1133 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1133):
مسند الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه
قال الإمام أحمد رحمه الله: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّهُ صَحِبَ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَوَجَدَ مِنْهُمْ غَفْلَةً، فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهَا.
قال الوادعي: هذا حديث صحيح.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
ورد في البخاري 2581 و مسند أحمد وأبو داود مطولا في قصة الحديبية من حديث المسور. وفيه: وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء) … لفظ البخاري. وراجع تحقيق المسند فبعض هذه القصة فيها إرسال.
والحديث بوب عليه في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (ج4/ 486): إذا أوتي الإمام بمال فيه شبهة لا يقبله.
وبوب عليه النسائي في السنن الكبرى: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ.
تمهيد:
يقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة (1)] ويقول {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} [البقرة (177)] ويقول {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [النحل (91)] ويقول -صلى الله عليه وسلم- «آية المنافق ثلاث. إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر».
فالغدر وعدم الوفاء بالعهد حرام باتفاق العلماء في الشريعة الإسلامية بل هو لا يليق بالرجال الأحرار ذوي الشهامة والمروءة والنجدة في عرف العقلاء وكان العرب يتمدحون بخلق الوفاء بالعهد ويفخرون به ويحرصون عليه ولو كان في ذلك قتل لأبنائهم فلذة أكبادهم.
وأكبر وعيد على جريمة الغدر بالعهود ذلك الوعيد المذكور في هذا الحديث كل غادر ترفع راية عند عجزه قلل تعالى {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} [الفتح (10)]. [فتح المنعم]
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
جاء في (كتاب شرح السير الكبير للسرخسي): ” [بَابُ الْمُسْتَامَنِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَاخُذُونَ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ يُخْرِجُونَهَا]
2416 – قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْمُسْتَامَنَ إذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ فَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِنَا أَمَرَ بِرَدِّهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ أَخْفَرَ ذِمَّةَ نَفْسِهِ، لَا ذِمَّةَ الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ – رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -:
2417 – «أَنَّهُ صَحِبَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَوَجَدَ مِنْهُمْ غَفْلَةً فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَجَاءَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُخَمِّسَ؛ فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ عَلَى وَرَثَتِهِمْ».
فَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا أَوْ بِأَمَانٍ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً عُدُولًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجْبُرُهُ بِالرَّدِّ وَلَا يُفْتِيهِ عَلَى ذَلِكَ.
أَنَّهُ حِينَ أَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ أَمَانٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِهِ، وَلَا فِي مَالِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَلَّا يَغْدِرَ بِهِمْ حِينَ دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ فَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى الرَّدِّ، بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ السَّبَبِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، أَوْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْهُمْ، أَوْ اسْتَهْلَكَ مَالًا، ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَخَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي لَهُ بِشَيْءٍ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخْرَجَ مَالًا لَهُمْ.
2418 – وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُسْتَامَنُونَ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَ مَنَعَةٍ، فَأَخْرَجُوا مَا أَخَذُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا وَالْوَاحِدُ إذَا أَخْرَجَهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِمَنَعَةِ أَنْفُسِهِمْ لَا بِمَنَعَةِ الْإِمَامِ.
2419 – فَإِنْ كَانُوا حِينَ اجْتَمَعُوا، وَصَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، نَابَذُوا أَهْلَ الْحَرْبِ ثُمَّ لَحِقُوا بِعَسْكَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ غَنِمُوا غَنَائِمَ، ثُمَّ أَصَابُوا غَنَائِمَ أُخْرَى أَيْضًا، بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ فَجَمِيعُ مَا أَصَابَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ قَبْلَ الِالْتِقَاءِ يُخَمَّسُ، وَالْبَاقِي لَهُمْ خَاصَّةً دُونَ التُّجَّارِ. … “. انتهى إلى أخر ما ذكرى من المسائل متعلقة بالمستأمنين.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة رضي الله عنه:
” أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء”، دليل على أن مال المشرك المعاهد معصوم، وأنه لا يملك بل يرد عليه، فإن المغيرة كان قد صحبهم على الأمان ثم غدر بهم، وأخذ أموالهم فلم يتعرض النبي الله عليه وسلم لأموالهم ولا ذب عنها ولا ضمنها لهم؛ لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة. [مقال: ((فوائد من زاد المعاد)) بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية]
ومسألة رد الأموال المسروقة إلى أصحابها الكفار، فينتظم على النحو التالي:
أولاً: لا شك أن السرقة كبيرة من كبائر الذنوب وقد رتب الله عليها الحد في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة.
قال الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ) المائدة/38. وقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ). رواه البخاري (6783) ومسلم (1687).
والسرقة حرام سواء كان المسروق منه مسلماً أم كافراً معصوم الدم والمال، أما الكافر المحارب للمسلمين فيجوز أخذ ماله؛ لأن ذلك في حالة الحرب يعتبر غنيمة ولا يعتبر سرقة.
ثانياً: أما أخذ أموال الكفار على سبيل الغدر والخيانة فهو محرم؛ لأن الغدر محرم في الإسلام سواء مع المسلم أم مع الكافر.
روى البخاري (2583) عن المغيرة بن شعبة أنه كان قد صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم …
قال الحافظ ابن حجر:
في شرحه لقصة صلح الحديبية
” قوله (وأما المال فلستُ منه في شيءٍ) أي: لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً، ويستفاد منه: أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً؛ لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدَّى إلى أهلها مسلِماً كان أو كافراً، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه فيرد إليهم أموالهم. فتح الباري (5/ 341).
ومن أمثلة الغدر أن يكون الكافر قد دخل بلاد المسلمين بأمان، أو دخل المسلم بلاد الكفار بأمان (كالتأشيرة) فإن مقتضى هذه التأشيرة أنهم يؤمنونه على نفسه وماله، وفي هذه الحال يكونون هم أيضاً في أمان منه على أنفسهم وأموالهم، فلا يجوز له الاعتداء عليهم أو غصب أموالهم أو سرقتها.
قال الشافعي رحمه الله فيمن دخل بلاد الكفار واستطاع أن يأخذ شيئا من أموالهم:
” وإذا دخل رجل مسلم دار الحرب بأمان .. وقدر على شيء من أموالهم لم يحل له أن يأخذ منه شيئاً قلّ أو كثر؛ لأنه إذا كان منهم في أمان فهم منه في مثله، … ؛ ولأن المال ممنوع بوجوه:
أولها: إسلام صاحبه. والثاني: مال من له ذمة. والثالث: مال من له أمان إلى مدة أمانه”. الأم (4/ 284).
