1157 فتح الواحد الأحد شرح الصحيح المسند
مجموعة: مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1157):
قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا شعبة عن سماك، قال سمعت النعمان يخطب وعليه خميصة له، فقال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وهو يقول: ((أنذرتكم النار)) فلو أن رجلا موضع كذا، وكذا سمع صوته.
* قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن سماك بن حرب قال سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار))، حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، قال حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا إسرائيل عن سماك بن حرب أنه سمع النعمان بن بشير يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار))، حتى لو كان رجل كان في أقصى السوق سمعه وسمع أهل السوق صوته وهو على المنبر.
هذا حديث حسن.
وأخرجه الدارمي (ج ٢ ص ٤٢٥) فقال رحمه الله: ثنا عثمان بن عمر، أنا شعبة به.
وأخرجه هَنّاد في «الزهد» (ج ١ ص ١٦٨) فقال رحمه الله: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب به.
وأخرجه البزار كما في «كشف الأستار» (ج ٤ ص ٧١)، وأخرجه ابن أبي شيبة (ج ٣ ص ١٥٨).
===================
الحديث سيكون من وجوه:
بوب الوادعي رحمه الله في الجامع الصحيح على الحديث: “٤٣ – رفع الصوت بالعلم” (1/76)، “٥٤ – الإيمان بالنار -أعاذنا الله منها-” (1/486)، “٣٩٠ – قوله تعالى: ﴿فَأنْذَرْتُكُمْ نارًا تَلَظّى﴾” (6/215).
وبوب عليه في (الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد): “الباب الثالث: في التحذير من النار”، (ج24/169).
وفي (صحيح الترغيب والترهيب): ٢٧ – كتاب صفة النار، الترهيب من النار أعاذنا الله منها بمنِّه وكرمه، ويشتمل على فصول”.
الأول: شرح الحديث:
كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحَذِّرُ أصحابَه مِنَ النارِ وهَولِها؛ حتى يَعمَلوا ويَدعوا اللهَ أنْ يُنجِّيَهم مِن عَذابِها.
قال الملا علي القاري (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح): “(وعَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، يَقُولُ: ((أنْذَرْتُكُمُ» النّارَ)) أيْ: أخْبَرْتُكُمْ بِوُجُودِها، وأخْبَرْتُكُمْ بِشِدَّتِها، وخَوَّفْتُكُمْ بِأنْواعِ عُقُوبَتِها، ((أنْذَرْتُكُمُ النّارَ)) أيْ: أعْلَمْتُكُمْ بِما يُتَّقى بِهِ عَنْها، حَتّى قَلْتُ لَكُمْ: ((اتَّقُوا النّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))، ثُمَّ يُمْكِنُ أنْ يُرادَ كَما الإنْذارُ فِي زَمانِ الحالِ، وعَبَّرَ بِالماضِي لِتَحَقُّقِهِ فِي السّابِقِ اللّاحِقِ لِلِاسْتِقْبالِ، أوِ الأوَّلُ إخْبارٌ والثّانِي إنْشاءٌ، أوْ جَمَعَ بَيْنَهُما لِلتَّأْكِيدِ فِي أحَدِ المَعانِي، وفِي نُسْخَةٍ: كَرَّرَ ثَلاثًا.
(فَما زالَ يَقُولُها) أيْ يُكَرِّرُ الكَلِمَةَ المَذْكُورَةَ ويَرْفَعُ بِها صَوْتَهُ (حَتّى لَوْ كانَ) أيِ: النَّبِيُّ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – (فِي مَقامِي هَذا) أيِ: المَقامِ الَّذِي كانَ الرّاوِي فِيهِ عِنْدَ رِوايَتِهِ هَذا الحَدِيثَ (سَمِعَهُ) أيْ: سَمِعَ صَوْتَهُ (أهْلُ السُّوقِ)؛ لِأنَّهُ بالَغَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَمَلًا بِقَوْلِ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام: ﴿ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهارًا – ثُمَّ إنِّي أعْلَنْتُ لَهُمْ وأسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرارًا﴾ [نوح ٨ – ٩] (وحَتّى سَقَطَتْ خَمِيصَةٌ) وهِيَ نَوْعُ ثَوْبٍ (كانَتْ عَلَيْهِ) أيْ: فَوْقَ كَتِفِهِ بِمَنزِلَةِ رِدائِهِ (عِنْدَ رِجْلَيْهِ) . انتهى.
وفي الحَديثِ: التَّخويفُ مِنَ النارِ وعَذابِها.
وفيه: خَوفُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أُمَّتِه وحِرصُه على نَجاتِها.
قال الحافظ الطبري [تهذيب الآثار – الجزء المفقود، ص(571)]:
“فالَّذِي يَنْبَغِي لكل خاطب خطب بِالنّاسِ فِي يَوْم جُمُعَة أو عيد، وما أشبه ذَلِك، أن يجْهر صَوته، ويسمع خطبَته من حَضَره اقْتِداء فِي ذَلِك برَسُول الله – ﷺ – من فعله.
وأن الخاطِب إمّا يخْطب ليذكر من حَضَره بخطبته، ويعظهم بها، أو ليدعو، أو ليأمر وينْهى، فَإذا لم يسمع خطبَته من حَضَره كانُوا سَواء ومن غابَ عَنهُ مِمَّن لم يحضر خطبَته.
وقد بَينا الخميصة فِيما مضى قبل”. انتهى.
الثاني: ملحقات:
أولا: أحكام تتعلق بالنار:
قال العلامة الطحاوي رحمه الله “وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ”.
قال الشيخ صالح آل الشيخ تعليقًا: “يريد بذلك أن يُقَرِّرَ ما دلَّ عليه كتاب الله – عز وجل – وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مِنْ أنَّ الجنة موجودة اليوم، وأنّ النار موجودة وأنَّ الجنة مخلوقة قبل خلق آدم والنار موجودة خَلَقَهَا الله – عز وجل – كما خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً كما قال: “وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا”.
وهذا الأصل قُرِّرَ في العقائد لأجل ما ذكرت لكم من الأسباب فيما قبله مِنْ أَنَّ هذه المسألة غيبية والدليل جاء بإثباتها، وطائفة من الفِرَقْ الضالة خالفت في هذا الأصل.
وأهل السنة يذكرون في عقائدهم -كما سبق أن بَيَّنْتُ لكم- الأمور الغيبية وما يجب أن يُعْتَقَدَ فيها، ويذكرون ما دَلَّتْ عليه النصوص مما يجب التسليم له، ويذكرون أيضاً في عقائدهم ما يتميزون به عن الفِرَقْ الضالة أو عن بعض تلك الفِرَقْ.
وهذه المسألة وهي مسألة خلق الجنة والنار، وأنَّ الجنة باقية أبداً والنار باقية أبداً، لا تفنى الجنة والنار ولا تبيدان، كانت من المسائل التي جرى فيها الكلام بعد ظهور الجهمية.
وأصل هذه المسألة -كما سيأتي- مرتَبِطٌ بأصلين كلاميين زعمهما الجهمية ومن وافقهم في القدر، وفي تسلسل الأفعال والمخلوقات والمُؤثِرَات.
فالله – جل جلاله – لم يُجْرِ عالم الغيب على قياس عالم الشهادة، وهذا أصلٌ مهم في بيان ضلال من ضَلَّ في المسائل الغيبية، حيث جَعَلُوا عَالَم الغيب مَقِيساً على عالم الشهادة، فما يصلح لعالم الشهادة يصلح لِعَالَم الغيب، والقوانين والسُنَنْ التي تحكم عالم الشهادة يجعلونها صالحةً لعالَم الغيب، والله – عز وجل – خلق كل شيء فَقَدَّرَُه تقديراً، كلٌّ له تقديره الخاص.
ووجود الجنة والنار عقيدةٌ ماضية دلَّ عليها القرآن والسنة، والأدلة في ذلك كثيرة جداً:
نذكر منها قول الله – عز وجل – {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19] ، والجنة هذه هي جنة الخلد، التي فيها الخلود الذي لا يزول عنه المرء ولا يَحُولْ.
ووَصَفَ الله – عز وجل – حين عُرِجَ بنبيّه أن عنده جنة المأوى فقال – عز وجل – {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:13-16] ، فأثبت – عز وجل – أنه حين عُرِجَ برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الجنة هناك.
والنبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ في ذلك المقام الشجرة الملعونة؛ قال – عز وجل – {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60] ، لهذا لما وَصَفَ لهم حال النار وحال تلك الشجرة قالوا ما قالوا في أَنَّ الزَّقُوم والتَّزَقُّمْ إنما هو خلط التمر بالزبد ونحو ذلك فقال – عز وجل – {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43-46] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي السنة أيضاً في بيان هذا الأصل، وأنَّ نَسَمَةْ المؤمن في الجنة كقوله «نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة».
وكقوله في أرواح الشهداء «أرواح الشهداء في جوف طير خضر تهوي إلى قناديل معلقة تحت العرش في الجنة».
وكذلك قوله – عز وجل – في الشهداء {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169-170] .
ونحو ذلك مما فيه تقرير على أنَّ الجنة موجودة والنار موجودة، وأنَّ هذه سيدخلها من يدخلها وهذه سيدخلها من شاء الله أن يدخلها.
فإذاً أهل السنة قَرَّرُوا هذا في العقائد تَبَعَاً للدليل، وهذا أمرٌ واضح بَيِّنْ فيما دلَّ عليه القرآن والسنة.
ونذكر المسائل المتعلقة بهذا:
[المسألة الأولى] :
قوله (الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ) يعني: به أنَّ خَلْقَهُما قد تَمَّ، ليس موقوفاً على قيام الساعة، وليس حال الجنة والنار كحال السموات والأرض {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48] ، فذاك شان والجنة والنار شأنهما آخر، فهما مخلوقتان يعني الآن حين قال وحين بعث الله نبيه وقبل ذلك، فهما مخلوقتان لا يُعْلَمُ متى خَلَقَهُمَا الله – جل جلاله -، وإنما خَلَقَهُمَا الله – عز وجل – قبل خَلْقِ الخَلْقْ –يعني: قبل خلق آدم قبل خَلْقِ المُكَلَّفِين- وهذا يدلّ عليه قوله {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35، الأعراف:19] والألف واللام في {الْجَنَّةَ} للعهد يعني الجنة المعهودة التي هي دار النعيم.
[المسألة الثانية] :
قوله (لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ) يعني: أنَّ الجنة خُلِقَتْ للبقاء والنار خُلِقَتْ للبقاء، وهذا هو الذي دَلَّ عليه القرآن والسنة؛ لأنَّ أهل الجنة خالدين فيها أبداً، وأنَّ أهل النار خالدين فيها أبداً، قال – عز وجل – في ذكر النار {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب:63-65] ، وفي الجنة آيات كثيرة جداً فيها ذكر الأبدية، وأنَّ من دخلها فهو خالد فيها أبداً.
وهذه الأبدية في الجنة والنار معاً مما أَجْمَعَ عليه أهل السنة والجماعة؛ بأنَّ الجنة والنار مخلوقتان للبقاء أبداً.
والمقصود بالنار هنا في الإجماع: جنس النار، فإنَّ الإجماع مُنْعَقِدْ على أنَّ جنس النار باقٍ أبداً.
والفِرَقْ المخالفة لهم عدة أقوال في هذه المسألة تبلغ ستة أقوال أو أكثر، وأهمها:
1- القول الأول من الأقوال الضالة:
إنَّ الجنة والنار تفنيان في وقتٍ ويبقى نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار بالاستصحاب، لا بِتَجَدُدْ النعيم؛ يعني: يحصل لهم نعيمٌ تَتَنَعَّمْ به أبدانهم ثم يَقِفْ، وتفنى الجنة.
وهذا منهم لأَصْلٍ أَصِّلُوه وهو أنَّ العقل اقتضى أنَّ الحركة التي تبدأ فإنها ستنتهي، وكُلُّ مُتَحَرِّكٍ بَدَأَ بحركة فلابد أن ينتَهِيَ بلا حركة، لهذا قالوا: أهل النار أيضاً لا يستمرون في العذاب بل تفنى النار ويبقى أهل النار ليسوا في نعيم وبذلك يَصِحُّ أنْ يُقَال عنهم إنهم في عذاب دائم.
وهذا منسوب إلى الفِرَقْ الضالة الكافرة كالجهمية وطائفة أيضاً من غيرهم.
2- القول الثاني من الأقوال الضالة:
إنَّ الجنة تبقى والنار تبقى لكن النعيم ينقطع والعذاب ينقطع، ويكون الجنة يفعل الله – عز وجل – بها ما يشاء والنار يفعل الله بها ما يشاء،
وهذا لأجل الأصل السابق ولأجل النظر في القَدَرْ؛ حيث إنَّ استدامة النعيم عندهم على عملٍ صالحٍ قليل لا يُوَافِقُ العدل، واستدامة العذاب على عمل سيئٍ قليل الزمن لا يوافق العدل، ولهذا نفوا هذا الأصل.
وثَمَّ أقوال أُخَرْ ليس مناسبا أن تُذْكَر في مثل هذا المكان.
أمَّا قول أهل السنة المعروف هو ما ذكرته لك من أنَّ الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ولا تفنيان أبد الآبدين، يُنَعَّمُ أهل الجنة في الجنة أبد الآبدين، ويُعَذَّب الكفار في النار أبد الآبدين.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «يؤتى يوم القيامة بالموت على هيئة كبش فيُذْبَحْ بين الجنة والنار ثم ينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت»، والتنصيص على الأبدية في نعيم أهل الجنة وخلودهم فيها يدل على أنَّ المكان الذي يخلدون فيه يبقى، حيث قال – عز وجل – في الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، وقال في النار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، فَهُمْ خالدون في المكان فيقتضي أنَّ المكان أيضاً يبقى أبد الآبدين.
* ومن أهل السنة من قال:
إنَّ النار منها ما يَفْنَى وينتهي بإنهاء ربِّ العالمين له وهو طبقة أو دَرَكُ الموحّدين من النار، وهي الطَّبَقَةُ العليا من النار؛ لأنَّ الموحدين موعودون بأن يخرُجُوا من النار، فلا يَخْلُدْ في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، لابد لهم من يوم يخرجون منها؛ لأنَّ معهم التوحيد ولو طالت مدتهم، ثم تبقى تلك الطبقة لا أحد فيها فيُفنيِهَا الله – عز وجل -.
وهذا منسوبٌ إلى بعض السلف .
وجاء في الأثر عن عمر وفي إسناده مقال وضعف: أنَّ أهل النار لو لبثوا فيها كقدر رمل عَالجْ -موضع فيه رمل كثير-، لكان لهم يوم يخرجون منها، وليأتين عليها يوم تَصْطَفِقُ أبوابها ليس فيها أحد.
ومما يُنسَبُ أيضاً إلى بعض أهل السنة من أئمة أهل السنة:
أنَّ فناء النار ممكن وأنَّ فناءها لا يمتنع، وهو القول المشهور عن ابن القيم وجماعة
وهذا القول مَنْشَؤُهُ -مع عِلْمِ هؤلاء بالدليل وبالنصوص- على وجه الاختصاص النظر في صفات الله – عز وجل -، وذلك أنَّ من المتقرر في النصوص أنَّ صفة الرحمة ذاتية ملازمة للرب – عز وجل -، والجنة من آثار رحمة الله – عز وجل – «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء»، والنار أَثَرُ غضب الله – عز وجل – والغضب صفة فعلية اختيارية لا تنقَلِبُ إلى أن تكون صفة ذاتية كالرحمة، ولو بقي أثَرُ الغضب لبقي الأصل وهو الغضب، لو بقيت النار وهو أثر الغضب لبقي الغضب أبد الآبدين، وهذا يعني أنَّهُ أصبح صفة ملازمة، وهذا هو مأخذ هؤلاء الأئمة في هذه المسألة.
وهذا فيه بحث ونظر معروف في تقرير هذه المسألة؛ لكن من بَحَثَهَا وكثيرٌ من الناس كتبوا فيها لم يلحَظُوا علاقة المسألة في قول هؤلاء بصفات الله – عز وجل -، وهي أصلُ منشأ هذه المسألة.
