها إن شاء الله تعالى.
و”33 – كتاب التفسير”، ” (116) – قوله تعالى: {وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} “، برقم (4012).
قال شعيب الأرنؤوط وأخر: ” صحيح لغيره، وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن الحسن – وهو البصري – مدلس وقد عنعنه. أشعث: هو ابن عبد الملك الحُمراني.
وأخرجه النسائي في «الكبرى» ((521)) و ((1912)) و ((1952)) و ((1956)) من طريق أشعث، بهذا الإسناد. وهو في «مسند أحمد» ((20408))، و «صحيح ابن حبان» ((2881)).”. [سنن أبي داود، ت: الأرنؤوط، ط: الرسالة].
الأول: شرح الحديث:
قال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى: [باب من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين].
وتكون للإمام أربعًا.
[حدثنا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة]، وروي نحوه عن جابر عند مسلم وغيره. (انظر:» صحيح البخاري «(4136)، و» صحيح مسلم «(843))، وفيه: ((كانت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أربع ركعات وللقوم ركعتان))، وحديث أبي بكرة صريح في السلام على ركعتين، بخلاف حديث جابر، فحمله بعضهم على حديث أبي بكرة، منهم: النووي، ومنهم: من لم يحمله عليه، ومنهم: القرطبي.
وقال المنذري في» مختصره «: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في غير حكم سفر، وهم مسافرون، وقال بعضهم بالخصوصية، وقيل: كان صلى الله عليه وسلم مخيرًا بين القصر والإتمام، فاختار لنفسه الإتمام، وللقوم القصر، وقال بعضهم: كان في حضر ببطن نخلة على باب المدينة، وكان خوف فخرج منه محترسًا، انتهى.
(انظر:» نصب الراية «(3) / (246)). وأوَّله الجصاص في» أحكام القرآن” ((2) / (262)) بسلام التشهد. (ش).
[قال: صلّى النبي – صلى الله عليه وسلم – في خوف الظهر] مفعول لصلّى أي صلاة الظهر، [فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلّى] بهم، أي بالطائفة الأولى، [ركعتين ثم سلَّم، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم] أي: وجاه العدو، [ثم جاء أولئك] أي: الطائفة الثانية [فصلوا خلفه، فصلّى بهم ركعتين ثم سلَّم، فكانت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين].
قوله: [وبذلك كان يُفتي الحسن]:
قال شعيب الأرنؤوط وأخر: ” قال البيهقي في «سننه» (3) / (260) بعد أن ذكره: وجدته في كتابي موصولًا بالحديث، وكأنه من قول الأشعث. وهو في بعض النسخ: قال أبو داود”. انتهى.
أورد أبو داود هذه الكيفية، وهي كون الإمام يصلي بكل طائفة ركعتين ويسلم، فيكون عنده أربع ركعات، ثنتان فرض والأخيرتان نفل، يصلي بكل مجموعة ركعتين، فيكون الإمام عنده أربع: الركعتان الأولى فرض، والركعتان الأخيرتان مع المجموعة الثانية نفل.
وهذا من أوضح الأدلة على جواز صلاة المفترض خلق المتنفل، وحديث معاذ بن جبل الذي فيه أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة، بعض أهل العلم يقولون: إن معاذًا كان يصلي مع النبي نافلة، ثم يذهب ويصلي بهم فريضة، ويقولون: المفترض يصلي خلف المفترض، ولا يصلي مفترض خلف متنفل، لكن هذا الحديث واضح الدلالة على جواز ذلك، وهو من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث صلى بالطائفة الأولى ركعتين ثم سلم، وهذا هو فرضه، ثم جاءت المجموعة الثانية فصلى بهم الركعتين الأخيرتين وكان متنفلًا وهم مفترضون، فهو واضح الدلالة على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل.
قوله: [(صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر، فصف بعضهم)] الظهر صلاة رباعية تقصر في السفر، فجعل بعضهم وجاه العدو، وبعضهم صلى بهم ركعتين وسلم، ثم بعد ذلك ذهب هؤلاء وصفوا مقام أولئك، وجاء الذين في اتجاه العدو وصلى بهم ركعتين وسلم، فصارت صلاته بالطائفة الثانية وهو متنفل وهم مفترضون.
والرسول صلى الله عليه وسلم جعلهم مجموعتين وهو إمامهم، فإذا فعل ذلك إمام الجيش أو أمير الجيش فهو الأولى، ويجوز أن يصلي بهم جميعًا.
[قال أبو داود: وكذلك في المغرب يكون للإمام ست ركعات، وللقوم ثلاث].
لأن الإمام يصلي المغرب مرتين”. [شرح سنن أبي داود للعباد، بذل المجهود في حل سنن أبي داود مع التحقيق، وانظر: البناية شرح الهداية لبدر الدين العيني].
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث: تنبيهات وأحكام صلاة الخوف
مر عرض فيما يتعلق بصلاة أهل الأعذار ()
قال العلامة ابن الملقّن – رحمه الله -: الخوف: غمّ على ما سيكون، والحزن: غمّ على ما مضي، قال: وليس المراد من هذه الترجمة –أي: بابُ صَلاةِ الخَوْفِ- أن صلاة الخوف تقتضي صلاة مستقلّة، كقولنا: صلاة العيد، ولا أنه يؤثّر في تغيير قدر الصلاة، أو وقتها، كقولنا: صلاة السفر، وحديث ابن عبّاس – رضي الله عنهما – في «صحيح مسلم»: «إن اللَّه فرض الصلاة في الخوف ركعة» المراد للمأموم مع الإمام؛ جمعًا بين الأحاديث، وإنما المراد أنه يؤثّر في كيفيّة إقامة الفرائض، واحتمال أمور فيها كانت لا تُحتمل في غيرها، ثم هي في الأكثر لا تؤثّر في كيفيّة إقامة الفرائض، بل في إقامتها بالجماعة. انتهى [«الإعلام بفوائد عمدة الإحكام» (4) / (349)].