وقال السرخسي:
” أكره للمسلم المستأمِن إليهم في دينه أن يغدر بهم لأن الغدر حرام. . . فإن غدر بهم وأخذ مالهم وأخرجه إلى دار الإسلام كرهت للمسلم شراءه منه إذا علم ذلك لأنه حصله بكسب خبيث، وفي الشراء منه إغراء له على مثل هذا السبب وهو مكروه للمسلم، والأصل فيه حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. . . ثم ذكر الحديث السابق”. المبسوط (10/ 96). [رد الأموال المسروقة إلى أصحابها الكفار]
مسائل تتعلّق بهذا الحديث: الغدر
(المسألة الأولى): تحريم الغدر، وفيه أمور:
أولاً: فقه الحديث
الغدر حرام باتفاق سواء كان في حق المسلم أو الذمي، وقد ترجم البخاري في صحيحه عن الغدر: “باب إثم الغادر للبر والفاجر”، قال الحافظ ابن حجر: أي: سواء كان من بر لفاجر أو لبر أو من فاجر”.
وفي مسلم ” باب تحريم الغدر “.
ثانيًا: تعريف الغدر:
الغدر لغة: نقض العهد وترك الوفاء به [انظر: «لسان العرب» ((5) / (8))، مادة (غدر)]
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
«غادر» الغدر ضد الوفاء وهو نقض العهد، والزوال عيه، وإبطاله، والفجور عن الحق، والانبعاث في الباطل [انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب اللام مع الواو، مادة: «لواء» (4) / (279)].
و الغدر خيانة الإنسان في موضع الاستئمان.
بمعنى أن يأتمنك أحد في شيء ثم تغدر به، سواء أعطيته عهدًا أم لم تعطه، وذلك لأن الذي ائتمنك: اعتمد عليك ووثق بك، فإذا خنته فقد غدرت به.
• المراد بالمسألة: بيان أن من الغدر المحرم تأمين الحربي ثم قتله، أو أخذ العهد مع أهل الحرب على ترك القتال ثم إذا أمنوا، ووجد منهم غفلة نال منهم، وليس هذا من خداع الحرب بل هو من الغدر، وقد نُقل الإجماع على تحريمه.
واستدل على تحريم الغدر بوجوب الوفاء؛ لأن الشيء يعرف بضده، ووجوب الوفاء ورد فيها النصوص الكثيرة، ومنها؛ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} يعني: ائتوا بها وافية شاملة على حسب العقد الذي اتفقت مع صاحبك عليه، وهذا يشمل كل العقود، يشمل عقود البيع، فإذا بعت شيئا على أخيك فالواجب عليك أن تفي بالعقد، إن كان بينكما شرط فأوفه. [شرح رياض الصالحين لابن عثيمين].
ثالثًا: الإجماع
• من نقل الإجماع: ابن عبد البر ((463) هـ) حيث قال عقب حديث بريدة في تحريم الغلول والغدر والمثلة: (أجمع العلماء على القول بهذا الحديث ولم يختلفوا في شيء منه، فلا يجوز عندهم الغلول ولا الغدر ولا المثلة ولا قتل الأطفال في دار الحرب. والغدر أن يؤمن الحربي ثم يقتل وهذا لا يحل بإجماع) [«التمهيد» ((24) / (233))، ونحوه في «الاستذكار» ((14) / (80))].
وابن العربي ((543) هـ) حيث يقول: (الغدر حرام في كل ملة لم تختلف فيه شريعة) [«عارضة الأحوذي» ((7) / (76))].
والقاضي عياض ((656) هـ) حيث يقول: (ولا خلاف في تحريم الغلول، والغدر، وكراهية المثلة) «المفهم» ((5) / (512)).
وابن المناصف ((620) هـ) حيث يقول: (وأجمع المسلمون على وجوب الوفاء بعقد الأمان، وتحريم الخيانة فيه) «الإنجاد في أبواب الجهاد» (ص (288)).
والنووي ((676) هـ) حيث يقول -عند حديث «إذا أمَّر أميرًا على جيش»: (وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر .. ) «شرح صحيح مسلم» ((12) / (37)).
والصنعاني ((1182) هـ) حيث يقول: (وتحريم الغدر والنكث مجمع عليه) «سبل السلام» ((3) / (80))، وقال أيضًا: (وتحريم الغدر وتحريم المثلة وتحريم قتل صبيان المشركين وهذه محرمات بالإجماع) المصدر السابق ((4) / (46)).
- الموافقون للإجماع: وافق على ذلك: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة [انظر: «السير الكبير» ((1) / (266))، و «حاشية ابن عبدين» ((3) / (224))، و «القوانين الفقهية» (ص (162))، و «التمهيد» ((24) / (233))، و «شرح صحيح مسلم» للنووي ((12) / (37))، و «المغني» ((13) / (195))].
النتيجة:
أن الإجماع متحقق على تحريم الغدر والخيانة في العهد؛ حيث لم يخالف في ذلك أحد، واللَّه تعالى أعلم. [موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي].رابعًا: مستند الإجماع:
(1) – ذم الغدر والنهي عنه في القرآن الكريم
قوله تعالى: {وأوْفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْئُولًا} [الإسراء (34)].
• وجه الدلالة: حيث دلَّت على وجوب الوفاء بالعهود عمومًا، وعليه فمن أعطى العهد بالأمان وترك الحرب، ثم حارب أو قاتل فإنه ناقض للعهد، متعرض للوعيد.قال تعالى: (وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [النحل: 94].
(أي تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم- خديعةً، وغرورًا، ليطمئنوا إليكم، وأنتم مضمرون لهم الغدر، وترك الوفاء بالعهد، والنَّقلة إلى غيرهم، من أجل أنهم أكثر منهم عَددًا وعُددًا وأعز نفرًا، بل عليكم بالوفاء بالعهود، والمحافظة عليها في كل حال).
وقال ابن زيد، في قوله: (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) [النحل: 92] يغر بها، يعطيه العهد، يؤمنه وينزله من مأمنه، فتزل قدمه وهو في مأمن، ثم يعود يريد الغدر، دَخَلاً بَيْنَكُمْ [النحل: 92] قال قتادة: خيانة وغدرًا.
قال ابن كثير: ( … لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده، ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين، فانصدَّ بسببه عن الدخول في الإسلام).
– قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل: 91].
قال الطبري: (إنَّ الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيمان، بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحق مما لا يكرهه الله).
قال الماوردي: (لا تنقضوها بالغدر، بعد توكيدها بالوفاء).
– قوله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) [الأنفال: 58].
قال ابن كثير: (يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ قد عاهدتهم خِيَانَةً أي: نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود، فَانبِذْ إِلَيْهِمْ أي: عهدهم عَلَى سَوَاء أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك).
