1147 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، وموسى ونوح الصوماليين وآخرين
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1147):
مسند ناجية الأسلمي رضي الله عنه
قال أبو داود رحمه الله: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام عن أبيه عن ناجية الأسلمي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث معه بهدي، فقال: ((إن عطب منها شيء فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خلي بينه وبين الناس)).
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
جاء في صحيح مسلم، كِتَابُ الْحَجِّ، بَابُ مَا يَفْعَلُ بِالْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ فِي الطَّرِيقِ: 2435 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ الضُّبَعِيِّ ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِيُّ ، قَالَ : انْطَلَقْتُ أَنَا وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ ، مُعْتَمِرَيْنِ قَالَ : وَانْطَلَقَ سِنَانٌ مَعَهُ بِبَدَنَةٍ يَسُوقُهَا، فَأَزْحَفَتْ عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ ، فَعَيِيَ بِشَأْنِهَا إِنْ هِيَ أُبْدِعَتْ كَيْفَ ، يَأْتِي بِهَا فَقَالَ : لَئِنْ قَدِمْتُ الْبَلَدَ لَأَسْتَحْفِيَنَّ عَنْ ذَلِكَ ، قَالَ : فَأَضْحَيْتُ ، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْبَطْحَاءَ ، قَالَ : انْطَلِقْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ نَتَحَدَّثْ إِلَيْهِ، قَالَ : فَذَكَرَ لَهُ شَأْنَ بَدَنَتِهِ فَقَالَ : عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتَّ عَشْرَةَ بَدَنَةً مَعَ رَجُلٍ وَأَمَّرَهُ فِيهَا ، قَالَ : فَمَضَى ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا أُبْدِعَ عَلَيَّ مِنْهَا ، قَالَ : انْحَرْهَا ، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَيْهَا فِي دَمِهَا ، ثُمَّ اجْعَلْهُ عَلَى صَفْحَتِهَا ، وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ وحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ، قَالَ يَحْيَى : أَخْبَرَنَا ، وَقَالَ الْآخَرَانِ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِثَمَانَ عَشْرَةَ بَدَنَةً مَعَ رَجُلٍ ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ الْحَدِيثِ.
2436 حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ ، حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ ثُمَّ يَقُولُ : إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ ، فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا ، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا ، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته: “قال أبوداود رحمه الله تعالى: [باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ أورد أبو داود رحمه الله بابًا في “الهدي يعطب”، أي: يحصل له شيء من العطب، فإما أن يحصل له عِيّ وتعب وانقطاع في الطريق فلا يستطيع المواصلة، أو يحصل له مرض أو نحوه يخشى أن يفضي به إلى موته، فالنبي ﷺ بعث مع ناجية الأسلمي هديًا، وقال له: [((إِنْ عَطِبَ)) بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ عَيِيَ وَعَجَزَ مِنَ السَّيْرِ وَوَقَفَ فِي الطَّرِيقِ وَقِيلَ أَيْ قَرُبَ مِنَ الْعَطَبِ وَهُوَ الْهَلَاكُ.فَفِي الْقَامُوسِ عَطَبَ كَنَصَرَ لَانَ وَكَفَرِحِ هَلَكَ وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي ((مِنْهَا)) أَيْ مِنَ الْهَدْيِ الْمُهْدَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ بَيَانٌ ((ثُمَّ اصْبُغْ)) أَيِ اغْمِسْ ((نَعْلَهُ)) أَيِ الْمُقَلَّدَةَ بِهِ ((فِي دَمِهِ)) أَيْ ثُمَّ اجْعَلْهَا عَلَى صَفْحَتِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَصْبُغَ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ لِيَعْلَمَ الْمَارُّ بِهِ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَجْتَنِبَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا وَلَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إِلَى أَكْلِهِ].
