1136 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1136):
قال أبو داود رحمه الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن محمد يعني ابن عمرو عن أبي سلمة عن المغيرة بن شعبة
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد.
قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث حسن.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
بوب عليه الوادعي في الجامع الصحيح: في (1ج/431): قضاء الحاجة بعيدا عن الناس. وانظر: الصحيح المسند: مسند عبدالله بن عمر رضي الله عنهما (713)، مسند عبدالرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه (898).
وبوب أبوداود على الحديث:
باب التخلي عند قضاء الحاجة
تمهيد:”إنّ من عظمة الشّريعة الإسلامية المباركة أنّها ما تركت خيرا في قليل ولا كثير إلا أمرت به ودلّت عليه ولا شرا في قليل ولا كثير إلا حذّرت منه ونهت عنه، فكانت كاملة حسنة من جميع الوجوه، وقد أثار ذلك دهشة غير المسلمين وإعجابهم بهذا الدّين حتى” جاء اليهودُ إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه فقالوا: ” قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ؟! ” قَالَ: فَقَالَ: “أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ”، [صحيح مسلم، كِتَابِ الطَّهَارَةِ، بَابُ الَاسْتِطَابَةِ، حديث رقم (418)، ورواه غيره] فبين بكل اعتزاز أن ديننا لم يترك حتى مسائل قضاء الحاجة. فالإسلام بين كل ما يحتاجه الإنسان، ومن ذلك ما وردت في الشريعة الإسلامية عدة آداب وأحكام في قضاء الحاجة. وقد “كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أشدَّ الناسِ حياءً، وتَخلُّقًا بمكارمِ الأخلاقِ، ومن ذلك أنَّه كان يُبالغُ في الذَّهابِ والبُعد عن أعيُنِ النَّاس عندَ ذهابِه للخَلاءِ طالِبًا لِمزيدٍ منَ السَّترِ”.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته: وفي هذا الحديث يُخبرُ المغيرةُ بنُ شُعبةَ رضي اللهُ عنه: “أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا ذَهب المَذهبَ”، أي: موضِعَ الخلاءِ وقَضاءِ الحاجةِ، “أبعَدَ”، أي: بَعُدَ حتَّى يَتوارى عن الأنظارِ. وفي الروايات الأخرى قال المغيرةُ رضِيَ اللهُ عنه: “فذَهب”، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذات مرَّةٍ وهو مَعه، “لحاجتِه”، أي: ذَهب لِقَضاءِ حاجتِه، “وهو في بَعضِ أسفارِهِ، فقال”، أيِ: النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُغيرةِ: “ائتِني بوَضوءٍ”، أي: بماءٍ لِيَتوضَّأ، “فأتيتُه بِوَضوءٍ، فتوَضَّأ، ومَسح على الخفَّيْنِ”، أي: لم يَنزِعْ خفَّيْه واكتفى بالمَسحِ عليهما عَقْبَ قَضاءِ حاجتِه
وفي الحديثِ: البُعدُ عن أعيُنِ النَّاسِ عندَ قضاءِ الحاجةِ بولًا أو غائطًا. وفيه: مَشروعيَّةُ الاستعانةِ بالغَيرِ في إحضارِ ماءِ الوضوءِ، وخِدمةِ الأكابرِ. [انظر: الموسوعة الفقهية]
وبوب أبوداود على الحديث
باب التخلي عند قضاء الحاجة.
قال عبدالعزيز الراجحي:
فإن قال قائل: هل هناك فرق بين البول والغائط، فيبعد في الغائط ولا يبعد في البول؟ أقول: لا شك أن الغائط أولى بالاستتار من غيره، والمهم أن يكون الإنسان عنده شيء يتقي به ويستتر به. انتهى
ثانيًا: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): آداب قضاء الحاجة، وفيه عدة مباحث، على النحو التالي:
المبحث الأوَّل: ما يُقال عند الدُّخول والخروج، وفيه مطلبين:
المطلب الأوَّل: ما يُقال عند الدُّخول.
يُسنُّ أن يُقال عندَ الدُّخولِ: اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من الخُبُثِ والخبائِثِ.
الدَّليل مِن السُّنَّةِ: عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا دخل الخلاء، قال: اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من الخُبُثِ والخبائِثِ)) (رواه البخاري (6322) واللفظ له، ومسلم (375)).
المطلب الثَّاني: ما يُقال عند الخروج.
يُسنُّ أن يقال عند الخُروجِ: غُفرانَك. قال ابن حجر: (والكلام هنا في مقامين: أحدهما: هل يختصُّ هذا الذِّكرِ بالأمكنة المعدَّة لذلك؛ لكونها تحضُرُها الشياطينُ، كما ورد في حديث زيد بن أرقمَ في السنن، أو يشمَلُ حتى لو بالَ في إناءٍ مثلًا في جانِبِ البيت؟ الأصحُّ الثاني) ((فتح الباري)) (1/ 244). وقال ابنُ عثيمين: (يقولُ ذلك بعد خروجه، فإنْ كان في البَرِّ فعند مفارَقَتِه مكانَ جلوسِه) ((الشرح الممتع)) (1/ 104 – 105).