وقال السعدي: (وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق ترك القتال فخفت منهم خيانة، بأن ظهر قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة. فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عهدهم، أي: ارمه عليهم، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم. عَلَى سَوَاء أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك، ولا يحل لك أن تغدرهم، أو تسعى في شيءٍ مما منعه موجب العهد، حتى تخبرهم بذلك. إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ بل يبغضهم أشد البغض، فلا بد من أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة … ودلَّ مفهومها أيضًا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته).
– قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34].
قال القاسمي: (لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها).
وقال الراغب: (ولكون الوفاء سببًا لعامة الصلاح، والغدر سببًا لعامة الفساد، عظَّم الله أمرهما، وأعاد في عدة مواضع ذكرهما، فقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34]، وقال: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ [البقرة: 177]).
وقال ابن رجب: (ويدخل في العُهود التي يجب الوفاءُ بها، ويحرم الغَدْرُ فيها: جميعُ عقود المسلمين فيما بينهم، إذا تَرَاضَوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاءُ بها، وكذلك ما يجبُ الوفاء به لله عزَّ وجلَّ ممَّا يعاهدُ العبدُ ربَّه عليه من نذرِ التَّبرُّرِ ونحوه).
(2) – ذم الغدر والنهي عنه في السنة النبوية
عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «إذا جمع اللَّه الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان». قال أبو العباس القرطبي في «المفهم» ((3) / (520)) معلقًا على هذا الحديث: (هذا منه -رضي الله عنه- خطاب للعرب بنحو ما كانت تفعل، وذلك: أنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء، ليشهروا به الوفي، فيعظموه، ويمدحوه، والغادر فيذموه، ويلوموه بغدره. وقد شاهدنا هذا فيهم عادة مستمرة إلى اليوم. فمقتضى هذا الحديث: أن الغادر يُفعل به مثل ذلك؛ ليشهر بالخيانة والغدر، فيذمه أهل الموقف، ولا يبعد أن يكون الولي بالعهد يُرفع له لواء يُعرف به وفاؤه وبره، فيمدحه أهل الموقف، كما يرفع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- لواء الحمد فيحمده كل من في الموقف).
• وجه الدلالة: أنه صريح في النهي عن الغدر والخيانة، فمن أعطى الأمان ثم قتل فقد غدر.
وجاء في صحيح مسلم عدة أحاديث، تحت باب: تحريم الغد:
(3978) – عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان بن فلان».
(3979) – عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة فيقال ألا هذه غدرة فلان».
(3980) – عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول «لكل غادر لواء يوم القيامة».
(3981) – عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان».
(3982) – -/- وفي رواية عن شعبة في هذا الإسناد وليس في حديث عبد الرحمن «يقال هذه غدرة فلان».
(3983) – عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدرة فلان».
(3984) – عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به».
(3985) – عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة».
(3986) – عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة».
خامسًا: أقوال في الغدر
– قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنَّة أوقى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كَيسًا، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم الله؟ قد يرى الحول القلب وجه الحيلة، ودونها مانع من الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا خريجة له في الدين).
– وقال أيضًا: (إذا كان الغدر طبعًا، فالثقة بكل أحد عجز).
– وقال عديُّ بن حاتم: (أتينا عمر في وفد، فجعل يدعو رجلًا رجلًا ويسمِّيهم. فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى. أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا. فقال عديُّ: فلا أبالي إذًا) رواه البخاري (4394).
– وقال ابن حزم: (الغدر، وهو الذي لا يحتمله أحد ولا يغضي عليه كريم، وهو المسلاة حقًّا، ولا يلام السالي عنه على أي وجه كان، ناسيًا أو متصبرًا، بل اللائمة لاحقة لمن صبر عليه).
– ولمَّا حلف محمد الأمين للمأمون في بيت الله الحرام- وهما وليَّا عهد- طالبه جعفر بن يحيى أن يقول: خذلني الله إن خذلته. فقال ذلك ثلاث مرَّات. قال الفضل بن الرَّبيع: قال لي الأمين في ذلك الوقت عند خروجه من بيت الله: يا أبا العبَّاس أجد نفسي أنَّ أمري لا يتمُّ. فقلت له ولم ذلك أعزَّ الله الأمير؟ قال: لأنِّي كنت أحلف وأنا أنوي الغدر. وكان كذلك لم يتمَّ أمره.
– قال الأبشيهي: (وكم أوقع القدر في المهالك من غادر، وضاقت عليه من موارد الهلكات فسيحات المصادر، وطوقه غدره طوق خزي، فهو على فكِّه غير قادر).
– وقال أيضًا: (أيُّ سوء أقبح، من غدر يسوق إلى النِّفاق، وأيُّ عار أفضح، من نقض العهد إذا عُدَّت مساوئ الأخلاق).
– وقال ملك لصاحب ملك آخر: أطلعني على سرِّ صاحبك، قال: إليَّ تقول هذا؟ وما ذاق أحد كأسًا أمرَّ من الغدر، والله لو حول ثواب الوفاء إليه لما كان فيه عوض منه، ولكن سماجة اسمه وبشاعة ذكره ناهيان عنه.
قال مروان لعبد الحميد الكاتب عند زوال أمره: صِر إلى هؤلاء القوم، يعني بني العباس، فإني أرجو أن تنفعني في مخلفي. فقال: وكيف لي بعلم الناس جميعًا أنَّ هذا رأيك؟ كلهم يقولون: إني قد غدرت بك. وأنشد:
وغدري ظاهر لا شك فيه لمبصرة وعذري بالمغيب
ولما أتى به المنصور قال له: استبقني فإني فرد الدهر بالبلاغة. فقطع يديه ورجليه، ثم ضرب عنقه.
[انظر: ((طوق الحمامة)) لابن حزم (ص 253)، ((المستطرف)) للأبشيهي (ص 134)، ((ربيع الأبرار ونصوص الأخيار)) للزمخشري (5/ 300)]
سادسًا: صور الغدر
للغدر صور كثيرة، نذكر منها ما يلي:
1 – نقض العهد الذي أخذ الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره، إذ يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 – 173].
2 – نقض العهد الذي وصى الله به خلقه، من فعل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأفعال، وترك ما لا يحبه الله ولا يرضاه، من الأقوال، والأفعال، والذي تضمنته كتبه المنزلة، وبلغه رسله عليهم الصلاة والسلام، ومعنى نقض هذا العهد ترك العمل به.
3 – نقض العهد المأخوذ على بني آدم من النظر في أدلة وحدانيته، وكمالاته المنصورة في الكون، وفي النفس، والذي تحدث به عنه رب العزة في قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 – 21].
4 – نقض العهد الذي أخذه الله على النبيين وأتباعهم أن يؤمنوا بهذا النبي، وأن ينصروه، وذلك في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81 – 82].
