1141 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1141):
قال الإمام أحمد رحمه الله : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا ظَبْيَةَ الْكَلَاعِيَّ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: ((مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا ؟)) قَالُوا: حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: ((لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ)). قَالَ: فَقَالَ: ((مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ ؟)) قَالُوا: حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ. قَالَ: ((لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ)).
قال الوادعي رحمه الله: هذا حديث حسن.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
انظر التعليقات في الصحيح المسند فيما يتعلق بالجار: (378)، (791)، (793). السرقة: (1587)، (449)، (1349)، (1531) من الأحاديث الملحقة.الزنا: (1587)، (449)، (1531) من الأحاديث الملحقة، (500)، (672)، (908)، (1369).
وحديثنا : قال محققو المسند 23854 : إسناده جيد. علي بن عبد الله: هو ابن المديني.
وأخرجه البخاري في “الأدب المفرد” (103) ، وفي “التاريخ الكبير” 8/54، والطبراني في “الكبير” 20/ (605) ، وفي “الأوسط” (6329) من طرق عن محمد ابن فضيل، بهذا الإسناد. قال الطبراني في “الأوسط”: لا يروى هذا الحديث عن المقداد إلا بهذا الإسناد، تفرد به محمد بن فضيل.
وقال المنذري في “الترغيب والترهيب” 3/279 و352، والهيثمي في “مجمع الزوائد” 8/168: رجاله ثقات.
وفي باب عظم جرم الزاني بامرأة جاره عن ابن مسعود سلف برقم (3612) .
وعن ابن عمر عند الخرائطي في “مساوىء الأخلاق” (491) .
وأخرجه أيضا البيهقي في شعب الإيمان 9105 من طريق سعيد بن منصور نا محمد بن فضيل به
وابوظبية وثقه ابن معين . وقال الدارقطني : لا بأس به ويقال أبو طيبة والأول أصح الكلاعي الحمصي
ومحمد بن سعد الأنصاري الشامي قال ابن معين : ليس به بأس
وحسن إسناده صاحب أنيس الساري . والألباني في الصحيحة.
قال ابن كثير :
يشهد له حديث ابن مسعود. قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم قال : أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك. قتل : ثم أي : قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت : ثمَّ أي : قال : أن تزاني حليلة جارك. أخرجه البخاري ومسلم
والشيخ مقبل ذكره في الجامع الصحيح في الرد على المجبرة والشاهد من الأدلة إضافة الأفعال إلى أصحابها
وفي باب تحريم الزنا وفي باب تعظيم حق الجار وباب قوله تعالى ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ) وباب قوله ( ولا تقربوا الزنا إنه كان. .. )
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): ما ينبغي أن يكون تجاه الجار من حقوق أمران عظيمان:
الأول: أن يُعنى بإكرام جاره والإحسان إليه بما تعنيه هذه الكلمة من دلالة ومعنى ، جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)) ، وجاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال : ((فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)) . فالإكرام والإحسان لفظتان عظيمتان ومطلبان جليلان ينبغي لكل مسلم أن يعنى بهما تمام العناية في حق جاره إكراماً وإحسانا . وفي الحديث أمرٌ بالإكرام والإحسان ولم يحدِّد نوعاً معيَّناً منه ليتناول كل إكرامٍ وكل إحسانٍ مستطاع ؛ ليكون ذلكم باباً للتنافس بين عباد الله المؤمنين ، كلٌّ مع جاره إحساناً وإكراماً فيما يستطيعه من إحسان وإكرام . وكلما زاد الإحسان وزاد الإكرام عظُم الثواب وعظُم الأجر ؛ لأن هذا الإكرام وهذا الإحسان من الإيمان بالله جلَّ وعلا واليوم الآخر .
الأمر الثاني: أن يحرص على أن لا يصِل إلى جاره منه أيَّ أذى ، لا أذىً قولي ولا أذىً فعلي ، يتجنب ذلك تمام التجنب لأن ذلكم يُعَدُّ تضييعاً لحق الجار وإساءةً إليه وتعريضاً للنفس لعقوبة الله تبارك وتعالى . ولنتأمل في هذا المقام ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ )) قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ )) ، وجاء في حديث آخر في مسند الإمام أحمد أنَّ الصحابة رضي الله عنهم قالوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ : (( شَرُّهُ )) . وروى البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (( قالوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَتَفْعَلُ وَتَصَّدَّقُ وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا خَيْرَ فِيهَا هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ )) – قالوا : ((وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ – أي بشيءٍ زهيد – وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ )) .
((لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بيت جَارِهِ)) ، وهذا فيه التنبيه إلى أن التعرض للجار بأي نوعٍ من الأذى عقوبته أعظم وإثمه أكبر ؛ لما فيه من خَرْقٍ واعتداءٍ على جارٍ له حق عليه ، بل إن الواجب على الجار مع جاره أن يحوطه بأخلاقه وتعاملاته ، وأن يحرص على معاونته ومساعدته ، وأن يحرص على الدفاع عنه والذب عنه ، إلى غير ذلكم من المعاني العظيمة والآداب الكريمة ، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك فلا أقلَّ من أن يكفَّ أذاه فلا يصل إلى جاره شيء من الأذى. [خطبة: حقوق الجار للشيخ عبدالرزاق البدر باختصار ]
(المسألة الثانية): من أعظم الزنا :
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:قالَ الإمامُ أحْمَدُ: لا أعْلَمُ بَعْدَ القَتْلِ ذَنْبًا أعْظَمَ مِنَ الزِّنا، واحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: ((يا رَسُولَ اللَّهِ: أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ، قالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ مَخافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ أنْ تُزانِيَ بِحَلِيلَةِ جارِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَها))، ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: ٦٨].والنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ مِن كُلِّ نَوْعٍ أعْلاهُ لِيُطابِقَ جَوابُهُ سُؤالَ السّائِلِ، فَإنَّهُ سَألَهُ عَنْ أعْظَمِ الذَّنْبِ، فَأجابَهُ بِما تَضَمَّنَ ذِكْرَ أعْظَمِ أنْواعِها، وما هو أعْظَمُ كُلِّ نَوْعٍ. فَأعْظَمُ أنْواعِ الشِّرْكِ أنْ يَجْعَلَ العَبْدُ لِلَّهِ نِدًّا. وَأعْظَمُ أنْواعِ القَتْلِ: أنْ يَقْتُلَ ولَدَهُ خَشْيَةَ أنْ يُشارِكَهُ في طَعامِهِ وشَرابِهِ. وَأعْظَمُ أنْواعِ الزِّنا: أنْ يَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جارِهِ، فَإنَّ مَفْسَدَةَ الزِّنا تَتَضاعَفُ بِتَضاعُفِ ما انْتَهَكَهُ مِنَ الحَقِّ. فالزِّنا بِالمَرْأةِ الَّتِي لَها زَوْجٌ أعْظَمُ إثْمًا وعُقُوبَةً مِنَ الَّتِي لا زَوْجَ لَها، إذْ فِيهِ انْتِهاكُ حُرْمَةِ الزَّوْجِ، وإفْسادُ فِراشِهِ وتَعْلِيقُ نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِنهُ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِن أنْواعِ أذاهُ، فَهو أعْظَمُ إثْمًا وجُرْمًا مِنَ الزِّنا بِغَيْرِ ذاتِ البَعْلِ. فالزِّنا بِمِائَةِ امْرَأةٍ لا زَوْجَ لَها أيْسَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الزِّنا بِامْرَأةِ الجارِ، وأذية الجارِ بِأعْلى أنْواعِ الأذى مِن أعْظَمِ البَوائِقِ.وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ» ولا بائِقَةَ أعْظَمُ مِنَ الزِّنا بِامْرَأةِ الجارِ.فَإنْ كانَ الجارُ أخًا لَهُ أوْ قَرِيبًا مِن أقارِبِهِ انْضَمَّ إلى ذَلِكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، فَيَتَضاعَفُ الإثْمُ لَهُ، فَإنْ كانَ الجارُ غائِبًا في طاعَةِ اللَّهِ كالصَّلاةِ وطَلَبِ العِلْمِ والجِهادِ تَضاعَفَ لَهُ الإثْمُ، حَتّى إنَّ الزّانِيَ بِامْرَأةِ الغازِي في سَبِيلِ اللَّهِ يُوقَفُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، ويُقالُ خُذْ مِن حَسَناتِهِ ما شِئْتَ.قالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَما ظَنُّكُمْ؟ أيْ ما ظَنُّكم أنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ حَسَناتٍ، قَدْ حُكِّمَ في أنْ يَأْخُذَ مِنها ما شاءَ؟ عَلى شِدَّةِ الحاجَةِ إلى حَسَنَةٍ واحِدَةٍ، حَيْثُ لا يَتْرُكُ الأبُ لِابْنِهِ ولا الصَّدِيقُ لِصَدِيقِهِ حَقًّا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإنِ اتَّفَقَ أنْ تَكُونَ المَرْأةُ رَحِمًا مِنهُ انْضافَ إلى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِها، فَإنِ اتَّفَقَ أنْ يَكُونَ الزّانِي مُحْصَنًا كانَ الإثْمُ أعْظَمَ، فَإنْ كانَ شَيْخًا كانَ أعْظَمَ إثْمًا، وهو أحَدُ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ، فَإنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أنْ يَكُونَ في شَهْرٍ حَرامٍ أوْ بَلَدٍ حَرامٍ أوْ وقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ، كَأوْقاتِ الصَّلاةِ وأوْقاتِ الإجابَةِ، تَضاعَفَ الإثْمُ. وعَلى هَذا فاعْتَبِرْ مَفاسِدَ الذُّنُوبِ وتَضاعُفَ دَرَجاتِها في الإثْمِ والعُقُوبَةِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ. [تفسير ابن قيّم الجوزيّة، تفسير قوله تعالى: {ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی فَٱجۡلِدُوا۟ كُلَّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا مِا۟ئَةَ جَلۡدَةࣲۖ ..} الآية [النور ٢]، وذكر فيه فصل فيما يتعلق بذلك]
قال النَّووي في “شرح صحيح مسلم”: “وقوْله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أنْ تُزاني حَلِيلة جَارك» هي بِالحاءِ المُهْمَلة، وهي زوجته، سُمِّيتْ بِذلك لِكوْنِها تَحِلُّ له، وقيلَ: لِكونِها تَحِلُّ مَعَه، ومعْنَى تُزاني؛ أي: تَزْنِي بِهَا بِرضاها، وذلك يَتَضَمَّن الزِّنَا، وإفْسادها على زَوْجها، واسْتِمالة قَلْبها إلى الزَّاني، وذلك أفْحَشُ، وهُوَ مع امْرَأة الجار أشَدُّ قُبْحًا وأعْظَمُ جُرْمًا؛ لأنَّ الجار يتَوقَّع مِنْ جاره الذَّبَّ عَنهُ وعن حَريمه، ويأمَن بَوائِقه، ويَطْمَئِنُّ إليه، وقد أُمِرَ بإكْرامه والإحْسان إليه، فإذا قابل هذا كُلَّه بالزِّنا بِامْرأته وإفْسادها عليه، مَعَ تمَكُّنه مِنْها على وَجْهٍ لا يَتَمَكَّن غَيْرُه مِنه – كان في غايةٍ مِن القُبح”. اهـ.
(المسألة الثالثة):
« – حقوق الجوار»:
جاءت النّصوص الشّرعيّة تحضّ على احترام الجوار ، ورعاية حقّ الجار:
قال اللّه عزّ وجلّ : «وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا» .
فالجار ذو القربى ، هو الّذي بينك وبينه قرابة.والجار الجنب : هو الّذي لا قرابة بينك وبينه.
أمّا السّنّة فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم : « ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه».
وقوله صلوات الله وسلامه عليه: «واللّه لا يؤمن، واللّه لا يؤمن، واللّه لا يؤمن».
قيل : من يا رسول اللّه ؟ قال : «من لا يأمن جاره بوائقه ».
قال ابن بطّال : في هذا الحديث تأكيد حقّ الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وتكريره اليمين ثلاث مرّات ، وفيه نفي الإيمان عمّن يؤذي جاره بالقول ، أو بالفعل ، ومراده الإيمان الكامل.
ولا شكّ أنّ العاصي غير كامل الإيمان.
وقوله عليه الصلاة والسلام : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ».
وقوله صلى الله عليه وسلم : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم جاره ».
* هذا واسم « الجار» جاء في هذا المقام يشمل المسلم ، وغير المسلم ، والعابد والفاسق ، والغريب والبلديّ ، والنّافع والضّارّ ، والقريب والأجنبيّ ، والأقرب داراً والأبعد ، وله مراتب بعضها أعلى من بعض.
قال أحمد: الجيران ثلاثة : جار له حقّ، وهو الذّمّيّ الأجنبيّ له حقّ الجوار.
وجار له حقّان: وهو المسلم الأجنبيّ له حقّ الجوار ، وحقّ الإسلام.
وجار له ثلاثة حقوق: وهو المسلم القريب له حقّ الجوار، وحقّ الإسلام، وحقّ القرابة.
وأولى الجوار بالرّعاية من كان أقربهم باباً.
وإلى هذا أشار البخاريّ حين، قال: باب : حقّ الجوار في قرب الأبواب.وأدرج تحته حديث: عائشة رضي الله عنها، قالت : يا رسول اللّه : إنّ لي جارين، فإلى أيّهما أهدي ؟ قال : «إلى أقربهما منك باباً».
