1144 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، وآخرين
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
الصحيح المسند (ج2/ رقم ١١٤٤):
قال أبو داود رحمه الله (ج ١٠ ص ٢١٤): حدثنا مسدد وخلف بن هشام قالا حدثنا أبو عوانة عن منصور عن عامر، عن أبي كريمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين إن شاء اقتضى، وإن شاء ترك».
هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخين.
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج ٢ ص ١٢١٢) فقال: حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن منصور به.
وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (ص ٢٦٠) فقال رحمه الله: حدثنا أبو نُعَيْمٍ، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن الشعبي به.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
أولاً: شرح الحديث: ” أَوصَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإكرامِ الضَّيْفِ، وجعَل ضِيافتَهُ بمَنزلةِ الدَّيْنِ، وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “لَيْلَةُ الضَّيْفِ” أي: اللَّيلةُ الَّتي يَبيتُ فيها الضَّيفُ، “حقٌّ على كُلِّ مُسلِمٍ”، أي: أنْ يُكرِمَه في لَيْلَتِهِ هذه؛ “فمَنْ أصبح بفِنائِهِ”، أي: فيما اتَّسَعَ أمامَ دارِهِ، وهو كِنايةٌ عن مَبيتِ الضَّيْفِ إلى الصَّباحِ دون إكرامٍ، “فهو عليه”، أي: على صاحبِ الدَّارِ أو المُضيفِ، “دَيْنٌ”، أي: إذا لم يُكرِمْ ضيفَه كان هذا الإكرامُ بمَنزلةِ الدَّيْنِ على المُضيفِ، “إنْ شاء اقتضَى”، أي: إنْ شاء الضَّيْفُ أنْ يأخُذَ حقَّه ويقضيَ له المُضيفُ دَيْنَه، “وإنْ شاء ترَك”، أي: وإنْ شاءَ الضَّيْفُ تنازَلَ عن حقِّه هذا وترَكه..”.[م: الدرر السنية].
فمما “أمر به النبي ﷺ المؤمنين، وهو إكرام الضيف، والمراد إحسان ضيافته.
وفي»الصحيحين«من حديث أبي شُرَيح – رضي الله عنه – قال:»أبصرت عيناي رسول الله ﷺ، وسمعته أذناي حين تكلم به، قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزتَهُ»، قالوا: وما جائزته؟ قال: «يوم وليلة»، قال: «والضيافة ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة».
وخرّج مسلم من حديث أبي شُرَيح أيضًا، عن النبي ﷺ قال: «الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، وما أنفق عليه بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يَثْوِيَ عنده حتى يُؤَثِّمه»، قالوا: يا رسول الله كيف يؤثمه؟ قال: «يقيم، ولا شيء له يَقْرِيه به».
وخرّج الإمام أحمد، من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -، عن النبي ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»، قالها ثلاثًا، قالوا: وما إكرام الضيف يا رسول الله؟ قال: «ثلاثةُ أيام، فما جَلَس بعد ذلك فهو صدقة».
[رواه أحمد ٣/ ٧٦ من طريق ابن لهيعة، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد – رضي الله عنه -، وهذا إسناد ضعيف، فابن لهيعة سيء الحفظ، ودرّاج ضعيف في روايته عن أبي الهيثم، ورواه بلفظ: «الضيافة ثلاثة أيام …» أحمد ٣/ ٨ و٢١ و٣٧ و٦٤ و٨٦، وأبو يعلى (١٢٤٤ و١٢٨٧)، والبزار (١٩٣١ و١٩٣٢)، وصححه ابن حبان (٥٢٨١)، وقال الهيثميّ في «المجمع»: رواه أحمد هكذا مطولًا ومختصرًا بأسانيد، وأبو يعلى، والبزار، وأحد أسانيد رجاله رجال الصحيح].
وسيأتي بنحوه من حديث أبي شريح عند البخاري ومسلم
ففي هذه الأحاديث أن جائزة الضيف يوم وليلة، وأن الضيافة ثلاثة أيام، ففرَّق بين الجائزة والضيافة، وأكّد الجائزةَ، وقد ورد في تأكيدها أحاديث أُخَرُ، فخرّج أبو داود، من حديث المِقْدام بن معد يكرب – رضي الله عنه -، عن النبي ﷺ قال: «ليلةُ الضيف حقٌّ على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين، إن شاء اقتضى، وإن شاء ترك»، وخرّجه ابن ماجه، ولفظه: «ليلةُ الضيف حقٌّ على كل مسلم» إسناده صحيح.
