1123 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——‘——–‘
——-‘——-‘——-‘
——-‘——–‘——‘
بسم الله الرحمن الرحيم
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1123):
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا بن نمير ويعلى قالا ثنا عثمان بن حكيم، وأبو بدر عن عثمان بن حكيم عن محمد بن كعب القرظي عن معاوية رضي الله عنه قال يعلى في حديثه سمعت معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول على هذه الأعواد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
هذا حديث صحيح وآخره متفق عليه.
===================
تمهيد: كان صلى الله عليه وسلم عقب السلام من الصلاة يستغفر ثلاثًا بقوله: “أستغفر اللَّه العظيم، ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام”.
وأحيانًا كان يقول: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد”، أي: لا أحد يستطيع منع عطائك إذا أعطيت ولا أحد يستطيع العطاء إذا لم تعط أنت، ولا ينفع الغني غناه.
وأحيانًا كان يقول: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
لا حول ولا قوة إلا الله.
لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل” [فكل نعمة في الوجود ملكه، وكل فضل في الوجود من عنده] وله الثناء الحسن [وهو المستحق للثناء الحسن] لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون”.
وجاء بعض فقراء المسلمين، يغبطون الأغنياء على غناهم وبذلهم أموالهم في سبيل الخير والمعروف، يقولون: يا رسول الله ذهب الأغنياء بكثرة الثواب دوننا، ذهبوا بالدرجات العلا، إن الأغنياء يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم أموال يتصدقون منها
فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بشيء إذا أنتم فعلتموه أدركتم مثل فضلهم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: تسبحون الله بعد السلام من الصلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون الله ثلاثًا وثلاثين وتكبرون الله ثلاثًا وثلاثين، ففعلوا.
وسمع الأغنياء بما فعلوا، فقام الأغنياء بعمل ما يعمله الفقراء فذهب الفقراء يشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة: 54].
والذكر الله، وما أسهل الذكر، وما أكثر أجره، فالذكر كلمات خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان، ورب عمل قليل يحصل الأجر الجزيل، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. [فتح المنعم].
الحديث سيكون من وجوه:
وقبل ذلك سبق في الصحيح المسند (621) التعليق على الجزء الأخير من الحديث. أورده الوادعي في ثلاثة مواضع من الجامع الصحيح، في (ج1/ص14، ترجم عليه: فضل الفقه في الدين، و في (ج2/ 461) ترجم عليه بلفظ أول الحديث -مطابق-، وفي (ج6/ 22) ترجم عليه بصفة: الإرادة.
الوجه الأول: شرح وفقه الحديث الحديث رواه الإمام أحمد أيضًا في المسند (16894) بلفظ ” سمِعتُ معاويةَ يَخطُبُ على هذا المِنبرِ، يقولُ: تَعْلَمُنَّ أنَّه: ((لا مانِعَ لِما أَعْطى، ولا مُعْطيَ لِما منَعَ اللهُ، ولا يَنفَعُ ذا الجَدِّ منه الجَدُّ، مَن يُرِدِ اللهُ به خَيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ))، سمِعتُ هذه الأحرُفَ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على هذه الأعْوادِ” وصححه شعيب الأرناؤوط،
فقد كان الصَّحابَةُ رضي الله عنهم يَتَعلَّمون مِن أفْعالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
“يَخطُبُ على هذا المِنبَرِ” يَقصِدُ مِنبَرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
الجَدُّ: هو الحظُّ والغِنى، والمَعْنى: لا يَنفَعُ ذا الحظِّ حظُّه، ولا ذا الغِنى غِناهُ، وإنَّما تَنفعُهُ الطَّاعاتُ والعَمَلُ، وقيلَ: إنَّ الحظَّ والغِنَى مِنك، فلا يَنفَعُ الحظُّ صاحبَهُ، ولا يُغنِي عنه مِن عَذابِ الله شيئًا.
“مَن يُرِدِ اللهُ به خَيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّينِ” بأنْ يَمنَحَهُ فَهْمَ العِلمِ الشَّرعيِّ الَّذي لا يُدانيهِ خَيرٌ في هذا الوُجودِ في فَضلِهِ وشَرَفِهِ، وعُلُوِّ دَرَجتِهِ؛ لأنَّه ميراثُ الأنبياءِ، الَّذي لم يُورِّثُوا غيرَهُ. “سَمِعتُ هذه الأحرُفَ من رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على هذه الأعْوادِ”، والمَعْنى أنَّ حَديثَهُ كان نقْلًا لكَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُرادُ بالأعْوادِ: الأخْشابُ المَصْنوعُ منها المِنبَرُ. [الموسوعة الحديثية]
الوجه الثاني: المسائل المتعلقة بالذكر أدبار الصلوات، وفيه ثلاث مسائل، كالتالي:
المسألة الأولى: المراد بدبر الصلاة
ذكر أهل العلم في ذلك: أن ما ورد في النصوص مقيداً بدبر الصلاة، فإن كان ذِكْراً (كالتسبيح والتحميد والتكبير وقراءة آية الكرسي والمعوذات) فالمراد بدبر الصلاة هنا: بعدها.
