1164 – فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1164):
قال الترمذي رحمه الله (ج (3) ص (507)): حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عيينة بن عبد الرحمن قال حدثني أبي، قال: ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة، فقال: ما أنا ملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا في العشر الأواخر فإني سمعته يقول: «التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث أواخر ليلة» قال: وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة فإذا دخل العشر اجتهد.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث صحيحٌ، ورجاله ثقات. ووالد عُيَيْنَةَ هو عبد الرحمن بن جَوشَن.
وقد أخرجه ابن أبي شيبة (ج (2) ص (511)) فقال رحمه الله: حدثنا وكيع، قال: ثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن بكرة به.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
أورده الوادعي في جامعه:
1) باب: ” (392) – قوله تعالى: {إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} “، سورة القدر، الآية: (1)، برقم ((4406)).
2) باب: ” (39) – ما جاء في ليلة القدر”، برقم ((1507)).
الأول: شرح الحديث:
” قَوْلُهُ (الْتَمِسُوهَا) أَيْ: لَيْلَةَ الْقَدْرِ (فِي تِسْعٍ) أَيْ: تِسْعِ لَيَالٍ (يَبْقَيْنَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ وَهِيَ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ، (أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ) وَهِيَ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ، (أَوْ فِي خَمْسٍ يَبْقَيْنَ) وَهِيَ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ، (أَوْ ثَلَاثٍ) أَيْ: يَبْقَيْنَ وَهِيَ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ، (أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ) مِنْ رَمَضَانَ؛ أَيْ: سَلْخِ الشَّهْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ التِّسْعُ أَوِ السَّلْخُ رَجَّحْنَا الْأَوَّلَ بِقَرِينَةِ الْأَوْتَارِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ وَقَالَ فِي اللُّمَعَاتِ.
قَوْلُهُ فِي (تِسْعٍ يَبْقَيْنٍ) قِيلَ: فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَفِي (سَبْعٍ يَبْقَيْنَ) مَحْمُولٌ عَلَى الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ وَفِي (خمس يبقين) على السادسة والعشرين وأو ثَلَاثٍ عَلَى الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ (أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ) مَحْمُولٌ عَلَى التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَقِيلَ عَلَى السَّلْخِ أَقُولُ هَذَا إِذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَالْأُولَى عَلَى الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ وَالثَّانِيَةُ عَلَى الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ وَالثَّالِثَةُ عَلَى الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ وَالرَّابِعَةُ عَلَى السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ، وهذا أولى لكثرة الأحاديث الورادة فِي الْآثَارِ، بَلْ نَقُولُ لَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِهَا أَوْلَى هَذِهِ الْأَعْدَادِ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهَا فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ إلخ تَرْدِيدُهَا فِي اللَّيَالِي الْخَمْسِ أَوِ الْأَرْبَعِ أَوِ الثَّلَاثِ أَوِ الِاثْنَيْنِ أَوِ الْوَاحِدَةِ انْتَهَى مَا فِي اللُّمَعَاتِ 3 – بَاب مِنْهُ”. [تحفة الأحوذي].
قال في «الفتح»: والظاهر أن المراد به أواخر الشهر، وقيل: المراد به السبع التي أولها ليلة الثاني والعشرين، وآخرها ليلة الثامن والعشرين، فعلى الأول لا تدخل ليلة إحدى وعشرين، ولا ثلاث وعشرين، وعلى الثاني تدخل الثانية فقط، ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين.
قال: وقد رواه البخاريّ في «التعبير» من طريق الزهريّ، عن سالم، عن أبيه: إن ناسأ أُرُوا ليلة القدر في السبع الأواخر، وإن ناسًا أُروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبيّ – -: «التمسوها في السبع الأواخر»، وكأنه – – نظر إلى المتفق عليه من الروايتين، فأمَر به.
وقد رواه أحمد عن ابن عيينة، عن الزهريّ بلفظ: رَأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، أو كذا وكذا، فقال النبيّ – -: «التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها».
ورواه أحمد من حديث عليّ – رضي الله عنه – مرفوعًا: «إن غُلِبتم فلا تُغْلَبوا في السبع البواقي».
ولمسلم عن جَبَلة بن سُحَيم، عن ابن عمر، بلفظ: «من كان يلتمسها فيلتمسها في العشر الأواخر».