ثم إن إساءة الجوار من عادات الجاهلية التي بعث الله نبيه لتغييرها، ويتضح هذا من جواب جعفر بن أبي طالب للنجاشي حين سأله عن هذا الدين الجديد، فقال له جعفر: “أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّة، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام -فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلام- فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا” (رواه أحمد).
فللجار حقوق :
أولا : كف الأذى عنه، هذا الحق واجب على المسلمين، فلا يجوز لهم بحال إيذاء أحد من الناس ما دام مسالما، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ» (رواه البخاري)، وعَنْه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ» (أخرجه أحمد وصححه الألباني). ومن صور إيذاء الجار -عباد الله- حسده وتمني زوال النعمة عنه، أو السخرية به واحتقاره، أو إشاعة أخباره وأسراره بين الناس، أو الكذب عليه وتنفير الناس منه، أو تتبّع عثراته والفرح بزلاته، أو مضايقته في المسكن ، أو إلقاء الأذى عند بابه، أو التطلّع إلى عوراته ومحارمه، أو إزعاجه بالصراخ والأصوات المنكرة، أو إيذائه في أبنائه.
ومن حقوق الجوار ما ذكره الغزاليّ في قوله: ليس حقّ الجوار كفّ الأذى فقط، بل احتمال الأذى، فإنّ الجار أيضاً قد كفّ أذاه، فليس في ذلك قضاء حقّ ولا يكفي احتمال الأذى بل لا بدّ من الرّفق، وإسداء الخير والمعروف. ومنها: أن يبدأ جاره بالسّلام، ويعوده في المرض، ويعزّيه عند المصيبة، ويهنّئه عند الفرح، ويشاركه السّرور بالنّعمة، ويتجاوز عن زلّاته، ويغضّ بصره عن محارمه، ويحفظ عليه داره إن غاب، ويتلطّف بولده، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه. هذا إلى جملة الحقوق الثّابتة لعامّة المسلمين.
وقال ابن تيميّة: إنّ المجاورة توجب لكلّ من الحقّ ما لا يجب لأجنبيّ، وتحرم عليه ما لا يحرم على الأجنبيّ.
فيبيح الجوار الانتفاع بملك الجار الخالي من ضرر الجار، ويحرم الانتفاع بملك الجار إذا كان فيه إضرار.
الحقّ الثاني: الإهداء إليه وبذل المعروف، فكم من هدية أوقعت في قلب المهدى إليه أثرا عظيما، فهي تقرب النفوس وتزيل الأحقاد وتبرهن على صدق المودة وعظيم المحبة، فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» (رواه البخاري)، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» (رواه مسلم). فكان فيما بعد إذا طبخ لحما أكثر ماءه وأهدى إلى جيرانه ويقول: إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ» (رواه مسلم). وذُبح لعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (رواه الترمذي). وسألت عائشة رضي الله عنها رَسُولَ اللَّهِ فقالت: إِنَّ لِي جَارَتيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا» (رواه البخاري).
كان يهدي للناس ويقبل الهدية، حتى إنه ليستغني بها هو وأزواجه أياما طويلة، بل أشهرا عديدة، فقد كانت عَائِشَة رضي الله عنها تَقُول لابن أختها: “وَاللَّهِ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلالِ ثُمَّ الْهِلالِ ثُمَّ الْهِلالِ ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ نَارٌ، قَالَ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟! قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَار، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ” (متفق عليه). فهذه هي السنة في العطية للجار، وعدم منع المعروف عنه، وإلا صار خصما له يوم القيامة عند الملك العدل سبحانه، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد قول رسول الله: «كم من جار متعلّق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب، هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه» (وحسنه الألباني).
الحق الثالث: محبّة الخير له كما يحبها العبد لنفسه وعدم حسده، فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ قَالَ: لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (أخرجه مسلم).
الحق الرابع: مساعدته ماديًا فيما يحتاج إليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ للناس لما رأى من تقصيرهم في حقوق جيرانهم: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ (رواه مسلم). ولقد ضرب أصحاب رسول الله أروع الأمثلة في التعاون والمساعدة فيما بينهم، حتى استحقوا إطراء النبي لهم وثناءه عليهم، فقَالَ عليه الصلاة والسلام في الأشعريين: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» (متفق عليه).
الحق الخامس: الحفاظ على عوراته وعدم خيانته في أهله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» (رواه مسلم)، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر قَالَ: سألت رَسُولُ اللَّهِ: أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَر؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْت: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} (رواه البخاري).