((ثم اصبغ نعله في دمه)) [أي: تصبغ النعل الذي قلدت به بدمها، ثم يضرب على صفحتها بالدم؛ حتى إذا رآها أحد عرف أنها هدي، فيأخذ منها، ومعنى ذلك: أنها مبذولة لمن يريد أن يستفيد منها، لكن لا يستعملها هو ولا أحد من رفقته] – لذا قال: -، ((ثم خلي بينه وبين الناس)) أي: حتى يستفيدوا منه ويأكلوه، وقد جاء في بعض الروايات أن الذي معه الهدي لا يستعمله هو ولا أحد من أصحابه؛ ولعل ذلك لقطع الأطماع في كون الهدي إذا حصل له شيء فقد يسارع سائقه إلى الذبح؛ من أجل أن يأكل منه؛ لذلك لم يكن له نصيب منه، وإنما هو لغيره ولغير رفقته الذين كانوا معه، حتى لا يقدم على نحر الشيء إلا إذا خشي فواته.
قوله: [حدثنا محمد بن كثير].
محمد بن كثير العبدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا سفيان].
سفيان هو الثوري، وقد مر ذكره.
[عن هشام].
هو ابن عروة، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه].
هو عروة بن الزبير
[عن ناجية الأسلمي].
ناجية الأسلمي رضي الله عنه صحابي، وحديثه أخرجه أصحاب السنن.[عون المعبود، شرح السنن للشيخ عبد المحسن العباد، بتصرف يسير].
وقال خليل أحمد السهارنفوري في (بذل المجهود في حل سنن أبي داود): “الظاهر أنه ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر الأسلمي،
قال الحافظ في «الإصابة»(برقم ٨٦٣٥) ناجية بن جندب :
وذكر أنه هو الذي عدل بالنبي صلى الله عليه وسلم عن الطريق وانزله الحديبية كراهية أن يقاتل خالد بن الوليد وكان بهم رحيما
ثم قال : قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم، أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله ﷺ ناجية بن جندب الأسلمي، صاحب بدن رسول الله ﷺ، وقال سعيد بن عفير: كان اسمه ذكوان، فسماه النبي ﷺ ناجية حين نجا من قريش، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أن ناجية صاحب بدن رسول الله ﷺ مات بالمدينة في خلافة معاوية.
ولناجية بن جندب حديث آخر أخرجه ابن منده من طريق مجزأة بن زاهر، عن أبيه، عن ناجية بن جندب، قال: «أتيت النبيَّ ﷺ حين صد الهدي، فقلت: يا رسول الله! ابعث معي بالهدي حتى أنحره في الحرم، قال: وكيف تصنع؟ قال: قلت: آخذ في أودية لايقدرون علي، قال: فدفعه إلى فنحرته في الحرم»،
قال ابن مندة: تفرد به مخول بن إبراهيم، عن إسرائيل عنه، ورواه عنه أبو حاتم الرّازي وغيره، كذا قال.
وقد أخرجه النّسائيّ من طريق عبيد اللَّه بن موسى، عن إسرائيل مثله. وأخرجه أبو نعيم، من طريق محمد بن عمرو بن محمد العنقزي، عن إسرائيل، لكن قال فيه: عن ناجية، عن أبيه، وكذا أخرجه الطّحاوي من طريق مخول. انتهى من الإصابة
ـ وقال ابن حجر: جندب أَبو ناجية:
ذكره ابن منده، وروى من طريق إبراهيم بن أبي داود، عن مخول بن إبراهيم، عن إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي، عن ناجية بن جندب، عن أبيه، قال: أتيت النبي صَلى الله عَليه وسَلم حين صد الهدي، فقلت: يا رسول الله، ابعث معي بالهدي … الحديث.
وهكذا أخرجه الباوردي، والطحاوي.
وقال ابن منده: خالفه أَبو حاتم الرازي، عن مخول.
وقال أَبو نعيم: هذا وهم فيه بعض الرواة، فقلب رواية مجزأة، عن أبيه، عن ناجية فجعله مجزأة، عن ناجية، عن أبيه، ثم ساقه على الصواب من طريق عَمرو بن محمد العنقزي، عن إسرائيل.
قال: واتفقت رواية الأثبات، عن إسرائيل على هذا.
قلت: قد رواه النَّسَائي من رواية عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن مجزأة، قال: أخبرني ناجية بن جندب، فيحتمل أن يكون مجزأة سمعه من ناجية ومن أبيه، عن ناجية، وأما جندب فلا مدخل له في الإسناد، فالله أعلم. «الإصابة» (1357). ونقله أصحاب المسند المعلل
وقال ابن الملقن في شرح البخاري ١١/٤٧٥ : إسناده جيد
وصححه ابن حجر في الفتح
قال صاحب كتاب مرويات صلح الحديبية جمع ودراسة :
سند هذا الحديث صحيح فرجاله رجال الصحيحين، ما عدا شيخ النسائي أحمد بن سليمان وقال عنه ابن حجر: ثقة حافظ.