5 – نقض العهد الذي للإمام ونائبه على المسلمين، من وجوب الطاعة في المعروف، ونصرة دين الله عزَّ وجلَّ، دون مبرر شرعي يقتضي ذلك.
6 – نقض العهد الذي أعطاه الشارع الحكيم للكفار غير المحاربين، من أهل الذمة والمستأمنين، وكذلك المعاهدين، دون مبرر شرعي يقتضي ذلك، كأن يتحول نفر من هؤلاء إلى أن يكون محاربًا، أو على الأقل يأتي أعمالًا تخالف نظام الإسلام؛ إذ في الحديث: ((ألا من قتل نفسًا معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفًا)).
7 – خلف الموعد بأن يعطي موعدًا، وفي نيته عدم الوفاء، أما إذا أعطى موعدًا، وفي نيته الوفاء، ولم يفِ لأمر خارج عن إرادته، فلا يعدُّ ذلك نقضًا؛ لحديث: ((إذا وعد الرجل أخاه، ومن نيته أن يفي فلم يف، ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه)).
قلت سيف بن دورة: أخرجه أبو داود 4997 معل كما في علل ابن أبي حاتم 2321. وأعله الدارقطني في العلل 11 قال: الحديث مضطرب غير ثابت. وقال الترمذي: غريب وليس إسناده بالقوي.
سابعًا: الفرق بين المكر والغدر
الفرق بينهما: أن الغدر: نقض العهد وترك الوفاء به.
بينما قد يكون المكر ابتداءً من غير عهد.
ثامنًا: من آثار الغدر:
1 – قسوة القلب:
لقد كانت قسوة القلب سمة بارزة في أهل الكتاب، لاسيما اليهود لكثرة نقضهم العهد والمواثيق، قال تعالى: ” فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ” [المائدة: 13 – 14].
2 – تحمل الجزاء المترتب على الغدر:
ذلك أنَّ الغدر يؤدي إلى خسائر بدنية أو نفسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية وقد تكون هذه جميعًا، ولابد من ضمان التلف في جزاء يتولاه ولي الأمر أو نائبه، أو تتولاه الرعية حين يغدر ولي الأمر، فيضيع من هم في رعايته.
3 – براءة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الغدر:
ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاء بمنهاج يدعو إلى الوفاء مع الخالق، والمخلوق، ومع العدو، والصديق، بل حتى مع الدواب، والجمادات، ثم طبق ذلك عمليًّا على نفسه حين استبقى عليًّا مكانه في فراشه ليلة الهجرة، ليرد الودائع إلى أصحابها، ووفى بعهده مع اليهود، لولا أنهم غدروا، ووفى مع المشركين في مكة والطائف وغيرهما، لولا غدرهم وخيانتهم.
4 – حلول اللعنة على الغادر من الله، والملائكة، والناس أجمعين:
ذلك أن الله يغار حين يرى العبد أكل نعمته، ثم غدر فاستخدمها في معصيته وحربه، وتمثل هذه الغيرة في حلول اللعنة، ومعه سبحانه الملائكة، والناس أجمعين برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
5 – الانتظام في سلك المنافقين:
ذلك أنَّ الغادر أظهر شيئًا في الوقت الذي أبطن فيه خلافه، ومثل هذا الصنف من الناس يجب توقيه، والحذر منه؛ لأنه لم يعد محل ثقة ولا أمانة، إذ يظهر الموافقة على العهود والالتزام، ثم يخفي النقض والغدر.
تاسعًا: من أسباب الوقوع في الغدر:
1 – ضعف التربية وفساد البيئة.
2 – حب الكفار وموالاتهم.
3 – صحبة الذين اشتهروا بالغدر.
4 – ضعف الإيمان بالله.
عاشرًا: من الوسائل المعينة على ترك الغدر:
1 – تقوية الإيمان بالله تعالى.
2 – البعد عن أصدقاء السوء ومجالسة أهل الصلاح.
3 – التأمل في الآثار الوخيمة للغدر على الفرد والمجتمع.
4 – تدبر الآيات القرآنية التي حذرت من الغدر، وعدم الوفاء. [موسوعة الأخلاق]
(المسألة الثانية): ثلاث تنبيهات
قال السفاريني رحمه الله تعالى في (كشف اللثام شرح عمدة الأحكام): ” تنبيهات:
الأول: يصير دم حربي حرامًا علينا بأحد ثلاثة أمور: بالأمان، أو الهدنة، أو عقد الذمة.
إذا علمت هذا، فاعلم أن الأمان يصح من كل مسلم عاقل مختار، ولو مميزًا، حتى من عبد وأنثى وهرمٍ وسَفيهٍ، لا من كافر، ولو ذميًا، ولا من مجنونٍ وسكرانَ وطفلٍ ومغمًى عليه، وألّا يكون ثَمَّ ضررٌ علينا، وألّا تزيد مدته على عشر سنين، ويصح منجَّزًا، أو معلَّقًا، ويصح من إمام وأمير لأسير كافر بعد الاستيلاء عليه، وليس ذلك لأحد الرعية، إلا أن يجيزه الإمام، ويصح من إمام لجميع المشركين، وأمان أمير لأهل بلدة جُعل بإزائهم، وأما في حق غيرهم، فهو كآحاد المسلمين.
ويحرم بالأمان قتلٌ ورقٌّ وأسر وأخذُ مال، ويكون ذلك أو شي منه من الغدر.
ويصح أمان آحاد الرعية لواحد وعشرة، وقافلة وحصن صغيرين عرفًا؛ كمئة فأقل.
وليس للإمام نقضُ أمانِ مسلم إلا أن يخاف خيانة من أُعطيه.
ويصح بأنت آمن ونحوه، وإن قيل لكافر: أنت آمن، فرد الأمان، لم ينعقد، وإن قبله ثمَّ رده، ولو بصوْلهِ على المسلم أو جرحه، انتقض.
ومن طلب الأمان ليسمعَ كلام الله، ويعرف شرائع الإسلام، لزمت إجابتُه، ثمَّ يُرَدُّ إلى مأمنه، وإذا أمنه، سرى الأمان إلى مَن معه من أهل ومال، إلا أن يقال: أمنتك وحدك ونحوه.
ويجوز عقدُ الأمان لرسول ومستأمن، ويقيمون مدة الهدنة بغير جزية.
ومن دخل منا دارهم بأمانهم، حرمت عليه خيانتهم، فإن خانهم، أو سرق منهم شيئًا ونحوه، وجب رده إلى أربابه.
ومن جاءنا منهم بأمان، فخاننا، كان ناقصًا لأمانه، ومن دخل منهم دارنا بغير أمان، فادعى أنّه رسول أو تاجر، ومعه متاع يبيعه، قُبل منه إن صدقتهم عادة؛ كدخول تجارهم إلينا ونحوه، وإلا، فكأسير.