قال الأتيوبي عفا اللَّه عنه: قوله في تأويل حديث ابن عبّاس – رضي الله عنهما -: المراد للمأموم مع الإمام … إلخ. هذا غير مسلّم، بل الصواب أن حديثه على ظاهره، وأن صلاة الخوف ركعة عند اشتداد الخوف.
(اعلم): أنه لما كان لصلاة الخوف أحكام، وصفات تختصّ بها عن غيرها من الصلوات الأمْنِيَّة دعت الحاجة إلى تقديم تنبيهات مهمة؛ ليكون الطالب على بصيرة، ويمكن الإحالة إليها عند الحاجة في بيان الأحاديث الآتية، إن شاء اللَّه تعالى، فلنذكرها في مسائل:
(المسألة الأولى):
قال القرطبيُّ –رحمه الله- في «المفهم»: قولنا: صلاة الخوف، هي الصلاة المعهودة تَحْضُر، والمسلمون متعرّضون لحرب العدوّ، وقد اختلف العلماء، هل للخوف تأثير في تغيير الصلاة المعهودة عن أصل مشروعيتها المعروفة، أم لا؟
فذهب الجمهور إلى أن للخوف تأثيرًا في تغيير الصلاة على ما يأتي تفصيل مذاهبهم.
وذهب أبو يوسف إلى أنه لا تغيير في الصلاة لأجل الخوف اليوم، وإنما كان التغيير المرويّ في ذلك، والذي عليه القرآن خاصًّا بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، مستدلًّا بخصوصية خطابه تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الآية [النساء (102)]، قال: فإذا لَمْ يكن فيهم لَمْ تكن صلاة الخوف.
وهذا لا حجة فيه لثلاثة أوجه:
(أحدها): أنّا أُمرنا باتباعه، والتأسي به، فيلزم اتباعه مطلقًا، حتى يدلّ دليل واضحٌ على الخصوص، ولا يصلح ما ذكره دليلًا على ذلك، ولو كان مثل ذلك دليلًا على الخصوصية للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها، لكن قد تقرّر بدليل إجماعيّ أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع، وكذلك ما يُخاطَبُ هو به، كقوله تعالى: {فَإنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس (94)]، {ياأيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال (64)]، ونحوه كثير.
(وثانيها): أنه قد قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: «صلّوا كما رأيتموني أصلي». متفق عليه.
(وثالثها): أن الصحابة – رضي الله عنهم – اطّرحوا توهّم الخصوص في هذه الصلاة، وعَدَّوْه إلى غير النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهم أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، فلا يُلتفت إلى قول من ادّعى الخصوصيّة. انتهى كلام القرطبيُّ –رحمه الله-[«المفهم» (2) / (468) – (469)].
وقال في «الفتح»:
معنى قوله تعالى: {وإذا ضَرَبْتُمْ} [النساء (101)] أي: سافرتم، ومفهومه أن القصر مختصّ بالسفر، وهو كذلك، وأما قوله: {فَإنْ خِفْتُمْ} [البقرة (229)] فمفهومه اختصاص القصر بالخوف أيضًا، وقد سأل يعلى بن أميّة الصحابيُ عمرَ بن الخطّاب –رضي الله عنه- عن ذلك، فذكر أنه سأل رسولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال: «صدقة تصدّق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته»، أخرجه مسلم، فثبت القصر في الأمن ببيان السنّة.
واختُلف في صلاة الخوف في الحضر،
فمنعه ابن الماجشون، أخذًا بالمفهوم أيضًا.
وأجازه الباقون.
وأما قوله: {وإذا كُنْتَ فِيهِمْ} فقد أخذ بمفهومه أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه، والحسن بن زياد اللؤلؤيّ من أصحابه، وإبراهيم ابن عليّة، وحُكي عن المزنيّ صاحب الشافعيّ.
واحتُجّ عليهم بإجماع الصحابة –رضي الله عنهم- على فعل ذلك بعد النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: «صلّوا كما رأيتموني أصلي»، فعموم منطوقه مقدّم على ذلك المفهوم.
وقال ابن العربيّ وغيره: شرط كونه -صلى الله عليه وسلم- فيهم إنما ورد لبيان الحكم، لا لوجوده، والتقدير: بيّن لهم بفعلك لكونه أوضح من القول، ثم إن الأصل أن كلّ عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفيةُ وردت لبيان الحَذَر من العدوّ، وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم.
وقال الزين ابن المنيّر: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم، كالخوف في قوله تعالى: {أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ} [النساء (101)].
وقال الطحاويّ: كان أبو يوسف قد قال مرةً: لا تُصلّى صلاةُ الخوف بعد رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم، وزعم أن الناس إنما صلّوها معه لفضل الصلاة معه -صلى الله عليه وسلم-، قال: وهذا القول عندنا ليس بشيء، وقد كان محمد بن شُجاع يَعيبه، ويقول: إن الصلاة خلف النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعًا، إلّا أنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية):
أنه قد ورد في كيفية صلاة الخوف صفات كثيرة، ورجّح ابن عبد البرّ الكيفية الواردة في حديث ابن عمر –رضي الله عنه-[الذي هو في مسلم برقم] [(1942) و (1943) و (1944)] ((839)) – على غيرها لقوة الإسناد، ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يُتمّ صلاته قبل سلام إمامه.
[ولفظه: فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قالَ: صَلّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاةَ الخَوْفِ بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، والطّائِفَةُ الأُخْرى مُواجِهَةُ العَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وقامُوا فِي مَقامِ أصْحابِهِمْ، مُقْبِلِينَ عَلى العَدُوِّ، وجاءَ أُولَئِكَ، ثُمَّ صَلّى بِهِمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ قَضى هَؤُلاءِ رَكْعَةً، وهَؤُلاءِ رَكْعَةً)].