——
ابن تيمية وابن القيم وموقفهما من فناء النار :
قال العلامةُ الألباني – رحمهُ اللهُ – في ” الضعيفةِ ” (2/74 – 75) في نسبةِ القولِ بفناءِ النارِ إلى الإمامِ ابنِ القيمِ – رحمهُ اللهُ – ما نصهُ : ” ويؤسفني أن أقولَ : إن القاديانيةَ في ضلالهم المشارِ إليه آنفاً ( ص 73 ) يجدون متكئاً لهم في بعضِ ما ذهبوا إليهِ في بعضِ كتبِ أئمتنا من أهلِ السنةِ ، فقد عقد العلامةُ ابنُ القيمِ في كتابهِ ” الحادي ” فصلاً خاصاً في أبديةِ النارِ ، أطال الكلامَ فيه جداً ، وحكى في ذلك سبعةَ أقوالٍ ، أبطلها كلها ، سوى قولينِ منها :
الأولُ : أن النارَ لا يخرجُ منها أحدٌ من الكفارِ ، ولكن الله عز وجل يفنيها ، ويزولُ عذابها .
والآخرُ : أنها لا تفنى وأن عذابها أبدي دائمٌ .
وقد ساق فيه أدلةَ الفريقين وحججهم من المنقولِ والمعقولِ ، مع مناقشتها ، وبيان ما لها وما عليها .
والذي يتأملُ في طريقةِ عرضه للأدلةِ ومناقشتهِ إياها ، يستشعر من ذلك أنه يميلُ إلى القولِ الأولِ ولكنهُ لم يجزم بذلك ، فراجع إن شئتَ الوقوفَ على كلامهِ مفصلاً الكتابَ المذكورَ .
ولكنني وجدتهُ يصرحُ في بعضِ كتبهِ الأخرى بأن نارَ الكفارِ لا تفنى وهذا هو الظنُ بهِ ، فقال رحمهُ اللهُ في ” الوابلِ الصيبِ ” ( ص 26 ) ما نصهُ : ” وأما النارُ فإنها دارُ الخبثِ في الأقوالِ والأعمالِ والمآكلِ والمشاربِ ودارُ الخبيثين ، فاللهُ تعالى يجمعُ الخبيثَ بعضهُ إلى بعضٍ فيركمهُ كما يركمُ الشيء لتراكبِ بعضهِ على بعضِ ، ثم يجعلهُ في جهنمَ مع أهلهِ ، فليس فيها إلا خبيثٌ . ولما كان الناسُ على ثلاثِ طبقاتٍ : طيبٍ لا يشوبهُ خبثٌ ، وخبيثٍ لا طيبَ فيه ، وآخرون فيهم خبثٌ وطيبٌ كانت دورهم ثلاثةً : دار الطيبِ المحضِ ، ودار الخبثِ المحضِ ، وهاتان لا تفنيان …. ” .ا.هـ
هل قال ابن تيمية بفناء النار.
اختلف من تكلم في هذه المسألة إلى ثلاثة أقوال:
1_ أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول بهذا القول –جزما-
2_ أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يميل إلى هذا القول
3_ أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يقل بهذا القول وهو الصحيح فيما يظهر لأمور:
1- أن لابن تيمية رسالة بعنوان (الرد على القائلين بفناء الجنة والنار) وقد نقل بعض ما فيه الإمام ابن القيم في كتابه حادي الأرواح.
والناظر في هذا الكتاب يجد أن ابن تيمية يذكر الأقوال ومنها قول من قال بفناء النار خاصة دون الجنة وبين أنه قول لبعض السلف ثم بدأ يفرق بين هذا القول وقول الجهمية وذكر أدلة هذا القول مع التوسع في ذلك.
ومما سبق يمكن أن نستلخص الأمور التالية:
– أن ابن تيمية لم ينص صراحة بترجيحه للقول بفناء النار
– ومما يؤيد هذا أن ابن القيم مع كثرة نقله من هذا الكتاب في كتابه حاديث الأرواح لم يذكر أن ابن تيمية رجح القول بفناء النار
– فإن قيل لماذا تطرق إذا ابن تيمية لأدلة هذا القول وتوسع فيه دون القول بعدم فناء النار ؟ : فيقال: أن القول بفناء النار مشهور عند أهل السنة والجماعة ويقول به ابن تيمية كما سنقرره وأدلته معروفة ومستفيضة لذلك اكتفى شيخ الإسلام بذلك عن ذكره
الأمر الثاني: أنه رحمه الله يريد أن يبين أن القول بفناء النار خاصة ليس من أقوال أهل البدع وأنه ليس كقول الجهمية وأن له أدلة تدل عليه وهناك من قال به من السلف.
2- أن شيخ الإسلام لو كان يقول بهذا القول لانتصر له في كثير من كتبه خاصة أن من عادته رحمه الله أنه يتفرع في ذكر المسائل في كتبه وقد جاء في موضع نقده لقول الجهمية ولم يذكر هذا القول
3- ومما يدل على أن شيخ الإسلام لا يقول بفناء النار تصريحة بذلك نصا صراحة في مواضع فكيف يذهب إلى ما يظن أنه يقول به مع ترك ما يقينا نعلم أنه يقول به :
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
فإن نعيم الجنة وعذاب النار دائمان تجدد الحوادث فيهما وإنما أنكر ذلك الجهم بن صفوان فزعم أن الجنة والنار يفنيان اهـ (منهاج السنة النبوية:1/146)
- وأيضا جاء في مراتب الإجماع لابن حزم أنه قال:
وأن النار حق وأنها دار عذاب أبدا لا تفنى ولا يفنى أهلها أبدا بلا نهاية اهـ ( مراتب الإجماع:268)
وقد أقره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ذلك في كتابه نقد مراتب الإجماع بخلاف غيرها من المسائل التي تعقبه فيها.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك اهـ (مجموع الفتاوى:18/307)
- وقرر رحمه الله أن القرآن قد أخبر ببقاء النار بقاءا مطلقا يمتنع معه الفناء
قال رحمه الله: ثم أخبر ببقاء الجنة والنار بقاءا مطلقا ولم يخبرنا بتفصيل ما سيكون بعد ذلك … اهـ (بيان تلبيس الجهمية:1/157)
- أقر الأشعري على قوله ببقاء النار نقل عن الأشعري أنه قال:
وقال أهل الإسلام جميعا: ليس للجنة والنار آخر وإنهما لا تزالان باقيتين .. وأهل النار لا يزالون في النار يعذبون وليس لذلك آخر اهـ وقد نقل هذا النص ابن تيمية ولم ينكر عليه (درء التعارض:2/357)
4- ومما يقوي قول من قال أن ابن تيمية لا يقول بفناء النار , أن ما استدل به المخالفون من كلامه إنما منقول من كتاب واحد له ومع ذلك كلامه ليس بصريح أما من قال أنه يقول بعدم فناء النار نقل عنه من كتب عدة تبين أن هذا الذي كان متقررا عنده رحمه الله.
5- مما يدل على أن ابن تيمية، بل وابن القيم أيضا لم يقولا بفناء النار أنه لم ينقل أحد من تلامذتهما عنهما هذا القول ولم يقل به أحد منهم وتلاميذهما علماء محققون وهم كثر كالذهبي وابن كثير وابن رجب.
ويراجع للتفصيل:
لوامع الأنوار البهية طبعة دار التوحيد: 3/222 و جلاء العينين للآلوسي (479) وتوقيف الفريقين لمرعي مع مقدمة المحقق (20) ورفع الأستار مع مقدة الألباني ودعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها على الحركات لصلاح الدين مقبول (2/423) ودفع الشبه القويه لمراد شكري (111) ومقدمة الدكتور علي ناصر فقيهي والدكتور أحمد الغامدي للصواعق المنزلة (1/12) ودفع إبهام الإضطراب: (122)
كشف الأستار للحربي ودعاوى المناوئين للدكتور عبد الله الغصن (610) وشبهات أهل الفتنة لدمشقية (479) وكتاب معارج الصعود (255) مع تعليق القادري عليه و الوابل الصيب (34) وزاد المعاد (1/68) وطريق الهجرتين (254)
وإليك النقل من كتاب دعاوى المناوئين لابن تيمية ؛ قال المؤلف :
القول الذي يمكن أن يُعد قولًا لابن تيمية رحمه الله في مسألة فناء النار أو أبديتها، ولترجيح أحد الأقوال على غيرها يمكن أن أضع بعض المقدمات والملاحظات التي تساعد في الترجيح:
أولًا: أن جميع الأقوال التي استدل بها القائلون بأنه يرى فناء النار، إنما استندوا إلى كتاب واحد، وهو (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، ولم تكن المعلومات متوفرة عن الكتاب – سابقًا -، حتى ظن البعض أن الردود على ابن
تيمية رحمه الله كانت ردودًا على ابن القيم (ت – ٧٥١هـ) رحمه الله في (حادي الأرواح) ؛ ذلك أن ابن القيم (ت – ٧٥١هـ) رحمه الله قد نقل أغلب كتاب ابن تيمية رحمه الله آنف الذكر في كتاب (حادي الأرواح)، إضافة إلى أن المطبوع من كتاب ابن تيمية رحمه الله لم يخل – أيضًا – من بعض الملحوظات – كما سيأتي -.
