1166 – فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1166):
قال أبو داود رحمه الله (ج (13) ص (244)): حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم».
قال الوادعي رحمه الله: “هذا حديث حسنٌ.
الحديث أخرجه الترمذي (ج (7) ص (214)) وقال: هذا حديث صحيح.
وأخرجه ابن ماجه (ج (2) ص (4080)) “.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
بوب عليه الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله (ت (275)): بابٌ فِي النَّهْيِ عَنِ البَغْيِ، برقم ((4902)).
وذكره الوادعي رحمه الله في الجامع:
” (12) – الترهيب من قطيعة الرحم”، برقم ((3504))،
و” (323) – قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ} “، برقم ((4301)).
و” (11) – البغي، وقطيعة الرحم”، برقم ((3294)).
و”سورة يونس، (201) – قوله تعالى: {ياأيُّها النّاسُ إنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أنْفُسِكُمْ} “، برقم ((4125)).
الأول: شرح الحديث:
قال المصنف رحمه الله تعالى: “باب في النهي عن البغي”.
” أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في النهي عن البغي، والبغي: هو الاعتداء والظلم، وقد مر قريبًا قوله : ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد))؛ لأن البغي هو الاعتداء والظلم”. ثم أورد حديثين، ومنها حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
“أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي بكرة رضي الله عنه: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله له العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم))، يعني: أنه تحصل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيجمع له بين العقوبة الدنيوية والأخروية، حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة، فيجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وهذا يدل على عظم وخطورة شأن البغي وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول ذكر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على خطورة أمر البغي وقطيعة الرحم”.
فهما أسرع الذنوب عقوبة في الدنيا وعقوبة الآخرة على أصلها، وفيه عظمة شأن البغي وقطيعة الرحم فكل واحدة كبيرة من أمهات الكبائر، فكيف إذا اجتمعتا
رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد. [«المستدرك» (2) / (356)]. “وأقره الذهبي”.
ورواه الإمام الطبراني، فقال فيه: «من قطيعة الرحم والخيانة، وإن أعجل البر ثوابًا لصلة الرحم» [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير كما في مجمع الزوائد ((8) / (151))، وقال: فيه عبد الله بن موسى بن أبي عثمان الأنطاكي ولم أعرفه، وابن حبان ((440))، وصححه الألباني في صحيح الجامع ((5705))]،
ولفظ الطبري: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب، وإن أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة فتنموا أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا)).
((في الآخرة من قطيعة الرحم)) القرابة ولو غير محرم وذلك بالإيذاء والصد والهجر. ((والخيانة)) للأمانة ((والكذب)) غير ما قد سلف أنه أبيح ولم يذكر البغي هنا اكتفاء بما سلف كما لم يذكر هنالك الكذب والخيانة اكتفاء بهذا فإن كلام الشارع يقيد بعضه بعضًا إذ هو خطاب واحد لجميع الأنام. ((وإن أعجل الطاعات)) أسرعها. ((ثوابا لصلة الرحم)) لما كان القطع لها أسرعها عقوبة كان وصلها أسرعها ثوابًا وقياسه أن حفظ الأمانة والصدق والوفاء كذلك يعجل ثوابها ويحتمل اختصاص الصلة بعظمة شأنها ((حتى إن أهل البيت)) المتواصلين. ((ليكونوا فجرة)) منبعثين في الشر. ((فتنموا أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا)) فجزاء التواصل الدنيوي كثرة المال وبركة النسل من الإناث والرجال، وذلك لأن واصل رحمه يكثر حالها بالصلة فجازاه الله بنظير ما كان منه، وفيه أن قاطع الرحم يعجل له العقوبة بقلة المال وعدم البركة في النسل فتفسر به العقوبة المجملة أولا ويحتمل غير ذلك.
وزاد الحافظ ابن حبان: «وما من أهل بيت يتواصلون فيحتاجون». [«الإحسان» (2) / (182) – (183) ((440))]، وحقيقة الصلة العطف والرحمة.
ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة، واختلفوا في حد الرحم التي يحرم قطيعتها، فقيل: هو كل ذي رحم محرم، بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى حرمت مناكحتهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام ولا أولاد الأخوال. وقيل: هو عام في كل ذي رحم من ذوي الأرحام في الميراث يستوي فيه المحرم وغيره. قال النووي: وهذا الثاني هو الصواب. [«شرح مسلم» (16) / (113)].
[انظر: شرح سنن أبي داود لابن رسلان، التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني، شرح سنن أبي داود للعباد].
“وفي الحَديثِ: التَّحْذيرُ منَ الظُّلْمِ وقطْعِ الرَّحِمِ.
وفيه: الحَثُّ على العَدْلِ وصِلَةِ الرَّحِمِ”.
الثاني: ملحقات:
(المسألة الأولى): “التحذير من التمادي في المعصية:
تأتي مصائب الدنيا بمثابة إشارات وتنبيهات من الله تعالى للعبد إلى أنه غارق في معصية ويجب عليه الرجوع قبلِ فوات الأوان؛ كما قال تعالى:
{ولَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. [سورة السجدة، آية (21)]
عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله تعالى: {ولَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذابِ الأدْنى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ} [السجدة (21)]. قال: «مصائب الدنيا». [رواه مسلم].
وأخبرنا الرسول أن بعض الذنوب أجدر بوقوع عذاب الدنيا؛ فقال: «ما من ذنب أجدر …. من حديث أبي بكرة].
عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم». [رواه أبو داود بسند صحيح]
(العِينة: أن يبيع الرجل شيئا من غيره بثمن مؤجل، ويُسلمه للمشتري، ثم يشتريه منه قبل قبض الثمن بثمن أقل من ذلك القدر يدفعه نقدًا) “.
[مجموعة رسائل التوجيهات الإسلامية لإصلاح الفرد والمجتمع، محمد جميل زينو (ت (1431))].
فصل:
أولا: العقوبة في الدنيا
قال صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) رواه الترمذي (2396) وصححه الألباني.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ” فإذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، إما بماله أو بأهله، أو بنفسه، أو بأحد ممن يتصل به.
المهم أن تعجل له العقوبة، لأن العقوبات تكفر السيئات،
لكن إذا أراد الله بعبده الشر، أمهل له واستدرجه وأدر عليه النعم، ودفع عنه النقم، حتى يبطر ويفرح فرحاً مذموما بما أنعم الله به عليه ” انتهى من [شرح رياض الصالحين، (1/ 258)].
ثانيًا: العقوبة في الدنيا والآخرة معًا:
ومنها: البغي، وقطيعة الرحم، والخيانة، والكذب.
قال المناوي رحمه الله: “وفيه: أن البلاء بسبب القطيعة في الدنيا، لا يدفع بلاء الآخرة” انتهى من “التيسير شرح الجامع الصغير” (2/ 698).
وسبق كلام العباد
فرع:
” أعمال عجل الله عقوباتها في الدنيا:
” الكذب – البغي – قطيعة الرحم ”
1) الكذب:
وله عقوبات معجَّلة عامة وخاصة:
الأولى:
وهي أنه يهدي إلى الفجور ويسوق صاحبه إليه، فهو من أعظم أسباب الغواية والضلال؛ فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا» (رواه البخاري ومسلم).
الثانية:
وهي الريبة والقلق والاضطراب وعدم الطمأنينة التي هي أساس السعادة؛ فعن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدقَ طمأنينة والكذب ريبة» (رواه الترمذي وصححه).
الثالثة:
وهي عقوبة غير معينة من الله جل وعلا؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه الحديث وسبق
قال مالك بن دينار: «الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يُخرج أحدهما صاحبه».
ومن أخطر صور الكذب التي يعجِّل الله عليها العقاب ويدع الديار بها خاوية قاعًا صفصفًا اليمين الغموس؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أطيع الله تعالى فيه أعجل ثوابًا من صلة الرحم وليس شيء أعجل عقابًا من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الدِّيار بلاقع» (رواه البيهقي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
2) البغي:
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق» (رواه الحاكم في المستدرك وهو في السلسلة الصحيحة).