وعن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث، أو سبعة أيّها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة –رحمه الله- برقم [في مسلم] [(1947)] ((841))، وكذا رجحه الشافعيّ،
ولم يختر إسحاق شيئًا على شيء، وبه قال الطبريّ، وغير واحد، منهم ابن المنذر، وسَرَدَ ثمانية أوجه، وكذا ابن حبّان في «صحيحه»، وزاد تاسعًا.
وقال ابن حزم: صحّ فيها أربعة عشر وجهًا، وبيّنها في «جزء مفرد».
وقال ابن العربي في «القبس»: جاء فيها روايات كثيرة، أصحها ستة عشر رواية مختلفة، ولم يُبيّنها.
وقال النوويّ نحوه في «شرح مسلم»، ولم يبيّنها أيضًا، وقد بيّنها الحافظ أبو الفضل العراقيّ في «شرح الترمذيّ»، وزاد وجهًا آخر، فصارت سبعة عشر وجهًا، لكن يمكن أن تتداخل.
وقال صاحب «الهدي»: أصلها ستّ صفات، وبلّغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصّة جعلوا ذلك وجهًا من فعل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى.
قال الحافظ –رحمه الله-: وهذا هو المعتمد، وإليه أشار شيخنا -يعني: الحافظ العراقي- بقوله: يمكن تداخلها.
وحكى ابن القصّار المالكيّ أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- صلاها عشر مرّات.
وقال ابن العربيّ: صلاها أربعًا وعشرين مرّة.
وقال الخطابيّ: صلاها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في أيام مختلفة بأشكال متباينة، يتحرّى فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى [راجع: «الفتح» (3) / (102)].
وقال الحافظ الزيلعيّ –رحمه الله-: ذَكَر بعض الفقهاء أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الخوف في عشرة مواضع، والذي استقرّ عند أهل السير والمغازي أربعة مواضع: ذات الرقاع، وبطن نخل، وعُسفان، وذي قَرَد.
فحديث ذات الرقاع أخرجه البخاريّ ومسلم، عن مالك، عن يزيد بن رُومان، عن صالح بن خَوّات، عن سهل بن أبي حَثْمَة، وفي لفظ للبخاريّ عمن صلى مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه … الحديث.
وحديث بطن نخلة أخرجه النسائيّ، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بنخل، والعدوّ بيننا وبين القبلة … الحديث.
وحديث عُسْفان أخرجه أبو داود، والنسائيّ، عن مجاهد، عن أبي عَيّاش الزُّرَقيّ، زيد بن الصامت، قال: كنا مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعُسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد … الحديث، ورواه البيهقيّ في «المعرفة» بلفظ: حدَّثنا أبو عَيّاش، قال، وفي هذا تصريح بسماع مجاهد، من أبي عياش.
وحديث ذي قَرَد، أخرجه النسائيّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس، أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- صلى بذي قَرَد … الحديث، وروى الواقديّ في «المغازي»: حدّثني ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: أول ما صلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف في غزوة ذات الرِّقاع، ثم صلاها بعدُ بعُسفان بينهما أربع سنين، قال الواقديّ: وهذا عندنا أثبت من غيره. انتهى [«نصب الراية» (2) / (247)].
وقال القرطبيّ –رحمه الله-: اختلف الجمهور في كيفيّة صلاة الخوف على أقوال كثيرة؛ لاختلاف الأحاديث المرويّة في ذلك، فلنذكر تلك الأحاديث، ونذكر مع كل حديث من قال به إن وجدنا ذلك -إن شاء اللَّه تعالى- فلنبدأ من ذلك بالحديث الأول، وهو حديث ابن عمر –رضي الله عنهما-، ومضمون أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بإحدى الطائفتين ركعةً، والأخرى مواجِهَة العدوّ، ثم انصرفوا، وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ، وجاء أولئك، وصلى بهم ركعة، ثم سلم، فقضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة.
وبه أخذ الأوزاعيّ، وأشهب، وحُكي عن الشافعيّ، واختُلف في تأويل قضائهم، فقيل: قضَوا معًا، وهو تأويل ابن حبيب، وعليه حمَلَ قول أشهب، وقيل: قضوا مفترقين، مثل حديث ابن مسعود –رضي الله عنه-، وهو المنصوص لأشهب.
الحديث الثاني: حديث جابر –رضي الله عنه-، وذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- صفّهم صفّين خلفه، والعدوّ بينهم وبين القبلة، وصلّى بهم جميعًا صلاة واحدةً، لكنه لَمّا سجد سجد معه الصفّ الأول الذي يليه، وقام الصفّ المؤخّر، ثم تقدّموا، وتأخّر المقدّم، ثم فعلوا في الركعة الثانية كما فعلوا في الأولى، ونحوه حديث ابن عبّاس –رضي الله عنمها-، وبهذا قال ابن أبي ليلي، وأبو يوسف في قولٍ له، إذا كان العدوّ في القبلة، ورُوي عن الشافعيّ، واختاره بعض أصحابه، وأصحاب مالك.
الحديث الثالث: حديث سهل بن أبي حَثْمَة، وهو أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بالطائفة الأولى ركعةً، ثم ثبت قائمًا، فأتمّوا لأنفسهم، ثم انصرفوا، وصَفُّوا وِجاهَ العدوّ، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلّى بهم ركعةً، ثم ثبت جالسًا حتى أتمّوا، ثم سلّم بهم، ونحوه حديث صالح بن خَوّات، وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأبو ثور.