الدَّليلُ مِن السُّنَّةِ:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خرَجَ مِن الخلاءِ قال: غُفرانَك)) [رواه أبو داود (30)، والترمذي (7) واللفظ له، وابن ماجه (300)، وأحمد (25261). قال أبو حاتم الرازي كما في ((المحرر)) لمحمَّد ابن عبد الهادي (69): أصحُّ حديثٍ في هذا الباب، وقال الترمذيُّ: حسن غريب، وصحَّحه النووي في ((المجموع)) (2/ 75)، وابن الملقِّن في ((شرح البخاري)) (4/ 92)، وقال ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/ 214): حسن صحيح، وصححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (7)].
المبحث الثَّاني: تقديم الرِّجْل اليُسرى عند الدُّخول، واليُمنى عند الخروج.
يُستحبُّ عند دخولِ الخلاء، تقديمُ رِجله اليسرى، وعند الخروجِ تقديمُ رِجله اليُمنى، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة؛ وحَكى النوويُّ الاتِّفاقَ على ذلك، فقال: (وهذا الأدبُ متَّفَقٌ على استحبابِه، وهذه قاعدةٌ معروفة، وهي أنَّ ما كان مِن التكريمِ بُدئَ فيه باليُمنى، وخلافُه باليسار) ((المجموع)) (2/ 77)؛ وذلك لأنَّ قواعِدَ الشَّريعةِ قد استقرَّت على أنَّ الأفعالَ التي تشتَرِك فيها اليُمنى واليُسرى، تُقدَّمُ فيها اليُمنى إذا كانت من بابِ الكَرامةِ، كالوضوءِ والغُسلِ، ونحو ذلك، وتُقدَّم اليُسرى في ضدِّ ذلك، كدُخُولِ الخلَاءِ. فأمَّا الذي يختصُّ بإحداهما إن كان بالكرامةِ كان باليمين، كالأكلِ والشُّرب والمصافحة ومناوَلةِ الكتب، وتناوُلِها ونحو ذلك، وإنْ كان ضدَّ ذلك كان باليُسرى، كالاستجمار ومسِّ الذَّكَر، والاستنثارِ والامتخاطِ، ونحوِ ذلك. انظر: ((المجموع)) للنووي (1/ 384)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/ 108).
المبحث الثَّالث: تنزيهُ ذِكر الله تعالى عن الخَلاء، وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأوَّل: ذِكرُ اللهِ في الخلاء:
يُكرهُ ذكرُ اللهِ تعالى باللِّسانِ عند قضاءِ الحاجةِ، ومِن ذلك ترديدُ الأذانِ، وتشميتُ العاطِسِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافعيَّة، والحنابلة.
الأدلَّة: أولًا: مِن السُّنَّةِ:1 – عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أن رجلاً مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلم، فلم يرد عليه)) رواه مسلم (370).
2 – عن المهاجر بن قنفذ: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال ((إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر)) أو قال ((على طهارة)) [أخرجه أبو داود (17)، وقال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (1/ 394): حسن صحيح. وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (17)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (1161)].
وجه الدَّلالةِ مِن الحديثينِ: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لم يردَّ السَّلامَ؛ فتركُ ذِكرِ الله تعالى في مثلِ هذه الأماكنِ مِن باب أَولى.
ثانيًا: أنَّ مُقتضى الأدَبِ مع الله تعالى، ألَّا يُذكَرَ في هذه المواطِنِ التي تجتَمِعُ فيها الأخباثُ والنَّجاساتُ؛ فإنَّه يُصانُ عن ذلك؛ تنزيهًا لاسمِه واحترامًا له.
المطلب الثَّاني: إدخالُ ما فيه ذِكرُ اللهِ إلى الخلاءِ يُكرَهُ إدخالُ ما فيه ذِكرُ اللهِ تعالى إلى الخلاءِ إلَّا لحاجةٍ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة. قال الشوكاني: (والقرآن بالأولى، حتى قال بعضهم: يحرُم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة) ((نيل الأوطار)) (1/ 74).
ولا تُقاسُ الجَوَّالاتُ التي فيها برامِجُ القُرآنِ الكَريمِ على المُصحَفِ. ويكره إدخال كتب الحديث، وكتب العلم، وكل ما فيه ذكر اسم الله تعالى، ومحل هذا ما لم يخش على المتروك خارجا الضياع.
الدَّليل مِن السُّنَّةِ: عن ابن عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رجلًا مرَّ، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يبولُ، فسلَّم، فلم يردَّ عليه)) رواه مسلم (370).
وجه الدَّلالة: أنَّ الحديثَ يدلُّ على تنزيهِ ذِكرِ اللَّه تعالى، ومنه عدمُ إدْخالِ ما فيه ذِكرُ اللهِ إلى الخلاءِ.