وله أيضًا من طريق عقبة بن حريث، عن ابن عمر: «التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضَعُف أحدكم، أو عجز فلا يُغْلَبَنّ على السبع البواقي»، وهذا السياق يُرَجِّح الاحتمال الأول من تفسير السبع. انتهى [«الفتح» (5) / (453) – (454)]. وراجع [البحر المحيط الثجاج].
قال ابن عبدالبر في قول أبي سعيد في الصحيح في تفسير التاسعة إذا كانت ليلة إحدى وعشرين فالتي تليها التاسعة. … يعني بالنظر أن الأغلب في الشهر أن يكون ثلاثين ليلة وبعضهم قال: يحتمل في تسع يبقين يعني ليلة التاسع والعشرين ورجح ابن عبدالبر قول مالك أنها ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين لرواية الوتر. ويحمل تفسير أبي سعيد على إكمال الشهر.
الثاني: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
سبق ذكر بعض المسائل تحت حديث (ج2/ رقم 1160).
الأولى: الفوائد:
(1) – (منها): بيان فضل ليلة القدر، والحثّ على طلبها، وبيان محلّها، وأرجى أوقاتها.
(2) – (ومنها): الأمر بطلبها في العشر الأواخر من رمضان.
قال القسطلّانيّ -رحمه الله-: ظاهر الحديث أن طلبها في السبع مستنده الرؤيا، وهو مشكلٌ …..
والحاصل أن الاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقًا، وهو طلب ليلة القدر، وإنما ترجّح السبع الأواخر بسبب الرؤيا الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو استدلال على أمر وجوديّ لزمه استحباب شرعيّ مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي، لا أنها ثبت بها حكم، أو أن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث إقراره – – لها، كأحد ما قيل في رؤيا الأذان. انتهى [راجع: «المرعاة» (7) / (124)].
قال [الأتيوبي] عفا الله عنه: هذا الأخير هو العمدة، وحاصله أنه إنما اعتمد على الرؤيا من أجل أن النبيّ – – أقرّه، وأمر بالاعتماد عليها، فيكون من الأمور الثابتة بالنصّ، فلا إشكال، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(3) – (ومنها): بيان أن توافق جماعة على رؤيا واحدة دالّ على صدقها وصحتها، كما تستفاد قوّة الخبر من التوارد على الإخبار من جماعة.
(4) – (ومنها): أن قوله:» من كان متحريها «يدلّ على أن قيام ليلة القدر نافلة، غير واجب، لكنها فضل [«الاستذكار» (3) / (417)].
(5) – (ومنها): أن فيه من وجوه العلم أن ليلة القدر لم يُعْطَها إلا محمد – – وأمته.
(6) – (ومنها): أن فيه أن أعمار من مضى كانت أطول من أعمارنا.
(7) – (ومنها): بيان بقاء ليلة القدر، واستمرارها، وأنها لم تُرْفَع، قال النوويّ: وأجمع من يُعْتَدّ به على وجودها، ودوامها إلى آخر الدهر؛ للأحاديث الصحيحة المشهورة، قال القاضي عياض: وشذّ قوم، فقالوا: رُفِعت؛ لقوله – – حين تلاحى الرجلان:» فرُفِعت «، وهذا غلطٌ من هؤلاء الشاذين؛ لأن آخر الحديث يَرُدّ عليهم، فإنه – – قال:» وعسى أن يكون خيرًا لكم، التمسوها في السبع والتسع «، هكذا هو في أول» صحيح البخاريّ، وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. انتهى.
وقال في «شرح المهذب»: وكذا حكى أصحابنا هذا القول عن قوم لم يسمّهم الجمهور، وسماهم صاحب «التتمة»، فقال: هو قول الروافض. انتهى [«طرح التثريب» (4) / (151)].