الحديث الرابع: حديث أبي سلمة، عن جابر –رضي الله عنه- أنه صلى أربع ركعات بكلّ طائفة ركعتين، وهو اختيار الحسن، وذُكر عن الشافعيّ، ورواه غير مسلم من طريق أبي بكرة وجابر، وأنه سلّم من كل ركعتين، قال الطحاويّ: إنما كان هذا في أول الإسلام؛ إذ كان يجوز أن تُصلى الفريضة مرّتين، ثم نُسخ ذلك.
قال الأتيوبي عفا اللَّه عنه: دعوى النسخ غير صحيحة، وقد قدّمنا أن أصح المذاهب مذهب من يرى صحة اقتداء المفترض بالمتنفّل؛ لما صحّ من قصّة معاذ –رضي الله عنه- حيث كان يصلي مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- العشاء، ثم يذهب إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة، فتبصّر، وباللَّه تعالى التوفيق.
الحديث الخامس: رواه أبو هريرة، وابن مسعود –رضي الله عنهما- أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بالطائفة التي وراءه ركعة، ثم انصرفوا، ولم يُسلّموا، فوقفوا بإزاء العدوّ، وجاء الآخرون، فصلى بهم ركعةً، ثم سلّم، فقضى هؤلاء ركعتهم، ثم سلّموا، وذهبوا، فقاموا مقام أولئك، ورجع أولئك، فصلّوا لأنفسهم ركعةً، ثم سلّموا.
والفرق بين هذه الرواية ورواية ابن عمر أن ظاهر قضاء أولئك في حديث ابن عمر في حالة واحدة، ويبقى الإمام كالحارس وحده، وها هنا قضاؤهم متفرّقٌ على صفة صلاتهم، وقد تأوّل بعضهم حديث ابن عمر على ما في حديث ابن مسعود، وبهذا أخذ أبو حنيفة، وأصحابه، إلّا أبا يوسف، وهو نصّ قول أشهب من المالكيّة، خلاف ما تأوّل عليه ابن حبيب.
الحديث السادس: ذكره أبو داود من حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- كبّر، فكبّر معه الصفّان جميعًا، وفيه أن الطائفة الثانية لَمّا صلّت معه ركعةً، وسلّمت رجعت إلى مقام أصحابهم، وجاءت الطائفة الأولى، فصلّوا ركعةً لأنفسهم، فرجعوا إلى مقام أصحابهم، وأتمّ أولئك لأنفسهم.
الحديث السابع: ذكره أبو داود من رواية أبي هريرة –رضي الله عنه- أنها قامت مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مقابلة العدوّ، وظهورهم إلى القبلة، فكبّر جميعهم، ثم صلى بالذين معه ركعةً، والآخرون قيام، ثم قام، وذهبت الطائفة التي معه إلى العدوّ، وأقبلت تلك، فصلى بهم ركعةً، ثم أقبلت الطائفة الأولى، فصلّوا ركعةً، ورسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ، ثم صلى بهم ركعةً، ثم أقبلت الطائفة الأولى، فصلّت ركعةً، ورسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قاعد ومن معه، ثم سلّم، وسلّموا جميعًا. [رواه أبو داود برقم ((1240))].
الحديث الثامن: حديث عائشة –رضي الله عنها- عن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- أنه كبّر، وكبّرت معه الطائفة التي تليه، وصلّى بهم ركعةً وسجدةً، وثبت جالسًا، وسجدوا هم السجدة التي بقيت لهم، ثم انصرفوا القهقري، حتى قاموا من ورائهم، وجاءت الطائفة الأخرى، فكبّروا، ثم ركعوا، يعني: لأنفسهم، ثم سجد النبيّ -صلى الله عليه وسلم-؛ يعني: سجدته التي بقيت عليه من الركعة الأولى، فسجدوا معه، ثم قام النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأتموا هم السجدة التي بقيت عليهم، ثم قامت الطائفتان، فصلى بهم جميعًا ركعة كأسرع الإسراع [رواه أبو داود برقم ((1242))].
الحديث التاسع: حديث ابن أبي حَثْمة من رواية صالح بن خَوّات عنه، أن الطائفة الأولى لَمّا صلّت ركعتها مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ثم صلّت الركعة الأخرى لنفسها سلّمت، ثم تقدّمت، وجاءت الأخرى، وهذا خلاف الحديث الآخر الذي ذُكر فيه آخرًا، ثم سلّم بهم جميعًا.
ومن رواية القاسم في حديث ابن أبي حَثْمة أنه -صلى الله عليه وسلم- سلّم عند تمام صلاته الركعة الثانية بالطائفة الثانية، وأتمّوا بعد سلامه خلاف الروايات الأُخَر عن القاسم، ويزيد بن رُومان أنه انتظرهم حتى قَضَوْا، ثم سلّم.
وقد اختلف قول مالك لصحّة القياس أن القضاء إنما يكون بعد سلام الإمام، وهو اختيار أبي ثور، واختيار الشافعيّ في الرواية الأخرى.
الحديث العاشر: ما رواه أبو داود من حديث حُذيفة، وأبي هريرة، وابن عمر –رضي الله عنهم- أنه -صلى الله عليه وسلم- صلّى بكل طائفة ركعةً، ولم يقضوا، ويؤيّده حديث ابن عبّاس – رضي الله عنها-: صلاة الخوف ركعةٌ، وبه قال إسحاق. انتهى كلام القرطبيُّ –رحمه الله-[«المفهم» (2) / (470) – (473)]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة):
قال الإمام ابن حبّان –رحمه الله- في «صحيحه»: هذه الأخبار ليس بينها تضادٌّ، ولا تهاتُرٌ، ولكن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الخوف مرارًا، في أحوال مختلفة، بأنواع متباينة، على حسب ما ذكرناها، أراد -صلى الله عليه وسلم- به تعليم أمته صلاة الخوف، أنه مباح لهم أن يصلوا أيَّ نوع من الأنواع التسعة التي صلاها رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- في الخوف، على حسب الحاجة إليها، والمرء مباح له أن يصلي ما شاء عند الخوف من هذه الأنواع التي ذكرناها؛ إذ هي من اختلاف المباح، من غير أن يكون بينها تضادٌّ، أو تهاترٌ. انتهى [«الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان» (7) / (145)].