المطلب الثَّالث: الكلامُ أثناءَ قَضاءِ الحاجة:
ِيُكرَه الكلامُ أثناءَ قَضاءِ الحاجةِ لِغَيرِ مَصلحةٍ [قال النووي: (يُكرَه الكلامُ على قضاءِ الحاجةِ بأيِّ نوعٍ كان من أنواع الكلامِ، ويُستثنى من هذا كُلِّه مَوضِعُ الضَّرورة، كما إذا رأى ضريرًا يكاد أن يقَع في بئرٍ، أو رأى حيَّةً أو عقربًا أو غيرَ ذلك يقصِدُ إنسانًا، أو نحو ذلك؛ فإن الكلامَ في هذه المواضعِ ليس بمكروه، بل هو واجبٌ) ((شرح النووي على مسلم)) (4/ 65).
وقال ابن عثيمين: (لا ينبغي أن يتكلَّمَ حالَ قَضاءِ الحاجة، إلَّا لحاجةٍ، كما قال الفقهاءُ رحمهم الله، كأنْ يُرشِدَ أحدًا، أو كلَّمَه أحدٌ لا بدَّ أن يردَّ عليه، أو كان له حاجةٌ في شخصٍ وخاف أن ينصَرِف، أو طلَبَ ماء ليستنجِيَ، فلا بأس) ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (1/ 119)]، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافعيَّة، والحنابلة، وبه قال طائفةٌ مِن السَّلَفِ، وأكثَرُ الفُقَهاءِ، قال النووي: (وهذا الذي ذكرناه مِن الكراهةِ في حالِ الاختيارِ هو مذهَبُنا ومذهَبُ الأكثرين، وحكاه ابنُ المُنذِر عن ابن عبَّاس وعطاء وسعيد الجهني وعكرمة رَضِيَ اللهُ عنهم). ((شرح النووي على مسلم)) (4/ 65).
الدَّليل مِن السُّنَّةِ:
عن ابن عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رجلًا مرَّ، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يبولُ، فسلَّم، فلم يردَّ عليه)).
وجه الدَّلالة:
أنَّ مَن يقضي حاجَتَه لا يتكلَّم ولا يردُّ سلامًا، ولا يستحقُّ المُسلِّمُ عليه جوابًا.
المبحث الرابع: الآداب المتعلِّقة بمكان قضاء الحاجة، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأوَّل: الإبعادُ إن كان في الصَّحراء يُندَبُ لِمَن أراد قضاءَ الحاجةِ إذا كان في الفضاءِ أن يُبعِدَ عن أعيُنِ النَّاسِ؛ نصَّ على هذا الجمهورُ: المالكيَّة، والشَّافعيَّة، والحنابلة [شريطةَ أنْ لا يجِدَ ما يسترُه عن النَّاس، فإن وجد ما يستُرُه عن النَّاسِ كفى الاستتارُ عن البُعدِ. ((شرح العمدة)) لابن تيميَّة (1/ 143)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/ 60)].
الأدلَّة مِن السُّنَّةِ:
1 – عن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كنتُ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فقال: يا مغيرةُ، خُذِ الإداوةَ، فأخذتُها، فانطلَقَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى توارى عنِّي، فقضى حاجتَه)) رواه البخاري (363) واللفظ له، ومسلم (274).
2 – عن عبدِ اللهِ بنِ جَعفرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أردَفَني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يومٍ خلْفَه، فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أحدِّثُ به أحدًا مِن النَّاسِ، وكان أحبَّ ما استَتَرَ به رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحاجَتِه هَدَفٌ أو حائشُ نَخلٍ)) رواه مسلم (342).
والهدف: كلُّ بناءٍ مُرتفِعٍ مُشرِفٍ. ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 251).
والحائش: النَّخلُ الملتفُّ المجتَمِعُ، كأنَّه لالتفافِه يَحوشُ بَعضَه إلى بعضٍ. ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 468).
المطلب الثَّاني: الاستتار عن أعين الناس: يجب الاستتارُ عند قضاءِ الحاجةِ؛ سَترًا للعَورةِ عن أعيُنِ النَّاس. و”يحرم على الرجلين أن يخرجا للخلاء معا، وأن يكشفا أنفسهما متجاورين”.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب عمومُ قَولِه تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور: 30].وجه الدَّلالة: أنَّ ممَّا يدخُلُ في حِفظِ الفَرجِ، حِفظَه من النَّظَرِ إليه [((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 42)].