وهذا الحديث يشهد للروايات السابقة من وجه ويخالفها من وجه:
فمفهوم الحديث يفيد أن رسول الله ﷺ كان نازلًا في الحل، وهذا يؤيد الروايات السابقة، ومنطوق الحديث يفيد أنهم نحروا الهدي في الحرم، وهذا يخالف الروايات السابقة ظاهرًا، لكن يجمع بينها بأن الرسول ﷺ بعث مع ناجية بعض الهدي لا كله، وظاهر كلام ابن حجر على هذا الجمع ويؤيده أيضًا ما روي عن جابر أن النبي ﷺ بعث من هديه بعشرين بدنة، عند المروة مع رجل من أسلم
قلت-(أي:صاحب بذل المجهود) -: وقد جمع صاحب «التهذيب» [(١٠/ ٣٩٩)] بين الأسلمي والخزاعي، فقال: ناجية بن كعب بن جندب الأسلمي الخزاعي، كان صاحب بدنة فيما يصنع بما عطب من البدن.
قال الحافظ: قلت: قوله: الأسلمي الخزاعي؛ عجيب، وقد بيَّنتُ في «معرفة الصحابة» أن ناجية بن جندب الأسلمي غير ناجية بن جندب بن كعب الخزاعي، وأن كلًّا منهما وقع له استصحاب البدن، وأن الذي روى عنه عروة هو الخزاعي، وقيل فيه: الأسلمي، وأن الذي روى عنه مجزأة هو الأسلمي بلا خلاف، والأسلمي قد ذكر ابن سعد أنه شهد الحديبية، وزعم الأزدي وأبو صالح المؤذن أن عروة تفرد بالرواية عن الخزاعي، وأما الأسلمي فروى عنه مجزأة بن زاهر وعبد الله بن عمرو الأسلمي أيضًا، انتهى”. انتهى من (بذل المجهود).
فوائد الحديث:
1) “وفيه: أن النبي ﷺ كان في غاية الكرم، فكان يعطي الهدي لمن يريد الحج أو العمرة ليذبحه عند البيت ويوزعه على الفقراء”.
2) قوله: “( ثم خل بينه وبين الناس) في دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ.
قَالَ المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ نَاجِيَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ”[عون المعبود لابى داود]
ثانيًا: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
أولاً: مسألة: عطب الهدي ولمن يحل أكله.قال القرطبي رحمه الله: عند قول الله تعالى: ﴿لِّیَشۡهَدُوا۟ مَنَـٰفِعَ لَهُمۡ وَیَذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِیۤ أَیَّامࣲ مَّعۡلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِیمَةِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِۖ فَكُلُوا۟ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُوا۟ ٱلۡبَاۤىِٕسَ ٱلۡفَقِیرَ (٢٨) ثُمَّ لۡیَقۡضُوا۟ تَفَثَهُمۡ وَلۡیُوفُوا۟ نُذُورَهُمۡ وَلۡیَطَّوَّفُوا۟ بِٱلۡبَیۡتِ ٱلۡعَتِیقِ (٢٩)﴾ [الحج ٢٨-٢٩]
قال رحمه الله: فِيهِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً”، وذكر منها:” الثانية عشر: فَإِنْ عَطِبَ مِنْ هَذَا الْهَدْيِ الْمَضْمُونِ الَّذِي هُوَ جَزَاءُ الصَّيْدِ وَفِدْيَةُ الْأَذَى وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ شي قَبْلَ مَحِلِّهِ أَكَلَ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَأَطْعَمَ مِنْهُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ وَمَنْ أَحَبَّ، وَلَا يَبِيعُ مِنْ لَحْمِهِ وَلَا جِلْدِهِ وَلَا مِنْ قَلَائِدِهِ شَيْئًا.