وقال الإمام ابن القيّم –رحمه الله – في «زاد المعاد»:
[فَصْلٌ في صَلاةُ الخَوْفِ]
فَصْلٌ
وكانَ مِن هَدْيِهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي صَلاةِ الخَوْفِ أنْ أباحَ اللَّهُ عز وجل قَصْرَ أرْكانِ الصَّلاةِ وعَدَدِها إذا اجْتَمَعَ الخَوْفُ والسَّفَرُ، وقَصْرُ العَدَدِ وحْدَهُ إذا كانَ سَفَرٌ لا خَوْفَ مَعَهُ، وقَصْرُ الأرْكانِ وحْدَها إذا كانَ خَوْفٌ لا سَفَرَ مَعَهُ، وهَذا كانَ مِن هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم، وبِهِ تُعْلَمُ الحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ القَصْرِ فِي الآيَةِ بِالضَّرْبِ فِي الأرْضِ والخَوْفِ.
وكانَ مِن هَدْيِهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي صَلاةِ الخَوْفِ، إذا كانَ العَدُوُّ بَيْنَهُ وبَيْنَ القِبْلَةِ، أنْ يَصُفَّ المُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ خَلْفَهُ، ويُكَبِّرَ ويُكَبِّرُونَ جَمِيعًا، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيَرْكَعُونَ جَمِيعًا، ثُمَّ يَرْفَعُ ويَرْفَعُونَ جَمِيعًا مَعَهُ، ثُمَّ يَنْحَدِرُ بِالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ خاصَّةً، ويَقُومُ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ مُواجِهَ العَدُوِّ، فَإذا فَرَغَ مِنَ الرَّكْعَةِ الأُولى، ونَهَضَ إلى الثّانِيَةِ، سَجَدَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بَعْدَ قِيامِهِ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قامُوا، فَتَقَدَّمُوا إلى مَكانِ الصَّفِّ الأوَّلِ، وتَأخَّرَ الصَّفُّ الأوَّلُ مَكانَهُمْ لِتَحْصُلَ فَضِيلَةُ الصَّفِّ الأوَّلِ لِلطّائِفَتَيْنِ، ولِيُدْرِكَ الصَّفَّ الثّانِي مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – السَّجْدَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ الثّانِيَةِ، كَما أدْرَكَ الأوَّلُ مَعَهُ السَّجْدَتَيْنِ فِي الأُولى، فَتَسْتَوِي الطّائِفَتانِ فِيما أدْرَكُوا مَعَهُ، وفِيما قَضَوْا لِأنْفُسِهِمْ، وذَلِكَ غايَةُ العَدْلِ، فَإذا رَكَعَ صَنَعَ الطّائِفَتانِ كَما صَنَعُوا أوَّلَ مَرَّةٍ، فَإذا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، سَجَدَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ سَجْدَتَيْنِ، ولَحِقُوهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَيُسَلِّمُ بِهِمْ جَمِيعًا.
وإنْ كانَ العَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ القِبْلَةِ، فَإنَّهُ كانَ تارَةً يَجْعَلُهُمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً بِإزاءِ العَدُوِّ، وفِرْقَةً تُصَلِّي مَعَهُ، فَتُصَلِّي مَعَهُ إحْدى الفِرْقَتَيْنِ رَكْعَةً، ثُمَّ تَنْصَرِفُ فِي صَلاتِها إلى مَكانِ الفِرْقَةِ الأُخْرى، وتَجِيءُ الأُخْرى إلى مَكانِ هَذِهِ فَتُصَلِّي مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثّانِيَةَ، ثُمَّ تُسَلِّمُ، وتَقْضِي كُلُّ طائِفَةٍ رَكْعَةً رَكْعَةً بَعْدَ سَلامِ الإمامِ.
وتارَةً كانَ يُصَلِّي بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، ثُمَّ يَقُومُ إلى الثّانِيَةِ، وتَقْضِي هِيَ رَكْعَةً وهُوَ واقِفٌ، وتُسَلِّمُ قَبْلَ رُكُوعِهِ، وتَاتِي الطّائِفَةُ الأُخْرى، فَتُصَلِّي مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثّانِيَةَ، فَإذا جَلَسَ فِي التَّشَهُّدِ قامَتْ فَقَضَتْ رَكْعَةً وهُوَ يَنْتَظِرُها فِي التَّشَهُّدِ، فَإذا تَشَهَّدَتْ يُسَلِّمُ بِهِمْ.
وتارَةً كانَ يُصَلِّي بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَتُسَلِّمُ قَبْلَهُ، وتَاتِي الطّائِفَةُ الأُخْرى، فَيُصَلِّي بِهِمُ الرَّكْعَتَيْنِ الأخِيرَتَيْنِ، ويُسَلِّمُ بِهِمْ، فَتَكُونُ لَهُ أرْبَعًا، ولَهُمْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ.
وتارَةً كانَ يُصَلِّي بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ويُسَلِّمُ بِهِمْ، وتَاتِي الأُخْرى، فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ويُسَلِّمُ، فَيَكُونُ قَدْ صَلّى بِهِمْ بِكُلِّ طائِفَةٍ صَلاةً.
وتارَةً كانَ يُصَلِّي بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، فَتَذْهَبُ ولا تَقْضِي شَيْئًا، وتَجِيءُ الأُخْرى فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً، ولا تَقْضِي شَيْئًا، فَيَكُونُ لَهُ رَكْعَتانِ، ولَهُمْ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ، وهَذِهِ الأوْجُهُ كُلُّها تَجُوزُ الصَّلاةُ بِها.