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
1 – عن معاويةَ بنِ حَيدةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ الله، عَوْراتُنا؛ ما نأتي منها وما نذَرُ؟ قال: احفظْ عَورتَك إلَّا مِن زَوجَتِك أو ما ملكَتْ يمينُك. قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إذا كان القومُ بعضُهم في بعضٍ؟ قال: إنِ استطعتَ ألَّا يَرَيَنَّها أحدٌ فلا يَرَينَّها. قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إذا كان أحدُنا خاليًا؟ قال: اللهُ أحقُّ أن يُستحيَا منه مِن النَّاسِ)) [روى البخاريُّ آخِره مُعلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (278)، ورواه موصولًا أبو داود (4016) واللفظ له، والترمذي (2769)، و حسَّنه، وصحَّحه ابن القطان في ((أحكام النظر)) (94)،)، وابن دقيق في ((الإلمام)) (1/ 145)، وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (21/ 337): ثابت، وقال محمد ابن عبدالهادي في ((المحرر)) (99): إسناده ثابت إلى بهز، وهو ثقة عند الجمهور، وصححه ابن القيِّم في ((تهذيب السنن)) (11/ 56)، وحسَّنه ابن حجر في ((هدي الساري)) (20)، وقال السخاوي في ((فتح المغيث)) (1/ 54): حسن مشهور عن بهز، وحسنه ابن باز كما في ((الفوائد العلمية)) (6/ 104)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4016)]. قلت سيف بن دوره: وهو على شرط الذيل على الصحيح المسند.
2 – عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَنظُرُ الرَّجُلُ إلى عورة الرَّجُلِ، ولا المرأةُ إلى عورةِ المرأة، ولا يُفضي الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ في ثوبٍ واحدٍ، ولا تُفضي المرأةُ إلى المرأةِ في الثَّوبِ الواحِدِ)) رواه مسلم (338).
3 – ولما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ عَلَى غَائِطِهِمَا، يَنْظُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ) [سنن ابن ماجه برقم (342)، و راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم (197، 3120)] ”
بين الدارقطني في العلل 2294 … حيث ذكر أوجه الخلاف ورجح حديث عياض بن هلال أو هلال بن عياض عن أبي سعيد. وحديث عياض أعله أبوحاتم بأن الصواب أنه عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
وكذلك ذكر ابوداود هنا تعليل الرواية المسندة
ثالثًا: من الإجماعِ؛ نقل الإجماعَ على وُجوبِ سَترِ العَورةِ:
قال الجصَّاص: (قد اتَّفقت الأمَّةُ على معنى ما دلَّت عليه الآيةُ من لُزوم فَرضِ سَترِ العورةِ) ((أحكام القرآن)) (4/ 203)،
قال ابن عبدِ البَرِّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ سَترَ العورةِ فَرضٌ واجبٌ بالجملةِ على الآدميِّين) ((الاستذكار)) (2/ 196)،
قال ابن رشد: (اتَّفَقَ العُلَماءُ على أنَّ سَترَ العورةِ فرضٌ بإطلاقٍ) ((بداية المجتهد)) (1/ 114)
ُّ قال ابنُ رجب: (أجمَعَ العُلَماءُ على وُجوبِ سَترِ العَورة بين النَّاس عن أبصارِ النَّاظرين) ((فتح الباري)) (2/ 171).
المطلب الثَّالث: طلب المكان الرِّخو لقضاء الحاجة يُستحبُّ لِمَن أراد قضاءَ حاجَتِه أن يَطلُب مكانًا رِخوًا [رخو: بتثليثِ الراء؛ أي: ليِّن ٌكتُرابٍ ورَملٍ. ((منح الجليل)) لعليش (1/ 97).
وقال ابن عثيمين: (معناه: المكانُ الليِّن الذي لا يُخشى منه رَشاشُ البَولِ) ((الشرح الممتع)) (1/ 110)]، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة.
وذلك للآتي:
أولًا: أنَّه أسلمُ مِن رَشاشِ البَولِ؛ فإنَّ البولَ في المكانِ الصُّلب قد ينتُجُ عنه عَودُ شَيءٍ منه إلى البائِلِ.
ثانيًا: أنَّ البولَ في المكانِ الصُّلبِ ربَّما يفتَحُ بابَ الوَسواسِ على المَرءِ.
المطلب الرابع: ما يُمنَع من استقباله أو استدباره عند قضاء الحاجة
الفرع الأوَّل: استقبالُ القِبلةِ واستدبارُها عند قضاءِ الحاجةِ يحرُمُ استقبالُ القِبلةِ واستدبارُها حالَ قَضاءِ الحاجةِ في الفَضاءِ، ويجوزُ في البُنيانِ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّة، والشَّافعيَّة، والحنابلةِ.
الأدلَّة مِن السُّنَّةِ:
1 – عن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا أتيتُم الغائِطَ فلا تستقبِلوا القِبلةَ، ولا تَستَدبِروها ببولٍ ولا غائِطٍ، ولكِن شرِّقوا أو غَرِّبوا) رواه البخاري (394) واللفظ له، ومسلم (264). وفيه دليلٌ على جوازِ استقبالِ الشَّمسِ واستدبارها أثناءَ قضاء الحاجة.
وجه الدَّلالة: أنَّ حقيقةَ الغائِطِ، المكانُ المُنخفِض؛ ففي الحديثِ إشارةٌ أنَّ المرادَ النَّهيُ عن استقبالِ القِبلةِ واستدبارِها في الفَضاءِ.