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: لِأَنَّ الْهَدْيَ الْمَضْمُونَ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ كَانَ عليه بدله، لذلك جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَيُطْعِمَ. فَإِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ التَّطَوُّعُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَلَا يُطْعِمَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَدَلُهُ خِيفَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِالْهَدْيِ وَيَنْحَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْطَبَ، فَاحْتِيطَ عَلَى النَّاسِ، وَبِذَلِكَ مَضَى الْعَمَلُ؛ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ أن رسول الله ﷺ بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ وَقَالَ: ((إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شي فَانْحَرْهُ ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ)). وَبِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ -فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ-، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِي الْهَدْيِ التَّطَوُّعِ: لَا يَأْكُلُ مِنْهَا سَائِقُهَا شَيْئًا، وَيُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ((وَلَا تَأْكُلُ مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ)). وَبِظَاهِرِ هَذَا النَّهْيِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَاخْتَارَهُ ابن المنذر، فقالا: لا يأكل منها [سائقها] وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ((وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ)) لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَاجِيَةَ. وَهُوَ عِنْدَنَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ)) أَهْلُ رُفْقَتِهِ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: مَا كَانَ مِنَ الْهَدْيِ أَصْلُهُ وَاجِبًا فَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ، وَمَا كَانَ تَطَوُّعًا وَنُسُكًا أَكَلَ مِنْهُ وَأَهْدَى وَادَّخَرَ وَتَصَدَّقَ. وَالْمُتْعَةُ وَالْقِرَانُ عِنْدَهُ نُسُكٌ. وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالتَّطَوُّعِ، وَلَا يَأْكُلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا وَجَبَ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَأْكُلُ مِنْ دَمِ الْفَسَادِ.
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا لَا يَأْكُلُ مِنْ دَمِ الْجَبْرِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. تَمَسَّكَ مَالِكٌ بِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمَسَاكِينِ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ﴾ [المائدة: ٩٥]. وَقَالَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦]. وَقَالَ ﷺ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: ((أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكَيْنٍ أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوِ انْسُكْ شَاةً)).
وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْهَدَايَا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ}- إِلَى قوله- ﴿فَكُلُوا مِنْها﴾ [الحج: ٣٦].
وَقَدْ أَكَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْهَدْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَارِنًا فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَالرِّوَايَاتِ، فَكَانَ هَدْيُهُ عَلَى هَذَا وَاجِبًا، فَمَا تَعَلَّقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الْهَدَايَا لِأَجْلِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَرَى أَنْ تَأْكُلَ مِنْ نُسُكِهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ بِمُخَالَفَتِهِمْ، فَلَا جَرَمَ كَذَلِكَ شَرَعَ وَبَلَّغَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ حِينَ أَهْدَى وَأَحْرَمَ ﷺ”. انتهى.
وجاء في (فتح المنعم) شرح [صحيح مسلم، كِتَابُ الْحَجِّ، بَابُ اسْتِحْبَابِ بَعْثِ الْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ الذَّهَابَ بِنَفْسِهِ حديث رقم 2418]:” المسألة السادسة: ما يفعل بالهدي إذا عطب:.
قال النووي: إذا عطب الهدي وجب ذبحه وتخليته للمساكين، ويحرم الأكل منها عليه وعلى رفقته الذين معه في الركب، سواء كان الرفيق مخالطاً له، أو في جملة الناس من غير مخالطة، والسبب في نهيهم عن الأكل قطع الذريعة، لئلا يتوصل بعض الناس إلى نحره أو تعييبه قبل أوانه.
قال: واختلف العلماء في الهدي إذا عطب فنحره.
فقال الشافعي: إن كان هدي تطوع كان له أن يفعل فيه ما شاء، من بيع وذبح وأكل وإطعام وغير ذلك، ولو تركه، ولا شيء عليه في كل ذلك؛ لأنه ملكه، وإن كان هدياً منذوراً لزمه ذبحه، فإن تركه حتى هلك لزمه ضمانه كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت، فإذا ذبحه غمس نعله في دمه وضرب بها صفحة سنامه، وتركه موضعه، ليعلم من مر به أنه هدي فيأكله، ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه مطلقاً؛ لأن الهدي مستحق للمساكين، فلا يجوز لغيرهم، ويجوز للفقراء من غير أهل هذه الرفقة، ولا يجوز لفقراء الرفقة، وكلام جمهور الشافعية أن المراد بالرفقة جميع القافلة، وقيل: الذين يخالطون المهدي في الأكل وغيره، والله أعلم”. انتهى.