قال الإمام أحمد –رحمه الله-: كلُّ حديث يُرْوى في أبواب صلاة الخوف، فالعمل به جائزٌ.
وقال: ستةُ أوجه، أو سبعةٌ تروى فيها كلُّها جائزة.
وقال الأثرم: قلت لأبي عبد اللَّه: تقول بالأحاديث كلها، كل حديث في موضعه، أو تختار واحدًا منها؟، قال: أنا أقول: من ذهب إليها كلِّها فحسن.
وظاهرُ هذا أنه جَوَّزَ أن تصلي كل طائفة معه ركعةً ركعةً، ولا تقضي شيئًا، وهذا مذهب ابن عباس، وجابر بن عبد اللَّه، وطاووس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والحكم، وإسحاق ابن راهويه.
قال صاحب «المغني»: وعموم كلام أحمد يقتضي جواز ذلك، وأصحابنا ينكرونه. انتهى من زاد المعاد
قال الأتيوبي عفا اللَّه عنه: قول هؤلاء الأئمة بجواز ركعة واحدة في شدّة الخوف هو الحقّ؛ لقوّة دليله، وقد أسلفت تحقيقه في «كتاب صلاة المسافرين»، فارجع إليه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
قال ابن القيّم –رحمه الله-: وقد رُوي عنه -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الخوف صفات أُخَرُ ترجع كلها إلى هذه، وهذه أصولها، وربما اختلف بعض ألفاظها، وقد ذكرها بعضهم عشر صفات، وذكرها أبو محمد بن حزم نحو خمس عشرة صفةً، والصحيح ما ذكرناه أوّلًا، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصّة جعلوا ذلك وجوهًا من فعل النبيّ، وإنما هو من اختلاف الرواة، واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه الله-[«زاد المعاد في هدي خير العباد» (1) / (531) – (532)]، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[قال ابن القيم رحمه الله:
ثم غزا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بنفسه غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة نجد، فخرج في جمادى الأولى من السنة الرابعة، وقيل: في المحرم يريد محاربَ، وبني ثعلبة بن سعد بن غَطَفان، واستَعْمَل على المدينة أبا ذرّ الغفاريّ، وقيل: عثمان بن عفان، وخرج في أربعمائة من أصحابه، وقيل: سبعمائة، فلقي جمعًا من غَطَفان، فتواقفوا، ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلى بهم يومئذ صلاة الخوف.
هكذا قال ابن إسحاق وجماعة من أهل السير والمغازي في تاريخ هذه الغَزاة، وصلاة الخوف بها، وتلقاه الناس عنهم، وهو مشكل جدًّا، فإنه قد صح أن المشركين حَبَسُوا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غابت الشمس.
وفي «السنن»، و «مسندي أحمد والشافعيّ» -رحمهما اللَّه- أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فصلاهنّ جميعًا، وذلك قبل نزول صلاة الخوف، والخندق بعد ذات الرقاع سنة خمس.
والظاهر أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أول صلاة صلاها للخوف بعُسفان، كما قال أبو عياش الزُّرَقيّ –رضي الله عنه-: كنا مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعسفان، فصلى بنا الظهر، وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غَفْلَةً، ثم قالوا: إن لهم صلاةً بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم، فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا العصر، ففرَّقنا فرقتين، وذكر الحديث، رواه أحمد، وأهل «السنن».
وقال أبو هريرة –رضي الله عنه-: كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- نازلًا بين ضَجْنان وعُسفان محاصرًا للمشركين، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاةً هي أحب إليهم من أبنائهم وأموالهم، أجْمِعُوا أمركم، ثم ميلوا عليهم مَيْلَةً واحدةً، فجاء جبريل، فأمره أن يَقْسِم أصحابه نصفين، وذكر الحديث، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.
ولا خلاف بينهم أن غزوة عُسفان كانت بعد الخندق، وقد صحّ عنه أنه صلى صلاة الخوف بذات الرقاع، فعلم أنها بعد الخندق، وبعد عسفان.
ويُؤَيِّد هذا أن أبا هريرة وأبا موسى الأشعري شَهِدا ذات الرقاع، كما في «الصحيحين» عن أبي موسى، أنه شهد غزوة ذات الرقاع، وأنهم كانوا يَلُفُّون على أرجلهم الخِرَق لَمّا نَقِبَت.
وأما أبو هريرة، ففي «المسند»، و «السنن» أن مروان بن الحكم سأله، هل صليت مع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف؟ قال: نعم، قال: متى؟ قال: عام غزوة نجد.
وهذا يدلّ على أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، …..
ومما يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد الخندق، ما رواه مسلم في «صحيحه» عن جابر –رضي الله عنه- قال: أقبلنا مع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- معلَّق بالشجرة، فأخذ السيف فاخترطه، فذكر القصّة، وقال: فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات، وللقوم ركعتان.
وصلاة الخوف إنما شُرِعت بعد الخندق، بل هذا يدل على أنها بعد عُسفان، واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن القيّم –رحمه الله-[«زاد المعاد» (3) / (250) – (254)].