2 – عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه كان يقول: ((إنَّ ناسًا يقولون: إذا قعدْتَ على حاجَتِك فلا تستقبلِ القِبلةَ ولا بَيتَ المَقدِس، فقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: لقد ارتقيتُ يومًا على ظَهرِ بيتٍ لنا، فرأيتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على لَبِنَتينِ، مُستقبلًا بيتَ المقدِسِ لِحاجَتِه)) رواه البخاري (145) واللفظ له، ومسلم (266).
3 – عن جابرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((نَهى نبيُّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نستقبِلَ القِبلةَ ببولٍ، فرأيتُه قبلَ أن يُقبَضَ بعامٍ يَستقبِلُها)) [رواه أبو داود (13)، والترمذي (9)، وابن ماجه (325). قال البخاري كما في ((شرح العمدة- الطهارة)) لابن تيمية (1/ 150): حسن صحيح، وقال الترمذيُّ: حسن غريب، وحسَّنه النوويُّ في ((المجموع)) (2/ 82)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (9).
قلت سيف بن دوره: على شرط الذيل على الصحيح المسند
نقل عن البخاري تصحيحه البيهقي وعبدالحق وابن القيم وابن حجر وغيرهم.
وحسنه الترمذي وكذا البزار وصححه ابن السكن، وقال الدارقطني عن اسناده: كلهم ثقات. وقال ابن النلقن: صحيح معمول به. لكن تعقب الحاكم في قوله على شرط مسلم لان مسلم انما اخرج لابن اسحاق متابعة انتهى من كتاب ابن القيم وجهوده في خدمة السنة
وفي علل الدارقطني 1047: حديث مشهور
وقال ابنُ حَجرٍ: (ولولا أنَّ حديثَ ابنِ عُمَرَ دلَّ على تخصيصِ ذلك بالأبنيةِ، لقُلنا بالتَّعميم، لكنَّ العمَلَ بالدَّليلينِ أَولى من إلغاءِ أحَدِهما) ((فتح الباري)) (1/ 245 – 246)].
4 – عن مَرْوانَ بنِ الأصفَرِ قال: ((رأيتُ ابنَ عمرَ أناخ راحِلتَه مستقبِلَ القِبلة، ثمَّ جلسَ يبولُ إليها: فقلتُ: يا أبا عبدِ الرَّحمن، أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ قال: بلى، إنَّما نُهِيَ عن ذلك في الفَضاءِ، فإذا كان بينَك وبين القِبلةِ شيءٌ يستُرُك فلا بأسَ)) [رواه أبو داود (11)، وابن خزيمة (60)، والدارقطني (1/ 58) قال الدارقطني: صحيح كله ثقات، وصححه النوويُّ في ((شرح مسلم)) (3/ 155)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (1/ 101): صالح للاحتجاج، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (11)].
قلت سيف بن دوره: على شرط الذيل على الصحيح المسند
قال الألباني: حسن.
رجاله رجال الصحيح. وقد حسنه الحازمي، والحافظ في الفتح، وصححه الدارقطني والحاكم والذهبي. انتهى ففي مستدرك الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بالحسن بن ذكوان ولم يخرجاه. وله شاهد عن جابر صحيح على شرط مسلم.
قال محققو المسند في الحاشية 10/ 8:في كلامهم على حديث ابن عمر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم …. )
قال الدارقطني: هذا حديث صحيح كلهم ثقات.
قال الحازمي في الاعتبار: هذا حديث حسن.
قال محققو المسند: الحسن بن ذكوان مدلس وقد عنعن ويشهد له حديث جابر سيرد عند احمد 3/ 360 بإسناد حسن وسيأتي في الباب التالي.
يقصدون بحديث جابر:
نَهى نبيُّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نستقبِلَ القِبلةَ ببولٍ، فرأيتُه قبلَ أن يُقبَضَ بعامٍ يَستقبِلُها
الفرع الثاني: استقبالُ الرِّيحِ بالبَولِ
يُكرَه استقبالُ الرِّيحِ بالبَولِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافعيَّة، والحنابلة؛ وذلك خَشيةَ أن تردَّ عليه الرِّيحُ بَولَه، عن حسَّان بن عطيَّة قال: (يُكره للرجُلِ أن يَبولَ في هواءٍ، وأن يتغوَّطَ على رأسِ جَبلٍ كأنَّه طيرٌ واقِعٌ) رواه البيهقي (1/ 98) (482).
المطلب الخامس: الأماكنُ التي يُمنَع قضاء الحاجة فيها، وفيه خمس فروع:
الفرع الأوَّل: قضاءُ الحاجةِ في المسجِد ِيحرُمُ قَضاءُ الحاجةِ في المسجِدِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة، قال ابن حزم: (جاء النصُّ والإجماعُ بأنَّ البولَ والغائِطَ جائزٌ فيما عدا المسجِدَ) ((المحلى)) (3/ 428).