وأما قول القائلين بأنه يقول بأبدية النار، فينقلون نصوصًا مبثوثة في أغلب كتب ابن تيمية رحمه الله كمنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، وبيان تلبيس الجهمية، وغيرها، وهذا مظنة تأييده ونصرته لهذا القول، بخلاف القول الأول الذي لم تكن مادته إلا من كتاب واحد، قد يكون لتأليفه، وكتابته، ثم مخطوطاته، ومَن نَسخها ظروف قد تضعف من دلالة هذه النصوص – كما سيأتي -.
ثانيًا: أن النصوص التي يستدل بها القائلون بأن ابن تيمية رحمه الله يرى فناء النار مجملة، غير صريحة في أنه يرى فناء النار، أما النصوص التي يستدل بها القائلون بأنه يرى أبدية النار، فهي مبينة صريحة في أنه يرى أبديتها، ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن المجمل مما في نصوص الكتاب والسنة يرد إلى المحكم، ولا يتعلق بالمتشابه والمجمل ويترك المحكم والمبين إلا أهل الزيغ والضلال كما قال تعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ [آلعمران: ٧] ويؤيد هذا القول حكايته اتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على أبدية النار ، وهذا كافٍ في أنه يقول بهذا القول وينصره.
ثالثًا: أن كتاب ابن تيمية رحمه الله الموجود (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، لم يخل من بعض الخروم – في نظري – ومن الملحوظات عليه ما يلي:
أ – أن بداية الكتاب لم يفتتح بالبسملة والحمدلة، كغيره من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بل ابتدأ بكلام معطوف على ما قبله، وهو قوله: (وللناس في ذلك أقوال..) ثم ذكرها.
ب – أن المخطوط ابتدأ بذكر: (فصل في فناء الجنة والنار) ، وهذه قرينة على أن هذا ليس أول كلامه رحمه الله في الرسالة، خاصة وأن الاعتماد في الصفحات الأولى في الكتاب على نسخة واحدة، وهي المقطع الأول من نسخة دار الكتب المصرية.
ج – تدخل النُسّاخ في صلب الرسالة، فقالوا: (وقد تكلم الشيخ رحمه الله على الجهمية والهذيلية … ورجح أدلة أهل السنة، وهدم شبه أهل البدعة، وأشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب..) ، وهذا كله ليس من كلام ابن تيمية رحمه الله -.
د – أن ابن تيمية رحمه الله قال في الكتاب: (والفرق بين بقاء الجنة والنار: شرعًا وعقلًا، فأما شرعًا فمن وجوه) ، ثم ذكر ثمانية أوجه شرعية، ولم يذكر الأوجه العقلية، حيث انتهت نسخة المكتب الإسلامي، وأكمل من نسخة
دار الكتب المصرية في موضوع آخر قد ذُكر في بداية الكتاب حين رد على الجهمية وهو آيات بقاء الجنة وقد ذكرها بحرف العطف على ما قبلها (وأما آيات بقاء الجنة) ، ولم يكن ما قبلها يصح أن يعطف عليه ما بعده، والله أعلم.
هـ – أن الإمام الصنعاني (ت – ١١٨٢هـ) رحمه الله في رده على ابن تيمية رحمه الله ذكر بعض النصوص، والأحاديث التي لم ترد في الكتاب المطبوع، وهي النصوص التي فيها تغليب جانب الرحمة، قال الصنعاني (ت – ١١٨٢هـ) رحمه الله: (ثم استدل شيخ الإسلام
تيمية رحمه الله مقرًا له ومؤيدًا، ولم يتعقبه، أو يرد عليه فدل على أنه يرى ما يراه أهل الإسلام جميعًا .
٧ – نقل ابن تيمية رحمه الله عن ابن خفيف
رحمه الله من كتابه (اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات) نقولًا كثيرة في الفتوى الحموية ، وقد نقل عنه مرتضيًا كلامه قوله: (ونعتقد أن الله خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء لا للفناء) .
٨ – نقل في تفسير قول الله عزّ وجل: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص ٨٨] قول الضحاك – مرتضيًا له – في أن كل شيء يهلك إلا الله والجنة والنار والعرش .
٩ – فرّق رحمه الله بين الكفار، وعصاة المؤمنين في المآل، فالكفار محلهم النار، ولا يخرجون منها، وأما عصاة المؤمنين فيدخلون النار، ثم يخرجون من النار، قال رحمه الله: (ومما يبين الفرق – أيضًا – أنه – سبحانه – قال هناك: ﴿وأعَدَّ لَهُمْ عَذابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب ٥٧]، والعذاب إنما أعد للكافرين؛ فإن
على سعة رحمة الله – تعالى -، وأنها أدركت أقوامًا ما فعلوا خيرًا، وساق أحاديث دالة على أن الرحمة أدركت من كان من عصاة الموحدين..) وقد نقلت كلام النُسّاخ لكتاب ابن تيمية رحمه الله في ذكرهم أن ابن تيمية رحمه الله أشار إلى بعض أدلة غلبة الرضا على الغضب .
وقد ذكر الصنعاني (ت – ١١٨٢هـ) رحمه الله بعض الأدلة التي استدل بها ابن تيمية رحمه الله ومنها حديث الرجل الذي أوصى
أهله أن يحرقوه إذا مات ، وأحاديث أخرى ، ولم يرد ذكر هذه الأحاديث في الكتاب المطبوع.
رابعًا: أن كتاب ابن تيمية رحمه الله لا يدل على أنه يقول بفناء النار، وذلك لأمور:
١ – أن ابن القيم (ت – ٧٥١هـ) رحمه الله تعالى – وهو الذي نقل أغلب أجزاء كتاب ابن تيمية رحمه الله في كتاب (حادي الأرواح)، وهو يرتضي ما يقول به، لم
يصرح بالقول بفناء النار، إنما اكتفى بذكر قول الله – تعالى -: ﴿إنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ﴾ [هود ١٠٧]، ولو كان قال ابن تيمية رحمه الله غير ذلك لقاله، أو لناقشه ورد عليه، لكنه لم يفعل، فصار ذلك قرينة على أن ابن تيمية رحمه الله لم يصرح بالقول بفناء النار في هذا الكتاب.
٢ – أن الكتاب قائم على حكاية قول القائلين بفناء النار على هيئة مناظرة وحوار، فذكر أدلة الطائفتين، وحين ذكر أدلة القائلين بفناء النار عرضها عرضًا يوحي بأنه منهم، ويستند هذا التعليل إلى أمور منها:
أ – أن ابن القيم (ت – ٧٥١هـ) رحمه الله حين ذكر أدلة القائلين بأبدية النار ودوامها وبدأ مناقشة هذه الأدلة، صرّح بأنه يحكي هذا القول فقال: (قال أصحاب الفناء: الكلام على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسألة) .
وحين انتهى من ذكر مناقشاتهم قال: (فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة) .
ب – أن ابن تيمية رحمه الله ذكر في أبدية النار اتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة على هذا، ولا يسع ابن تيمية
رحمه الله وأمثاله أن يخالف هذا الاتفاق، ولا سيما أنه حكى قول القائلين بالفناء بأنه يحتج على فناء النار بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة، ولا أقوال الصحابة ، فكيف يحكي الاتفاق والإجماع على مسألة، ويركز عليها في كتبه المتعددة. ثم هو يقول بهذا النص، لا شك أن هذا النص هو حكاية لقول القائلين بالفناء لا أنه يرتضيه.