الحق السادس: مواساته وعدم إضجاره وإحزانه، خاصة إذا كان كبير السن، قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/554): سمعت محمد بن حامد البزاز يقول: دخلنا على أبي حامد الأعمش وهو عليل، فقلت: كيف تجدك؟ قال: أنا بخير لولا هذا الجار، يعني أبا حامد الجلودي، دخل عليّ أمس وقد اشتدّت بي العلّة فقال: يا أبا حامد، علمت أن زنجويه مات، فقلتُ: رحمه الله، فقال: دخلت اليوم على المؤمل بن الحسن وهو في النزع، ثم قال أيضًا: يا أبا حامد، كم عمرك؟ قلت: أنا في السادس والثمانين، فقال: إذًا أنت أكبر من أبيك يومَ مات، فقلت: أنا بحمد الله في عافية فعلت البارحة كذا، واليوم فعلت كذا وكذا، فخجل وقام.
—-
فضائل الإحسان للجار :
أولا : أن الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب للتفاضل بين الناس، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (أخرجه الترمذي وصححه الألباني).
ثانيا : أن الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب لمغفرة الذنوب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاّ قَالَ اللَّهُ عز وجل: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ» (رواه أحمد وحسنه الألباني).
ثالثا : أن الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب للثناء والمدح في الدنيا، وعكسه موجب للذم والعقوبة. ذكر ابن إسحاق أن حسان بن ثابت قال يهجو حيا من العرب غدروا بأصحاب النبيّ فقتلوهم على ماء يقال له الرجيع: إن سرك الغدر صرفًا لا مزاج له *** فأتِ الرجيع فسل عن دار لحيان قوم تواصوا بأكل الْجار بينهم *** فالكلب والقرد والإنسان مثلان لو ينطق التيس يوما قام يَخطُبهم *** وكان ذا شرف فيهم وذا شان
رابعا : ومما يدل على أهمية حق الجار أن الله عظَّم الخطيئة في حق الجار، فعن الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ: «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟ ….
خامسا : أن الجار الصالح من أسباب سعادة العبد، وعكسه من أسباب شقائه، فعن سلمان قال رسول الله: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق» (أخرجه الألباني في الصحيحة).
—–
«حفظ حرمة الجار»:
– المراد من هذا الحقّ حفظ حرمة الجار، وستر عياله؛ وذلك يكون بالجدار السّاتر، وبالنّافذة الّتي لا يطلّ منها الجار على حريم جاره.
أمّا الجدار السّاتر، فإن لم يكن قائما بين الملكين من قديم، وأراد أحدهما أن يبنيه بالاشتراك مع الآخر ليحجز بين ملكيهما، فامتنع الآخر لم يجبر عليه.
وإن أراد البناء وحده لم يكن له البناء إلاّ في ملكه خاصّة؛ لأنّه لا يملك التّصرّف في ملك جاره المختصّ به.
وهذا كلّه لا يعلم فيه خلاف.
غير أنّ ابن تيميّة سئل عن بستان مشترك حصلت فيه القسمة، فأراد أحد الشّريكين أن يبني بينه وبين جاره جداراً ، فامتنع أن يدعه يبني، أو يقوم معه على البناء.
فأجاب: يجبر على ذلك، ويؤخذ الجدار من أرض كلّ منهما بقدر حقّه.
فإن كان الجدار قديماً، فهدم ، وأراد أحدهما أن يبنيه ، وأبى الآخر ، فعند الحنفيّة أقوال. قال بعضهم : لا يجبر.وقال أبو اللّيث : في زماننا يجبر. لأنّه لا بدّ أن يكون بينهما سترة.
وقيل: ينبغي أن يكون الجواب على تفصيل : إن كان أصل الجدار يحتمل القسمة ، ويمكن لكلّ واحد منهما أن يبني في نصيبه سترة. لا يجبر الآبي على البناء.
وإن كان أصل الحائط لا يحتمل القسمة على هذا الوجه يؤمر الآبي بالبناء.
وعن مالك في ذلك روايتان : إحداهما : لا يجبر الّذي أبى منهما على البنيان ، ويقال لطالب البناء : استر على نفسك ، وابن إن شئت.
وله أن يقسم معه عرصة الحائط ، ويبني فيها لنفسه.
والرّواية الثّانية : يؤمر بالبنيان ، ويجبر عليه.
قال ابن عبد الحكم : وذلك أحبّ إلينا.
وإذا كان الجدار لأحدهما وهدمه إضراراً بجاره ، فإنّه يقضى عليه بإعادته على ما كان عليه؛ لأجل أن يستر على جاره.
وإذا هدم الجدار لإصلاحه أو انهدم بنفسه فلا يقضى على صاحبه أن يعيده، ويقال للجار استر على نفسك إن شئت.
