1163 فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم .
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1163):
مسند أبي بكرة نُفَيْع بن الحارث رضي الله عنه
قال البزار رحمه الله كما في «كشف الأستار» (ج ٣ ص ٣٤٧): حدثنا يحيى بن حكيم، قال: نا ابن أبي عدي، عن عيينة، عن أبيه، عن أبي بكرة: أنه كان ينبذ له في جر أخضر، قال: فقدم أبو برزة من غيبة غابها فبدأ بمنزل أبي بكرة، فلم يصادفه في المنزل، فوقف على امرأته فسألها عن أبي بكرة، فأخبرته، ثم أبصر الجرة التي كان فيها النبيذ، فقال: ما في هذه الجرة؟ قالت: نبيذ لأبي بكرة. قال: وددت أنك جعلتيه في سقاء. فأمرت بذلك النبيذ فجعل في سقاء، ثم جاء أبو بكرة فأخبرته عن أبي برزة الأسلمي، قال: ما في هذا السقاء؟ قالت: أمرنا أبو برزة أن نجعل نبيذك فيه. قال: ما أنا شارب مما فيه، لئن جعلت الخمر في السقاء ليحلن لي! ولئن جعلت العسل في جر ليحرمن علي! إنا قد عرفنا الذي نهينا عنه، نهينا عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، فأما الدباء فإنا معشر ثقيف كنا نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها حتى تهدر ثم تموت، وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخل ثم يشدخون فيها الرطب والبسر ثم يدعوه حتى يهدر ثم يموت، وأما الحنتم فجرار حمر كانت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها المزفت.
قال البزار: لا نعلم أحدًا حدث به مفسرًا كما حدث به أبو بكرة.
قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث صحيحٌ.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
والحديث وضعه الوادعي رحمه الله في موضعين في جامعه:
1) “٢٤ – بعض الآنية التي نهى النبي – ﷺ – عن الانتباذ فيها ثم نسخ” (3/161/رقم١٨٩٥).
2) “١٣ – بعض الآنية التي لا ينتبذ فيها ثم نُسِخَ النهي”، (4/279/ رقم٢٧٥٧).
وسبق ذكر بعض المسائل المتعلقة بالباب في
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1128):
قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا عبد الصمد وعفان قالا حدثنا المثنى بن عوف حدثنا أبو عبد الله الجسري قال سألت معقل بن يسار عن الشراب فقال كنا بالمدينة وكانت كثيرة التمر فحرم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضيخ وأتاه رجل فسأله عن أم له عجوز كبيرة أنسقيها النبيذ فإنها لا تأكل الطعام فنهاه معقل.
وكذلك
الصحيح المسند :
1599- قال الإمام أبو داود رحمه الله : حدثنا مسدد وموسى بن إسمعيل قالا حدثنا مهدي يعني ابن ميمون حدثنا أبو عثمان قال موسى وهو عمرو بن سلم الأنصاري عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام.
هذا حديث صحيح .
تنبيه : ورد تفسير الأسقية في حديث ابن عمر ففي صحيح مسلم
٥٧ – (١٩٩٧) حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعاذٍ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، حَدَّثَنِي زاذانُ، قالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: حَدِّثْنِي بِما نَهى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الأشْرِبَةِ بِلُغَتِكَ، وفَسِّرْهُ لِي بِلُغَتِنا، فَإنَّ لَكُمْ لُغَةً سِوى لُغَتِنا، فَقالَ: «نَهى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الحَنْتَمِ، وهِيَ الجَرَّةُ، وعَنِ الدُّبّاءِ، وهِيَ القَرْعَةُ، وعَنِ المُزَفَّتِ، وهُوَ المُقَيَّرُ، وعَنِ النَّقِيرِ، وهِيَ النَّخْلَةُ تُنْسَحُ نَسْحًا، وتُنْقَرُ نَقْرًا، وأمَرَ أنْ يُنْتَبَذَ فِي الأسْقِيَةِ»،
وكذلك عن أنس تفسير لبعضها ففي مسند أحمد :
12099 – حدثنا عبد الله بن إدريس قال: سمعت المختار بن فلفل قال: سألت أنس بن مالك عن الشرب في الأوعية، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفتة، وقال: ” كل مسكر حرام “، قال: قلت: وما المزفتة؟ قال: ” المقيرة “. قال: قلت: فالرصاص والقارورة؟ قال: ” ما بأس بهما ” قال: قلت: فإن ناسا يكرهونهما، قال: ” دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن كل مسكر حرام “. قال: قلت له: صدقت السكر حرام، فالشربة والشربتان،على طعامنا. قال: ” ما أسكر كثيره، فقليله حرام ” ، وقال: ” الخمر من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والذرة، فما خمرت من ذلك فهي الخمر ”
وكذلك ورد تفسيرها في الصحيح المسند
881- قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عفان قال حدثنا ثابت بن يزيد أبو زيد قال ثنا عاصم الأحول عن فضيل بن زيد الرقاشي وقد غزا سبع غزوات في إمرة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه انه أتى عبد الله بن مغفل فقال أخبرني بما حرم الله علينا من هذا الشراب فقال الخمر قال هذا في القرآن أفلا أحدثك سمعت محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم بدأ بالاسم أو بالرسالة قال شرعي انى اكتفيت .