وخرّج الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث المقدام أيضًا، عن النبي ﷺ قال: «أيما رجل أضاف قومًا، فأصبح الضيفُ محرومًا، فإن نَصْرَهُ حقٌّ على كل مسلم، حتى يأخذ بِقِرى ليلةٍ من زرعه وماله».
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – قال: قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا، فننزل بقوم، لا يَقْرُوننا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله ﷺ: «إن نزلتم بقوم، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف، الذي ينبغي لهم».
وخرّج الإمام أحمد، والحاكم، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -، عن النبي ﷺ قال: «أيما ضيف نزل بقوم، فأصبح الضيف محرومًا، فله أن يأخذ بقدر قراه، ولا حرج عليه»[ أخرجه أحمد ٣/ ٣٨٠، وصححه الحاكم في «المستدرك» ٤/ ١٣٢، ووافقه الذهبيّ].
وقال عبد الله بن عمرو: من لم يُضِفْ فليس من محمد ﷺ، ولا من إبراهيم عليه السلام، وقال عبد الله بن الحارث بن جَزْء – رضي الله عنه -: من لم يُكرم ضيفه، فليس من محمد ﷺ، ولا من إبراهيم عليه السلام، وقال أبو هريرة – رضي الله عنه – لقوم نزل عليهم، فاستضافهم، فلم يُضِيفوه، فتنحى، ونزل، فدعاهم إلى طعامه، فلم يجيبوه، فقال لهم: لا تُنْزِلون الضيف، ولا تجيبون الدعوة، ما أنتم من الإسلام على شيء، فَعَرَفه رجل منهم، فقال له: انزل عافاك الله، قال: هذا شرّ وشرّ، لا تُنْزِلون إلا من تعرفون.
ورُوي عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – نحو هذه القضية، إلا أنه قال لهم: ما أنتم من الدين إلا على مثل هذه، وأشار إلى هدبة في ثوبه.
وهذه النصوص تدل على وجوب الضيافة يومًا وليلةً، وهو قول الليث، وأحمد، وقال أحمد: له المطالبة بذلك إذا منعه؛ لأنه حقّ له واجب، وهل يأخذ بيده من ماله إذا منعه، أو يرفعه إلى الحاكم؟، على روايتين منصوصتين عنه.
وقال حُمَيد بن زنجويه: ليلة الضيف واجبة، وليس له أن يأخذ قراه منهم قهرًا، إلا أن يكون مسافرًا في مصالح المسلمين العامة، دون مصلحة نفسه.
وقال الليث بن سعد: لو نزل الضيف بالعبد أضافه من المال الذي بيده، وللضيف أن يأكل، وإن لم يعلم أن سيده أذن؛ لأن الضيافة واجبة، وهو قياس قول أحمد؛ لأنه نَصّ على أنه يجوز إجابة دعوة العبد المأذون له في التجارة، وقد رُوي عن جماعة من الصحابة أنهم أجابوا دعوة المملوك، وروي ذلك عن النبي ﷺ أيضًا، فإذا جاز له أن يدعو الناس إلى طعامه ابتداءً جاز إجابة دعوته، فإضافته لمن نَزَل به أولى.
ومنع مالك، والشافعيّ، وغيرهما من دعوة العبد المأذون له بدون إذن سيده، ونَقَل على بن سعيد عن أحمد ما يدلّ على وجوب الضيافة للغزاة خاصّة بمن مَرّوا بهم ثلاثة أيام، والمشهور عنه الأول، وهو وجوبها لكل ضيف نزل بقوم، واختَلَفَ قوله: هل تجب على أهل الأمصار والقرى، أم تختص بأهل القرى، ومن كان على طريق يمر بهم المسافرون؟ على روايتين منصوصتين عنه، والمنصوص عنه أنها تجب للمسلم والكافر، وخَصّ كثير من أصحابه الوجوب للمسلم، كما لا تجب نفقة الأقارب مع اختلاف الدين على إحدى الروايتين، فأما اليومان الآخران، وهما الثاني والثالث فهما تمام الضيافة، والنصوص عن أحمد أنه لا يجب إلا الجائزة الأولى، وقال: قد فَرّق بين الجائزة والضيافة، والجائزةُ أوكد، ومن أصحابنا – يعني الحنبليّة – من أوجب الضيافة ثلاثة أيام، منهم أبو بكر بن عبد العزيز، وابن أبي موسى، والآمدي، وما بعد الثلاث فهو صدقة.