الأدلَّة مِن السُّنَّةِ:
1 – عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (( … ثم إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجِدَ لا تصلُح لشيءٍ مِن هذا البَولِ ولا القَذَر، إنَّما هي لذِكرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والصَّلاةِ، وقراءةِ القُرآنِ، أو كما قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فأمر رجلًا مِن القَومِ، فجاء بدَلوٍ من ماءٍ، فشنَّه عليه)) [رواه البخاري (6025)، ومسلم (284) واللفظ له].ولا تُزْرِمُوه: أي: لا تَقطعوا عليه بَولَه. ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (3/ 209).والشَّن: الصبُّ المُنقَطِع. ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 507).
2 – عن أنسِ بن مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((البُزاقُ في المسجِدِ خطيئةٌ، وكفَّارَتُها دَفنُها)). رواه البخاري (415)، مسلم (552).والبُزاق: لغةٌ في البُصاقَ، وهو مَعْروفٌ. ((تاج العروس)) للزبيدي (25/ 77).
وجه الدَّلالة: أنَّه إذا وجَبَ تنزيهُ المسجِدِ مِن البُصاقِ وهو طاهِرٌ؛ فتنزيهُه مِن النَّجاساتِ أَولى؛ وذلك صيانةً للمساجِدِ، وتكريمًا لمكانِ العبادة. ((الموسوعة الكويتية)) (34/ 15).
الفرع الثَّاني: قضاءُ الحاجةِ على القَبر:
يحرُمُ قَضاءُ الحاجةِ على القَبرِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة.
الدَّليل مِن السُّنَّةِ: عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لأنْ يجلِسَ أحدُكم على جَمرة فتَحرِقَ ثِيابَه، فتخلُصَ إلى جِلدِه؛ خَيرٌ له من أن يجلِسَ على قبرٍ)).
وجه الدَّلالة: أنَّ البولَ والغائِطَ أشدُّ من مجرَّد الجُلوسِ؛ فإنَّ في ذلك انتهاكًا لحرمةِ القُبورِ وأصحابِها. وحمل بعضُهم الجُلوسَ الوارد في الحديثِ على الجلوسِ لقضاءِ الحاجة، فقال أبو الوليد الباجي: (فتأوَّل مالكٌ رَحِمَه الله هذا على أنَّ النهيَ عن الجلوسِ على القبور إنَّما تناوَلَ الجلوسَ عليها لقضاءِ الحاجة، وقد قال مِثلَ قول مالك زيد بن ثابت …. ) ((المنتقى شرح الموطأ)) (2/ 24).
وورد في الصحيح المسند:
932 – قال الإمام أبوعبدالله بن ماجه رحمه الله: حدثنا محمد بن اسماعيل بن سمرة, حدثنا الحاربي, عن الليث بن سعد, عن يزيد عن أبي حبيب, عن أبي الخير مرثد بن عبدالله اليزني, عن عقبة ابن عامرحدثنا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق.
هـذا الحديث صحيح.
الفرع الثَّالث: قَضاءُ الحاجةِ في أماكِنِ تجمُّعِ النَّاسِ ومواطِنِ انتفاعِهم:
لا يجوزُ قَضاءُ الحاجةِ في – الطِّريقِ، – وظلِّ النَّاسِ النَّافِعِ [المرادُ من الظلِّ: الموضِعُ الذي يستظلُّه النَّاس، واتَّخَذوه محلَّ نُزولِهم، وليس كلُّ ظلٍّ يحرُمُ القعودُ للحاجة فيه، فقد قعَد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحاجَتِه تحت حائشٍ من النَّخلِ. ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 384)]، –
وكذلك لا يجوز قضاء الحاجة تحت الشَّجَرِ المُثمِر، وغيرِ ذلك من أماكِنِ تجمُّعِ النَّاسِ، أو مواطِنِ انتفاعِهم؛ وهو قولٌ لبعض المالكيَّة، وروايةٌ عند أحمد، واختاره النوويُّ، وابنُ عثيمين. قال النووي: (ظاهِرُ كلام المصنِّف والأصحابِ أنَّ فِعلَ هذه المَلاعِنِ أو بعضِها مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ لا تحريمٍ، وينبغي أن يكون مُحرَّمًا؛ لهذه الأحاديث، ولِمَا فيه من إيذاءِ المُسلمين، وفي كلام الخطَّابي وغيرِه إشارةٌ إلى تحريمِه). ((المجموع)) (2/ 87).
قال ابن عثيمين: (يحرُم البول والتغوُّط تحت شجرةٍ عليها ثمرة … ، وهناك أشياءُ لا يجوزُ البولُ فيها ولا التغوُّطُ غير ما ذكره المؤلِّفُ كالمساجد … ، وكذلك المدارس، فكلُّ مجتَمَعاتِ النَّاس لأمرٍ دِيني أو دُنيوي لا يجوزُ للإنسانِ أن يتبوَّلَ فيها أو يتغوَّطَ؛
والعلَّة: القياسُ على نهي النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن البَولِ في الطُّرقاتِ وظلِّ الناس) ((الشرح الممتع)) (1/ 128،129).