قال صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمقير قال ما الحنتم قال الأخضر والأبيض قال ما المقير قال ما لطخ بالقار من زق أو غيره قال فانطلقت إلى السوق فاشتريت أفيقة فما زالت معلقة في بيتي .
هذا حديث صحيح
الأول: شرح الحديث:
“وضَعَ الإسلامُ الحُدودَ الواضِحةَ بَينَ الحَلالِ والحَرامِ، وقد أوْضَحَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ سَبَبَ تَحريمِه لِبَعضِ الأشياءِ قد يَكونُ بسَبَبِ مآلاتِ الأُمورِ معها، ولا يَكونُ التَّحريمُ لِذاتِ الشَّيءِ، وإنْ كانَ حَلالًا في بَعضِ الحالاتِ الأُخرى.
وفي هذا الحَديثِ قالَ أبو بَكرةَ: “إنَّا قد عَرَفْنا الذي نُهينا عنه”، يعني: أنَّنا عَرَفْنا أنواعَ الأوعيةِ التي نُهينا عن الانتِباذِ والنَّقعِ فيها، وعَرَفْنا أسبابَ النَّهيِ؛ وتفسيرُ ذلك أنَّا “نُهينا عنِ الدُّبَّاءِ والحَنتَمِ والنَّقيرِ والمُزَفَّتِ” .
1) “فأمَّا الدُّبَّاءُ، فإنَّا -مَعشَرَ ثَقيفٍ- كُنَّا نأخُذُ الدُّبَّاءَ” فقد اشتُهِرَ هذا النَّوعُ مِنَ الأواني عِندَ قَبيلةِ ثَقيفٍ، والمُرادُ بالدُّبَّاءِ: نَباتُ القَرْعِ إذا يَبِسَ اتُّخِذَ منه وِعاءٌ، وكانوا يَحفِرونَه ويَستَخدِمونَه كسِقاءٍ، ويَحتَفِظونَ فيه ببَعضِ الأشرِبةِ، وهو كما قال أبو بَكرةَ: “فنَخرُطُ فيها عناقيدَ العِنَبِ”، فنُقَطِّعُ فيها العِنَبَ ثم نُغَطِّيها، “ثم نَدفِنُها حتى تَهدِرَ” وتَغليَ “ثم تَموتَ” بالتَّبريدِ فتُصبِحَ خَمرًا.
2) “وأمَّا النَّقيرُ”، وهو ما يُنقَرُ ويُجوَّفُ مِن جُذوعِ النَّخلِ، وكان يُحفَرُ ثم يوضَعُ فيه التَّمرُ ونَحوُه،
“فإنَّ أهلَ اليَمامةِ”، وهي بَلدةٌ مِن بِلادِ العَوالي، وهي بِلادُ بَني حَنيفةَ، قيلَ: مِن عُروضِ اليَمَنِ، وقيلَ: مِن باديةِ الحِجازِ، وتَتبَعُ مَدينةَ الرِّياضِ حاليًّا، “كانوا يُنَقِّرونَ أصلَ النَّخلةِ” يَحفِرونَ جِذعَ النَّخلةِ “ثم يَشدَخونَ” ، أي: يَخلِطونَ ويُقَطِّعونَ “فيها الرُّطَبَ والبُسرَ”، والبُسْرُ هو البَلَحُ غَيرُ النَّاضِجِ، والرُّطَبُ: ثَمَرُ النَّخلِ قَبلَ أنْ يُصبِحَ تَمْرًا، وهو أجوَدُ وأطعَمُ مِنَ التَّمْرِ، “ثم يَدَعونَه” يَترُكونَه “حتى يَهدِرَ، ثم يَموتَ” فتَتحَوَّلَ خَمرًا مُسكِرًا، والنَّهيُ عن خَلطِهما في الماءِ وتَركِهما حتى يَشتَدَّا ويَتخَمَّرا.
3) “وأمَّا الحَنتَمُ”، وهو إناءٌ مَصنوعٌ مِنَ الطِّينِ أو مِنَ الفَخَّارِ “فجِرارٌ حُمْرٌ”، آنيةٌ كَبيرةٌ حَمراءُ “كانَتْ تُحمَلُ إلينا فيها الخَمرُ”.