قال الأثيوبي عفا الله تعالى عنه: هذا القول هو الأرجح عندي؛ لظهور حجته، فإن ظواهر النصوص تدلّ له، والله تعالى أعلم.
قال: وظنّ بعض الناس أن الضيافة ثلاثة أيام بعد اليوم والليلة الأولى، وردّه أحمد بقوله ﷺ: «الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة»، ولو كان كما ظَنّ هذا لكان أربعة.
قلت –أي: ابن رجب-: ونظير هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ أئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إلى قوله: ﴿وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ [فصلت ٩ – ١٠]، والمراد في تمام الأربعة.
وهذا الحديث الذي احتَجّ به أحمد قد تقدم من حديث أبي شُرَيح – رضي الله عنه -، وخرّجه البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن قِرى الضيف»، قيل: يا رسول الله، وما قِرى الضيف؟ قال: «ثلاثة، فما كان بعدُ فهو صدقة».
قال حُميد بن زنجويه: عليه أن يتكلف له في اليوم والليلة، من الطعام أطيب ما يأكله هو وعياله، وفي تمام الثالث يطعمهم من طعامه، وفي هذا نظر، وسنذكر حديث سلمان – رضي الله عنه – بالنهي عن التكلّف للضيف.
ونَقَل أشهب عن مالك قال: جائزته يوم وليلة، يكرمه، ويتحفه، ويخصّه يومًا وليلة، وثلاثة أيام ضيافة.
وكان ابن عمر يمتنع من الأكل من مال من نَزَل عليه فوق ثلاثة أيام، ويأمر أن يُنفَقَ عليه من ماله، ولصاحب المنزل أن يأمر الضيف بالتحول عنه بعد الثلاث؛ لأنه قَضى ما عليه، وفَعَلَ ذلك الإمام أحمد رحمه الله.
وقوله ﷺ: «لا يحل له أن يَثْوِيَ عنده حتى يُحْرِجه»، يعني يقيم عنده حتى يُضَيِّق عليه، لكن هل هذا في الأيام الثلاثة، أم فيما زاد عليها؟ فأما فيما ليس بواجب فلا شكّ، وأما ما هو واجب، وهو اليوم والليلة [- قد سبق ترجيح القول بوجوبها ثلاثة أيام، فلا تغفل -]، فَيُبْنى على أنه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئًا، أم لا تجب إلا على من وجَدَ ما يُضيف به؟ فإن قيل: إنها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به، وهو قول طائفة من أهل الحديث، منهم حُمَيد بن زنجويه، لم يَحِلّ للضيف أن يستضيف
من هو عاجز عن ضيافته، وقد رُوِي من حديث سلمان – رضي الله عنه – قال: نهانا رسول الله ﷺ أن نتكلف للضيف ما ليس عندنا [رواه أحمد ٥٤٤١، والطبرانيّ في «الكبير» (٦٠٨٣ و٦٠٨٤ و٦٠٨٥ و٦١٨٧). قال الهيثمي في «المجمع» ٨/ ١٧٩: أحد أسانيد «الكبير» رجاله رجال الصحيح]، فإذا نُهِي المُضِيف أن يتكلف للضيف ما ليس عنده دلّ على أنه لا تجب عليه المواساة للضيف، إلا بما عنده، فإذا لم يكن عنده فَضْلٌ لم يلزمه شيء، وأما إذا آثر على نفسه، كما فَعَل الأنصاري الذي نَزَل فيه: ﴿ويُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾ [الحشر ٩]، فذلك مَقام فضل وإحسان، وليس بواجب، ولو عَلِم الضيف أنهم لا يُضيفونه إلا بقوتهم وقوت صبيانهم، وأن الصبية يتأذون بذلك، لم يجز له استضافتهم حينئذ؛ عملًا بقوله ﷺ: «ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يُحرِجه» [متفقٌ عليه].