(8) – (ومنها): أن فيه فضل ليلة القدر، وذلك من اسمها، ومن الأمر بتحريها وطلبها، وقد أفصح به القرآن الكريم في قوله تعالى: {إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ ((1))} [القدر (1)] الآية، وهو مُجْمَعٌ عليه، وقد خَصّ الله تعالى بها هذه الأمة، فلم تكن من قبلهم على الصحيح المشهور، واختُلِف في سبب ذلك، فرَوى الترمذيّ عن الحسن بن علي – رضي الله عنهما – أن النبي – – أُرِي بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت: {إنّا أعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ ((1))} [الكوثر (1)] يا محمد يعني نهرًا في الجنة، ونزلت: {إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ ((1)) وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ ((2)) لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ ((3))} [القدر (1) – (3)] يملكها بعدك بنو أمية يا محمد، قال القاسم بن الفضل الحرانيّ أحد رواته: فعددنا، فإذا هي ألف شهر، لا تنقص يومًا، ولا تزيد يومًا [قال الأتيوبي: في سنده يوسف بن سعد قال الترمذيّ: رجل مجهول، ووثقه غيره، وضعفه الشيخ الألباني، وقال: ضعيف الإسناد، مضطرب، ومتنه منكر، انتهى.].
ورَوى مالك في «الموطأ» أنه سَمِع مَن يَثِق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله – – أُري أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته، أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرًا من ألف شهر.
ورَوى البيهقيّ في «سننه» عن مجاهد مرسلًا أن رسول الله – – ذكر رجلًا من بني إسرائيل لَبِسَ السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعَجِب المسلمون من ذلك، فأنزل الله: {إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ ((1)) وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ ((2)) لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ ((3))} [القدر (1) – (3)] التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ بعد ذكره حديث الترمذيّ الذي بدأنا به: وهذا لا يصحّ، والذي رَوى مالك من أن النبيّ – – تقاصر أعمار أمته أصحّ منه، وأولى، ولذلك أدخله ليبيّن بذلك الفائدة فيه، ويدلّ على بطلان هذا الحديث. انتهى.
قال وليّ الدين: وفيه نظر؛ فإن البلاغ الذي ذكره مالك لا يُعْرَف له إسناد، قال ابن عبد البرّ: لا أعلم هذا الحديث يروى مسندًا، ولا مرسلًا من وجه من الوجوه إلا ما في «الموطأ»، وهو أحد الأربعة الأحاديث التي لا توجد في غير «الموطأ»، قال: وليس منها حديث منكرٌ، ولا ما يدفعه أصل،
قال وليّ الدين: حتى يثبت له أصل، نعم المرسل الذي ذكرناه من عند البيهقيّ يشهد له. انتهى [«طرح التثريب» (4) / (150) – (151)].
(9) – (ومنها): ما قال الشيخ ابن دقيق العيد -رحمه الله- في «شرح العمدة»: فيه دليل على عِظَم الرؤيا، والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات، وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها، وقد تكلم الفقهاء فيما لو رأى النبيّ – – في المنام، وأمره بأمر، هل يلزم ذلك؟ وقيل فيه: إن ذلك إما أن يكون مخالفًا لما ثبت عنه – – من الأحكام في اليقظة، أو لا، فإن كان مخالفًا عَمِل بما ثبت في اليقظة؛ لأنا وإن قلنا إن من رأى النبيّ – – على الوجه المنقول من صفته، فرؤياه حق، فهذا من قبيل تعارض الدليلين، والعمل بأرجحهما، وما ثبت في اليقظة، فهو أرجح، وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة، ففيه خلاف، والاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقًا، وهو طلب ليلة القدر، وإنما ترجح السبع الأواخر بسبب المرائي الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو استدلال على أمر وجوديّ لزمه استحباب شرعيّ مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي، مع كونه غير مناف للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب طلب ليلة القدر. انتهى.
ونقل ابن الصلاح في «فوائد الرحلة»، عن كتاب «آداب الجدل» لأبي إسحاق الإسفرايينيّ وجهين فيما إذا رأى شخص النبيّ – – في النوم، وقال له: غدًا من رمضان، هل يَعْمَل به أم لا؟ وحكى القاضي عياض الإجماع على أنه لا يَعْمَلُ به، ذكره وليّ الدين -رحمه الله-[«طرح التثريب في شرح التقريب» (4) / (152)]، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.
(10) – (ومنها): ما قال العلماء -رحمهم الله تعالى -: الحكمة في إخفاء ليلة القدر؛ أن يحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلة لاقتصر عليها، كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة، وهذه الحكمة مُطَّردة عند من يقول: إنها في جميع السنة، وفي جميع رمضان، أو في جميع العشر الأخير، أو في أوتاره خاصّةً، إلا أن الأول، ثم الثاني أليق به، قاله في «الفتح» [«الفتح» (5) / (469)].