وإن كان دعاءً، فالمراد بدبر الصلاة: آخرها، أي قبل التسليم.
إلا إذا جاء ما يدل على أن هذا الدعاء المعين يقال بعد التسليم، كقوله صلى الله عليه وسلم (استغفر الله ثلاثاً)، فهذا دعاء ولكن دلت السنة على أنه يقال بعد السلام.
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله:
ما المراد بدبر الصلاة في الأحاديث التي ورد فيها الحث على الدعاء أو الذكر دبر كل صلاة؟ هل هو آخر الصلاة أو بعد السلام؟
فأجاب:
“دبر الصلاة يطلق على آخرها قبل السلام، ويطلق على ما بعد السلام مباشرة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، وأكثرها يدل على أن المراد آخرها قبل السلام فيما يتعلق بالدعاء، كحديث ابن مسعود رضي الله عنه لما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم التشهد، ثم قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) وفي لفظ: (ثم ليتخير بعد المسألة ما شاء). متفق على صحته.
ومن ذلك: حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد صحيح.
ومن ذلك: ما رواه البخاري رحمه الله عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول دبر كل صلاة: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، ومن عذاب القبر).
أما الأذكار الواردة في ذلك، فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ذلك في دبر الصلاة بعد السلام. ومن ذلك أن يقول حين يُسلم ما سبق ذكره:
ويُستحب أن يقرأ بعد ذلك آية الكرسي مرة واحدة سراً، ويقرأ: (قل هو الله أحد) والمعوذتين بعد كل صلاة سراً مرة واحدة، إلا في المغرب والفجر فيُستحب له أن يكرر قراءة السور الثلاث المذكورة ثلاث مرات، ويُستحب أيضاً للمسلم والمسلمة بعد صلاة المغرب والفجر أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات زيادة على ما تقدم قبل قراءة آية الكرسي وقبل قراءة السور الثلاث. عملا بالأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك” انتهى.”مجموع فتاوى ابن باز” (11/ 194).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:”والمتأمل في هذه المسألة يتبن له: أن ما قيد بدبر الصلاة إن كان ذكراً فهو بعدها، وإن كان دعاء فهو في آخرها.
“مجموع فتاوى ابن عثيمين” (13/ 268).
المسألة الأولى (2): مطوية: (الأَذْكَارُ بَعْدَ السَّلاَمِ)، من كتاب: أذكار الطهارة والصلاة، المؤلف: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
الحديث هنا سيكون عن الأذكار التي يقولها المسلم إذا انصرف من صلاته بعد السلام، وقد جاء في هذا أحاديث عديدة:
منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال: ” كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا انْصَرَفَ مِنَ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثاً، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ “.
قَالَ الوَلِيدُ ـ أحد رواة الحديث ـ: فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ أَسْتَغْفِرُ اللهَ. [صحيح مسلم (رقم:591)].
قوله: ” اللَّهمَّ أنت السلام ” السلام اسم من أسماء الله الحسنى التي أمرنا الله بدعائه بها في قوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة: الأعراف، الآية (180)]، ومعناه: أي المنَزَّه عن كلِّ عيب وآفة ونقص، وهو سبحانه منَزَّهٌ عن كلِّ ما ينافي صفات كماله، ومنزه عن مماثلة أحد من خلقه، أو أن يكون له ند بوجه من الوجوه.
وقوله: “ومنك السلام” أي: أنَّ السلامة من المهالك إنما ترجى وتستوهب منك وحدك، ولا ترجى من أحد سواك، وهذا مستفاد من أسلوب الحصر في قوله: “ومنك السلام” أي: وحدك دون غيرك.
وقوله: “تباركت ذا الجلال والإكرام” تباركت: أي تعاليت وتعاظمت، وذا الجلال والإكرام، أي: يا صاحب الجلال والإكرام، وهما وصفان عظيمان للرب سبحانه دالان على كمال عظمته وكبريائه ومجده، وعلى كثرة صفاته الجليلة وتعدد عطاياه الجميلة، مما يستوجب على العباد أن تمتلئ قلوبُهم محبة وتعظيماً وإجلالاً له.