قال الأتيوبي عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره ابن القيّم – بحثٌ نفيسٌ جدًّا، وحاصله أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد الخندق، بل بعد خيبر، وأنه -صلى الله عليه وسلم- صلى فيها صلاة الخوف، وصلاها قبلها بعُسفان، وأول ما شُرعت صلاةُ الخوف بعُسفان، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة):
أنه اختُلف في أيّ سنة شُرعت صلاة الخوف؟
فقال الجمهور: إن أول ما صليت في غزوة ذات الرقاع، واختَلَف أهل السير في أيّ سنة كانت هي؟،
فقال عامّة أهل السير، ابن إسحاق، وابن عبد البرّ، وغيرهما: إنها كانت بعد بني النضير، والخندق، في جمادى الأولى سنة أربع،
وقال ابن سعد، وابن حبّان: في عاشر محرّم سنة خمس،
وقال أبو معشر: بعد بني قريظة في آخر السنة الخامسة، وأول التي تليها،
وقال البخاريّ: بعد خيبر في السنة السابعة، ورجحه الإمام ابن القيّم، والحافظ،
وذهب ابن القيّم إلى أن أول صلاة صليت للخوف بعُسْفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق، وقريظة سنة ست، وصليت بذات الرقاع أيضًا، فعلم أنها بعد الخندق، وبعد عُسفان، وقد بسط الكلام في «الهدي» في الاستدلال لذلك، وإليه جنح الحافظ في «الفتح»، حيث قال بعد الاستدلال لهذا القول: وإذا تقرّر أن أول ما صليت صلاة الخوف بعُسفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة، وقد صليت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وهي بعد عسفان، فتعيّن تأخرها عن الخندق، وعن قريظة، وعن الحديبية أيضًا، فيَقْوى القول بأنها بعد خيبر؛ لأن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية. انتهى [راجع:» الفتح «(8) / (187) – (188)، و» مرعاة المفاتيح” (1) / (5)]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة):
أنهم اتفقوا على أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يصل صلاة الخوف في غزوة الخندق، واختلفوا في سبب ذلك، فقيل: كانت بعد نزول صلاة الخوف، وأنه أخرها نسيانًا، يدلّ عليه ما روى أحمد من حديث ابن لهيعة عن أبي جمعة حبيب بن سباع، قال: إن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال: «هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟» قالوا: لا يا رسول اللَّه، ما صليتها، فأمر المؤذن، فأقام، فصلى العصر، ثم أعاد المغرب، قال الحافظ: وفي صحته نظر؛ لأنه مخالف لما في «الصحيحين» من قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: «واللَّه ما صليتها»، ويمكن الجمع بينهما بتكلف.
وقيل: أخّرها عمدًا؛ لأنه كان مشغولًا بالقتال، والاشتغالُ بالقتال، والمسايفة يمنع الصلاة، قاله صاحب «الهداية»، والطحاويّ، وأبو بكر الجصاص.
وقيل: لأنه لَمْ يكن أُمر حينئذ أن يصلي صلاة الخوف راكبًا، فقد رُوي عن أبي سعيد الخدريّ –رضي الله عنه-، قال: «كنا مع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق، فشُغِلنا … » الحديث، وفي آخره: «وذلك قبل أن ينزل عليه: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا} [البقرة (239)]»، أخرجه أحمد، والنسائيّ، والطيالسيّ، وعبد الرزاق، وغيرهم.
وقيل: لتعذر الطهارة، وقيل: لأنه كان في الحضر، وشرط صلاة الخوف أن تكون في السفر قاله ابن الماجشون. [في الحاشية: “سيأتي أن الراجح مشروعيّتها في الحضر أيضًا”].
وقيل: أخّرها عمدًا؛ لأنه كانت قبل نزول صلاة الخوف، وإليه ذهب الجمهور، كما قال ابن رشد، وبه جزم ابن القيّم في «الهدي»، والحافظ في «الفتح»، والقرطبيّ في «شرح مختصر مسلم»، وعياض في «الشفا»، وغيرهم، وهو الراجح [«المرعاة» (5) / (1) – (2)]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة):
في قوله تعالى: {وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكافِرِينَ} الآية [النساء (101) – (102)].
قد ذكر طائفة من السلف أنها نزلت في صلاة في السفر، لا في صلاة السفر بمجرده؛ ولهذا ذَكَر عقيبها قوله تعالى: {وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء (102)]، ثم ذكر صفة صلاة الخوف، فكان ذلك تفسيرًا للقصر المذكور في الآية الأولى، وهذا هو الذي يشير إليه البخاريّ، وهو مروي عن مجاهد والسديّ والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير وغيره.
وتقدير هذا من وجهين:
أحدهما: أن المراد بقصر الصلاة قصر أركانها بالإيماء ونحوه، وقصر عدد الصلاة إلى ركعة. فأما صلاة السفر، فإنها ركعتان، وهي تمام غير قصر، كما قاله عمر –رضي الله عنه-.
ورَوى سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يقول: الركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة، أخرجه ابن جرير وغيره.
وروى ابن المبارك عن المسعودي، عن يزيد الفقير، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه يُسأل عن الركعتين في السفر: أقصرُهما؟ قالَ: إنما القصر ركعةٌ عندَ القتال، وإن الركعتين في السفر ليستا بقصرٍ.
وأخرج الجوزجاني من طريق زائدة بن عمير الطائي، أنه سأل ابن عباس عن تقصير الصلاة في السفر؟ قال: إنها ليست بتقصير، هما ركعتان من حين تخرج من أهلك إلى أن ترجع إليهم.
وأخرج الإمام أحمد بإسناد منقطع، عن ابن عباس، قال: صلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ركعتين ركعتين، وحين أقام أربعًا أربعًا.
وقال ابن عباس: فمن صلى في السفر أربعًا كمن صلى في الحضر ركعتين.
وقال ابن عباس: لَمْ تقصر الصلاة إلّا مرّة واحدة حيث صلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ركعتين، وصلى الناس ركعة واحدة. يعني: في الخوف.
وروى وكيع، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: صلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف ركعة ركعة. قال سعيد: كيف تكون مقصورة وهما ركعتان؟
والوجه الثاني:
أن القصر المذكور في هذه الآية مطلق، يدخل فيه قصر العدد، وقصر الأركان ومجموع ذلك يختص بحالة الخوف في السفر، فأما إذا انفرد أحد الأمرين -وهو السفر أو الخوف- فإنه يختص بأحد نوعي القصر، فانفراد السفر يختص بقصر العدد، وانفراد الخوف يختص بقصر الأركان. لكن هذا مما لم يفهم من ظاهر القرآن، وإنما بيّن دلالةً عليه رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- والآية لا تنافيه، وإن كان ظاهرها لا يدل عليه. واللَّه -تعالى- أعلم.