(11) – (ومنها): ما قاله في «الفتح»: وفي هذه الأحاديث ردٌّ لقول أبي الحسن الحوليّ المغربيّ: إنه اعتبر ليلة القدر، فلم تفته طول عمره، وإنها تكون دائمًا ليلة الأحد، فإن كان أول الشهر ليلة الأحد كانت ليلة تسع وعشرين، وهُلُمّ جَرًّا، ولزم من ذلك أن تكون في ليلتين من العشر الوسط؛ لضرورة أن أوتار العشر خمسة، وعارضه بعض من تأخر عنه، فقال: إنها تكون دائمًا ليلة الجمعة، وذكر نحو قول أبي الحسن، وكلاهما لا أصل له، بل هو مخالف لإجماع الصحابة – رضي الله عنهم – في عهد عمر – رضي الله عنه -، وهذا كاف في الردّ، وبالله التوفيق. انتهى [«الفتح» (5) / (470)].
(12) – (ومنها): أنه ورد لليلة القدر علامات، أكثرها لا تظهر إلا بعد أن تمضي:
منها ما يأتي في «صحيح مسلم» عن أبي بن كعب – رضي الله عنه -: «إن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها»، وفي رواية لأحمد من حديثه: «مثل الطست»، ونحوه لأحمد من طريق أبي عون، عن ابن مسعود، وزاد: «صافية»، ومن حديث ابن عباس نحوه، ولابن خزيمة من حديثه مرفوعًا: «ليلة القدر طَلْقَةٌ، لا حارّة، ولا باردة، تُصبح الشمس يومها حمراء، ضعيفةً»، ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – مرفوعًا: «إنها صافية، بَلْجَةٌ [أي: مشرقة]، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة، صاحية، لا حرّ فيها، ولا برد، ولا يَحِلّ لكوكب يُرمى به فيها».
ومن أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يَحِلّ للشيطان أن يخرج معها يومئذ.
ولابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – أيضًا: «إن الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان، إلا صبيحة ليلة القدر».
وله من حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – مرفوعًا: «ليلة القدر ليلةُ مطر، وريح»، ولابن خزيمة من حديث جابر – رضي الله عنه – مرفوعًا في ليلة القدر: «وهي ليلة طَلْقة بَلْجَةٌ، لا حارّةٌ، ولا باردةٌ، تتضح كواكبها، ولا يخرج شيطانها، حتى يضيء فجرها».
ومن طريق قتادة، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعًا: «وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى».
وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد: «لا يُرْسَل فيها شيطان، ولا يَحْدُث فيها داء».
ومن طريق الضحاك: «يَقْبَل الله التوبة فيها من كل تائب، وتفتح فيها أبواب السماء، وهي من غروب الشمس إلى طلوعها».
وذكر الطبريّ عن قوم: أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض، ثم تعود إلى منابتها، وأن كل شيء يسجد فيها.
قال [الأتيوبي] عفا الله عنه: هذا يَحتاج إلى دليل مرفوع، فتنبّه.
وروى البيهقي في «فضائل الأوقات» من طريق الأوزاعيّ، عن عبدة بن أبي لبابة، أنه سمعه يقول: «إن المياه المالحة تعذُب تلك الليلة»، وروى ابن عبد البر من طريق زهرة بن معبد نحوه. انتهى [«الفتح» (5) / (459)].
قال [الأتيوبي] عفا الله عنه: قول عبدة هذا يَحتاج إلى دليل مرفوع، فلْيُتَنَبَّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
الثانية:
في بيان أقوال أهل العلم في تسمية ليلة القدر، واشتقاقها ومعناها:
قال النوويّ -رحمه الله-: قال العلماء: وسُمّيت ليلة القدر؛ لما يُكتَب فيها للملائكة من الأقدار، والأرزاق، والآجال التي تكون في تلك السنة، كقوله تعالى: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ ((4))} [الدخان (4)]، وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِن كُلِّ أمْرٍ ((4))} [القدر (4)]، ومعناه يُظْهَر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به، وتقديره له، وقيل: سُمِّيت ليلة القدر؛ لعظم قدرها وشرفها. انتهى [«شرح النوويّ» (8) / (57)].