والحكمةُ من الإتيان بالاستغفار بعد الصلاةِ هي إظهارُ هَضْم النَّفس، وأنَّ العبدَ لَم يَقُم بحقِّ الصلاة
ثم يشتغل المصلِّي بعد ذلك بالتهليل، فعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب المغيرة إلى معاوية بن أبي سفيان: “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا فَرَغَ مِنَ الصَلاَةِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ”. [صحيح البخاري (رقم:844)، وصحيح مسلم (رقم:593)].
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: ” لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَنُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ “. رواه مسلم. [صحيح مسلم (رقم:594)].
قوله: “ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ” أي: لا ينفع صاحب الغنى منك غناه وإنَّما ينفعُه طاعته لك وإيمانه بك وامتثاله لأمرك.
وقوله: “لا إله إلاَّ الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون” أي: نحن على هذا التوحيد والإخلاص ولو كره الكفار ذلك.
ثمَّ يَشرَعُ المسلمُ بعد ذلك في التسبيحات الواردة التي كان يقولها صلى الله عليه وسلم أدبار الصلوات:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتْسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المِائَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرْتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ “. [صحيح مسلم (رقم:597)]
وعنه رضي الله عنه قال: ” جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بالدَّرَجَاتِ العُلَى وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ: ألاَ أُحَدِّثُكُمْ بأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؛ تُسَبِّحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ” [صحيح البخاري (رقم:843)، وصحيح مسلم (رقم:595)].
قال أبو صالح ـ راوي الحديث عن أبي هريرة ـ: ” يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر حتى يكون منهنَّ كلُّهن ثلاثاً وثلاثاً” لكن هذا فهم منه للحديث، والأظهر أنَّ المجموعَ لكلِّ كلمة من هؤلاء الكلمات بأن يسبح ثلاثاً وثلاثين ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويكبر ثلاثاً وثلاثين كما في حديث أبي هريرة السابق. [انظر: فتح الباري لابن حجر (2/ 32)].
وعن عبد الله عمرو رضي الله عنهما عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “خَصْلَتَانِ ـ أَوْ خَلَّتَانِ ـ لاَ يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ، هُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بهِمَا قَلِيلٌ؛ يُسَبِّحُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْراً، وَيَحْمَدُ عَشْراً، وَيُكَبِّرُ عَشْراً، فَذَلِكَ خَمْسُونَ وَمَائَةٍ باللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي المِيزَانِ، وَيُكَبِّرُ أَرْبَعاً وَثَلاَثِينَ إِذا أَخَذَ مَضْجِعَهُ، وَيَحْمَدُ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَيُسَبِّحُ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، فَذَلِكَ مِائَةٌ باللِّسَانِ، وَأَلْفٌ فِي المِيزَانِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْقِدُهَا بيَدِهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ هُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بهِمَا قَلِيلٌ؟ قَالَ: يَاتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فِي مَنَامِهِ فَيُنَوِّمُهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَهُ، وَيَاتِيهِ فِي صَلاَتِهِ فَيُذَكِّرُهُ حَاجَةً قَبْلَ أَنْ يَقُولَهَا” رَواه أبو داود، والترمذي. [سنن أبي داود (رقم:565)، وسنن الترمذي (رقم:3410)، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب (رقم:606)].
ويُستحب للمسلم أن يقرأ أدبار الصلوات {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال:
” أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأ المُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ “. [سنن أبي داود (رقم:1523)، وسنن النسائي (رقم:1336)، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:134)]، والمراد بالمعوذات هذه السُّوَر الثلاث، وقد أطلق عليه المعوذات تغليباً. [انظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 132)].
وأن يقرأ كذلك آية الكرسي لحديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ “. رواه النسائي فِي عمل اليوم والليلة. [عمل اليوم والليلة (رقم:100)، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع (رقم:6464)].
والمراد بقوله “لَم يمنعه من دخول الجنة إلاَّ أن يموت” أي: لَم يكن بينه وبين دخول الجنة إلاَّ الموت.
قال ابن القيم رحمه الله: ” بلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ أنه قال: ما تركتها عقيب كلِّ صلاة”. [زاد المعاد (1/ 304)].