الأدلَّة: أوَّلًا: من الكتاب عمومُ قَولِه تعالى: (.وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 58].
وجه الدَّلالة: أنَّ قضاءَ الحاجةِ في مواطِنِ انتفاعِ النَّاسِ وتجمُّعِهم أذيَّةٌ للمُسلمين، وقد جاء في أذِيَّتِهم الوعيدُ المذكورُ في الآية.
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
1 – عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اتَّقوا اللَّعَّانَينِ، قالوا: وما اللَّعَّانانِ يا رسولَ الله؟ قال: الذي يَتخلَّى في طريقِ النَّاسِ أو في ظلِّهم)) رواه مسلم (269).
2 – عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أنَّه نهى أن يُبالَ في الماءِ الرَّاكِدِ)) رواه مسلم (281).
3 – عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَبولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائِم ثم يغتَسِل منه)) رواه مسلم (282).
الفرع الرَّابع: البولُ في الثُّقبِ والشَّقِّ والسَّرَبِ والجُحرِ:
يُكرَه البَولُ في الشَّقِّ والجُحرِ والسَّرَبِ ونحو ذلك، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة.
وذلك للآتي: أولًا: أنَّه قد يلحَقُه الأذى من خروجِ الهوامِّ من جُحورها.
وقد ورد أن الجن قتلت سعد بن عبادة حيث أنه بال في جحر فسمعوا صوتا ينشد:
نحن الذين قتلنا سعد بن عبادة
بسهم فلم نخطأ فؤاده
ثانيًا: لِمَا فيه من أذًى لهذه الهوامِّ بإفسادِ مَساكِنِها.
الفرع الخامس: المُستحَمُّ:
يُكره التغوُّطُ والتبوُّلُ في المستَحَمِّ، الذي ليس له منفذٌ، [قال البغوي: (المرادُ مِن المُستحَمِّ: المُغتسَل، سمِّي مستحمًّا مشتقًّا من الحَميم، وهو الماءُ الحارُّ الذي يُغتسَل به) ((شرح السنة)) (1/ 384)] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة؛ [عبَّر المالكيَّة عن ذلك تارةً: بالاجتناب، وتارةً بأنَّ تَركَ ذلك من الخِصالِ المطلوبة. ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/ 398 – 399)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/ 203)]
وذلك لأنَّ المكانَ إذا كان صُلبًا أو لم يكُن له مسلَكٌ ينفُذُ فيه البَولُ ويسيلُ فيه الماء؛ فإنَّه قد يُصيبُ المُغتسِلَ فيه برَشاشٍ من الغائِطِ أو البَولِ، أو يتوهَّم أنَّه قد أصابه مِن قَطْرِه ورَشاشِه، فيُورِثُه الوَسواسَ. [انظر: الموسوعة الفقهية، كتابُ الطَّهارةِ، الباب الثالث: أحكام قضاء الحاجة. بتصرف يسير].
ولقضاء الحاجة آداب أخرى، نذكر منها:
– أن لا يزيل النّجاسة بيمينه بل يستخدم شماله لمباشرة النجاسة في إزالتها؛ للحديث المتقدّم ولقوله صلى الله عليه وسلم: ” إِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ. ” رواه البخاري 5199، ولما روته حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَوُضُوئِهِ وَثِيَابِهِ وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ، وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ. رواه الإمام أحمد وهو في صحيح الجامع 4912، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِذَا اسْتَطَابَ أَحَدُكُمْ فَلا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ، لِيَسْتَنْجِ بِشِمَالِهِ”. رواه ابن ماجة 308 وهو في صحيح الجامع 322
وهو في الصحيح المسند
1326 – قال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هـريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرهـا ولا يستطب بيمينه وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة.
هـذا حديث حسن.
– أن لا يمسّ ذَكَرَه بيمينه وهو يبول لقوله صلى الله عليه وسلم: ” إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلا يَاخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلا يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ وَلا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ. ” رواه البخاري 150 –
– الاعتناء بإزالة النجاسة بعد الفراغ من قضاء الحاجة لقوله صلى الله عليه وسلم محذّرا من التساهل في التطهّر من البول: ” أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ. ” رواه ابن ماجة 342 وهو في صحيح الجامع 1202
قلت سيف بن دوره: قيل له حكم الرفع. لكن يشكل أن أبا هريرة كان يميز بين المرفوع والإسرائيليات وبعض طلابه يخلط بينها
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا هَذَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا هَذَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. ” رواه البخاري 5592
– أن يكون غسل النجاسة أو مسحها ثلاث مرات أو وترا بعد الثلاث بحسب ما تدعو إليه حاجة التطهير،
، ولما رواه أبو هُرَيْرََةُ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ وِتْرًا. ” رواه الإمام أحمد وحسنه في صحيح الجامع 375
ورجح الدارقطني في العلل 1580 الموقوف
لكن الاستجمار وترا ثابت من وجه آخر.