4) “وأمَّا المُزَفَّتُ فهذه الأوعيةُ التي فيها المُزَفَّتُ”، وهو الإناءُ المَطلِيُّ بالقارِ أوِ الزِّفتِ مِنَ الدَّاخلِ أوِ الخارجِ،
وهذه أوعيةٌ وأوانٍ وظُروفٌ نُهيَ عنها؛ لِمَا فيها مِن خاصِّيَّةِ الإسراعِ في تَحويلِ الأشرِبةِ إلى خَمرٍ، فنَهاهم عنها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لذلك.
وكان النَّهيُ عن الانتِباذِ في هذه الظُّروفِ في صَدرِ الإسلامِ، ثم نُسِخَ، ولكنْ تَبقى العِلَّةُ؛ وهي الإسكارُ، فأيُّ شَرابٍ اشتَدَّ وأسكَرَ فهو حَرامٌ، دونَ النَّظرِ إلى الوِعاءِ الذي اشتَدَّ وتَخمَّرَ فيه.
وفي الحديثِ: النَّهيُ عن شُربِ كُلِّ مُسكِرٍ مهما تَعدَّدَتْ أسماؤُه أو صِفاتُه.
وفيه: أنَّ الحِيَلَ وتَغييرَ الأسماءِ لا تُغَيِّرُ الحُكمَ مِنَ الحِلِّ إلى الحُرمةِ، ولا مِنَ الحُرمةِ إلى الحِلِّ”. [الموسوعة الحديثية].
فقه الحديث:
الأول:
قال النوويّ رحمه الله: أن الانتباذ في هذه الأوعية مَنهيًّا عنه في أول الإسلام؛ خوفًا من أن يصير مُسكرًا فيها، ولا يُعلَم به؛ لكثافتها، فتتلف ماليّته، وربما شربه الإنسان ظانًّا أنه لم يصر مسكرًا، فيصير شاربًا للمسكر، وكان العهد قريبًا بإباحة المسكر، فلما طال الزمان، واشتهر تحريم المسكر، وتقرر ذلك في نفوسهم نُسِخ ذلك، وأبيح لهم الانتباذ في كل وعاء، بشرط أن لا يشربوا مسكرًا، وهذا صريحُ قوله – ﷺ – في حديث بُريدة المذكور في آخر هذه الأحاديث: «كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء، فاشربوا في كل وِعاء، غير أن لا تشربوا مسكرًا». انتهى.
الثاني:
“في اختلاف أهل العلم في حكم الانتباذ في الأوعية المذكورة وغيرها:
ذهب الجمهور إلى أن أحاديث النهي عن الانتباذ في الأوعية منسوخة بحديث بريدة بن الحصيب – رضي الله عنه – المذكورة في آخر الباب،
وذهب بعضهم إلى أن النهي باق، قال الخطّابيّ رحمه الله: القول بالنسخ هو أصحّ الأقاويل، قال: وقال قوم: التحريم باق، وكرهوا الانتباذ في هذه الأوعية، ذهب إليه مالكٌ، وأحمد، وإسحاق، وهو مرويّ عن ابن عمر، وابن عبّاس – رضي الله عنهم -، أفاده النوويّ رحمه الله [«شرح النوويّ» ١/ ١٨٦].
وقال الإمام البخاريُّ رحمه الله في»صحيحه«:»باب ترخيص النبيّ – ﷺ – في الأوعية والظروف بعد النهي«، ثم ذكر فيه خمسة أحاديث.
قال الحافظ: ( قوله باب ترخيص النبي صلى الله عليه و سلم في الأوعية والظروف بعد النهي )
“ذكر فيه خمسة أحاديث أولها حديث جابر وهو عام في الرخصة، ثانيها حديث عبد الله بن عمرو وفيه استثناء المزفت، ثالثها حديث علي في النهي عن الدباء والمزفت، رابعها حديث عائشة مثله، خامسها حديث عبد الله بن أبي أوفى في النهي عن الجر الأخضر وظاهر صنيعه أنه يرى أن عموم الرخصة مخصوص بما ذكر في الأحاديث الأخرى، وهي مسألة خلاف: فذهب مالك إلى ما دل عليه صنيع البخاري وقال الشافعي والثوري وابن حبيب من المالكية يكره ذلك ولا يحرم.
وقال سائر الكوفيين يباح.