وأيضا فالضيافة نفقة واجبة، ولا تجب إلا على من عنده فضل عن قوته وقوت عياله، كنفقه الأقارب، وزكاة الفطر.
وقد أنكر الخطابي تفسير تأثيمه بأن يقيم عنده، ولا شيء له يَقريه به، وقال: أراه غَلَطًا، وكيف يأثم في ذلك، وهو لا يتسع لقراه، ولا يجد سبيلًا إليه؟ وإنما الكلفة على قدر الطاقة، قال: وإنما وجه الحديث أنه كره له المقام عنده بعد ثلاث؛ لئلا يَضِيق صدره بمكانه، فتكون الصدقة منه على وجه المَنّ والأذى، فيبطل أجره.
أو ربما دعاه ضِيق صدره به، وحَرَجه إلى ما يأثم به في قول أو فعل، وليس المراد أنه يأثم بترك قراه، مع عجزه عنه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى [«جامع العلوم والحكم» ١/ ٣٣٢ – ٣٦٠]، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [البحر الثجاج للأثيوبي]
ثانيًا: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
أولا: فضل إكرام الضيف :
الضيافة من آداب الإسلام ، وخلق النبيين والصالحين ، وأمارة من أمارات صدق الإيمان.
ويكون الأدب مع الضيف بإكرامه بطلاقة الوجه، وحسن اللقاء ، وطيب الكلام، والإطعام ونحو ذلك، مما جرى العرف عليه.
ويقدم له في أول يوم ينزله عنده أحسن ما يأكل منه هو وعياله، ويجتهد في إتحافه، وتقديم أحسن ما يجده له.
روى البخاري (6019) ومسلم (48)، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ))، قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: ((يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
قال الحافظ رحمه الله: ” قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الضَّيْف أَنْ يُتْحِفهُ، وَيَزِيدهُ فِي الْبِرّ عَلَى مَا بِحَضْرَتِهِ يَوْمًا وَلَيْلَة, وفي الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يُقَدِّم لَهُ مَا يَحْضُرهُ, فَإِذَا مَضَى الثَّلَاث فَقَدْ قَضَى حَقّه، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ مِمَّا يُقَدِّمهُ لَهُ يَكُون صَدَقَة” انتهى.
قال الخطابي رحمه الله :قوله : (جائزته يوم وليلة) سئل مالك بن أنس عنه فقال : يُكرمه ، ويتحفه ، ويخصه ، ويحفظه ، يوماً وليلة ، وثلاثة أيام ضيافة .قلت : يريد أنه يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له من بِر ، وألطاف ، ويقدِّم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته ، ولا يزيد على عادته ، وما كان بعد الثلاث : فهو صدقة ، ومعروف ، إن شاء فعل ، وإن شاء ترك . “معالم السنن” (4/238) .
ثانيا: حكم الضيافة:ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ سُنَّةٌ، وَمُدَّتُهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالرِّوَايَةُ الأْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ – وَهِيَ الْمَذْهَبُ – أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَمُدَّتُهَا يَوْمٌ لَيْلَةٌ، وَالْكَمَال ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَبِهَذَا يَقُول اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. “الموسوعة الفقهية” (28 / 316-317)والقول بوجوب ضيافة يوم وليلة هو الراجح.
وقال ابن قدامة رحمه الله : “والواجب يوم ليلة ، والكمال ثلاثة أيام ؛ لما روى أبو شريح الخزاعي – وساق الحديث -” انتهى. “المغني” (11/91) .
وقال ابن القيم رحمه الله :”إن للضيف حقّاً على مَن نزل به، وهو ثلاث مراتب: حق واجب، وتمام مستحب، وصدقة من الصدقات، فالحق الواجب: يوم وليلة, وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المراتب الثلاثة في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي شريح الخزاعي” انتهى . “زاد المعاد” (3/658).