وليس لأحد منهم أن يدخل إلينا بلا إذن، ولو تاجرًا أو رسولًا.
ويجوز نبذُ الأمان إليهم إن توقع شرهم، وإذا أمن العدو في دار الإسلام إلى مدة، صحّ، فإذا بلغها، واختار البقاء في دارنا، أدى الجزية، وإن لم يختر، فهو على أمانه حتى يخرج إلى مأمنه [انظر: «الإقناع» للحجاوي ((2) / (117) – (122))، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- هذا التنبيه].
الثاني: الهُدنة، وهي العقدُ على ترك القتال مدةً معلومة بعِوَضٍ وبغيرِ عوض، وتسمى: مهادنة، وموادعة، ومعاهدة، ومسالمة، ولا يصحُّ عقدها إلا من إمام، أو نائبه، ويكون العقد لازمًا، ويلزمه الوفاء به.
ولا تصح إلا حيث صحَّ تأخيرُ الجهاد، فمتى رأى المصلحة في عقدها؛ لضعف المسلمين عن القتال، أو مشقة الغزو، أو لطمعه في إسلامهم، أو أدائهم الجزية، أو غير ذلك، جاز، ولو بمال منا ضرورة مدة معلومة، ولو فوق عشر سنين.
وإن نقضوا العهد بقتال، أو مظاهرة، أو قتل مسلم، أو أخذ مال، انتقضَ عهدُهم، وحلت دماؤهم وأموالهم وسبيُ ذراريهم، وإن نقض بعضُهم دونَ بعض، فسكت باقيهم عن الناقض، ولم يوجد منهم إنكار، ولا مراسلة الإمام، ولا تبرأ، فالكل ناقض.
الثالث: عقدُ الذِّمَّة، ولا يصح عقدُها إلا من إمام أو نائبه، ويجب عقدُها إذا اجتمعت الشروط، ما لم يخف غائلة منهم، وصفةُ عقدِها: أقررتكم بجزية واستسلام، أو يبذلون ذلك، فيقول: أقررتكم على ذلك، ونحوهما، ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين:
* أحدهما: التزامُ إعطاء الجزية كلَّ حول، وهي مالٌ يؤخذ منهم على وجه الصَّغار كلَّ عام بدلًا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا.
* الثاني: التزامُ إحكام الإسلام، وهو قبول ما يُحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم.
ولابد من كون المعقود لهم الذمةُ من أهل الكتابين اليهودِ والنصارى، ومن وافقهم بالتدين بالتوراة؛ كالسامرة، فإنهم فرقة من اليهود، ومن تدين بالإنجيل؛ كالفرنج، وتُعقد الذمةُ أيضًا لمن لهم شبهةُ كتاب؛ كالمجوس، والصابئين، وهم -يعني: الصابئين- جنس من النصارى، نص عليه الإمام أحمد – رضي الله عنه – ……
قال علماؤنا: ومن انتقل إلى أحد الأديان الثلاثة من غير أهلها، فإن تهوَّدَ أو تنصَّرَ أو تمجَّس قبل بعثة نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولو بعد التبديل، فله حكمُ الدين الذي انتقل إليه؛ من إقراره بالجزية وغيره.
وقالوا: وكذا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم.
التنبيه الثاني:
اعتبر الشافعية كونَ مدة الأمان أربعةَ أشهر فأقلَّ، وشرطوا في المعقود له الذمةُ، كونَهُ متمسكًا بكتاب؛ كتوراةٍ وإنجيلٍ، وصُحُفِ إبراهيمَ وشيثٍ، وزَبورِ داودَ، سواء كان المتمسِّكُ كتابيًا أو مجوسيًا.
وعندهم في الهدنة إذا لم يكن بنا -معشرَ المسلمين- ضعفٌ، جازت، ولو بلا عوض إلى أربعة أشهر؛ لآية: {فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ} [التوبة (2)]، وإلا، فإلى عشر سنين بحسب الحاجة، كمذهبنا.
الثالث:
اتفقت الأئمة الأربعة على أن الجزية تُضرب على أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وكذلك على المجوس، وإن اختلفوا فيهم.
والمعتمد عندهم: أنهم ليسوا بأهل كتاب، وإنما لهم شبهة كتاب. وأما من ليس من أهل الكتاب، ولا له شبهة كتاب؛ كعبدة الأوثان من العرب والعجم، فعندنا كالشافعية: لا تعقد له الذمة مطلقًا.
وعند أبي حنيفة: تعقد للعجمي منهم دون العربي.
وقال الشافعي: متى قاتل المسلمين، انتقض عهده، سواء شُرط عليهم تركُه في العقد، أو لا، وأما إن فعل شيئًا مما سوى ذلك، فإن امتنعوا من الجزية، أو إجراءِ حكمنا عليهم، انتقض، وإن كان غير ذلك؛ من زنا ذميٍّ بمسلمة، أو إصابتِها بنكاح، أو دلَّ أهل حرب على عورة لنا، أو دعا مسلمًا لكفر، أو سب الله، أو نبيًا له، أو الإسلام، أو القرآن، انتقض عهده به إن شُرط انتقاضُه به، وإلا، فلا، هذا معتمد مذهبهم؛ كما في «شرح المنهج» [انظر: «فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب» للشيخ زكريا الأنصاري ((2) / (316)).] وغيره.
وقال مالك: لا ينتقض من ذلك بالزنا بالمسلمات، ولا بإصابةٍ لهن باسم النكاح، وينتقض بما سوى ذلك، إلا في قطع الطريق؛ فإن ابن القاسم خاصة من أصحابه قال: لا ينتقض عهده بذلك.
وقال الإمام مالك فيمن ذكر الله تعالى بما لا يليق بجلاله، أو ذكرَ كتابه المجيدَ، أو ذكرَ دينه القويمَ، أو رسولَه الكريم بما لا ينبغي، إذا فعلوا ذلك بغير ما كفروا به، فإنّه ينتقض عهدهم بذلك، سواء اشترط عليهم ذلك، أو لم يشترط [انظر: «الإفصاح» لابن هبيرة ((2) / (298) – (299))]، والله أعلم. انتهى كلام السفاريني رحمه الله تعالى.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (أحكام أهل الذمة):
167 – فَصْلٌ [أَقْسَامُ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنَ الْكُفَّارِ].
الْكُفَّارُ إِمَّا أَهْلُ حَرْبٍ وَإِمَّا أَهْلُ عَهْدٍ، وَأَهْلُ الْعَهْدِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
[1 – ] أَهْلُ ذِمَّةٍ.
[2 – ] وَأَهْلُ هُدْنَةٍ.