وقال في «الفتح»: واختُلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة، فقيل: المراد به التعظيم، كقوله تعالى: {وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر (67)]، والمعنى أنها ذات قدر؛ لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزّل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يُحييها يصير ذا قدر، وقيل: القدر هنا التضييق، كقوله تعالى: {ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق (7)]، ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها، أو لأن الأرضِ تضيق فيها عن الملائكة، وقيل: القدر هنا بمعنى القدَر – بفتح الدال – الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى أنه يُقَدَّر فيها أحكام تلك السنة؛ لقوله تعالى: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ ((4))} [الدخان (4)]، وبه صدَّر النووي كلامه السابق، ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد، وعكرمة، وقتادة، وغيرهم ……
وجزم الهرويّ، وابن الأثير في تفسيرها بالتقدير، فقالا: وهي الليلة التي تُقَدَّر فيها الأرزاق، وتُقْضى، وصححه النوويّ، فقال في «شرح المهذب»: سُمِّيت ليلة القدر؛ أي ليلة الحكم والفصل، هذا هو الصحيح المشهور، وحكاه في «شرح مسلم» عن العلماء. انتهى كلام وليّ الدين -رحمه الله-[«طرح التثريب في شرح التقريب» (4) / (144)]، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
الثالثة:
في اختلاف أهل العلم في محلّ ليلة القدر:
قال في «الفتح»: قد اختَلَف العلماء في ليلة القدر اختلافًا كثيرًا، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولًا، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كل منهما؛ ليقع الجدّ في طلبهما:
[القول الأول]: أنها رُفِعت أصلًا ورأسًا ….
[القول الخامس والأربعون]: أنّها في سبع، أو ثمان من أول النصف الثاني، روى الطحاوي من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، أنه سأل النبيّ – – عن ليلة القدر، فقال: «تحرَّها في النصف الأخير»، ثم عاد، فسأله، فقال: «إلى ثلاث وعشرين»، قال: وكان عبد الله يحيى ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين، ثم يقصر.
[القول السادس والأربعون]: أنّها في أول ليلة، أو آخر ليلة، أو الوتر من الليل، أخرجه أبو داود في «كتاب المراسيل» عن مسلم بن إبراهيم، عن أبي خَلْدة، عن أبي العالية: أن أعرابيًا أتى النبيّ – -، وهو يصلي، فقال له: متى ليلة القدر؟ فقال: «اطلبوها في أول ليلة، وآخر ليلة، والوتر من الليل»، وهذا مرسل رجاله ثقات.
قال الحافظ: وجميع هذه الأقوال التي حكيناها بعد الثالث، فَهَلُمّ جَرًّا متفقة على إمكان حصولها، والحثّ على التماسها.
وقال ابن العربيّ: الصحيح أنّها لا تُعْلَم، وهذا يصلح أن يكون قولًا آخر، وأنكر هذا القول النوويّ، وقال: قد تظاهرت الأحاديث بإمكان العلم بها، وأخبر به جماعة من الصالحين، فلا معنى لإنكار ذلك.
ونَقَل الطحاوي عن أبي يوسف قولًا جَوَّز فيه أنه يرى أنّها ليلة أربع وعشرين، أو سبع وعشرين، فإن ثبت ذلك عنه، فهو قول آخر. قال: هذا آخر ما وقفت عليه من الأقوال، وبعضها يمكن ردّه إلى بعض، وإن كان ظاهرها التغاير، وأرجحها كلها أنّها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل، كما يفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، على ما في حديث أبي سعيد، وعبد الله بن أنيس، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين، وقد تقدمت أدلة ذلك. انتهى [«الفتح» (5) / (463) – (469)].