ج – يتفق ابن تيمية رحمه الله وابن القيم (ت – ٧٥١هـ) رحمه الله أنهما حكيا قول القائلين بالفناء، وذلك؛ لأن ابن القيم (ت – ٧٥١هـ) رحمه الله نقل أغلب كلام ابن تيمية رحمه الله الذي ذكره في كتابه (الرد على من قال بفناء الجنة والنار)، وذلك بعدما سأل ابن القيم (ت – ٧٦١هـ) شيخه ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة ، ثم يجمعهما – أيضًا – أنهما قالا بقول أهل السنة والجماعة في أبدية النار في مواضع متعددة من كتبهما.
أما ابن تيمية رحمه الله فقد ذكرت في هذا المبحث ما وقفت عليه من كلامه الصريح في أبدية النار، وأما ابن القيم (ت – ٧٥١هـ) رحمه الله فهو – أيضًا – له كلام صريح في أبدية النار
في بعض كتبه، فقد قال رحمه الله: (وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب، ودار الخبيثين، فالله – تعالى – يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء لتراكب بعضه على بعض، ثم يجعله في جهنم مع أهله، فليس فيها إلا خبيث، ولما كان الناس على ثلاث طبقات:
طيب لا يشوبه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب، كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان. ودار لمن معه خبث وطيب، كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان. ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد) .
ونقل ابن القيم (ت – ٧٥١هـ) رحمه الله عقيدة ابن الحداد رحمه الله وفيها (الجنة حق والنار حق وأنهما مخلوقتان لا يبيدان ولا يفنيان) ، وقد أقره على ذلك ووافقه
خامسًا: مما يدل على أن ابن تيمية رحمه الله وابن القيم (ت – ٧٥١هـ) رحمه الله لم يقولا بفناء النار أنه لم ينقل أحد من تلامذتهما عنهما هذا القول، ولم يقل به أحد منهم، وتلاميذهما علماء محققون وهم كُثُر، ومن الأمثلة على ذلك أن الإمام الذهبي (ت – ٧٤٨هـ) رحمه الله لما ذكر سيرة ابن برهان ،
وهو من القائلين بفناء النار من علماء القرن الخامس ، ردّ عليه وقال: قلت: (حجته في
خروج الكفار هو مفهوم العدد من قوله: ﴿لابِثِينَ فِيها أحْقابًا﴾ [النبأ ٢٣]، ولا يتفق ذلك لعموم قوله: ﴿وما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ﴾ [البقرة ١٦٧] ولقوله: ﴿خالِدِينَ فِيها أبَدًا﴾ [النساء ١٦٩] إلى غير ذلك) ثم ذكر أنه أفرد بحث هذه المسألة في جزء .
وكذلك الحافظ ابن كثير (ت – ٧٧٤هـ) رحمه الله لما ذكر في ترجمة ابن برهان (ت – ٤٥٦هـ) قوله بفناء النار، نقل كلامًا لابن الجوزي (ت – ٥٩٧هـ) مرتضيًا له في أن القول
بهذا يخالف اعتقاد المسلمين .
وقال الحافظ ابن رجب (ت – ٧٩٥هـ) رحمه الله: (وعذاب الكفار في النار لا يفتر عنهم، ولا ينقطع، ولا يخفف بل هو متواصل أبدًا) .
وقال: (ولا يزال أهل جهنم في رجاء الفرج إلى أن يذبح الموت، فحينئذ يقع منهم الإياس، وتعظم عليهم الحسرة والحزن) .
وفي مقابل ذلك لم نجد من التلامذة من يذكر قولًا لابن تيمية رحمه الله في فناء النار، ولا ردًا عليه في أي من كتبهم.
سادسًا: على التسليم بأن كتاب ابن تيمية رحمه الله (الرد على من قال بفناء الجنة والنار) فيه تأييد ونصرة للقول بفناء النار، فإن الذي يغلب على ظني وتقديري أن هذا الكتاب ليس من آخر ما كتب ابن تيمية رحمه الله -، فإن الكتب المتأخرة هي التي ذكر فيها ابن تيمية رحمه الله أبدية النار، فدرء تعارض العقل والنقل، تم تأليفه في السنوات من عام ٧١٣ هـ إلى عام ٧١٧ هـ ، وكتاب (منهاج السنة النبوية) كان تأليفه عام ٧١٠ هـ تقريبًا (٢)، وفي تأريخ قريب
منه كتاب (بيان تلبيس الجهمية) فقد أُلف هذان الكتابان مع غيرهما في مصر من عام (٧٠٥ – ٧١٢هـ) ، وهذه الكتب قد ذكر فيها ابن تيمية رحمه الله القول بأبدية النار، وصرح بوضوح برأيه في هذه المسألة، وتعد هذه الكتب من مؤلفات ابن تيمية رحمه الله المتأخرة؛ فقد بدأ التأليف في مرحلة مبكرة، أي – تقريبًا – قبل تأليف (درء تعارض العقل والنقل) بثلاثين سنة فأكثر، كما يقول ابن تيمية رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل: (وقد كنا صنفنا في فساد هذا الكلام مصنفًا قديمًا من نحو ثلاثين سنة) ؛
ولذا فالغالب على الظن أن تكون الكتب التي يصرح فيها بأبدية النار هي المتأخرة زمنًا، إذ هي من أواخر مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -، وأما الكتاب الذي يحوي في طياته ألفاظًا مجملة عن الموضوع فالذي يغلب على الظن أنه قد تم تأليفه في مرحلة مبكرة من وقت ابن تيمية رحمه الله الطويل الذي قضاه في التأليف، وهذا قول بعض
المحققين.
وفي الجملة فالذي يترجح لدي – والله أعلم – أن ابن تيمية رحمه الله يقول بما قال به سلف الأمة، وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة من أن النار لا تفنى ولا تبيد كالجنة، وهذا هو الذي يصرح به في عامة كتبه والله أعلم وأحكم
وإذا كان هذا هو قول ابن تيمية رحمه الله -، فلست في حاجة – بعد ذلك – أن أبين أقوال المعتذرين لابن تيمية رحمه الله عن مقالاته التي يظنون أنه بها يقول بفناء النار .
أو مناقشة أقوال المكفرين له ؛ لأجل قوله بهذه المسألة ، والله أعلم.
تنبيه : من قال بأن القول بفناء النار كفر لا يسلم له، فإن هذه المسألة فيها اشتباه، اشتبهت على بعض العلماء، وقالوا بفناء النار، واستندوا إلى آثار، فاجتهدوا في هذه المسألة، وإن كانوا مخطئين لكنهم لا يكفرون بذلك، (لاسيما وأن هذا القول نسب إلى بعض الصحابة والتابعين).
انتهى من كتاب الرد على شبه المناوئين لابن تيمية
——
——
——
[المسألة الثالثة] :
من كتاب شرح الطحاوية للشيخ صال آل الشيخ :
قال في ذِكْرِ خلق الجنة والنار (خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ) وهذا مأخَذُهُ قول الله – عز وجل – {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19] ، وهذا يعني أنَّها تَقَدَّمَتْ قبل خلق آدم.
وهذه الجنة التي سكنها آدم للعلماء فيها أقوال أشهرها:
– الأول: أنها جَنَّةٌ مخلوقة في الأرض وليست بجنة الخلد.
– الثاني: أنَّها الجنة المعروفة دار الكرامة عند رب العالمين.
ويُرَجِّحْ جماعة منهم ابن القيم وكثير من المفسرين من المعتزلة ومن أهل السنة أنَّ الجنة هذه ليست هي جنة الخلد، ولهم في ذلك أدلة طَوَّلَ عليها ابن القيم في أول مفتاح دار السعادة بأكثر من أربعين صحيفة في ذكر هذه المسألة.
* والصحيح أنَّ الجنة هي الجنة المعهودة لأسباب كثيرة وأدلة من القرآن ومن السنة:
من أعظمها قوله – عز وجل – في وصف الجنة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (1) [طه:118-120] إلى آخر الآيات وهذه الصفات (إن لك فيها..) إلى آخره هذه ليست مناسبة للأرض، فالأرض وإنْ كان فيها مكان مرتفع جَنَّةْ إلى آخره مُخْتَلِفْ عن بقية الأرض فلا يوصف مَنْ فيه بهذه الصفات أنَّهُ لا يظمأ ولا يضحى، يعني ما يأتيه شمس فيها ولا يجوع ولا يعرى ونحو ذلك من الصفات، فهذه صفات تدل على أنَّ المكان مُغَايِرْ للأرض.