ويرى الشّافعيّة – في الجديد – أنّه ليس للشّريك إجبار شريكه على عمارة الجدار ولو بهدم الشّريكين ، للمشترك لاستهدام أو غيره؛ لأنّ الممتنع يتضرّر بتكليفه العمارة ، والضّرر لا يزال بالضّرر.
وقيل : إنّ القاضي يلاحظ أحوال المتخاصمين فإن ظهر له أنّ الامتناع لغرض صحيح أو شكّ في أمره لم يجبره ، وإن علم أنّه عناد أجبره.
قال في الرّوضة : ويجري ذلك في النّهر ، والقناة ، والبئر المشتركة ، واتّخاذ سترة بين سطحيهما.
ولو هدم الجدار المشترك أحد الشّريكين بغير إذن الآخر لزمه أرش النّقص لا إعادة البناء؛ لأنّ الجدار ليس مثليّا ، وعليه نصّ الشّافعيّ في البويطيّ وإن نصّ في غيره على لزوم الإعادة.
وذهب الحنابلة إلى أنّه إن كان الجدار الّذي انهدم مشتركا وطالب أحدهما شريكه الموسر ببنائه معه أجبر المطلوب على البناء معه.
وأمّا في السّطح ، فإنّ الحنفيّة قد ذهبوا إلى أنّ من كان سطحه ، وسطح جاره سواء ، وفي صعوده السّطح يقع بصره في دار جاره ، فللجار أن يمنعه من الصّعود ما لم يتّخذ سترة.
وإن كان بصره لا يقع في دار جاره ، ولكن يقع على جيرانه إذا كانوا على السّطح لا يمنع من ذلك.
قال الإمام ناصر الدّين : هذا نوع استحسان ، والقياس أن يمنع.
وقال الصّدر الشّهيد : إنّ المرتقي يخبرهم وقت الارتقاء مرّة أو مرّتين حتّى يستروا أنفسهم.
وعند المالكيّة يجبر صاحب السّطح على أن يتّخذ سترة تحجبه عن جاره ، وعند الشّافعيّة لا يجبر على ذلك.
وعند الحنابلة يمنع الجار من صعود سطحه إذا كان ينظر حراماً على جاره ، ولذلك فإنّه يلزم باتّخاذ سترة إذا كان سطحه أعلى من سطح جاره.
فإن استويا في العلوّ اشتركا في بنائها ، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر بالسّترة فلزمتهما.
5- وأمّا النّافذة : فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يمنع صاحب العلوّ من فتح باب ، أو كوّة تطلّ على ساحة الجار.
وليس للجار حقّ المنع من ذلك.
وإنّما عليه أن يبني ما يستر جهته ، وهو ظاهر الرّواية.
وقال أبو السّعود : وبه يفتى.
وقيل : إن كانت الكوّة للنّظر ، وكانت السّاحة محلّ الجلوس للنّساء يمنع.
وذكر ابن عابدين أنّ عليه الفتوى.
وإن كان ارتفاع النّافذة عن أرض الغرفة مقدار قامة الإنسان ، فليس للجار أن يكلّفه سدّها.
وذهب المالكيّة إلى منع فتح نافذة يشرف منها الجار على دار جاره ، فإن فتح شيئاً من ذلك تعيّن سدّه.
وحدّ الإشراف هو ما روي أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كتب في رجل أحدث غرفة على جاره ، ففتح كوّة : أن يوضع وراء تلك الكوّة سرير ، ويقوم عليه رجل فإن كان ينظر إلى ما في دار الرّجل منع من ذلك وإن كان لا ينظر لم يمنع من ذلك.
أمّا النّافذة القديمة ، فإنّه لا يقضى بسدّها.
في قول الحنفيّة والمالكيّة.
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يمنع المالك من فتح نافذة ونحوها ولو كان يشرف بذلك على حريم جاره ، لتمكّن الجار من دفع الضّرر عن نفسه ببناء سترة تستره.
وذهب الحنابلة إلى أنّ النّافذة والباب ، ونحوهما ممّا يشرف الجار منه على حريم جاره يقضى بسدّه.
وإلاّ فلا.
«أثر الجوار في تقييد التّصرّف في الملك»:
– من أحكام الملك التّامّ أنّه يعطي المالك ولاية التّصرّف في المملوك على الوجه الّذي يختار ، كما يمنع غيره من التّصرّف فيه من غير إذنه ورضاه ، وهذا لا يكون إلاّ عندما يخلو الملك من أيّ حقّ عليه للآخرين.