ومن المشروع للمسلم أن يقول أدبار الصلوات ما أوصى به النَّبيّ صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه، ففي سنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بيَدِهِ يَوْماً وَقَالَ: يَا مُعَاذٍ، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذٍ، لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ” [سنن أبي داود (رقم:1522)، وسنن النسائي (رقم:1303)، وصحَّحه الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح أبي داود (رقم:1347)]،
وهذا الدعاء هل يقال قبل السلام أو بعده؟ قولان لأهل العلم واختار شيخ الإسلام أن يقال قبل السلام، والله تعالى أعلم.
*****
المسألة الثالثة: فَوائِدِ الذِّكرِوَقَد ذَكَرَ الإِمَامُ العَلَّامَةُ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ العَظِيم ((الوَابِلُ الصَّيِّبُ)) كَثِيرًا مِنَ فَوائِدِ الذِّكرِ مِنهَا:
الأُولَى: أَنَّ الذِّكرَ يَطرُدُ الشَّيطَانَ وَيَقمَعُهُ وَيَكسَرُهُ.
الثَّانِيَةُ: أَنَ الذِّكرَ يُرضِي الرَّحمَنَ -عَزَّ وَجَلَّ-.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الذِّكرَ يُزِيلُ الهَمَّ وَالغَمَّ عَن القَلب, وَيَجلِبُ لِلقَلبِ الفَرَحَ وَالسُّرُورَ وَالنَّشَاطَ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ يُقَوِّي القَلبَ وَالبَدَنَ.
الخَامِسَةُ: أَنَّهُ يُنَوِّرُ الوَجهَ وَالقَلبَ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ الذِّكرَ يَجلِبُ الرِّزقَ.
السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَكسُو الذَّاكِرَ المَهَابَةَ وَالحَلَاوَةَ وَالنَّضرَةَ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ يُورِثُ المَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رُوحُ الإِسلَامِ, وَقُطبُ رَحَى الدِّين, وَمَدَارُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ الذِّكرَ يُورِثُ المُرَاقَبَةَ حَتَّى يَدخُلَ فِي بَابِ الإِحسَان، فَيَعبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلغَافِلِ عَن الذِّكرِ إِلَى مَقَامِ الإِحسَان.
العَاشِرَةُ – مِن فَوَائدِ الذِّكرِ-: أَنَّهُ يُورِثُ الإِنَابَةَ وَالرُّجُوعَ إِلَى اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا-.
الحَادِيَةَ عَشرَةَ: أَنَّ الذِّكرَ يُورِثُ القُربَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَى قَدرِ ذِكرِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ القُربُ مِنهُ، وَعَلَى قَدرِ الغَفلَةِ عَن الذِّكرِ يَكُونُ بُعْدُ العَبدِ عَن رَبِّهِ.
الثَّانِيَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يَفتَحُ لَهُ بَابًا عَظِيمًا مِن أَبوَابِ المَعرِفَة، وَكُلَّمَا أَكثَرَ مِنَ الذِّكرِ؛ ازدَادَ مِنَ المَعرِفَةِ.
الثَّالِثَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يُورِثُ الهَيبَةَ لِرَبِّهِ وَإِجلَالَهِ، لِشِدَّةِ استِيلَاءِ الذِّكرِ عَلَى قَلبِهِ وَحُضُورِ العَبْدِ مَعَ رَبِّهِ، بِخِلَافِ الغَافِل فَإِنَّ حِجَابَ الهَيبَةِ رَقِيقٌ فِي قَلبِهِ.
الرَّابِعَةَ عَشرَةَ – مِن فَوَائدِ الذِّكرِ-: أَنَّهُ يُورِثُ الذَّاكِرَ ذِكرَ اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا- {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذِّكرِ إِلَّا هَذِهِ لَكَفَى بِالذِّكرِ فَضلًا وَشَرَفًا.
الخَامِسَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يُورِثُ حَيَاةَ القَلب.
السَّادِسَةَ عَشرَةَ: أَنَّ الذِّكرَ قُوتُ القُلُوبِ وَرُوحُهَا.
السَّابِعَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يُورِثُ جِلَاءَ القَلبِ مِن صَدَئِه، وَلَا رَيبَ أَنَّ القَلبَ يَصدَأُ كَمَا يَصدَأُ النُّحَاسُ وَالفِضَّةُ وَغَيرُهُمَا، وَجِلَاؤُهُ بِالذِّكرِ، فَإِنَّهُ يَجلُو القَلبَ حَتَّى يَدَعَهُ كَالمِرآةِ البَيضَاءِ، فَإِذَا تَرَكَ العَبدُ الذِّكرَ صَدِئَ قَلبُه، فَإِذَا ذَكَرَ جَلَاهُ.