ثانيًا: بعض الأحكام المتعلقة بالهدي.
المطلب الأوَّل: جنس الهدي وما يُجْزِئُ مِنَه
الفرع الأول: جِنسُ الهَدْيِ يكونُ الهَديُ من: الإبلِ، والبَقرِ، والضَّأنِ، والمَعْزِ.نقلَ الإجماعَ على ذلك الجصاص، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن رشد.
الفرع الثاني: ما يجزئ من الهدي
الهَدْيُ شاةٌ، أو سُبْعُ بَدَنَةٍ، أو سُبْعُ بَقَرَةٍ، فإنْ نَحَرَ بَدَنةً، أو ذَبَحَ بقرةً، فقد زاد خيرًا، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة، والشَّافعيَّة، والحَنابِلة، وهو قولُ داودَ الظاهريِّ، وبه قالَتْ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ.
المطلب الثَّاني: سَوْقُ الهَدْي وتَقليده
الفرع الأول: سَوْقُ الهَدْي يُستحبُّ سوقُ الهَديِ، والأفضلُ أن يَسوقَه مِن الحِلِّ.نقلَ الإجماعَ على ذلك ابن تيميَّة، والعراقيُّ، والمرداويُّ.
الفرع الثاني: تَقليدُ الهَديِ. يُستحبُّ تقليدُ الإبلِ والبَقرِ.نقلَ الإجماعَ على ذلك ابن عبد البر، وابن بطال، وابن رشد، والنووي، والعراقي.
المطلب الثالث: زَمَنُ الذَّبحِ
مسألة: أوَّلُ زَمَنِ الذَّبحِ
يبتدِئُ وَقْتُ ذَبحِ الهَدْيِ يومَ النَّحْرِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة، والمالِكيَّة، والحَنابِلة.
الأدِلَّة:1- قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. أنَّه جاء في الآيةِ الكريمةِ أنَّ الحَلْقَ لا يكونُ إلَّا بعد أن يبلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّه، ومعلومٌ أنَّ الحَلقَ لا يكونُ إلَّا يومَ النَّحرِ.
2- قولُه تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج: 28-29]. أنَّ قَضاءَ التَّفَثِ يختَصُّ بيومِ النَّحرِ، وقد جاء مرتَّبًا على النَّحرِ والأكْلِ منه.
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن حَفصةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: ((يا رسولَ اللهِ، ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت مِن عُمْرَتِك؟ فقال: إنِّي لبَّدْتُ رأسِي، وقلَّدْتُ هَدْيي، فلا أحِلُّ حتى أنحَرَ)) [رواه البخاري (1566) واللفظ له، ومسلم (1229)].
أنَّه علَّقَ الحِلَّ على النَّحر، ومعلومٌ أنَّ الحِلَّ لا يكونُ إلَّا يومَ النَّحرِ:[وانظر أيضًا: ((مجلة البحوث الإسلامية)) (4/187)].
2- أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه قَدِموا في عَشْرِ ذي الحِجَّة، وقد بَقِيَتِ الغَنَمُ والإبلُ التي معهم موقوفةً حتى جاء يومُ النَّحرِ، فلو كان ذبحُها جائزًا قبل ذلك لبادَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه إليه في الأيَّامِ الأربعةِ التي أقاموها قبل خُرُوجِهم إلى عَرَفاتٍ؛ لأنَّ النَّاسَ بحاجةٍ إلى اللُّحومِ في ذلك الوقتِ، فلمَّا لم يفعَلْ ذلك دلَّ ذلك على عَدَمِ الإجزاءِ، وأنَّ الذي ذبحَ قبلَ يومِ النَّحرِ قد خالَفَ السنَّة، وأتى بشرعٍ جديدٍ؛ فلا يُجْزِئُ؛ كمن صلَّى أو صام قبل الوقتِ.