– أن لا يستعمل العظم ولا الرّوث في الاستجمار -وهو إزالة النجاسة بالمسح-، وإنما يستعمل المناديل والحجارة ونحوها. لما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالَ أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا وَلا تَاتِنِي بِعَظْمٍ وَلا بِرَوْثَةٍ فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ .. الحديث رواه البخاري 3571
– الإسراع إلى قضاء الحاجة، فمتى أحسَّ الإنسان بحاجته إلى دخول الخلاء أسرع إلى ذلك، لما في ذلك من الفوائد الدينية والطبية.
– عدم رفع الثوب حتى يدنو من الأرض؛ وذلك حتى لا تنكشف العورة؛ لحديث أنس رضي الله عنه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد قضاء الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض» (رواه أبو داود والترمذي وصحَّحه الألباني).
لكن قال الترمذي: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبدالسلام بن حرب الملائى عن الأعمش عن أنس قال كان النبى -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض. قال أبوعيسى هـكذا روى محمد بن ربيعة عن الأعمش عن أنس هـذا الحديث. وروى وكيع وأبويحيى الحمانى عن الأعمش قال قال ابن عمر (1) كان النبى -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض.
وكلا الحديثين مرسل. ويقال لم يسمع الأعمش
(الدراية بما زيد من أحاديث معلة)
(المسألة الثانية): في فوائده:
1 – “صبر الصحابة وحكمتهم إزاء ما لا قوة من عنت المشركين واستهزائهم وقلة حيائهم.
2 – بذاءة لسان المشركين، وتصريحهم بما
تستهجنه الأسماع كالخراءة.
3 – طهارة لسان المسلمين، وصيانته عن الرد بالمثل.
4 – استحباب الكناية بالحاجة والخلاء عن البول والغائط.
5 – وفيه دليل على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يختلفون في معاني السنة، وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع.
6 – وفيه حرص الصحابة على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كلها، ونقلها، وأنها كلها أحكام شرعية.
7 – جواز رؤية الشيء الممنوع، قصدا لغرض مشروع.
فقد قيل: لعل ابن عمر قصد أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحالة، ورأى رأسه دون ما عداه من بدنه، ثم تأمل قعوده، فعرف كيف هو جالس ليستفيد، وينقل ما شاهد. قاله الكرماني.
قلت سيف بن دوره: أو كان قائما فيرى شقه الأعلى رأسه وصدره. وكذلك لو كان جالسا لم ير منه إلا شقه الأعلى
وقيل: إن رؤية ابن عمر وقعت اتفاقا من غير قصد لذلك، فنقل ما رآه؛ لأنه لا يجوز له أن يقصد الرؤية في تلك الحالة، كما لا يجوز أن يتعمد الشهود النظر إلى الزنا، فإن وقعت أبصارهم عليه تحملوا الشهادة، وهذا الأخير هو المناسب لأدب ابن عمر وفقهه وورعه.
8 – حرص الإسلام على شعور الناس، وعدم إيذائهم ونظافة الأماكن العامة، بتحريم التخلي في طريق الناس وظلهم.
9 – من قوله دخل حائطا استحباب التباعد -لقضاء الحاجة- عن الناس، والاستتار عن أعين الناظرين.
10 – استحباب استصحاب عصا ونحوها عند المشي في الخلاء، وخصوصا في الليل، للتوكؤ عليها، وللحماية مما يعرض من هوام الأرض.
11 – ومن الحديث الثامن عشر: جواز البول قرب الديار، ومن قوله فتنحيت. استحباب الإعراض عن قاضي الحاجة والبعد عن مكانه، قال بعض العلماء: إنما يستحب هذا عند الغائط أو البول قاعدا، أما عند البول قائما فلا.
والحديث أصل في ذلك، وقد جاء في بعض الآثار كان إذا بال لم يبعد، ولم يبعد الناس عنه، بل أدنى حذيفة منه حين بال قائما، وفي مراسيل عطاء: أنه بال جالسا، فدنا رجل منه، فقال: تنح عني، فإن كل بائلة نفيح.
12 – لكن ظاهر الأحاديث التنحي والإبعاد عن قاضي الحاجة أيا كانت.
13 – وجواز طلب البائل من صاحبه الذي يدل عليه القرب منه ليستره.
14 – وفيه استحباب التستر، ولو كانت الحاجة بولا.
15 – استخدام الرجل الفاضل بعض أصحابه في حاجته.
16 – خدمة الصالحين وأهل الفضل.
17 – رحمة الله بالأمة الإسلامية، ورفع الحرج عنهم والتيسير عليهم في العبادة حيث جعل طهارة النجاسة الغسل بالماء، بينما كتب على بني إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم بول أن يقص من الثوب ما لاقى النجاسة، والله أعلم. [فتح المنعم، بتصرف يسير]