ولكن هذا الحكم قد يقيّد بسبب الجوار لتجنّب الإضرار بالجار.
وقد اختلف الفقهاء في تقييد الملك لتجنّب الإضرار بالجار.
فذهب المالكيّة والحنابلة والحنفيّة فيما عليه الفتوى عندهم إلى أنّ المالك لا يمنع من التّصرّف في ملكه إلاّ إذا نتج عنه إضرار بالجار ، فإنّه يمنع عندئذ مع الضّمان لما قد ينتج من الضّرر.
وقيّد الحنفيّة والمالكيّة الضّرر بأن يكون بيّناً ، وحدّ هذا الضّرر عندهم أنّه : كلّ ما يمنع الحوائج الأصليّة يعني المنفعة الأصليّة المقصودة من البناء كالسّكنى ، أو يضرّ بالبناء أي يجلب له وهنا ويكون سبب انهدامه.
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ كلّ واحد من الملّاك له أن يتصرّف في ملكه على العادة في التّصرّف ، وإن تضرّر به جاره أو أدّى إلى إتلاف ماله ، كمن حفر بئر ماء أو حشّ فاختلّ به جدار جاره أو تغيّر بما في الحشّ ماء بئره ، لأنّ في منع المالك من التّصرّف في ملكه ممّا يضرّ جاره ضرراً لا جابر له فإن تعدّى بأن جاوز العادة في التّصرّف ضمن ما تعدّى فيه لافتياته.
والأصحّ : أنّه يجوز للشّخص أن يتّخذ داره المحفوفة بمساكن حمّاماً وطاحونة ومدبغة وإصطبلا وفرنا ، وحانوته في البزّازين حانوت حدّاد وقصّار ونحو ذلك كأن يجعله مدبغة ، إذا احتاط وأحكم الجدران إحكاماً يليق بما يقصده لأنّه يتصرّف في خالص ملكه وفي منعه إضرار به.
والثّاني : المنع للإضرار به.
ولمزيد من التّفصيل ينظر مصطلح : « تعلّي ، وحائط » .
«حكم الانتفاع بالجدار بين جارين»:
– ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الشّريك في الجدار المشترك ينتفع بمقدار نفع شريكه ، وليس له أزيد من ذلك إلاّ برضاء شريكه.
أمّا الجدار المملوك لأحد الجارين فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز للجار أن ينتفع بجدار جاره إلاّ بإذنه ولا يجبر عليه ، وهو شامل لجميع صور الانتفاع كالبناء وفتح كوّة وغرز خشبة ونحوه.
لحديث : « لا يحلّ لامرئ من مال أخيه إلاّ ما أعطاه عن طيب نفس » ولأنّه انتفاع بملك غيره بغير إذنه.
ولكن يندب لصاحب الجدار تمكين جاره من الانتفاع به لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره » .
والمفتى به عند الحنفيّة ومذهب الشّافعيّ في القديم ورواية عن أحمد وقول القاضي أبي يعلى وأبي الخطّاب وابن قدامة من الحنابلة أنّه يجوز للجار أن ينتفع بجدار جاره ويجبر مالكه على تمكينه من ذلك بشرط عدم الإضرار بالجدار وبشرط قيام الحاجة إليه لحديث أبي هريرة المتقدّم.
وللشّافعيّة في القديم تفصيل في الشّروط وهي : أن يستغني صاحب الجدار عنه ، وأن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدران ، وأن لا يبني عليه سقفاً ، وأن تكون الأرض له وأن لا يملك شيئا من جدران البقعة الّتي يريد تسقيفها ، أو لا يملك إلاّ جداراً واحداً.
وينظر مصطلح : « ارتفاق » « وحائط » .
«أثر الجوار في ثبوت حقّ الشّفعة»:
– ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الشّفعة لا تثبت إلاّ للشّريك غير المقاسم فلا يستحقّ الجار الشّفعة ; لأنّ الحدود في حقّه قد قسمت ، والطّرق قد صرفت ، وما شرعت الشّفعة إلاّ لدفع ضرر الشّركة ، وهو معنى منتف في الجار.
واستدلّوا بحديث جابر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بالشّفعة في كلّ ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطّرق فلا شفعة » .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الشّفعة تثبت للجار الملاصق.
لحديث قتادة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « جار الدّار أحقّ بالدّار » ولحديث عمرو بن الشّريد عن أبيه « أنّ رجلاً قال: يا رسول اللّه أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلاّ الجوار فقال صلى الله عليه وسلم : الجار أحقّ بسقبه ما كان » .
وهذا اللّفظ صريح في إثبات الشّفعة لجوار لا شركة فيه.