3- أنَّه لو كان ذبحُ الهَدْيِ جائزًا قبل يوم العيدِ؛ لفَعَلَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينما أمَرَ أصحابَه أن يَحِلُّوا مِنَ العُمْرةِ مَنْ لم يكن معه هَدْيٌ؛ لأجلِ أن يطمئِنَّ أصحابُه في التحلُّلِ مِنَ العُمْرةِ، فدلَّ امتناعُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن ذَبْحِ هَدْيِه قبل يوم النَّحرِ مع دعاءِ الحاجةِ إليه على أنَّه لا يجوزُ.
ثالثًا: أنَّه دمُ نُسُكٍ، فلا يجوزُ قبل يومِ النَّحرِ، كالأضْحِيَّة.
[فرعٌ:]السنَّة في وقتِ النَّحرِ أن يكون يومَ العيدِ بعد أن يُفْرَغَ مِنَ الرَّمْيِ وقبل الحَلْقِ أو التَّقْصيرِ؛ فعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رمى سَبْعَ حَصَياتٍ مِن بطنِ الوادي، ثم انصَرَفَ إلى المَنْحَرِ فنَحَرَ)) رواه مسلم (1218). ونقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ عَبْدِ البَرِّ وابنُ رُشْدٍ ، وابنُ حَجَرٍ .
المطلب الرابع: مكانُ الذَّبْحِ:يجب أن يكونَ ذَبْحُ الهَدْيِ في الحَرَمِ، ولا يختصُّ بمِنًى، وإن كان الأفضَلُ أن يكون بمِنًى، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة، والشَّافعيَّة، والحَنابِلة.
الأدِلَّة:1- قال تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة: 196]. أنَّ مَحِلَّ الهَدْيِ الحَرَمُ عند القُدرةِ على إيصالِه.2- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((نَحَرْتُ ها هنا، ومِنًى كلُّها مَنْحَرٌ)) رواه مسلم (1218). يدلُّ على أنَّه حيثما نُحِرَتِ البُدُنُ, والهَدايا- مِن فجاجِ مكَّةَ ومِنًى والحَرَمِ كُلِّه- فقد أصاب النَّاحِرُ.
المطلب الخامس: التطوُّعُ في الهَدْي :
يُسَنُّ التطوُّعُ بالهَدْيِ للمُفْرِد والمتمَتِّع والقارِن، وللحاجِّ ولغيرِ الحاجِّ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما في حديثِه الطَّويلِ في صِفَةِ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثم انصَرَفَ إلى المنحَرِ، فنَحَرَ ثلاثًا وستِّينَ بِيَدِه، ثم أعطى عليًّا، فنحر ما غَبَر، وأشْرَكَه في هَدْيِه، ثم أمَرَ مِن كُلِّ بدَنةٍ ببَضْعَةٍ، فجُعِلَتْ في قِدْرٍ، فطُبِخَتْ، فأكَلا مِن لَحْمِها وشَرِبَا مِن مَرَقِها)) رواه مسلم (1218). أنَّه معلومٌ أنَّ ما زاد على الواحِدةِ منها تطوُّعٌ.
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((أهْدَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرَّةً غَنمًا)) رواه البخاري (1701) واللفظ له، ومسلم (1321).
3- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((فَتَلْتُ قلائِدَ هَدْيِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ أشْعَرَها وقَلَّدَها، أو قَلَّدْتُها، ثم بعَثَ بها إلى البيتِ، وأقامَ بالمدينةِ، فما حَرُمَ عليه شيءٌ كان له حِلٌّ)) رواه البخاري (1699) واللفظ له، ومسلم (1321).
ثانيًا: نقَلَ القرافيُّ الإجماعَ على ذلك. ((الذخيرة)) (3/354).
المطلب السادس: الأكلُ مِنَ الهَدْيِ
الفرع الأوَّل: الأكْلُ مِنْ هَدْيِ التطوُّع :
ِيُسَنُّ لِمَن أهدى هدْيًا تطوُّعًا أن يأكُلَ منه إذا بلغ مَحِلَّه في الحَرَمِ.
الأدِلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتاب:1- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 27].
2- وقال عزَّ وجلَّ: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا [الحج: 36].