الثَّامِنَةَ عَشرَةَ: أَنَّهُ يُحِطُّ الخَطَايَا وَيُذهِبُهَا, فَإنَّهُ مِن أَعظَمِ الحَسَنَات، وَالحَسَنَاتُ يُذهِبنَ السَّيِّئَات. [للتوسع راجع المصدر]
وسبق بيان هذه المسائل وغيرها في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1107).
المسألة الرابعة: حكم رفع الصوت بالذكر؟ فقد استدل بعض السلف بحديث ابن عباس على استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر بعد الصلاة المكتوبة.
قال ابن حبيب: كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء تكبيرًا عاليًا ثلاثًا.
قال: وهو قديم من شأن الناس، وقال الطبري: في الحديث البيان على صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء والولاة، يكبر بعد صلاته، ويكبر من خلفه.
وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم جهر ليعلمهم صفة الذكر، لا أنه كان دائمًا: قال: وأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك إلا أن يقصدا التعليم، فيعلما، ثم يسرا. اهـ
والظاهر أن الأمر لم يستمر على ارتفاع الصوت بالذكر، لهذا قال ابن بطال: إن قول ابن عباس كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيه دلالة على أنه لم يكن يفعل حين حدث به؛ لأنه لو كان يفعل لم يكن لقوله معنى، فكأن التكبير في أثر الصلوات بصوت مرتفع لم يواظب الرسول صلى الله عليه وسلم عليه طول حياته، وفهم أصحابه أن ذلك ليس بلازم، فتركوه خشية أن يظن أنه مما لا تتم الصلاة إلا به.
وقال ابن بطال أيضًا: أصحاب المذاهب المتبعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر حاشا ابن حزم. اهـ
مسألة: إليك حُكمُ الجَهرِ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلواتِ بشيء من التوسع
اختلَفَ العلماءُ في مشروعيَّةِ الجَهرِ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلواتِ إلى قولينِ:
القولُ الأوَّلُ: يُستحَبُّ الجَهرُ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلاةِ، وهو قولُ بعضِ الحنفيَّةِ، وقولُ بعضِ متأخِّري الحنابلةِ، واختارَه ابنُ حزمٍ، وابنُ تيميَّةَ، وابنُ بازٍ، وابنُ عُثَيمين.
الأدلة مِن السنَّةِ:
1 – عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رفعَ الصَّوتِ بالذِّكرِ حينَ ينصرِفُ النَّاسُ مِن المكتوبةِ كان على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم))، قال ابنُ عبَّاسٍ: ((كنتُ أعلَمُ إذا انصرَفوا بذلك إذا سمِعْتُه))، وفي لفظٍ: ((ما كنَّا نعرِفُ انقضاءَ صلاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا بالتَّكبيرِ)).
2 – عن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ – رضيَ اللهُ عنه – قال: سمِعْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ إذا قضى الصَّلاةَ: ((لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له)).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه لا يسمَعُ القولَ إلَّا إذا جهَرَ به القائلُ.
3 – أنَّ ابنَ الزُّبيرِ كان يقولُ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ حين يُسلِّمُ: ((لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولا نعبُدُ إلَّا إيَّاه، له النِّعمةُ وله الفضلُ، وله الثَّناءُ الحسَنُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، مُخلِصينَ له الدِّينَ ولو كرِهَ الكافرونَ))، قال ابنُ الزُّبيرِ: (كان رسولُ اللهِ – صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم – يُهلِّلُ بهنَّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قولَه: (يُهلِّلُ)، أي: يرفَعُ صوتَه؛ فالتَّهليلُ رفعُ الصَّوتِ.
القول الثاني: لا يُشرَعُ الجَهرُ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلاةِ، وهو مذهبُ المالكيَّةِ، والشافعيَّةِ، وبعضِ الحنفيَّةِ، وحُكِيَ عن أكثرِ العلماءِ، وصوَّبه المَرْداويُّ، واختارَه الألبانيُّ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِن الكتابِ
1 – قولُه تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء: 110].
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
نهى اللهُ في هذه الآيةِ عن الجهرِ بالدُّعاءِ.
2 – عمومُ قولِه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55].
3 – عموم قوله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً
ثانيًا: من السُّنَّة
عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّمَ، وكنَّا إذا أشرَفْنا على وادٍ هلَّلْنا وكبَّرْنا ارتفعَتْ أصواتُنا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّمَ: يا أيُّها النَّاسُ، اربَعُوا على أنفسِكم؛ فإنَّكم لا تَدْعونَ أصَمَّ ولا غائبًا، إنَّه معكم سميعٌ قريبٌ)).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ فيه النَّهيَ عن رفعِ الصَّوتِ بالدُّعاءِ والذِّكرِ.