ومن الأدلة أنَّ الله – عز وجل – قال في ذكرها لَّما عصى آدم {اهْبِطَا مِنْهَا} [طه:123] ، وهذا الاهباط والخروج يقتضي أن يكون من جهةٍ عالية، والمكان الذي هو من جنسه فإنَّه وإنْ هَبَطَ منه فإنَّه ليس خارِجاً إلى غيره؛ بل هو منه إلى جنسه ولا تحصل العقوبة بالإهباط وإنَّما العقوبة بالإخراج، والله – عز وجل – جعل في القرآن هذا وهذا، الإخراج والإهباط، إلى أدلةٍ أخرى معروفة.
المقصود أنَّ قوله (خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ) الجنة واحدة هي المعروفة وكل الأدلة التي فيها ذِكْرْ الجنة الغيبية فهي دار الكرامة التي أعدَّهَا الله لعباده.
عني به قبل خلق السموات والأرض، فإنَّ الله – عز وجل – كتب أنَّهُ سيخلق هؤلاء وهؤلاء وأنَّ الجنة لها أهلها وأنَّ النار لها أهلها، ولما خَلَقَ آدم أيضاً نَشَرَ ذريته من ظهره ثم قَبَضَ قبضة فقال هؤلاء إلى الجنة، وقبض أخرى وقال هؤلاء إلى النار.
فالله – عز وجل – خَلَقَ الجنة وجعل لها أهلاً سيدخلونها فضلاً منه وتكرماً، وخلق النار وجعل لها من يملؤها عدلاً منه وحكمة.
قال بعدها (فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ)”. انتهى المقصود.
قال العلامة الطحاوي: رحمه الله: (وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى)
قال الشيخ صالح آل الشيخ: “يريد العلامة الطحاوي رحمه الله أنّ أهل السنة والجماعة يتَّبِعُونَ في الأمور الغيبية ما دلَّ عليه الدليل من كتاب الله – عز وجل – ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يَقْفُون ما ليس لهم به علم ولا يقولون على الله – عز وجل – ما لا يعلمون؛ امتثالاً لقوله سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:36]، وامتثالاً لقوله – عز وجل – {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33]، فَحَرَّمَ الله – عز وجل – القول عليه بلا علم، ومن القول عليه بلا علم أن يُشهَدَ في أمرٍ غيبي أنَّ الله – عز وجل – لا يغفر لفلان، أو أنَّ فلاناً من أهل الجنة؛ يعني قد غُفِرَ له، أو أنه من أهل النار المُعَيَّن؛ لأنه لم يشأ الله أن يغفر له.
فأصل هذه المسألة وهي ما قَرَّرَهُ من أننا لا نُنَزِّلُ أَحَداً من أهل القبلة جنةً ولا ناراً، هذه لأجل أنَّ هذا الأمر غيبي والله – عز وجل – حًكمُهُ في أهل القبلة قد يُعذِّبْ وقد يغفر؛ يغفرُ لمن يشاء ويعذبُ من يشاء، فمن نزَّلَ جنةً أو ناراً أحداً من أهل القبلة ممن لم يدل الدليل على أنه من أهل الجنة أو من أهل النار فقد قال على الله بلا علم وتجرأ على الرب جل جلاله.
فالواجب اتِّبَاعْ النص وتقديس الرب – عز وجل – وتعظيم صفات الرب جل جلاله، وأن لا يُشْهَدَ على مُعين من أهل القبلة بأنه من أهل الجنة جزماً أو من أهل النار جزماً إلا من أخبر الوحي بأنه في هذا الفريق أو في هذا الفريق.
وهذا نَصَّ عليه خِلافاً لأهل الضلال في مسائل الأسماء والأحكام من المعتزلة والخوارج قبلهم ومَنْ يرون السيف ونحو ذلك ممن يشهدون لمن شاءوا بالجنة ولمن شاءوا بالنار؛ بل قد شَهِدُوا على بعض الصحابة بأنهم من أهل النار وعلى بعضهم من أنهم من أهل الجنة بمحض أهوائهم وآرائهم.
وأهل السنة يخالفون الفِرقْ الضالة في هذا الباب ويتَّبِعُون ما دلّ عليه الدليل ويُعظمون الله – عز وجل -، ولا يتجاسرون على الغيب، ويُعَظمون صفة الرب سبحانه بأنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
وتحت هذه الجملة مسائل:
[المسألة الأولى]:
أنَّ هذا الحكم ذَكَرَ أنه مختصٌ بأهل القبلة فقال (وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ) يعني: من أهل القبلة (جَنَّةً وَلَا نَارًا)؛ لأنَّ أهل القبلة ظاهرهم الإسلام والله – عز وجل – قد وَعَدَ المسلم بالجنة، وقد تَوَعَّدَ من عصاه من أهل الإسلام بالنار.
فهذا الحكم مختصٌ بأهل القبلة، فمن مات من أهل الإسلام لا يُشْهَدُ عليه بأنه من أهل النار ولا يُشْهَدُ له بالجنة، إلاّ من شَهِدَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وإذا تبيَّنَ هذا فلا يدخل في كلامه من مات على الكفر وقد كان في حياته كافراً؛ كان طول حياته نصرانياً، أو كان طول حياته يهودياً، أو كان طول حياته وثنياً أو مشركاً الشرك الأكبر المعروف؛ يعني: من أهل عبادة الأوثان أو ممن لا دين له.
فهؤلاء لا يدخلون في هذه العقيدة؛ بل يُشهَدُ على من مات منهم بأنه من أهل النار؛ لأنه مات على الكفر وهو الأصل.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حيثما مررت بقبر كفار فبشره بالنار»، وهذا عموم وهو الموافق للأصل، وهو أنَّ من مات على الكفر نحكم عليه بالظاهر، ولا نقول قد يكون مات على الإسلام؛ لأنَّ هذا خلاف الأصل.
والقواعد المُقَرَّرَةْ تقضي باتباع واستصحاب الأصل.
لهذا المسلم نستصْحِبُ أصلَه -كما سيأتي- فلا نشهد عليه بشركٍ ولا كفرٍ ولا نفاق إذا مات، كذلك نستصحب الأصل في من مات على الكفر من النصارى واليهود والوثنيين وأشباه هؤلاء.
ومِنْ أهل العلم من أدخَلَ الحكم على المُعَيَّنْ الذي ورد في هذه الجملة الكفار بأنواعهم، فقال: حتى الكافر لا نشهد عليه إذا مات؛ لأننا لا ندري لعله أسلم قبل ذلك.
وهذا خلاف الصواب وخلاف ما قرَّرَهُ أهل التوحيد وأئمة الإسلام في عقائدهم، فإنَّ كلامهم كان مُقَيداً بمن مات من أهل القبلة، أما من لم يكن من أهل القبلة فلا يدخل في هذا الكلام.
[المسألة الثانية]:
ذكرنا لك أنَّ أصل هذه العقيدة تعظيم صفات الله – عز وجل -، وعدم الخوض في الأمور الغيبية، والعلماء في إعمالِ هذا الأصل في هذه المسألة لهم أقوال:
1- القول الأول: من قال: لا أشهد لأحدٍ ولا على أحدٍ مُطلقاً، وإنما نشهد للوصف للجنس دون المعين،
فنقول: المؤمن في الجنة، والظالم في النار، والمؤمن المسدد في الجنة، ومرتكب الكبيرة متوَعَدْ بالنار، ونحو ذلك من ذكر الجنس والنوع دون ذكر المعين، إعمالاً منهم للأصل الذي ذكرنا، وأنَّ الحكم بالخاتمة أمرٌ غيبي لا ندري هل حصل الختام بالتوحيد أم لا؟
2- القول الثاني: وهو قول جمهور أهل العلم وأئمة أهل الحديث والسنة والأثر: أنَّ هذه المسألة غيبية فمجالها ومدارها على قاعدة الأمور الغيبية أنّه يُقْتَفَى فيها الدليل دون تجاوز للقرآن والحديث، فلا يُنَزَّلُ أحد جنة ولا نار إلا من أنزله الله – عز وجل – الجنة أو أنزله النار بدليلٍ من الكتاب أو من السنة، وسواءٌ في هذا النوع الوصف الجنس أو المعين.