قال [الأتيوبي] عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ – رحمه الله – وأفاد في جمع هذه الأقوال، وبيان أدلّتها، ثم رجّح أخيرًا ما رآه راجحًا بدليله، والذي أراه راجحًا عندي هو ما ذهب إليه الجمهور من أن أرجاها ليلة سبع وعشرين؛ لقوّة حجته، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
رجح ابن كثير أنها متنقلة في العشر الأواخر لورودها في بعض الأحاديث أنها ليلة إحدى وعشرين ومرة. …. وبعضهم يقسم أنها سبع وعشرين وهو قول الجمهور ورواية للشافعي. وذهب في قول أنها ثابتة واحتج أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليعلمهم لكن تمارى رجلان فرفعت. لكن يوجه أنه أراد أن يعلمهم متى هي في ذلك العام. انتهى كلام ابن كثير بمعناه
الرابعة:
في اختلاف أهل العلم هل لليلة القدر علامة أم لا؟:
(اعلم): أنهم اختلفوا هل لها علامة تَظْهَر لمن وُفِّقت له أم لا؟ فقيل: يُرى كلّ شيء ساجدًا، وقيل: الأنوار في كلّ مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة، وقيل: يَسمع سلامًا أو خطابًا من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وُفِّقت له، واختار الطبريّ أن جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء، ولا سماعه.
واختلفوا أيضًا، هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتَّفَق له أنه قامها، وإن لَمْ يظهر له شيء، أو يتوقف ذلك على كشفها له؟ وإلى الأول ذهب الطبريّ، والمهلب، وابن العربيّ، وجماعة، وإلى الثاني ذهب الأكثر، ويدلّ له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – بلفظ: «من يقم ليلة القدر، فيوافقها»، وفي حديث عبادة عند أحمد: «من قامها إيمانًا واحتسابًا، ثم وُفقت له»، قال النوويّ: معنى يوافقها: أي يعلم أنّها ليلة القدر، فيوافقها. ويحْتَمِل أن يكون المراد يوافقها في نفس الأمر، وإن لَمْ يعلم هو ذلك.
قال [الأتيوبي] عفا الله عنه: الاحتمال الثاني هو الأظهر، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وفي حديث زِرّ بن حُبيش عن ابن مسعود قال: من يقم الحول يصب ليلة القدر، قال الحافظ: وهو مُحْتَمِل للقولين أيضًا، وقال النوويّ أيضًا في حديث: «من قام رمضان»، وفي حديث: «من قام ليلة القدر»: معناه من قامه، ولو لَمْ يوافق ليلة القدر حصل له ذلك، ومن قام ليلة القدر فوافقها حصل له، وهو جار على ما اختاره من تفسير الموافقة بالعلم بها، قال الحافظ: وهو الذي يترجح في نظري، ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر، وإن لَمْ يعلم بها، ولو لَمْ توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به، وفرّعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص، فيُكْشَف لواحد، ولا يكشف لآخر، ولو كانا معًا في بيت واحد.
قال [الأتيوبي] عفا الله عنه: تفسير «يوافقها» بالعلم محلّ نظر، بل الأقرب أنه الموافقة بمعنى كون الشخص موفّقًا لقيامها، فتأمل.
وقال الطبريّ – رحمه الله -: في إخفاء ليلة القدر دليل على كَذِب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة؛ إذ لو كان ذلك حقًّا لَمْ يخْفَ على كلّ من قام ليالي السنة فضلًا عن ليالي رمضان.
وتعقبه ابن المُنَيِّر – رحمه الله – في «الحاشية» بأنه لا ينبغي إطلاق القول بالتكذيب لذلك، بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده، فيختص بها قوم دون قوم، والنبيّ – – لَمْ يحصر العلامة، ولم ينف الكرامة، وقد كانت العلامة في السنة التي حكاها أبو سعيد نزول المطر، ونحن نَرى كثيرًا من السنين ينقضي رمضان دون مطر، مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من ليلة القدر، قال: ومع ذلك فلا نعتقد أن ليلة القدر لا ينالها إلّا من رأى الخوارق، بل فضل الله واسع، ورب قائم تلك الليلة لَمْ يحصل منها إلّا على العبادة، من غير رؤية خارق، وأخر رأى الخارق من غير عبادة، والذي حصل على العبادة أفضل، والعبرة إنما هي بالاستقامة، فإنها تستحيل أن تكون إلّا كرامة، بخلاف الخارق، فقد يقع كرامة، وقد يقع فتنة، والله أعلم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[البحر الميحط الثجاج، ((42)) – (بابُ فَضْل لَيْلَةِ القَدْرِ، والحَثِّ عَلى طَلَبِها، وبَيانِ مَحَلَّها، وأرْجى أوْقاتِ طَلَبِها)، [(2761)] ((1165))، بتصرف يسير].