كما استدلّوا بحديث أبي رافع رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الجار أحقّ بصقبه » والصّقب هو القرب.
واستدلّوا من المعقول بأنّ الجوار في معنى الشّركة ، لأنّ ملك الجار متّصل بملك جاره اتّصال تأبيد وقرار ، والضّرر المتوقّع في الشّركة متوقّع في الجوار ، فيثبت حقّ الشّفعة للجار دفعاً لضرر الجوار قياساً على الشّركة.
«حقّ الجوار في المسيل»:
– ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا كان لجار حقّ المسيل على ملك جاره فليس لمن عليه حقّ المسيل أن يمنع جاره من هذا الحقّ.
وفي ذلك تفصيل ينظر في : « ارتفاق ، ومسيل » .
«حقّ الجوار في الطّريق»:
– المراد من هذا الحقّ معرفة ما لجوار الطّريق عليه ، ويقسّم الفقهاء الطّريق إلى نوعين : طريق نافذة وطريق غير نافذة ، وحقّ الجوار في كلّ منهما مغاير للآخر.
والتّفصيل في مصطلح : « طريق » .
«حقّ الجوار في النّهر»:
– المراد به ما ينشأ للجوار على النّهر ، وما للنّهر على الجوار ، بسبب الجوار.
وإنّ مدار هذا الحقّ مبنيّ على نوعي الأنهار العامّة والمملوكة.
ولجار النّهر العظيم ، كدجلة ، والفرات ، أن يسقي أرضه ، ودوابّه ، وينصب على النّهر دولابا ويشقّ نهراً إلى أرضه لسقايتها ، لأنّ هذه الأنهار ليست ملكا لأحد.
ويجوز له غرس شطّه على وجه لا يضرّ بالمارّة ولمن شاء من المسلمين أن يطلب رفع ذلك.
وعلى الجار أن يمكّن النّاس من حقّ المرور على شطّ النّهر العامّ للسّقي ، وإصلاح النّهر.
وليس له أن يمنعهم إذا لم يكن لهم طريق إلاّ من هذه الأرض.
أمّا النّهر المملوك ، وكذلك الآبار والحياض المملوكة ، فإنّ للجار أن يشرب من الماء ، ويسقي دوابّه وهو ما يسمّى حقّ الشّفة ، كما أنّ له أن يتوضّأ منه ، ويغتسل ، ويغسل ثيابه ، ونحو ذلك.
وليس له أن يسقي أرضه ، وشجره.
وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة.
ويجبر عند المالكيّة على البذل إن كان لجاره زرع أنشأه على أصل الماء ، وانهدمت بئر زرعه وخيف عليه الهلاك من العطش ، وشرع في إصلاح بئره ، فإن تخلّف شرط من هذه الشّروط لم يجبر ، وفي قبض ثمن الماء قولان ، والمعتمد عندهم أنّه يجبر على بذل الماء مجّاناً ، ولو وجد مع الجار الثّمن.
ولمزيد من التّفصيل ينظر مصطلح : « نهر » .
«جوار المسكن الشّرعيّ»
:12 ذكر الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ من شروط شرعيّة المسكن الزّوجيّ أن يقع بين جيران صالحين ، وتأمن فيه الزّوجة على نفسها.
التّفصيل في : « بيت الزّوجيّة » .
«مجاورة الذّمّيّ للمسلم»:
– لا يمنع الذّمّيّ من مجاورة المسلم لما فيه من تمكينه من التّعرّف على محاسن الإسلام وهو أدعى لإسلامه طواعية.
ويمنع من التّعلّي بالبناء على بناء المسلم ، وهو ليس من حقوق الجوار وإنّما من حقّ الإسلام ، ولذا يمنع منه وإن رضي المسلم به لقوله صلى الله عليه وسلم : « الإسلام يعلو ولا يعلى » ، ولما في التّعلّي من الإشراف على عورات المسلمين.
وقيّده الشّافعيّة – في الأصحّ – بما إذا لم يكونوا مستقلّين بمحلّة منفصلة عن عمارة المسلمين بحيث لا يقع منهم إشراف على عوراتهم ولا مجاورة عرفاً.
وقيّد الحلوانيّ من الحنفيّة جواز المجاورة بأن يقلّ عددهم بحيث لا تتعطّل جماعات المسلمين ، ولا تقلّ جماعتهم بسكناهم بينهم في محلّة واحدة.
وينظر في التّفصيل مصطلح : « أهل الذّمّة » ومصطلح : « تعلّي »”.انتهى.
[الموسوعة الفقهية الكويتية: (2/5674-5682) الشاملة].