فجاءت الشهادة لأبي بكر رضي الله عنه بأنه من أهل الجنة في القرآن، وجاءت الشهادة لأهل البيت بأنهم مُطَهَّرُون أيضا بالقرآن منهم علي رضي الله عنه وفاطمة وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال الله – عز وجل – فيهم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] ونحو ذلك، وجاء في السنة الشهادة على مُعَيَّنِينَ من الصحابة بأنهم في الجنة كما في العشرة المبشرين بالجنة: الخلفاء الأربعة، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاس، وسعيد بن زيد إلى آخره، وكذلك الشهادة لبلال رضي الله عنه، ونحو ذلك ممن جاء في الحديث أنه من أهل الجنة، وكذلك من شُهِدَ عليه بالنار ممن هو منتسب إلى القبلة مِما جاء في السنة فإننا نشهد عليه بالنار.
وهذا القول هو المراد بكلام الطحاوي هذا وهو قول جمهور أهل الحديث والسنة.
3- القول الثالث: فهو مثل القول الثاني؛ لكنه زاد عليه بأنَّ الشهادة المستفيضة للإنسان من أهل القبلة بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل الوعيد، فإنه يُشهَدُ للمعين أو يُشهَدُ عليه بالشهادة المستفيضة.
وهذا جاء رواية عن الإمام أحمد وعن غيره من الأئمة واختارها الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمهم الله تعالى، وقال (دلت السنة على هذا الأصل فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فأثْنِيَ عليها خيراً فقال «وجبت»، ثم مُرَّ بجنازة أخرى فأثنى الصحابة عليها شراَ، فقال «وجبت»، قالوا يا رسول الله ما وجبت؟ قال «تلك أثنيتم عليها خيرا فوجبت لها الجنة، وهذه أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه»، وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار» قالوا وكيف ذلك يا رسول الله قال «بالثناء الحسن وبالثناء السيئ».
فيدخل في هذا القول المعرُوفون الذين شُهِدَ لهم بقدم الصدق من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من شُهِدَ له من أئمة الإسلام بهذا المقام كالإمام مالك مثلاً والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم ونحوهم من أئمة الإسلام.
* والأظهر هو القول الثاني وهو قول الجمهور؛ لأنّ الشهادة بالاستفاضة هذه الدليل يتقاصر على أنْ يُشهَدَ له مطلقاً، ولكن يكون الرجاء فيه أعظم، ولهذا في الحديث الأول قال «وجبت»، فدلَّ على أنَّ شهادتهم له في مقام الشفاعة له؛ لأنه قال «أثنيتم عليها خيرا فوجبت» فدل على أنَّ الوجوب له بالجنة مترتب على الثناء عليه بالخير، وليس الثناء عليه بالخير نتيجة وإنما هو سبب لوجوب الجنة، فكأنه في مقام الشفاعة له والدعاء له، وليس هذا مطلقاً.
والحديث الثاني أيضا يُحْمَلْ على هذا بأنه في مقام الشفاعة والدعاء له، بالإضافة إلى أنّ القول الأول هو قول الأكثر من أئمة أهل الإسلام.
[المسألة الثالثة]:
أننا إذا لم نشهد لأحدٍ أو على أحدٍ فإنَّ المقصود المُعَيَّنْ، أما الجنس والنوع فنشهد للجنس والنوع،
فنشهد على الظالم بالنار دون تنزيله على معين، ونشهد للمطيع بالجنة دون تنزيله على معين.
والمقصود إذا مات على ذلك، إذا مات المطيع على الطاعة، وإذا مات الظالم على الظلم؛ لأنَّ المسألة مبنية على ما يُختَمُ للعبد، وقد صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يَكُونَ بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكونَ بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»، وهذا يدل على أنَّ الأعمال بالسوابق -سوابق الكتاب- وبالخواتيم، وهذا يمنع من الشهادة المُعَيَّنَة؛ لأنَّ الأعمال بالسوابق والخواتيم، والله – عز وجل – خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهذا غيبي، وخَلَقَ النار وخَلَقَ لها أهلاً وهذا أمر غيبي.
فإذاً الشهادة على الجنس أو للجنس بالجنة أو على نوع بالنار هذا المقصود من مات على ذلك، من مات على الطاعة فإننا نشهد لجنس الميتين على الطاعة، ولجنس من مات على الكبيرة بأنَّهُ مُتوَعَد بالعذاب قد يغفر الله – عز وجل – له وقد يُؤاخذه بذنوبه.
[المسألة الرابعة]:
أننا مع ذلك كله فإننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.
أهل السنة أهل رحمة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بهذه الأمة، فيرِثُ أهل السنة الرحمة من صفاته صلى الله عليه وسلم، فيرحمون هذه الأمة، ومن رحمتهم لها أنهم يرجون لأهل الإحسان ويخافون على أهل الإساءة.
ورجاؤُهُم لأهل الإحسان يحمِلُهُم على أن يَدْعُو لهم وأن يُصَلُّوا عليهم إذا ماتوا؛ لأنَّ حق المسلم على مسلم ست ومنها أنه إذا مات يُصَلِّي عليه ويدعو له.
وتَحْمِلُهُم الرحمة للمسيء أنه إذا مات على الإساءة أنه يُخافُ عليه الإساءة، فيُسْأَلْ الرب – عز وجل – أن يغفر له ذنبه وأن يتجاوز عن خطيئته وأن يبارك له في قليل عمله، ونحو ذلك من آثار الرحمة.
ولهذا يدعو المسلم لجميع المسلمين لمن كان منهم صالحاً ومن كان منهم غير صالح؛ بل من الدعاء الذي تداوله أهل السنة والعلماء أن يُسأَلْ الرب – عز وجل – أن يُشَفَّعَ المحسن في المسيء، وأن يُوهَبْ المسيء للمحسن، مثل ما في دعاء القنوت الذي يتداوله الأكثرون: وهب المسيئين منا للمحسنين، (هب المسيئين) يعني من كان مُسيئَاً عاصياً عنده ذنوب هبه للمحسن فَشَفِّعْ المُحْسِنَ فيه في هذا المقام بالدعاء.
وهذا كله من آثار الرحمة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، فإنه كان بهذه الأمة رحيماً؛ بل كان رحمةً للعالمين صلى الله عليه وسلم.
فإذاً نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، ولرجائنا للمحسن آثار، ولخوفنا على المسيء آثار.
فرجاؤنا للمحسن يحمِلُنَا على توليه وكثرة الدعاء له ونُصْرَتِهِ واقتفاء أثره.
وخوفنا على المسيء يحملنا على الدعاء له والاستغفار ونحو ذلك، فكان أسيراً للشيطان، ونسأل الله – عز وجل – له المغفرة الرضوان.
[المسألة الخامسة]:
وهي مسألة الشهادة بما يدل على الشهادة بالجنة، مثل أن يقال فلان شهيد، إذا كان شهيداً فالله – عز وجل – ذكر ونَصَّ على أن الشهداء بالجنة.
وكذلك الشهادة له بالمغفرة، المغفور له، المرحوم، النفس المطمئنة، ونحو ذلك، مما هو من أسباب دخول الجنة.
فإذا شُهِدَ له بهذه الأوصاف بأنه غُفِرَ له فقد شُهِدَ له بأمر غيبي، فإذا شُهِدَ له بأنه مرحوم فقد شُهِدَ له بأمر غيبي، إذا شُهِدَ له بأن نفسه مطمئنة {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر:28-30]، فقد شُهِدَ له بالجنة.
فإذاً الشهادة للمُعَيَّنِ بالجنة ممنوعة، وكذلك بما يَدُلُّ على أنه يُشهَدُ له بالجنة، مثل هذه الأسباب ونحوها.
من ذلك الشهادة له بأنه شهيد وقد جاء في صحيح البخاري بحث هذه المسألة، وبَوَّبَ عليها هل يقال فلان شهيد؟ وذكَرْ أثر عمر (إنكم تقولون لمن مات في معارككم فلانٌ شهيد فلانٌ شهيد، والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله، والله أعلم بمن يقتل في سبيله)؛ لأنه هل كان يُقَاتِلُ يريد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟
هذا أمر غيبي فلذلك لا تجوز الشهادة لمعين؛ لكن نرجوا له، من مات في أرض المعركة نرجوا له الشهادة، نقول نرجوا له أن يكون شهيداً وهذا تبع للأصل أننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء”. انتهى المقصود.