[3 – ] وَأَهْلُ أَمَانٍ.
وَقَدْ عَقَدَ الْفُقَهَاءُ لِكُلِّ صِنْفٍ بَابًا، فَقَالُوا: بَابُ الْهُدْنَةِ، بَابُ الْأَمَانِ، بَابُ عَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَلَفْظُ ” الذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ ” يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ فِي الْأَصْلِ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ ” الصُّلْحِ “، فَإِنَّ الذِّمَّةَ مِنْ جِنْسِ لَفْظِ الْعَهْدِ، وَالْعَقْدِ.
وَقَوْلُهُمْ: ” هَذَا فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ ” أَصْلُهُ مِنْ هَذَا: أَيْ فِي عَهْدِهِ، وَعَقْدِهِ، أَيْ فَأَلْزَمَهُ بِالْعَقْدِ، وَالْمِيثَاقِ، ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ جِهَتِهِ، سَوَاءٌ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، أَوْ بِغَيْرِ عَقْدِهِ، كَبَدَلِ الْمُتْلَفِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: هُوَ فِي ذِمَّتِهِ، وَسَوَاءٌ وَجَبَ بِفِعْلِهِ، أَوْ بِفِعْلِ وَلَيِّهِ، أَوْ وَكِيلِهِ، كَوَلِيِّ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَوَلِيِّ بَيْتِ الْمَالِ وَالْوَقْفِ، فَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ، وَالْوَقْفِ يَثْبُتُ لَهُ حَقٌّ وَعَلَيْهِ حَقٌّ، كَمَا يَثْبُتُ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَيُطَالِبُ وَلِيُّهُ الَّذِي لَهُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ، وَيَقْبِضَ مَا عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا لَفْظُ ” الصُّلْحِ ” عَامٌّ فِي كُلِّ صُلْحٍ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ صُلْحَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَصُلْحَهُمْ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَكِنْ صَارَ – فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ – ” أَهْلُ الذِّمَّةِ ” عِبَارَةً عَمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ ذِمَّةٌ مُؤَبَّدَةٌ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِذْ هُمْ مُقِيمُونَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ، فَإِنَّهُمْ صَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ، أَوْ غَيْرِ مَالٍ، لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَجْرِي عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَكِنْ عَلَيْهِمُ الْكَفُّ عَنْ مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْعَهْدَ، وَأَهْلَ الصُّلْحِ، وَأَهْلَ الْهُدْنَةِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَامِنُ فَهُوَ الَّذِي يَقْدَمُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ لَهَا، وَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: رُسُلٌ، وَتُجَّارٌ، وَمُسْتَجِيرُونَ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، فَإِنْ شَاءُوا دَخَلُوا فِيهِ، وَإِنْ شَاءُوا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَطَالِبُوا حَاجَةٍ مِنْ زِيَارَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، وَحُكْمُ هَؤُلَاءِ أَلَّا يُهَاجِرُوا، وَلَا يُقْتَلُوا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَأَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْمُسْتَجِيرِ مِنْهُمُ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، فَإِنْ دَخَلَ فِيهِ فَذَاكَ، وَإِنْ أَحَبَّ اللَّحَاقَ بِمَامَنِهِ أُلْحِقَ بِهِ، وَلَمْ يُعْرَضْ لَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا وَصَلَ مَامَنُهُ عَادَ حَرْبِيًّا كَمَا كَانَ. انتهى المراد.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” فَصْلٌ
[مَتَى يُعْتَبَرُ الذِّمِّيُّ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ؟]
وَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ” أَنَّهُ مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ ” فَمَنْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ فَهُوَ أَوْلَى بِنَقْضِ الْعَهْدِ! وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
قَالَ الْخَلَّالُ: ” بَابُ ذِمِّيٍّ فَجَرَ بِمُسْلِمَةٍ “.
أَخْبَرَنِي حَرْبٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: إِذَا زَنَى الذِّمِّيُّ بِمُسْلِمَةٍ قُتِلَ الذِّمِّيُّ، وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
قَالَ حَرْبٌ: هَكَذَا وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِي.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَارِثِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْتُ: نَصْرَانِيٌّ اسْتَكْرَهَ مُسْلِمَةٍ عَلَى نَفْسِهَا؟ قَالَ: لَيْسَ عَلَى هَذَا صُولِحُوا، يُقْتَلُ. قُلْتُ: فَإِنْ طَاوَعَتْهُ عَلَى الْفُجُورِ؟ قَالَ: يُقْتَلُ وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِذَا اسْتَكْرَهَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ.
أَخْبَرَنَا عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا حَنْبَلٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي ذِمِّيٍّ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ؟ قَالَ: يُقْتَلُ، لَيْسَ عَلَى هَذَا صُولِحُوا، قِيلَ لَهُ
فَالْمَرْأَةُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ سَوَاءٌ.
قَالَ الْخَلَّالُ: وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُبْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: فَإِنْ زَنَى الْيَهُودِيُّ بِمُسْلِمَةٍ؟ قَالَ: يُقْتَلُ. عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ [نَخَسَ] بِمُسْلِمَةٍ ثُمَّ غَشِيَهَا فَقَتَلَهُ. فَالزِّنَى أَشَدُّ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ.
وَسَأَلْتُهُ عَنْ عَبْدٍ نَصْرَانِيٍّ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ؟ قَالَ: يُقْتَلُ أَيْضًا، قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ عَبْدًا؟ قَالَ: نَعَمْ.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ – وَسُئِلَ عَنْ [مَجُوسِيٍّ] فَجَرَ بِمُسْلِمَةٍ – قَالَ: يُقْتَلُ، هَذَا قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ قَالَ: يُقْتَلُ أَيْضًا، قَدْ صَلَبَ عُمَرُ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ فَجَرَ بِمُسْلِمَةٍ.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدْ صَلَبَ عُمَرُ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ فَجَرَ بِمُسْلِمَةٍ، هَذَا نَقْضُ الْعَهْدِ. قِيلَ لَهُ: تَرَى عَلَيْهِ الصَّلْبَ مَعَ الْقَتْلِ؟ قَالَ: إِنْ ذَهَبَ رَجُلٌ إِلَى حَدِيثِ عُمَرَ، كَأَنَّهُ لَمْ يَعِبْ عَلَيْهِ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُهَنَّا قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا يُصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: يُقْتَلُ. فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ قَالَ: يُقْتَلُ. قُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ غَيْرَ هَذَا. قَالَ: كَيْفَ يَقُولُونَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ: عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يُقْتَلُ. قُلْتُ لَهُ: فِي هَذَا شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ عَنْ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ. قُلْتُ: مَنْ يَرْوِيهِ؟ قَالَ: خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنِ ابْنِ [أَشْوَعَ]، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا فَحَشَ بِامْرَأَةٍ فَتَحَلَّلَهَا، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَقُتِلَ وَصُلِبَ. قُلْتُ: مَنْ ذَكَرَهُ؟ قَالَ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَذِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَحَشَ بِامْرَأَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّامِ وَهِيَ عَلَى حِمَارٍ فَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهَا، فَرَأَىهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَضَرَبَهُ فَشَجَّهُ، فَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ يَشْكُو عَوْفًا، فَأَتَى عَوْفٌ عُمَرَ فَحَدَّثَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَسَأَلَهَا فَصَدَّقَتْ عَوْفًا، فَقَالَ إِخْوَتُهَا: قَدْ شَهِدَتْ أُخْتُنَا، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصُلِبَ. قَالَ [سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ] وَكَانَ أَوَّلَ مَصْلُوبٍ [رَأَيْتُهُ صُلِبَ] فِي الْإِسْلَامِ!