قال بعض الحكماء: أعجل الأمور عقوبة وأسرعها لصاحبه سرعة ظلم من لا ناصر له إلا الله، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير.
ورغم أن الله – جل وعلا – أوعد الظالم الباغي بتعجيل عقوبته وجزائه في الدنيا فقد جعل للمظلوم دعوةً مستجابةً ليس بينها وبينه حجاب فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرًا فإنه ليس دونها حجاب» (رواه أحمد وغيره وهو في صحيح الجامع).
ويشهد لهذا قصة التي رواها البخاري رحمه الله: أن أهل الكوفة شَكَوْا سعد بن أبي وقاص إلى عمر – رضي الله عنهما – فعزله واستعمل عليهم عمَّارًا، فشكوا سعدًا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه …..
، فقام رجل منهم يقال له “أسامة بن قتادة” يُكَنَّى أبا سعدة قال: أما إذا نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية , قال سعد: وأنا والله لأدعونَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، وكان الرجل إذا سئل بعد يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد!!
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطريق يغمزهن (رواه البخاري).
3) قطيعة الرحم:
وقد سبق في الحديث: «ما من ذنب أجدر أن يُعَجِّلَ الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يَدَّخرُه في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب» بل صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «من قطع رحمه لقي وباله قبل أن يموت» وفي ذلك نصٌّ صريح على أن قاطعَ الرحم يلقى جزاءه في الدنيا ولا بد!
ومن بين العقوبات النفسية التي يعاقب الله بها القاطع للرحم أن ينصر عليه من وصله، وأن يظهره عليه ثوابًا للواصل وعذابًا على القاطع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيؤون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ , فقال: «لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» (رواه مسلم). [أعمال عجل الله عقوباتها فى الدنيا، بتصرف]
(المسألة الثانية): “صلة الرحم والبعد عن الظلم:
ومما يدفع البلاء البعد عن قطيعة الرحم وظلم الخلق: فالواجب على الإنسان أن يدفع البلاء عن نفسه بالأسباب المشروعة والتي منها البعد عن البغي وقطيعة الرحم لأن الله حرم ذلك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
والبغي هو: الظلم والعدوان على الخلق، سواء كان باللسان أو اليد أو الرجل أو غيرها من الجوارح، قال ابن كثير: (أما البغي فهو العدوان على الناس) فعلى الإنسان أن يوطن نفسه بالقيام بالعدل حتى تستقيم أموره. يقول شيخ الإسلام: (ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق) (فإن الباغي مصرعه وخيم، والعدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، وإنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالعدل) لذلك فعاقبة الظلم تحيط بالظالم، إما بنفسه أو ولده أو ماله أو عرضه. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن البغي يصرع أهله، وإن على الباغي تدور الدوائر) ويشهد لهذا قوله تعالى: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قال ابن عباس: إنا نجد في كتاب الله: وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ ويجري على الألسنة أيضا: من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه، قال الشاعر:
قضى الله أن البغي يصرع أهله وأن على الباغي تدور الدوائر
ومن يحتفر بئرا ليوقع غيره سيوقع في البئر الذي هو حافر
يقول الزهري: (ما بقي أحد من قتلة الحسين إلا عوقب في الدنيا، فهذا ممكن، وأسرع الذنوب عقوبة البغي، والبغي على الحسين من أعظم البغي) وقال صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم وفي رواية (امرئ) وسبب تخصيص البغي وقطيعة الرحم بتعجيل العقوبة لصاحبهما ما نراه في قول شيخ الإسلام: (إن ما كان من الذنوب يتعدى ضرره فاعله عجلت لصاحبه العقوبة في الدنيا تشريعا وتقديرا، ولهذا قال: (ما من ذنب أحرى أن تعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم) لأن تأخير عقوبته فساد لأهل الأرض بخلاف ما لا يتعدى ضرره فاعله، فإنه قد تؤخر عقوبته)
(من البغي) أي من بغي الباغي وهو الظلم أو الخروج على السلطان .. ومن تفضيلية (وقطيعة الرحم) أي ومن قطع صلة ذوي الأرحام
ومن البغي تتبع عورات الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه
من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته ودعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب.