وقيل: إن قوله: {وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء (101)] نزلت بسبب القصر في السفر من غير خوف، وإن بقية الآية مع الآيتين بعدها نزلت بسبب صلاة الخوف.
روي ذلك عن عَلِيّ –رضي الله عنه-، أخرجه ابن جرير، عنه بإسناد ضعيف جدًا، لا يصح. واللَّه -تعالى- أعلم.
وقد روي ما يدل على أن الآية الأولى المذكور فيها قصر الصلاة إنما نزلت في صلاة الخوف.
فرَوى منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزُّرَقيّ، قال: كنا مع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بعُسفان -وعلى المشركين خالد بن الوليد- فصلينا الظهر، فقال المشركونَ: لقد أصبنا غرةً، لقد أصبنا غفلةً، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- مستقبل القبلة والمشرطون أمامه، فصفَّ خلف رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- صف، وصفّ بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وركعوا جميعًا، ثم سجدوا وسجد الصف الذين يلونه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا، سجد الآخرون الذين كانوا خلفه، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعًا فسلّم عليهم جميعًا، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم، أخرجه الإمام أحمد وأبو داود -وهذا لفظه- والنسائي وابن حبان في «صحيحه» والحاكم.
وقال: على شرطهما.
وفي رواية للنسائي وابن حبان، عن مجاهد: نا أبو عياش الزرقي، قال: «كنا مع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-» فذكره.
وردّ ابن حبان بذلك على من زعم: أن مجاهدًا لَمْ يسمعه من أبي عياش، وأن أبا عياش لا صحبة له.
كأنه يشير إلى ما نقله الترمذيّ في «علله» عن البخاري، أنه قال: كل الروايات عندي صحيحةٌ في صلاة الخوف، إلّا حديث مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، فإني أراه مرسلًا.
قال الحافظ ابن رجب: وابن حبان لَمْ يفهم ما أراده البخاريّ، فإن البخاري لَمْ ينكر أن يكون أبو عياش له صحبةٌ، وقد عدَّه في «تاريخه» من الصحابة، ولا أنكر سماع مجاهد من أبي عياش، وإنما مراده: أن هذا الحديث الصواب: عن مجاهد إرساله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير ذكر أبي عياش؛ كذلك رواه أصحاب مجاهد، عنه بخلاف رواية منصور، عنه، فرواه عكرمة بن خالد وعمر بن ذر وأيوب بن موسى ثلاثتهم، عن مجاهد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا من غير ذكر أبي عياش.
وهذا أصح عند البخاريّ، وكذلك صحح إرساله عبد العزيز النخشبي وغيره من الحفاظ.
وأما أبو حاتم الرازيّ، فإنه قال -في حديث منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش-: إنه صحيح. قيل له: فهذه الزيادة: «فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر» محفوظةٌ هي؟ قال: نعم.
وقال الإمام أحمد: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح.
وقد جاء في رواية: فنزلت {وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء (102)] وهذا لا ينافي رواية: «فنزلت آية القصر» بل تبيّن أنه لَمْ تنزل آية القصر بانفرادها في هذا اليوم، بل نزل معها الآيتان بعدها في صلاة الخوف.
وهذا كله مما يشهد بأن آية القصر أريد بها قصر الخوف في السفر، وإن دلت على قصر السفر بغير خوف بوجه من الدلالة. انتهى كلام الحافظ ابن رجب – رحمه الله-[«فتح الباري» للحافظ ابن رجب – رحمه الله – (8) / (341) – (347)]، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير جدًا].
فائدة:
الأحاديث التي أوردها الوادعي رحمه الله في كيفيات صلاة الخوف في الجامع الصحيح:
قال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله:
” (210) – بعض كيفيات صلاة الخوف
(1120) – قال أبو داود رحمه الله (ج (4) ص (104)): حدثنا سعيد بن منصور أخبرنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعسفان …..
(1121) – قال أبو داود رحمه الله (ج (4) ص (126)): حدثنا عبيد الله بن معاذ أخبرنا أبي أخبرنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة، ….
(1122) – قال الإمام أحمد رحمه الله ((2063)): حَدَّثَنا وكِيعٌ حَدَّثَنا سُفْيانُ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ أبِي الجَهْمِ بْنِ صُخَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عبد الله بن عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: صَلّى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ صَلاةَ الخَوْفِ بِذِي قَرَدٍ ……. انتهى.
الثالث: فوائد الباب:
1 – (منها): بيان مشروعيّة صلاة الخوف.
2 – (ومنها): بيان عِظَم أمر صلاة الجماعة، بل على ترجيح القول بوجوبها؛ لارتكاب أمور كثيرة، لا تُغتفر في غيرها، ولو صلى كلُّ امرئ منفردًا لَمْ يقع الاحتياج إلى معظم ذلك.
3 – (ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: «طائفة» على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بد أن تكون التي تحرس يحصل الثقة بها في ذلك، والطائفة تطلق على الكثير والقليل، حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة، ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد، ويحرس واحد، ثم يصلي الآخر، وهو أقلّ ما يُتَصَوَّر في صلاة الخوف جماعة على القول بأقل الجماعة مطلقًا، لكن قال الشافعي: أكره أن تكون كل طائفة أقلّ من ثلاثة؛ لأنه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله: {أسْلِحَتَهُمْ} [النساء (102)]، ذكره النوويّ وغيره [راجع: «الفتح» (3) / (499)]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط].
4 – جواز صلاة المفترض خلق المتنفل.
فائدة: طبع كتيب باسم
صلاة الخوف، لسعيد بن وهف القحطاني رحمه الله.