وقال الشوكاني رحمه الله:”والحق وجوب الضيافة لأمور:الأول: إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب.والثاني: التأكيد البالغ بجعل ذلك فرع الإيمان بالله واليوم الآخر يفيد أن فعل خلافه فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومعلوم أن فروع الإيمان مأمور بها، ثم تعليق ذلك بالإكرام وهو أخص من الضيافة فهو دال على لزومها بالأولي.
والثالث: قوله: (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) فإنه صريح في أن ما قبل ذلك غير صدقة، بل واجب شرعا.
قال الخطابي: يريد أن يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وألطاف، ويقدم له في اليوم الثاني ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته، فما جاوز الثلاث فهو معروف وصدقة إن شاء فعل وإن شاء ترك” انتهى. “نيل الأوطار” (9 / 30).
والراجح – والله أعلم – أن ضيافة المسافر المجتاز – لا المقيم – واجبة ، وأن وجوبها على أهل القرى ، والأمصار ، دون تفريق.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرح قول الحجاوي رحمه الله : “وَتَجِبُ ضِيَافَةُ المُسْلِمِ الْمُجْتَازِ بِهِ فِي الْقُرَى يَوْماً وَلَيْلَةً” .
قال : قوله : ” وتجب ضيافة المسلم ” : ” تجب ” هذا بيان حكم الضيافة ، والضيافة أن يَتلقَّى الإنسان مَن قدم إليه ، فيكرمه ، وينزله بيته ، ويقدم له الأكل ، وهي من محاسن الدين الإسلامي ، وقد سبقنا إليها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كما قال الله تعالى : ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ) الذاريات/ 24، أي : الذين أكرمهم إبراهيم ، ولا يمتنع أن يقال : والذين أكرمهم الله عزّ وجل بكونهم ملائكة .
فحكم الضيافة واجب ، وإكرام الضيف – أيضاً – واجب ، وهو أمر زائد على مطلق الضيافة ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) ، أي : من كان يؤمن إيماناً كاملاً : فليكرم ضيفه … .
قوله : ” المجتاز به ” يعني : الذي مرَّ بك وهو مسافر ، وأما المقيم : فإنه ليس له حق ضيافة ، ولو كان المقيم له حق الضيافة : لكان ما أكثر المقيمين الذين يقرعون الأبواب ! فلا بد أن يكون مجتازاً ، أي : مسافراً ومارّاً ، حتى لو كان مسافراً مقيماً يومين ، أو ثلاثة ، أو أكثر : فلا حق له في ذلك ، بل لا بد أن يكون مجتازاً .
قوله : ” في القرى ” دون الأمصار ، والقرى : البلاد الصغيرة ، والأمصار : البلاد الكبيرة ، قالوا : لأن القرى هي مظنة الحاجة ، والأمصار بلاد كبيرة فيها مطاعم ، وفنادق ، وأشياء يستغني بها الإنسان عن الضيافة ، وهذا – أيضاً – خلاف القول الصحيح ؛ لأن الحديث عامّ ، وكم من إنسان يأتي إلى الأمصار وفيها الفنادق ، وفيها المطاعم ، وفيها كل شيء ، لكن يكرهها ويربأ بنفسه أن يذهب إليها ، فينزل ضيفاً على صديق ، أو على إنسان معروف ، فلو نزل بك ضيف – ولو في الأمصار – : فالصحيح : الوجوب . “الشرح الممتع على زاد المستقنع” (15/48 – 51) باختصار .
ومن كان مدينته على الطريق أو مكة أو المدينة وهو من أهل العلم ، فكم يمرون به . فله أن ينظم وقته فيحدد أيام لإستقبال الضيوف.
ثالثا : المقصود إكرامه من الضيوف :
الضيف المقصود بالإكرام هو المسافر الذي يجتاز بغيره في الطريق، وليس المراد به من كان من أهل البلد، فذهب إلى بيت صاحبه.ومما يدل على ذلك صراحة ما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذلك ، وأن الحق للضيف إنما هو للمسافر ، وليس للمقيم ، ومنه: عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّك تَبْعَثُنَا فَنَمُرُّ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَنَا [أي لا يقدموا لنا حق الضيف] ، فَمَاذَا تَرَى ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم : (إِنْ أَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ) رواه البخاري (2329) ومسلم (1727).