ثالثًا: أنَّه يترتَّبُ مِن رفعِ الصَّوتِ بالذِّكرِ التَّشويشُ على المُصلِّين.
رابعًا: أنَّ الإسرارَ أبلَغُ في الإخلاصِ، وأقربُ إلى الإجابةِ.
خامسًا: أنَّ أحاديثَ الجَهْرِ بالذِّكرِ عَقِيبَ الصَّلاةِ إنَّما هي للتَّعليمِ. [الموسوعة الفقهية]
السؤال: ما الأذكار التي يرفع الإنسان بها صوته بعد الصلاة المكتوبة؟ وما قولكم في قول بعضهم إن رفع الصوت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل التعليم؟ وما رأيكم في قول شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم رحمهما الله: إن الدعاء يكون قبل السلام والذكر بعده؟ الإجابة: الأذكار التي يرفع الإنسان بها صوته بعد المكتوبة: كل ذكر يشرع بعد الصلاة، لما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وكنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعتهم”، فدل هذا على أن كل ما يشرع من ذكر في أدبار الصلاة فإنه يجهر به. وأما من زعم من أهل العلم أنه كان يجهر به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم للتعليم، وأنه لا يسن الجهر به الآن فإن هذا في الحقيقة مبدأ خطير، لو كنا كلما جاءت سنة بمثل هذا الأمر قلنا إنها للتعليم، وأن الناس قد تعلموا الآن فلا تشرع هذه السنة لبطل كثير من السنن بهذه الطريقة، ثم نقول: الرسول عليه الصلاة والسلام قد أعلمهم بما يشرع بعد الصلاة، كما في قصة الفقراء الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم [في أن الأغنياء سبقوهم فقال: “ألا أخبركم بشيء تدركون به من سبقكم؟ ” ثم ذكر لهم أن يسبحوا ويكبروا ويحمدوا ثلاثاً وثلاثين]. فقد علمهم بالقول صلى الله عليه وسلم. فالصواب في هذا أنه يشرع أدبار الصلوات المكتوبة أن يجهر الإنسان بكل ما يشرع من ذكر سواء بالتهليل، أو بالتسبيح أو الاستغفار بعد السلام ثلاثاً أو بقول: “اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وتباركت يا ذا الجلال والإكرام”.
وأما ذكر السائل عن شيخ الإسلام بن تيميه، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله من أن الدعاء قبل السلام والذكر بعده، فهذا كلام جيد جداً ويدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه حينما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد، ثم قال بعد ذلك: “ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه”، فأرشد النبي عليه الصلاة والسلام المصلي أن يدعو بعد التشهد مباشرة وقبل السلام. وأما أن الذكر بعد السلام فلقول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُم}، وعلى هذا فيكون ما بعد السلام ذكراً ويكون ما قبل السلام دعاءً هذا ما يقتضيه الحديث، وما يقتضيه القرآن، وكذلك المعنى يقتضيه أيضاً لأن المصلي بين يدي الله عز وجل فمادام في صلاته فإنه يناجي ربه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا انصرف وسلم انصرف من ذلك فكيف نقول أجل الدعاء حتى تنصرف من مناجاة الله، المعقول يقتضي أن يكون الدعاء قبل أن تسلم ما دمت تناجي ربك تبارك وتعالى، وعلى هذا فيكون ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وتلميذه ابن القيم، هو الصواب الذي دل عليه المنقول والمعقول، ولكن لا حرج أن الإنسان يدعو بعد الصلاة أحياناً، أما اتخاذ ذلك سنة راتبة كما يفعله بعض الناس كلما انصرف من السنة رفع يديه يدعو فإن هذا لا أعلم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين – المجلد الثالث عشر – كتاب]
ملحق:
1 – جمع الإمام النووي أحاديث كثيرة في الذكر والدعاء في كتاب الأذكار، فمن شاء الزيادة رجع إليه.
2 – والأحاديث الصحيحة تجمع على استحباب ذكر الله تعالى بعد السلام للإمام والمأموم والمنفرد والرجل والمرأة والحاضر والمسافر وغيرهم، ولا خلاف في ذلك، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
3 – وهذه الأذكار كلها مستحبة، لكن بأيها يبدأ؟ قال النووي: يستحب أن يبدأ من هذه الأذكار بحديث الاستغفار. اهـ
يعني حديث ثوبان: يستغفر ثلاثًا، ثم يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام، ثم يتبع ذلك ما كتبه المغيرة لمعاوية: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
ثم زيادة ابن الزبير: لا حول ولا قوة إلا بالله.
لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله.
مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، ثم يسبح ويحمد ويكبر ثلاثًا وثلاثين.
واختلفت الروايات في العدد المطلوب من التسبيح والتحميد والتكبير، وقد رأينا في ملحق الرواية السابعة قول الراوي سهل: إحدى عشرة.
إحدى عشرة.
فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون.
قال الحافظ ابن حجر: ووقع في رواية ورقاء عن سمي عند البخاري في الدعوات في هذا الحديث تسبحون عشرًا، وتحمدون عشرًا قال: ولم أقف في شيء من طرق حديث أبي هريرة على من تابع ورقاء على ذلك، لا عن سمي ولا عن غيره، ويحتمل أن يكون تأول ما تأول سهيل من التوزيع، ثم ألغى الكسر، ويعكر عليه أن السياق صريح في كونه كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: وقد وجدت لرواية العشر شواهد، منها عن علي عند أحمد، وعن سعد بن أبي وقاص عند النسائي، وعن عبد الله بن عمرو عند النسائي وأبي داود والترمذي، وعن سلمة عند البزار، وعن أم مالك الأنصارية عند الطبراني.
* وجمع البغوي في شرح السنة بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة، أولها عشرًا.
عشرًا، ثم إحدى عشرة، ثم ثلاثًا وثلاثين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال، وقد جاء من حديث ابن ثابت وابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا كل ذلك خمسًا وعشرين ويزيدوا فيها لا إله إلا الله خمسًا وعشرين ولفظ زيد بن ثابت أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فأتى رجل في منامه، فقيل له: أمركم محمد أن تسبحوا … ؟ قال: نعم.
قال: اجعلوها خمسًا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل.
فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فافعلوه أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان، واستنبط النسائي أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة، وإلا لكان يمكن أن يقال لهم: أضيفوا لهما التهليل ثلاثًا وثلاثين؛ * وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالذكر عقب الصلوات إذا رتب عليها ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص، لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية وتفوت بمجاوزة ذلك العدد.
قال الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: وفيه نظر.
لأنه أتى بالمقدار الذي رتب الثواب على الإتيان به، فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه كيف تكون الزيادة مزيلة الثواب بعد حصوله؟ قال الحافظ ابن حجر: يمكن أن يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة فالأمر كما قال شيخنا الحافظ أبو الفضل لا محالة، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب على عشرة مثلاً.
فرتبه هو على مائة فيتجه القول الماضي، وقد بالغ القرافي في القواعد، فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحددة شرعًا، لأن شأن العظماء إذا حددوا شيئًا أن يوقف عنده، ويعد الخارج عنه مسيئًا للأدب. اهـ قال الحافظ ابن حجر: وقد مثله بعض العلماء بالدواء، يكون مثلاً فيه أوقية سكر، فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء، ثم استعمل بعد ذلك من السكر ما شاء لم يتخلف الانتفاع، ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة، لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة تفوت بفواتها. انتهى.
4 – كما اختلف العلماء في كيفية التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين، هل يجمعها في كل مرة، ويعد ثلاثًا وثلاثين كما قال أبو صالح في ملحق روايتنا السابعة، أو يأتي بالتسبيح وحده ثلاثًا وثلاثين، ثم بالتحميد ثلاثًا وثلاثين، ثم بالتكبير ثلاثًا وثلاثين، كما فسره بعض أهل سمي في الرواية نفسها؟ وكما هو ظاهر الرواية الثامنة والرواية التاسعة.
قال القاضي عياض: الإفراد أولى.
قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن كلا الأمرين حسن، إلا أن الإفراد يتميز بأمر آخر، وهو أن الذاكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة توصل إلى ذلك – سواء كان بأصابعه أو بغيرها – ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث. [فتح المنعم]
الوجه الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم (( .. مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
أولاً: الحديث رواه البخاري (71)، ومسلم (1037) عن مُعَاوِيَةَ بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
ثانيًا: والفقه في اللغة: هو الفهم، ثم غلب إطلاقه على فهم الدين والشرع.
قال العيني رحمه الله:
” قَوْله: (يفقهه) أَي: يفهمهُ، إِذْ الْفِقْه فِي اللُّغَة الْفَهم. قَالَ تَعَالَى: (يفقهوا قولي) طه/ 28، أَي: يفهموا قولي، من فقه يفقه، ثمَّ خُص بِهِ علم الشَّرِيعَة، والعالم بِهِ يُسمى فَقِيها ” انتهى من “عمدة القاري” (2/ 42)، وينظر: ” فتح الباري” (1/ 161).