ثانيا :
جاء في ( سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد):
“الباب الخامس في : صفة خطبته وما وقفت عليه من خطبه- ﷺ
قال في «زاد المعاد»: كان مدار خطبته- ﷺ- على حمد الله، والثناء عليه بآلائه، وصفات كماله ومحامده وتعليم قواعد الإسلام وذكر الجنة والنار والمعاد والأمر بالتقوى، وتبيين موارد غضبه، ومواقع رضاه.
وكان يقول في خطبه أيضا: «أيها الناس إنكم لن تطيقوا أو لن تفعلوا كل ما أمرتم به، ولكن سدّدوا وأبشروا»، وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم، ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله تعالى ويتشهد فيها بكلمتي الشهادة.
كان يقصر خطبته أحيانا ويطيلها أحيانا بحسب حاجة الناس. كانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة، وكان يخطب النساء على حدة ويحثهن على الصدقة.
ولم يكن له شاويش يخرج بين يديه إذا خرج من حجرته، ولم يكن يلبس ما يلبسه الخطباء اليوم، ولا طرحة ولا غيرها، وكان يخطب على الأرض، وعلى المنبر، وعلى البعير، وعلى الناقة.
وكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته كأنه منذر جيش، وكان يخطب كثيرا بالقرآن، وكان أحيانا يتوكأ على قوس ولم يحفظ أنه على سيف.
وكان منبره على ثلاث درجات، فإذا استوى عليه واستقبل الناس أخذ المؤذّن في الأذان فقط، ولم يقل شيئا قبله ولا بعده.
فإذا أخذ في الخطبة واشتد غضبه، لم يرفع أحد صوته، بشيء البتة- لا مؤذن ولا غيره.
وروى أبو داود، عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- ﷺ- كان إذا تشهد قال: «الحمد لله نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا».
وفي رواية ابن شهاب مرسلا: «ومن يعصهما فقد غوى». [أبو داود ١/ ٢٨٧ (١٠٩٨) ].
وروى الإمامان الشافعي، وأحمد، ومسلم، وابن ماجه، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- «أن رسول الله- ﷺ- خطب يوما فقال: «إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونستهديه ونستنصره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى حتى يفيء إلى أمر الله» [أخرجه مسلم (٢/ ٥٩٣) حديث (٤٦/ ٨٦٨) والنسائي ٦/ ٧٤ وابن ماجة ١/ ٦١٠ (١٨٩٣)].
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عن النعمان بن بشير- رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله- ﷺ- يخطب يقول: «أنذرتكم النار، أنذرتكم النار…
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، عن زيد بن أرقم- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- ﷺ- خطبهم فقال: «أما بعد».
وروى الإمام أحمد، والنسائي، ومسلم، وابن ماجه، عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- ﷺ- «إذا خطب».
وفي رواية: إذا ذكر الساعة احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبّحكم».
وفي رواية: كانت خطبة رسول الله- ﷺ- يوم الجمعة يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول بأثر ذلك وقد علا صوته. انتهى.
«أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، ثم يقول: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ثم يقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين، ثم يقول: من ترك مالا فلأهله، ومن ترك ضياعا فعليّ وإليّ فأنا أولى بالمؤمنين».
وروى الإمام أحمد، والطبراني، والبزار- على الشك- برجال الصحيح عن علي أو الزبير- رضي الله تعالى عنهما- قال: كان رسول الله- ﷺ- يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى يعرف ذلك في وجهه، وكأنّه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة، وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم حتى يرتفع [أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط بنحوه وأبو يعلى عن الزبير وحده وقال الهيثمي ٢/ ١٨٨ رجاله رجال الصحيح].
وروى الإمام الشافعي، عن عمرو- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- ﷺ- خطب يوما فقال في خطبته: «ألا إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق، يقضي فيها ملك قادر، ألا إن الخير كله بحذافيره في الجنة، إلا وإن الشّر كله
بحذافيره في النار، [إلا فاعلموا] وأنتم من الله- عز وجل- على حذر، واعلموا أنكم معرضون على أعمالكم، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
وروى الإمامان: الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد بن منيع، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان- رضي الله تعالى عنها- قالت: «ما أخذت ق والقُرْآنِ المَجِيدِ إلا من في رسول الله- ﷺ- كان يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس» [أخرجه مسلم ٢/ ٥٩٥ في الجمعة (٥٢/ ٨٧٣) وأبو داود ١/ ٢٨٨ (١١٠٢) والنسائي ٣/ ١٠٧].
وروى ابن سعد عن أم صبيّة: خولة بنت قيس الجهنية- رضي الله تعالى عنها- قالت: «كنت أسمع خطبة رسول الله- ﷺ- يوم الجمعة وأنا في مؤخر النساء وأسمع قراءة ق والقُرْآنِ المَجِيدِ على المنبر وأنا في مؤخر المسجد».
وروى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، عن يعلى بن أمية- رضي الله تعالى عنه- قال:
سمعت رسول الله- ﷺ- يقرأ على المنبر ونادَوْا يا مالِكُ [الزخرف ٧٧].[البخاري (٨/ ٥٦٨) حديث (٤٨١٩) ومسلم (٢/ ٥٩٤) حديث (٤٩/ ٨٧١) وأبو داود ٤/ ٢٥ والترمذي (٢/ ٣٨٢) وقال حسن غريب (٥٠٨)]
وروى الإمام أحمد، ومسلم، والثلاثة، عن جابر بن سمرة- رضي الله تعالى عنه- قال:
«كنت أصلي مع رسول الله- ﷺ- الصلوات فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا»، زاد أبو داود: «يقرأ بآيات من القرآن، ويذكر الناس» [أحمد في المسند ٥/ ٩٣ ومسلم ٢/ ٥٩٠) حديث (٤١/ ٨٦٦) وأبو داود ١/ ٢٨٨ (١١٠١) والترمذي ٢/ ٣٨١ (٥٠٧) والنسائي ٣/ ٩٠].
وروى أبو داود عنه: قال: «كان رسول الله- ﷺ- لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات».
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وأبو نعيم عن الحكم بن حزن الكلفي أنه شهد الجمعة مع رسول الله- ﷺ- فقام فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال:
«أيها الناس إنكم لن تطيقوا أو لن تفعلوا كلّ ما أمرتم به، ولكن سددوا وأبشروا».
وروى النسائي عن عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله تعالى عنه- قال: «كان رسول الله- ﷺ- يكثر الذكر، ويقلّ اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصّر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة، والمسكين لبعض الحاجة».
وروى الإمام أحمد، وابن ماجة، عن أبي بن كعب- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- ﷺ- قرأ يوم الجمعة تَبارَكَ وهو قائم يذكر بأيام الله».
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد برجال الصحيح عنه- أن رسول الله- ﷺ- قرأ يوم الجمعة (براءة) وهو قائم يذكر بأيام الله تعالى.
انتهى المقصود.
[*] وقد مر في الدروس السابقة الحديث عن خطب النبي صلى الله عليه وسلم، والحافظ ابن رجب تحدث عن خطب وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم تحت حديث (الثّامِنُ والعِشْرُونَ) من جامع العلوم والحكم وأورد الأدلة في ذلك.
ثالثا : (فائدة) كتاب:
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار.
المؤلف: أبو الفرج، زين الدين، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: ٧٩٥هـ)،
المحقق: بشير محمد عيون.
دار النشر: مكتبة المؤيد – الطائف، دار البيان – دمشق، مجلد واحد.
وكتاب (البحور الزاخرة في علوم الآخرة)، المؤلف: محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني الحنبلي (١١١٤ – ١١٨٨ هـ) المحقق: عبد العزيز أحمد بن محمد بن حمود المشيقح، الناشر: دار العاصمة للنشر والتوزيع، الرياض – المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، ١٤٣٠ هـ – ٢٠٠٩ م عدد الأجزاء: ٤
في (الكتاب الخامس في ذكر النار وصفاتها وشدة عذابها أعاذنا الله تعالى منها بمنه وكرمه) في (الباب الأول في ذكر الإنذار والتحذير من النّار، والخوف منها، وأحوال الخائفين من تلك الدار)
ذكر فيه مسائل تتعلق بالخوف.