ثانيا : على من تجب ؟ سبق نقل كلام ابن رجب
ثالثا : هل يحل له أخذ قدر حاجته إذا لم يضيف بما يحتاجه إذا ترك المضيف حق ضيفه عليه، فلم يقدم له ما يحتاجه، فهل له أن يأخذ بقدر ضيافته بالمعروف، ولو لم يأذنوا به ؟
إلى ذلك ذهب بعض أهل العلم القائلين بوجوب الضيافة، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد؛ لأن الشرع قد جعل ذلك حقا له، فإن لم يعطه المضيف طوعا، كان له أن يأخذه قهرا؛ إما بنفسه، أو عن طريق القضاء؛ لما رواه أبو داود (3804) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((وَأَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْمًا فَلَمْ يَقْرُوهُ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ)).
وروى الإمام أحمد (8725) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ)). صححه الألباني في “الصحيحة” (640) .
وروى البخاري (6137) ومسلم (1727) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى ؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ).
قال الإمام أحمد رحمه الله :”يعني: أن يأخذ من أرضهم وزرعهم وضرعهم بقدر ما يكفيه بغير إذنهم” انتهى . من “المغني” (9/343).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :” الضيف إذا نزل بشخص وامتنع من ضيافته، فإن للضيف أن يأخذ من ماله ما يكفيه لضيافته بالمعروف من غير علمه ؛ لأن الحق في هذا ظاهر؛ فإن الضيف إذا نزل بالشخص يجب عليه أن يضيفه يوما وليلة حقاً واجباً ، لا يحل له أن يتخلف عنه” انتهى. “فتاوى نور على الدرب” (234 / 8).
وذهب جمهور العلماء إلى أن الضيف لا يحل له أن يأخذ من مال مضيفه شيئا بغير إذنه، حتى ولو يقدم له ما ينبغي في ضيافته، أو لم يضفه أصلا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ)) رواه أحمد (20172) وصححه الألباني.
وهذا ظاهر على مذهب الجمهور الذين يرون الضيافة مكرمة ومستحبة، ولا يرون وجوبها من حيث الأصل.
قال ابن عبد البر رحمه الله:”وقد روى الربيع عن الشافعي أنه قال : الضيافة على أهل البادية والحاضرة حق واجب في مكارم الأخلاق ، وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة .
وقال سحنون إنما الضيافة على أهل القرى وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر” انتهى . من التمهيد(21/43) .
وأما على مذهب الإمام أحمد في وجوب الضيافة ، فقد سبق النقل ـ في رواية عنه ـ أن ذلك خاص بالغزاة في سبيل الله فقط، وأما غيرهم فلا يأخذ إلا ما أعطاه المضيف.
قال ابن قدامة رحمه الله :
” قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الضِّيَافَةِ , أَيَّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِيهَا ؟ قَالَ هِيَ مُؤَكَّدَةٌ, وَكَأَنَّهَا عَلَى أَهْلِ الطُّرُقِ وَالْقُرَى الَّذِينَ يَمُرُّ بِهِمْ النَّاسُ أَوْكَدُ, فَأَمَّا مِثْلُنَا الْآنَ, فَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ أُولَئِكَ” انتهى . من “المغني” (9/343) .
فالأحوط ألا يأخذ شيئا منه قهرا ، لقوة الخلاف فيه ، واحتمال خصوصية الأخذ قهرا ببعض الأحوال ، كالمضطر إلى الضيافة ، أو نحو ذلك .
وينظر : “فتح الباري” ، لابن حجر (5/108).
تكلم الماوردي على تفاصيل أخرى:
(فَصْلٌ):
“وأمّا الفَصْلُ الثّالِثُ: فِي بَيانِ الضِّيافَةِ، فَيُعْتَبَرُ فِيها ثَلاثَةُ شُرُوطٍ:
أحَدُها: عَدَدُ الأضْيافِ.والثّانِي: أيّامُ الضِّيافَةِ.والثّالِثُ: قَدْرُ الضِّيافَةِ…… ثم ذكر تفاصيل هذه المسائل فليراجع.
[الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: ٤٥٠هـ) ((14/305-307))]
وراجع لتفاصيل أكثر [ المطلع على دقائق زاد المستقنع «فقه القضاء والشهادات»]