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ” أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فِي ذِمَّةِ مُحَمَّدٍ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ فَمَنْ فَعَلَ فَلَا ذِمَّةَ لَهُ”. انتهى المراد
(المسألة الثالثة): من الموضوعات الدعوية المهمة والتي ينبغي على الداعية التنبيه عليها: التحذير من الغدر.
“التحذير من الغدر: الغدر صفة قبيحة ينبغي للداعية أن يحذر الناس عنه؛ لقبحه، وعظم إثمه؛ وقد بين ? في هذه الأحاديث: أن لكل غادر علامة ترفع له يوم القيامة أمام الأشهاد فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان، والغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به، قال الإمام النووي رحمه الله: «وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير»
فيتأكد عليه أن يفي بعهوده ولا يغدر فيها، سواء كان ذلك لرعيته أو للكفار وغيرهم، وإذا أراد قتال قوم من الكفار وقد عاهدهم، فإذا انقضى عهده أو خاف غدرهم نبذ إليهم عهدهم: {وإمّا تَخافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيانَةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخائِنِينَ} [الأنفال (58)]، وينبغي للرعية أن لا يشقوا على إمامهم العصا، ولا يتعرضوا لما يسبب الفتن [انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (12) / (288)] وقد بين الإمام القرطبي رحمه الله: أن قوله ?: «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له»، جاء خطاب بنحو ما كانت تفعل العرب، وذلك أنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليشهروا به الوفي، فيعظموه ويمدحوه، والغادر فيذموه ويلوموه بغدره، قال «وقد شاهدنا هذا فيهم عادة مستمرة إلى اليوم» [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، (3) / (520)] فمقتضى هذا الحديث الغادر يفعل به يوم القيامة مثل ذلك؛ ليشتهر بالخيانة والغدر، فيذمه أهل الموقف وقد ثبت عن النبي ? أن هذا اللواء يكون عند مقعدة الغادر بحيث لا يقدر على مفارقته؛ ليمر به الناس فيروه، ويعرفوه، فيزداد خجلا وفضيحة عند كل من مر به [المصدر السابق] فَعَنْ أبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ? قالَ: «لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ القِيامَةِ يُعْرَفُ بِهِ» [مسلم] وكأنه عومل بنقيض قصده؛ لأن عادة اللواء أن يكون على الرأس، فنصب عند السفل زيادة في فضيحته؛ لأن الأعين غالبا تمتد إلى الألوية فيكون ذلك سببا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم فيزداد بها فضيحة [انظر: فتح الباري لابن حجر، (6) / (284)]، وفي لفظ: «لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يَوْمَ القِيامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، ألا ولا غادِرَ أعْظَمَ غَدْرًا مِن أمِيرِ عامَّةٍ» [مسلم] فالغدر على هذا اللفظ دركات، فإذا كانت غدرته كبيرة عظيمة رفع له لواء كبير عظيم، مرتفع،
حتى يعرفه بذلك من قرب منه ومن بعد، وأعظم الغدر وأفحشه غدر الأمير العام؛ لما في غدر الأئمة من المفسدة فإنهم إذا غدروا وعلم ذلك منهم، لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فحينئذ تشتد شوكته، ويعظم ضرره على المسلمين، ويكون ذلك منفرا من الدخول في الإسلام، موجبا لذم أئمة المسلمين [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، (3) / (521)].
ومن التشهير والفضيحة للغادر أنه ينادى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد باسمه واسم أبيه؛ لقوله ?: «إنَّ الغادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِواءٌ يَوْمَ القِيامَةِ، يُقالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ»، فظهر في هذه الرواية: أن الغادر ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم، وفي هذا الحديث رد لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم سترا على آبائهم [قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (10) / (563) «وهو حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس، وسنده ضعيف جدا، وأخرج ابن عدي من حديث أنس مثله، وقال: منكر»] والدعاء بالآباء أشد في التعريف، وأبلغ في التمييز، وهذا يقتضي جواز الحكم بالظواهر، وحمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على ما هو في نفس الأمر، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهو المعتمد» [فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (10) / (563).] والظاهر من قوله ?: «هذه غدرة فلان بن فلان»، أن لكل غدرة واحدة لواء. قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: «ظاهر الحديث يعطي أن لكل غدرة لواء» [بهجة النفوس، (4) / (175)] وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فعلى هذا يكون للشخص الواحد عدة ألوية بعدد غدراته» [فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (10) / (563).].
ولأهمية التحذير من الغدر قال الوزير العالم ابن هبيرة رحمه الله: «لما أتى الغادر بالشنعاء في اللوم وهي الغدرة، وإنما يأتي ذلك؛ لذل فيه عن المجاهرة بالغدر، رفع اللواء عليه.
لإظهار شهرته، بعقوبة يشهدها الأولون والآخرون». [الإفصاح عن معاني الصحاح، (2) / (75)، وانظر: (4) / (102)] وقد ذم الله المنافقين أشد الذم وأقبحه فقال عز وجل: {ومِنهُمْ مَن عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصّالِحِينَ – فَلَمّا آتاهُمْ مِن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ – فَأعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أخْلَفُوا اللَّهَ ما وعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة (75) – (77)].