أنَّ فيهما الأمْرَ بالأكلِ مِنَ الهَدْيِ، وأقلُّ أحوالِ الأمرِ الاستحبابُ
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما في حديثِه الطَّويلِ في صِفةِ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثمَّ انصَرَف إلى المَنْحَر، فنَحَر ثلاثًا وسِتِّينَ بِيَدِه، ثم أعطى عليًّا، فنَحَر ما غَبَرَ، وأشْرَكَه في هَدْيِه، ثم أمَرَ مِن كُلِّ بَدَنةٍ ببَضْعةٍ، فجُعِلَت في قِدْرٍ، فطُبِخَتْ، فأكَلا مِن لَحْمِها وشَرِبا مِنْ مَرَقِها)) رواه مسلم (1218). أنَّه معلومٌ أنَّ ما زاد على الواحِدةِ منها تطوُّعٌ، وقد أكل منها وشَرِبَ مِن مَرَقِها جميعًا.
2- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كنَّا لا نأكُلُ مِن لحوم بُدُنِنا فوق ثلاث منى فرَخَّصَ لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: كُلُوا وتزَوَّدوا، فأكَلْنا وتَزَوَّدْنا)) رواه البخاري (1719) واللفظ له، ومسلم (1972).
ثالثًا: نقلَ الإجماعَ على جوازِ الأكْلِ مِن هَدْيِ التطوُّعِ: النوويُّ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ، وابنُ حَجَرٍ، والشنقيطيُّ.
رابعًا: أنَّه دمُ نُسُكٍ، ولا يتعَيَّن صَرْفُه إلى الفقراءِ، والقاعدةُ أنَّ ما لم يجِبْ صَرْفُه على الفُقَراءِ جاز الأكلُ منه.
الفرع الثَّاني: الأكْلُ مِنْ هَدْيِ التمتُّعِ والقِرانِ
يُستحَبُّ الأكلُ مِنْ هَدْيِ التمَتُّعِ والقِرانِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة، والمالِكيَّة، والحَنابِلة.
الأدِلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكتابقال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 28]. أنَّه سبحانه أمَرَ بالأكلِ مِنَ الهَدْيِ، فعَمَّ ولم يخُصَّ واجبًا مِن تطوُّعٍ، وهي مِن شعائِرِ اللهِ، فلا يجبُ أن يُمتَنَع مِن أكْلِ شيءٍ منها إلَّا بدليلٍ لا مُعارِضَ له أو بإجماعٍ.
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((فدُخِلَ علينا يومَ النَّحرِ بلَحْمِ بَقَرٍ، فقلتُ: ما هذا؟ فقيل: ذَبَحَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أزواجِه)) رواه البخاري (1709)، ومسلم (1211) واللفظ له.أنَّ أزواجَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَبَحَ عنهُنَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَقرًا، ودُخِلَ عليهِنَّ بلَحْمِه وهنَّ متمَتِّعاتٌ، وعائشةُ منهُنَّ قارِنَةٌ، وقد أكَلْنَ جميعًا مِمَّا ذُبِحَ عَنهُنَّ في تمتُّعِهِنَّ وقرانهن بأمْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في جوازِ الأكلِ مِنْ هَدْيِ التمتُّعِ والقِرانِ.
ثالثًا: أنَّه دمُ نُسُكٍ وشُكْرانٍ، وسَبَبُه غيرُ محظورٍ، ولم يُسَمَّ للمساكينِ، ولا مَدْخَلَ للإطعامِ فيه، فأشبَهَ هَدْيَ التطوُّعِ.
الفرع الثَّالث: الأكلُ مِنَ الهَدْيِ الذي وجَبَ لتَرْكِ نُسُكٍ أو تأخيرِه، أو كان بسبَبِ فَسْخِ النُّسُكِ
لا يجوز الأكلُ مِنَ الهَدْيِ الذي وجب لتَرْكِ نُسُكٍ أو تأخيرٍ، أو كان بسبَبِ فَسْخِ النُّسُكِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة، والشَّافعيَّة، والحَنابِلة. وذلك لأنَّه وقع الإجماعُ على أنَّ ما ألزَمَه اللهُ من ذلك فإنَّما ألزَمَه لغَيرِه، فغيرُ جائزٍ له أكْلُ ما عليه أن يتصَدَّقَ به, كما لو لَزِمَتْه زكاةٌ في مالِه لم يكُنْ له أن يأكُلَ منها, بل كان عليه أن يُعْطِيَها أهلَها الذين جَعَلَها اللهُ لهم.[ش: الدرر].