وعن أحمد روايتان وقد أسند الطبري عن عمر ما يؤيد قول مالك وهو قوله لأن أشرب من قمقم محمى فيحرق ما أحرق ويبقى ما أبقى أحب إلي من أن أشرب نبيذ الجر، وعن بن عباس لا يشرب نبيذ الجر ولو كان أحلى من العسل، وأسند النهي عن جماعة من الصحابة وقال ابن بطال النهي عن الأوعية إنما كان قطعا للذريعة، فلما قالوا: لا نجد بدا من الانتباذ في الأوعية، قال: انتبذوا، وكل مسكر حرام، وهكذا الحكم في كل شيء نهي عنه بمعنى النظر إلى غيره فإنه يسقط للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا لا بد لنا منها، قال: فأعطوا الطريق حقها، وقال الخطابي ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما كان أولا ثم نسخ، وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية باق منهم بن عمر وبن عباس وبه قال مالك وأحمد وإسحاق كذا أطلق قال والأول أصح، والمعنى في النهي أن العهد بإباحة الخمر، كان قريبا فلما اشتهر التحريم أبيح لهم الانتباذ في كل وعاء، بشرط ترك شرب المسكر، وكأن من ذهب إلى استمرار النهي لم يبلغه الناسخ، وقال الحازمي لمن نصر قول مالك أن يقول ورد النهي عن الظروف كلها ثم نسخ منها ظروف الأدم والجرار غير المزفتة واستمر ما عداها على المنع، ثم تعقب ذلك بما ورد من التصريح في حديث بريدة عند مسلم ولفظه نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا، قال: وطريق الجمع أن يقال لما وقع النهي عاما شكوا إليه الحاجة فرخص لهم في ظروف الأدم، ثم شكوا إليه أن كلهم لا يجد ذلك فرخص لهم في الظروف كلها الحديث الأول”، انتهى. [الفتح، (ج10/ص70-71) ط: دار الكتب العلمية].
قال [الأتيوبي] عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدّم من الحجج أن أرجح الأقوال هو القول بأن الانتباذ جائز في أيّ وعاء كان، وأنه يُعتذر للمانعين بأنه لم يبلغهم النَّسخ الواضح في حديث بُريدة – رضي الله عنه – المذكور في الباب، فإنه نصّ لا يحتمل التأويل، فقد قال – ﷺ -: «نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرًا»، وفي لفظ: «نهيتكم عن الظروف وإن الظروف- أو ظرفًا- لا يُحِلّ شيئًا ولا يُحَرِّمه، وكلُّ مسكر حرام»، وفي لفظ:
«كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدَم، فاشربوا في كل وعاء، غير أن لا
تشربوا مسكرًا».
فدلالة النصّ على أن النسخ عام في جميع الأوعية، لا يُخص منه شيءٌ، مما لا يتردد فيها ذو فهم.
والحاصل: أن النهي الوارد في الانتباذ في الأوعية منسوخ، فيجوز الانتباذ في أيّ وعاء كان، مع تجنّب المسكر، والله تعالى أعلم. [ البحر المحيط الثجاج]
الثاني: مسائل تتعلّق بالحديث، وهي على فصلين:
الفصل الأوَّلُ: الأصلُ في الأشرِبةِ.
والأشْرِبةُ: جَمعُ شَرابٍ، والشَّرابُ: اسمٌ لِما يُشرَبُ، وكُلُّ شَيءٍ لا يُمضَغُ فإنَّه يقالُ فيه يُشرَبُ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (11/242)، ((لسان العرب)) لابن منظور (1/488).
والأصلُ في الأشرِبةِ الحِلُّ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. [((المبسوط)) للسرخسي (24/68) ((البناية)) للعيني (12/70) ويُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/22) ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (2/568)، و((التمهيد)) لابن عبد البر (4/142) ((البيان والتحصيل)) لابن رشد الجد (3/288) ((نفائس الأصول)) للقرافي (1/425)، ((فتح العزيز)) للرافعي (12/123)، ((روضة الطالبين)) للنووي (3/271) و((الإنصاف)) للمرداوي (10/354) ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/188)].
والشَّرابُ يَدخُلُ في الطَّعامِ، وكِلاهما الأصلُ فيه الحِلُّ. يُنظر: ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/258)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/188). وبناءً على هذه القاعدةِ، فكُلُّ شَرابٍ غيرِ مُسكرٍ ولا ضارٍّ، فهو مُباحٌ: كالقهوة والشاي، والعصائرِ المصنَّعة حديثًا، وكالمشروباتِ الغازيَّة، والبِيرةِ غيرِ المُسكِرة والخاليةِ مِن الكحولِ، ومَشروبِ الطَّاقةِ إذا لم تكن فيه موادُّ ضارَّةٌ، وغيرِها من المشروباتِ غيرِ المُحرَّمةِ أصلًا.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكتاب
1- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29].
فإن اللهَ تعالى خلَقَ ما في الأرضِ للمُكَلَّفينَ ينتَفِعونَ به في غِذاءٍ وغَيرِه. [((مغني المحتاج)) للشربيني ( 1/177)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (5/3)]
2- قال الله تعالى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [الرحمن: 10]. فإن اللهَ امتَنَّ على الأنامِ بأنَّه وضع لهم الأرضَ، وجعَلَ لهم فيها أرزاقَهم من القُوتِ والتفَكُّهِ، ومعلومٌ أنَّه- جَلَّ وعلا- لا يمتَنٌّ بحَرامٍ؛ إذ لا مِنَّةَ في شَيءٍ مُحَرَّمٍ. [((شرح مختصر خليل)) للخرشي (5/3)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/495)].
3- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا [البقرة: 168].
أنَّه نَصٌّ عامٌّ في حِلِّ أكلِ كُلِّ طَيِّبٍ في الأرضِ، وإنَّما تَثبُتُ الحُرمةُ بعارضِ نَصٍّ مُطلَقٍ، أو خَبَرٍ مَرْويٍّ؛ فما لم يُوجَدْ شَيءٌ مِن الدَّلائِلِ المُحَرِّمةِ، فهي على الإباحةِ.[((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (2/568)].
4- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الآية. [البقرة:172-173]. أَذِنَ تعالى للمُؤمِنينَ في الأكلِ مِن الطَّيِّباتِ ولم يَشتَرَطِ الحِلَّ، وأخبَرَ أنَّه لم يُحَرِّمْ عليهم إلَّا ما ذكَرَه؛ فما سواه لم يكُنْ مُحَرَّمًا على المُؤمِنينَ.[((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/45)].
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه قال: ((كان أهلُ الجاهليَّةِ يأكُلونَ أشياءَ، ويَترُكونَ أشياءَ تقَذُّرًا، فبعث اللهُ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنزل كتابَه، وأحَلَّ حلالَه وحرَّم حرامَه؛ فما أحلَّ فهو حلالٌ، وما حَرَّم فهو حرامٌ، وما سكتَ عنه فهو عَفْوٌ، وتلا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}. [الأنعام: 145] إلى آخِرِ الآيةِ)).
[أخرجه أبو داود (3800)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (2/228)، و الحاكم (7113). صَحَّح إسنادَه الحاكِمُ، وابنُ كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/367)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3800)، وحسَّن إسنادَه النووي في ((المجموع)) (9/25)، وصَحَّح إسنادَه الوادعيُّ موقوفًا في ((الصحيح المسند)) (650). ]
وجهُ الدَّلالةِ:
1- أنَّ هذا نَصٌّ في أنَّ ما سكتَ عنه فلا إثمَ عليه فيه، وتَسميةُ هذا عَفْوًا؛ لأنَّ التَّحليلَ هو الإذنُ في التَّناوُلِ بخطابٍ خاصٍّ، والتَّحريمَ: المَنعُ مِن التَّناوُلِ كذلك، والسُّكوتَ عنه: لم يُؤذِنْ بخِطابٍ يَخُصُّه، ولم يمنَعْ منه؛ فيَرجِعُ إلى الأصلِ. [((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/538)]
2- أنَّ المَعفُوَّ عنه ما تُرِكَ ذِكرُه، فلم يُحرَّمْ ولم يُحلَّلْ، فيكونُ مَعفُوًّا عنه، لا حَرَج على فاعِلِه. [((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/163)].
الفصل الثَّاني: أحكامُ الأنبِذَةِ
المبحث الأوَّلُ: حُكمُ النَّبيذِ المُسْكِرِ
يَحرُمُ كُلُّ نَبيذٍ مُسكِرٍ؛ أي: سواءٌ كان من الذُّرةِ أو القَمحِ، أو الشَّعيرِ أو العِنَبِ، أو الزَّبيبِ أو العَسَلِ، أو غيرِ ذلك،
وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ.
قال ابن تيمية: (وسواءٌ كان نِيئًا أو مطبوخًا، وسواءٌ ذهب ثُلُثاه أو ثُلُثُه؛ أو نصفُه أو غيرُ ذلك. فمتى كان كثيرُه مُسكِرًا حَرُم قَليلُه بلا نزاعٍ بينهم… مناط التَّحريمِ هو السُّكْرُ باتفاقِ الأئمَّةِ). ((مجموع الفتاوى)) (24/200).
وقال: (والأصلُ في ذلك «أنَّ كل ما أسكَرَ، فهو حرامٌ» وهذا مذهَبُ جماهيرِ العُلَماءِ الأئمَّة، كما قال الشافعي وأحمد وغيرُهم). ((مجموع الفتاوى)) (34/198).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكتاب
قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90].