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن من أسباب البغي: الحسد والبغض؛ لأنه يكره أولا فضل الله على المحسود، ثم ينتقل البغض إلى صاحب النعمة فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فلك فيه حالتان، إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب أو تسعى لزوالها، وهذه الحالة تسمى حسدا.
الثانية: ألا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها له، ولكنك تريد لنفسك مثلها، فهذا يسمى غبطة
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار وقال أيضا: من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه وفي رواية: لا يزيد في العمر إلا الصلة وصلة الرحم
“. [الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، العدد السابع والثمانون – الإصدار: من ربيع الأول إلى جمادى الآخرة لسنة 1430 هـ، البحوث، أسباب لرفع البلاء قبل وقوعه وأسباب لرفعة بعد وقوعه، الفصل الأول أسباب دفع البلاء قبل وقوعه، المبحث السابع: صلة الرحم والبعد عن الظلم].
وراجع للتوسع في صلة الرحم شرح حديث:
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1098):
قال البخاري رحمه الله تعالى في ” خلق أفعال العباد”، ص (99):
وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزَّعْرَاءِ: سَمِعَهُ مِنْ عَمِّهِ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ وَصَوَّبَ، قُلْتُ: إِلَامَ تَدْعُو وَعمَّ تَنْهَى؟ قَالَ: «لَا شَيْءَ إِلَّا اللَّهَ وَالرَّحِمَ»، قَالَ: «أَتَتْنِي رِسَالَةٌ مِنْ رَبِّي فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا، وَرَأَيْتُ أَنَّ النَّاسَ سَيُكَذِّبُونِي، فَقِيلَ لِي: لتَفْعَلَنَّ أَوْ لَيُفْعَلَنَّ بِكَ».
قال أبو عبدالرحمن: هذا حديث صحيح
—-
كيف الجمع بين حديث (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) رواه مسلم (2999). و (إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة) خرجه الترمذي وحسنه. و” فَمَن وَفَى مِنكُم فَأَجرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَن أَصَابَ مِن ذَلِكَ شَيئًا فَعُوقِبَ فِي الدنيَا، فَهُوَ كَفارَةٌ لَهُ،) وبين حديث في سنن أبي داود مرفوعا: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) اهـ. فكيف الجمع بين قوله في الأول الأخذ بالعقوبة في الدنيا يعفي من عقوبة الآخرة، ثم هنا في الحديث الآخر قال: إنه يدخر له العقوبة في الآخرة، مع أخذه بعقوبة الدنيا؟ فهل يعاقب المسلم بذنب في الدنيا والآخرة: أم هل من أخذ بذنبه بإيقاع العقوبة عليه في الدنيا عفي من عقوبة الآخرة في هذا الذنب؟
ملخص الجواب:
خلاصة الجواب: أن كون العقوبة الدنيوية خيرا للعبد لأنها تكفر ذنبه، ليست عامة في كل الذنوب، بل من الذنوب ما تجتمع فيه العقوبتان، ولا تكون الأولى مسقطة للثانية إلا أن يشاء الله
الجواب
الحمد لله.
لا تعارض بين الحديثين، بل الحديث الأول عام، والحديث الثاني خاص، ولا تعارض بين عام وخاص.
وبيان ذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) -رواه الترمذي (2396) وصححه الألباني في صحيح الترمذي- يفيد أن تعجيل العقوبة للعبد في الدنيا خير له، لأن العقوبة والبلاء يكفر الذنب، حتى لا يوافي ربه بذنبه.
ويستثنى من هذا بعض الذنوب التي ثبتت فيها العقوبة في الدنيا والآخرة، فإن عقوبتها في الدنيا لا تكفّرها، بل تبقى عقوبة الآخرة، إلا أن يتوب أو يتجاوز الله عنه برحمته.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ” فإذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، إما بماله أو بأهله، أو بنفسه، أو بأحد ممن يتصل به.