وقد جعل النبي ? الغدر إحدى الخصال التي من وجدت فيه كان منافقا خالصا، فقال ?: «أرْبَعٌ مَن كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقًا خالِصًا ومَن كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنهُنَّ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتّى يَدَعَها: إذا ائْتُمِنَ خانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه، وبين ? أن من نقض عهد الله وعهد رسوله فإنه يسلط عليهم عدوا من غيرهم، فيأخذوا بعض ما في أيديهم، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: «كُنْتُ عاشِرَ عَشَرَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ?: أبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، وعَلِيٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وحُذَيْفَةُ، وابْنُ عَوْفٍ، وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رضي الله عنهم، فَجاءَ فَتًى مِنَ الأنْصارِ فَسَلَّمَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ? ثُمَّ جَلَسَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ المُؤْمِنِينَ أفْضَلُ؟ قالَ: «أحْسَنُهُمْ خُلُقًا»، قالَ: فَأيُّ المُؤْمِنِينَ أكْيَسُ؟ قالَ: «أكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وأحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْدادًا قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ بِهِمْ أُولَئِكَ مِنَ الأكْياسِ»، ثُمَّ سَكَتَ الفَتى، وأقْبَلَ عَلَيْنا النَّبِيُّ ? فَقالَ: «يا مَعْشَرَ المُهاجِرِينَ خَمْسٌ إذا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وأعُوذُ بِاللَّهِ أنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الفاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتّى يُعْلِنُوا بِها إلّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطّاعُونُ والأوْجاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أسْلافِهِمْ، ولَمْ يَنْقُصُوا المِكْيالَ والمِيزانَ إلّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ وجَوْرِ السُّلْطانِ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَمْنَعُوا زَكاةَ أمْوالِهِمْ إلّا مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّماءِ ولَوْلا البَهائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، ولَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وعَهْدَ رَسُولِهِ إلّا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِن غَيْرِهِمْ
فَيَاخُذُوا بَعْضَ ما فِي أيْدِيهِمْ، وما لَمْ تَحْكُمْ أئِمَّتُهُمْ بِكِتابِ اللَّهِ إلّا ألْقى اللَّهُ بَاسَهُمْ بَيْنَهُمْ» [الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، (4) / (540)، وأخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات (2) / (1332)، برقم (4019)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، (1) / (7)، برقم (106)]،
فينبغي للداعية إلى الله عز وجل أن يحذر الناس من الغدر ويبين لهم عاقبة أمره، والله المستعان”. [فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري (2) / (1077)].?
قلت سيف بن دورة: حديث ابن عمر حديث معل. لكن لا يمنع وقوع العقوبات نسأل الله السلامة.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1) دليل على أن مال المشرك المعاهد معصوم، وأنه لا يملك بل يرد عليه، فإن المغيرة كان قد صحبهم على الأمان ثم غدر بهم، وأخذ أموالهم فلم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم لأموالهم ولا ذب عنها ولا ضمنها لهم؛ لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة.
2) منها: وجوب أداء الأمانة.
3) ومن فوائد الحدث أيضًا: أن الإنسان لا يرد الأمانة إلا لمن ائتمنه، فلا يردها إلى شخص آخر إلا أن تقوم بينه أو قرينة فليفعل، بيّنة مثل أن يأتي شخص ببينة بأن أمره صاحب الأمانة بان يقبضها، فهنا يتعين أن ترد إليه بالبينة، أو قرينة مثل أن يردها على من يحفظ ماله عادة كرجل استعار من شخص إناء ثم عاد فقرع بينه فسأل عنه، قالوا: إنه في السوق فأعطى الإناء أهل البيت فهل يبرأ بذلك؟ نعم يبرأ؛ لأن هذا هو ما جرت به العادة، ولا يلزمه أن يذهب ويتطلب هذا الرجل.
4) من فوائد الحديث: تحريم الخيانة مطلقًا لقوله: «لا تخن من خانك»، أما تحريم الخيانة لمن خانك فهو منطوق الحديث، وأما تحريم الخيانة مما لم يخن؛ فلأن هذا من باب أولى، وما كان من باب أولى فقد اختلف العلماء هل هو داخل في المنطوق دخولًا لفظيًا، ويكون ذكر الأدنى تنبيهًا على ما فوقه أو هو داخل بالقياس، فيكون اللفظ لا يتناوله لكن تناوله من حيث المعنى؛ لأن القياس الجلي الذي يكون فيه المقيس أولى بالحكم من المقيس عليه لا شك أنه داخل في ضمن اللفظ من حيث المعنى.
على كل حال: إذا كان الحديث يدل على تحريم الخيانة لمن خانك فإنه يدل على تحريم الخيانة، من العلماء من أخذ بظاهر الآية وأعلّ الحديث وقال: إن الحديث ضعيف ولم يأخذ به، ولكن هذا ليس بسديد، والجمع بينهما أن نقول: إن العدوان ليس فيه ائتمان المعتدي الذي اعتدى عليك عدوانًا ظاهرًا لكن الذي ائتمنك لا يجوز أن تعتدي عليه في مقابل أنه خانك، لأن مقتضى الأمانة دفع الخيانة، وأنت أمين فليس هذا من باب {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة (194)].
فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا الحديث وبين حديث هند بنت عتبة حين شكت زوجها أبا سفيان إلى رسول الله ? وقالت: إنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: «خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
فالجواب على ذلك أن نقول: هذا ليس فيه ائتمان، فأبو سفيان لم يأتمنها على ماله، لكنها أخذت قدر حقها الواجب عليه من ماله بدون ائتمان، وهناك فرق بين رجل يأخذ ما يجب له بدون ائتمان وشخص ائتمنه غيره فخان الأمانة.
يبقى النظر إذا قال قائل: إذا قلتم بهذا فكل من كان له على شخص دين وقدر على شيء من ماله فله أن يأخذ بمقدار دينه، لأن المدين لم يأتمنه فهو يأخذ من ماله بقدر دينه، كما أذن النبي ? لهند أن تأخذ من مال زوجها بدون علمه؟
فالجواب: أن هذه المسألة يُعبّر عنها عند أهل العلم بمسألة الظفر، يعني: الذي يظفر بماله، شخص له عليه حق هل يأخذ بقدر حقه.
وفيه: دل هذا الحديث على أن الغدر كبيرة من الكبائر، وإلا لما ترتب عليه هذا الوعيد الشديد من فضح الغادر، والتشهير به يوم القيامة أمام الخلائق، وإهدار كرامته، وذلك أشد العقوبة وأنكاها
5) فيه: فيما يتعلق بأحاديث الباب من دروس وفوائد دعوية، منها:
(1) – من موضوعات الدعوة: التحذير من الغدر.
(2) – من أساليب الدعوة: الترهيب.
6) وفيه: أن العقوبة يوم القيامة قد تكون بنقيض القصد قاله ابن المنير، أخذا من لفظ «لواء عند استه»؛ لأن عادة اللواء أن يكون عند الرأس فنصب عند السفل زيادة في فضيحته؛ لأن الأعين غالبا تمتد إلى الألوية فيكون ذلك سببا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم فتزداد بها فضيحته.
[انظر: فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام لابن عثيمين، ومنار القاري شرح مختصر صحيح البخاري، فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، فتح المنعم]