أنَّ لَفظَ الخَمرِ عامٌّ في كُلِّ مُسكِر؛ فإخراجُ بَعضِ الأشرِبةِ المُسكِرةِ عن شُمولِ اسمِ الخَمرِ لها: تَقصيرٌ به وهَضمٌ لِعُمومِه.((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/168)
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
1- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِن جَيشانَ- وجَيشانُ مِن اليَمَنِ- فسأل رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عن شَرابٍ يَشرَبونَه بأرضِهم مِنَ الذُّرَةِ، يقالُ له المِزْرُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوَمُسكِرٌ هو؟ قال: نعم، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كُلُّ مُسكِرٍ حرامٌ، وإنَّ اللهَ عَهِدَ لِمَن يَشرَبُ المُسكِرَ أن يَسقِيَه مِن طِينةِ الخَبالِ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وما طِينةُ الخبالِ؟ قال: عَرَقُ أهلِ النَّارِ، أو عُصارةُ أهلِ النَّارِ ))[أخرجه مسلم (2002). ]
2- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفْتِنا في شَرابَينِ كُنَّا نَصنَعُهما باليَمَنِ: البِتْعُ، وهو مِن العَسَلِ يُنبَذُ حتى يشتَدَّ، والمِزْرُ، وهو من الذُّرَةِ والشَّعيرِ يُنبَذُ حتى يشتَدَّ، قال: وكان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُعطِيَ جوامِعَ الكَلِمِ بخواتِمِه، فقال: كلُّ مسُكرٍ حَرامٌ ))[أخرجه البخاري (6124)، ومسلم (1733) واللفظ له].
3- عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((خطَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذكَرَ آيةَ الخَمرِ، فقال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أرأَيتَ المِزْرَ؟ قال: وما المِزْرُ؟ قال: حَبَّةٌ تُصنَعُ باليَمَنِ، قال: تُسكِرُ؟ قال: نعم، قال: كُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ ))[أخرجه النسائي (5605) واللفظ له، وعبد الرزاق في ((الأمالي في آثار الصحابة)) (171). صَحَّح إسنادَه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (5605)].
4- عن دَيلَم الحِمْيَريِّ رضي الله عنه قال: سألتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلتُ: ((يا رسولَ اللهِ، إنَّا بأرضٍ بارِدةٍ نعالِجُ عَمَلًا شَديدًا، وإنَّا نتَّخِذُ شَرابًا مِن هذا القَمحِ نتَقَوَّى به على أعمالِنا، وعلى بَردِ بلادِنا. قال: هل يُسكِرُ؟ قلتُ: نعم. قال: فاجتَنِبوه. قال: قُلتُ: فإنَّ النَّاسِ غَيرُ تاركِيه. قال: فإنْ لم يَترُكوه فقاتِلوهم ))[ أخرجه أبو داود (3683) واللفظ له، وأحمد (18035). صَحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (7/500)، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((قتل مدمن الخمر)) (63)، وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3683)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيق ((مسند أحمد)) (29/570)].
5- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أسْكَر كثيرُه فقليلُه حرام ))[أخرجه أبو داود (3681)، والترمذي (1865)، وابن ماجه (3393)، وأحمد (14703). قال الترمذي: حسن غريب، وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (34/197): (قد صحح ذلك غير واحد من الحفاظ) ووثق رجاله ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (4/1394)، والصنعاني في ((سبل السلام)) (4/53)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3393)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (220)]
وجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه أناط الحُكمَ بعِلَّةِ الإسكارِ؛ فكُلُّ شَرابٍ كان جِنسُه مُسكِرًا حَرامٌ، سواءٌ سَكِرَ منه أو لم يَسكَرْ.[((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (34/194)].
المبحث الثَّاني: حُكمُ النَّبيذِ غَيرِ المُسكِرِ
ومعنى الانتباذِ هنا: أن يُوضَعَ الزَّبيبُ أو التَّمرُ أو نحوُهما في الماءِ ويُشرَبَ نَقيعُه قبل أن يختَمِرَ ويُصبِحَ مُسكِرًا. والنَّبيذُ: هو ما يُعمَلُ مِن الأشربةِ مِن التَّمرِ والزَّبيبِ والعَسَلِ والحِنطةِ والشَّعيرِ وغير ذلك. يقالُ: نَبَذْتُ التَّمرَ والعِنَبَ: إذا طَرَحْتَه في وعاءٍ أو سِقاءٍ، وتَرَكْتَ عليه الماءَ لِيَصيرَ نبيذًا، وسواءٌ كان مُسكِرًا أو غيرَ مُسكِرٍ فإنَّه يقالُ له نَبيذٌ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/511).