المهم أن تعجل له العقوبة، لأن العقوبات تكفر السيئات، فإذا تعجلت العقوبة وكفر الله بها عن العبد، فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب، قد طهرته المصائب والبلايا، حتى إنه ليشدد على الإنسان موته لبقاء سيئة أو سيئتين عليه، حتى يخرج من الدنيا نقيا من الذنوب، وهذه نعمة لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
لكن إذا أراد الله بعبده الشر، أمهل له واستدرجه وأدر عليه النعم، ودفع عنه النقم، حتى يبطر ويفرح فرحاً مذموما بما أنعم الله به عليه.
وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته فيعاقب بها في الآخرة نسأل الله العافية.
فإذا رأيت شخصاً يبارز الله بالعصيان، وقد وقاه الله البلاء وأدر عليه النعم، فاعلم أن الله إنما أراد به شراً لأن الله أخر عنه العقوبة حتى يوافي بها يوم القيامة ” انتهى من “شرح رياض الصالحين” (1/ 258).
ومن الذنوب التي تجتمع فيها العقوبتان، ولا تكون عقوبة الدنيا مكفرة لها: البغي، وقطيعة الرحم، والخيانة، والكذب.
روى أبو داود (4902)، والترمذي (2511)، وابن ماجه (4211) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) والحديث صححه الألباني في “صحيح أبي داود”.
ورواه الطبراني بلفظ: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب، وإن أعجل الطاعة ثوابا، لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا) وصححه الألباني في “صحيح الجامع” برقم (10642).
قال المناوي رحمه الله: “وفيه: أن البلاء بسبب القطيعة في الدنيا، لا يدفع بلاء الآخرة” انتهى من “التيسير شرح الجامع الصغير” (2/ 698).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله: ” يعني: أنه تحصل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيجمع له بين العقوبة الدنيوية والأخروية، حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة، فيجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والضرر الذي يحصل في الدنيا، والضرر الذي يحصل في الآخرة.
وهذا يدل على عظم وخطورة شأن البغي وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على خطورة أمر البغي وقطيعة الرحم” انتهى من “شرح سنن أبي داود” (28/ 167) ترقيم الشاملة.
فالحاصل: أن كون العقوبة الدنيوية خيرا للعبد لأنها تكفر ذنبه، ليست عامة في كل الذنوب، بل من الذنوب ما تجتمع فيه العقوبتان، ولا تكون الأولى مسقطة للثانية إلا أن يشاء الله.
على أننا ننبه هنا إلى أن العبد ليس له أن يتمنى من الله أن يعاقبه بذنبه في الدنيا، ولا أن يدعو الله بذلك، بل يطمع في عفو الله وفضله، وأن يرزقه العفو والعافية والمعافاة، في الدنيا والآخرة؛ وفضل الله واسع، ولا قبل لأحد بعذاب الله، فلا يستفتحن العبد على نفسه، ولا يتعجل البلاء، ولا يتمناه؛ فإنه لا يدري ما يكون حاله فيه.
روى مسلم في صحيحه (2688) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” سُبْحَانَ اللهِ لَا تُطِيقُهُ – أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ – أَفَلَا قُلْتَ: اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ” قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ، فَشَفَاهُ.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله:
” فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ قَدْ رَوَيْتُمْ عَنْهُ .. ”
فذكر الحديث الأول:
” عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ” إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا , وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفِّيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “.
قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ , فَلِمَ لَحِقَ اللَّوْمُ مَنْ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا لِيَسْلَمَ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ؟ “.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله:
” فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ: أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ مِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي كَمَا ذَكَرَ , وَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ , غَيْرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَارَ لِأُمَّتِهِ إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ , وَرَحْمَةً لَهُمْ , وَرَافَةً بِهِمْ , أَنْ يَدْعُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمُعَافَاةِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا مِثْلُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فِيهِ , وَأَنْ يُؤْتِيَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ , وَهَذِهِ الْحَالُ فَهِيَ أَعْلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا , فَبَانَ بِحَمْدِ اللهِ أَنْ لَا تَضَادَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ , وَلَا اخْتِلَافَ , وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ ” انتهى، من “تأويل مشكل الآثار” (5/ 291 – 292).