* يُباحُ نَقعُ الزَّبيبِ، ونَبيذُ التَّمرِ والعِنَبِ وغَيرِهما، [كالفقاعِ، والسُّوبِية. والفقاع: شرابٌ يُعمَلُ من الشَّعيرِ أو من القَمحِ أو التمر ونحوِه. يُنظر: ((التاج والإكليل)) للمواق (4/351). والسُّوبِية: شرابٌ يتَّخَذُ مِن الحنطةِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/416)، ((لسان العرب)) لابن منظور (1/477)]، ما لم يُسكِرْ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك، قال ابنُ حزم: (قد صَحَّ بالنصِّ والإجماعِ المتيَقَّن إباحةُ التمرِ وإباحةُ الزبيب، وإباحةُ نبيذِهما غيرَ مخلوطَينِ). ((المحلى)) (6/178). وقال النووي: (وأمَّا القِسمُ الثاني من النبيذِ، فهو ما لم يشتَدَّ ولم يَصِرْ مُسكِرًا، وذلك كالماءِ الذي وُضِعَ فيه حَبَّاتُ تَمرٍ أو زبيبٍ أو مِشمِش أو عسل أو نحوها، فصار حُلوًا؛ وهذا القِسمُ طاهِرٌ بالإجماعِ، يَجوزُ شُربُه وبَيعُه وسائِرُ التصَرُّفاتِ فيه). ((المجموع)) (2/564). وقال الرحيباني: (والنبيذُ: هو عَصيرُ العِنَب، ونَقيعُ التينِ والتَّمرِ، ونقيعُ الزَّبيبِ والذُّرةِ، والبُرِّ والشَّعيرِ، ونحوها: إذا لم يَغْلِ بنفسِه ويشتَدَّ، أو يمضِ عليه ثلاثةُ أيامٍ؛ فهو باقٍ على إباحتِه إجماعًا). ((مطالب أولي النهى)) (1/663).
الأدلَّة:
أولًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي قَتادةَ رَضِيَ الله عنه: ((أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن خَليطِ التَّمرِ والبُسرِ، وعن خَليطِ الزَّبيبِ والتَّمرِ، وعن خَليطِ الزَّهوِ والرُّطَبِ، وقال: انتَبِذوا كُلَّ واحدٍ على حِدَتِه ))[أخرجه مسلم (1988).].
وجهُ الدَّلالةِ:
في الحديثِ نَصٌّ على أنَّ النَّبيذَ المُتَّخَذَ مِن كُلِّ واحدٍ منهما، مُباحٌ. ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (6/471).
2- عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُنقَعُ له الزَّبيبُ فيَشرَبُه اليومَ والغَدَ وبعدَ الغَدِ إلى مساءِ الثَّالِثةِ، ثمَّ يأمُرُ به فيُسقى، أو يُهْراقُ- وفي روايةٍ: شَرِبَه وسقاه، فإنْ فَضَل شَيءٌ أهراقَه ))[ أخرجه مسلم (2004)].
وجهُ الدَّلالةِ:
الحديثُ فيه جَوازُ شُربِ النَّبيذِ ما دام حُلوًا ولم يتغَيَّرْ ولم يَغْلِ. ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (6/471).
ثانيًا: أنَّ العِبرةَ في التَّحريمِ هي وجودُ صِفةِ الإسكارِ؛ فحيثُ اتَّصَف النَّبيذُ بالإسكارِ فهو حَرامٌ، وحيثُ لم يتَّصِفْ بالإسكارِ فهو مُباحٌ.((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/342).
المبحث الثَّالِثُ: المَطبوخُ مِن نَبيذِ التَّمرِ ونقيعِ الزَّبيبِ وسائِرِ الأنبِذَةِ
يَحرُمُ شُربُ المَطبوخِ مِن نَبيذِ التَّمرِ ونَقيعِ الزَّبيبِ وسائِر الأنبِذَةِ إذا أسكَرَ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ.
وأمَّا إذا لم يُسكِرْ فلا يَحرُمُ، كالطِّلاءِ وهو الدِّبسُ، شُبِّهَ بطِلاءِ الإبِلِ، وهو القَطِرانُ الذي يُدهَنُ به، فإذا طُبِخَ عَصيرُ العِنَبِ حتى تمَدَّدَ، أشبَهَ طِلاءَ الإبِلِ، وهو في تلك الحالةِ غالِبًا لا يُسكِرُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/64). وقال ابن منظور: (الطِّلاءُ: ما طُبِخَ من عصيرِ العِنَبِ حتى ذهب ثُلُثاه). ((لسان العرب)) (15/11). قال ابن حجر: (وأطبق الجَميعُ على أنَّه إن كان يُسكِرُ حَرُمَ… والذي يظهَرُ أنَّ ذلك يختَلِفُ باختلافِ أعنابِ البلادِ؛ فقد قال ابنُ حزم: إنَّه شاهدَ مِن العصير ما إذا طُبِخَ إلى الثُّلُثِ ينعَقِدُ ولا يصيرُ مُسكِرًا أصلًا، ومنه ما إذا طُبِخَ إلى النِّصفِ كذلك، ومنه ما إذا طُبِخَ إلى الربُعِ كذلك، بل قال: إنه شاهَدَ منه ما يصيرُ رُبًّا خاثِرًا لا يُسكِرُ، ومنه ما لو طُبِخَ لا يبقى غيرُ رُبُعِه لا يَخثُرُ ولا ينفَكُّ السُّكْرُ عنه، قال: فوجب أن يُحمَلَ ما ورد عن الصَّحابةِ مِن أمرِ الطِّلاءِ على ما لا يُسكِرُ بعد الطبخِ). ((فتح الباري)) (10/64).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكتاب:
قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90].
وجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ لَفظَ الخَمرِ عامٌّ في كُلِّ مُسكِرٍ؛ فإخراجُ بَعضِ الأشرِبةِ المُسكِرةِ عن شُمولِ اسمِ الخَمرِ لها: تَقصيرٌ به وهَضمٌ لعُمومِه. ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/168).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ )). أخرجه مسلم (2002).
ثالثًا: أنَّه لا عِبرةَ باختِلافِ الأسماءِ، ولا بكَونِه مَطبوخًا أو نِيئًا، وإنَّما العِبرةُ بحَقيقةِ وَصفِ الشَّرابِ، وهو الإسكارُ، قال ابن تيمية: (وسواءٌ كان نِيئًا أو مطبوخًا، وسواءٌ ذهب ثُلثاه أو ثُلُثه، أو نِصفُه أو غيرُ ذلك، فمتى كان كثيرُه مُسكِرًا حَرُمَ قَليلُه بلا نزاعٍ بينهم… مناط التحريمِ هو السُّكْرُ باتِّفاقِ الأئمَّةِ). ((مجموع الفتاوى)) (24/200)، وانظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/399، 400).
المبحث الرَّابع: الخَليطانِ مِنَ الأنبِذَةِ
والخليطانِ: ما يُنبَذُ مِن البُسرِ والتَّمرِ مَعًا، أو مِنَ العِنَبِ والزَّبيبِ، أو منه ومِنَ التَّمرِ، ونحوُ ذلك ممَّا يُنبَذُ مُختَلِطًا؛ لأنَّه يُسرِعُ إليه التغَيُّرُ والإسكارُ. ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (ص: 666)، ((تاج العروس)) للزبيدي (19/264). ومنه الخُشَّاف: وهو شَرابٌ يُعمَلُ مِنَ الزَّبيبِ والتِّينِ ونَحوِهما من الفَواكِه بعد نَقْعِها أو إغلائِها في الماءِ. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/236).
يُكرَهُ شُرْبُ الخَليطَينِ مِن الأنبِذَةِ إذا لم يُسكِرْ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ.
وقال ابن تيمية: (وأمَّا إذا صار الخليطانِ مُسكِرًا، فإنَّه حرامٌ باتِّفاقِ جماهيرِ عُلَماءِ الأمَّةِ، كأهل الحجاز واليمن، ومصر والشام والبصرة، وفقهاء الحديث، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة؛ فإنَّ هؤلاء جميعًا على أنَّ كُلَّ ما أسكَرَ فقَليلُه حرامٌ، وهو خَمرٌ). ((مختصر الفتاوى المصرية)) للبعلي (ص: 499).
الأدلَّة:
أولًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن جابرٍ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه نهى أن يُنبَذَ التَّمرُ والزَّبيبُ جَميعًا، ونهى أن يُنبَذَ الرُّطَبُ والبُسرُ جَميعًا ))[أخرجه مسلم (1986)].
2- عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ الله عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن شَرِبَ النَّبيذَ منكم، فلْيَشْرَبْه زَبِيبًا فَرْدًا، أو تَمرًا فَرْدًا، أو بُسْرًا فَرْدًا ))[أخرجه مسلم (1987)].
3- عن أبي قَتادةَ قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَنتَبِذوا الزَّهوَ والرُّطَبَ جَميعًا، ولا تَنتَبِذوا الزَّبيبَ والتَّمرَ جَميعًا، وانتَبِذوا كُلَّ واحدٍ منهما على حِدَتِه ))[أخرجه البخاري (5602)، ومسلم (1988) واللفظ له].
وجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّهيَ عن الخَليطَينِ لم يجئْ مَجيءَ تَحريمِ المُسكِرِ؛ فلهذا صار شُربُ الخَليطَينِ مَكروهًا مِن غَيرِ تَحريمٍ.[((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (1/443)].
ثانيًا: أنَّ الإسكارَ يُسرِعُ إليه بسَبَبِ الخَلطِ قبل أن يتغَيَّرَ طَعمُه، فيَظُنُّ الشَّارِبُ أنَّه ليس مُسكِرًا، وهو مُسكِرٌ.[((المجموع)) للنووي (2/566)].
ثالثًا: أنَّ هذا شَرابٌ لم تَحدُثْ فيه شِدَّةٌ مُطْرِبةٌ، فلم يَحرُمْ بها أصلُ ذلك إذا أُفرِدَ أحَدُهما بالانتِباذِ.[((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (3/149)]. [الموسوعة الفقهية، بتصرف].