فالفقه في الدين: معرفة أحكام الشريعة بأدلتها، وفهم معاني الأمر والنهي، والعمل بمقتضى ذلك، فيرث به الفقيه الخشية من الله تعالى ومراقبته في السر والعلن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:” الْفِقْهُ فِي الدِّينِ: فَهْمُ مَعَانِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لِيَسْتَبْصِرَ الْإِنْسَانُ فِي دِينِه ِ، أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة/ 122. فَقَرَنَ الْإِنْذَارَ بِالْفِقْهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ مَا وَزَعَ عَنْ مُحَرَّمٍ، أَوْ دَعَا إلَى وَاجِبٍ، وَخَوَّفَ النُّفُوسَ مَوَاقِعَهُ، الْمَحْظُورَةَ “.
انتهى من “الفتاوى الكبرى” (6/ 171)، وينظر: “مجموع الفتاوى” (20/ 212).
وقال النووي رحمه الله:” فِيهِ فَضِيلَةُ الْعِلْمِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ؛ وَسَبَبُهُ: أَنَّهُ قَائِدٌ إِلَى تَقْوَى اللَّهُ تَعَالَى “. انتهى من ” شرح النووي على مسلم ” (7/ 128).
فتحصل من ذلك: أن الفقه في الدين هو: فهم مراد الله من عباده، سواء كان مراده تصديقا لخبر، أو عملا بأمر، أو انتهاء عن نهي، وليس فهم العلم فحسب؛ بل الفهم الحامل لصاحبه على الامتثال، ثم الناس يتفاوتون في ذلك، علما وعملا وحالا؛ فمن مقل ومستكثر، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:” كُلُّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَا بُدَّ أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ، فَمَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين ِ، لَمْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، وَالدِّينُ: مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ؛ وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيُطِيعَهُ فِيمَا أَمَرَ، تَصْدِيقًا عَامًّا، وَطَاعَةً عَامَّةً “. انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (28/ 80).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله:”هذا الحديث العظيم يدلنا على فضل الفقه في الدين. والفقه في الدين هو: الفقه في كتاب الله عز وجل، والفقه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الفقه في الإسلام من جهة أصل الشريعة، ومن جهة أحكام الله التي أمرنا بها، ومن جهة ما نهانا عنه سبحانه وتعالى، ومن جهة البصيرة بما يجب على العبد من حق الله وحق عباده، ومن جهة خشية الله وتعظيمه ومراقبته؛ فإن رأس العلم خشية الله سبحانه وتعالى، وتعظيم حرماته، ومراقبته عز وجل فيما يأتي العبد ويذر، فمن فقد خشية الله، ومراقبته فلا قيمة لعلمه، إنما العلم النافع.
والفقه في الدين الذي هو علامة السعادة، هو العلم الذي يؤثر في صاحبه خشية الله، ويورثه تعظيم حرمات الله ومراقبته، ويدفعه إلى أداء فرائض الله وإلى ترك محارم الله، وإلى الدعوة إلى الله عز وجل، وبيان شرعه لعباده. فمن رزق الفقه في الدين على هذا الوجه: فذلك هو الدليل والعلامة على أن الله أراد به خيرا، ومن حرم ذلك، وصار مع الجهلة والضالين عن السبيل، المعرضين عن الفقه في الدين، وعن تعلم ما أوجب الله عليه، وعن البصيرة فيما حرم الله عليه: فذلك من الدلائل على أن الله لم يرد به خيرا.
فمن شأن المؤمن طلب العلم والتفقه في الدين، والتبصر، والعناية بكتاب الله والإقبال عليه وتدبره، والاستفادة منه والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفقه فيها، والعمل بها، وحفظ ما تيسر منها، فمن أعرض عن هذين الأصلين، وغفل عنهما: فذلك دليل وعلامة على أن الله سبحانه لم يرد به خيرا، وذلك علامة الهلاك والدمار، وعلامة فساد القلب وانحرافه عن الهدى “. انتهى من ” مجموع فتاوى ابن باز ” (9/ 129 – 130). [شرح حديث: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)].
ثالثًا: المراد بهم؟ وفي الحديث إثبات الخير لمن تفقه في دين اللَّه وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط، بل لمن يفتح اللَّه عليه به، وأن من يفتح اللَّه عليه بذلك لا يزال جنسه موجودا حتى يأتي امر اللَّه، وقد جزم البخاري بأن المراد بهم أهل العلم بالآثار.
وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم!
وقال القاضي عياض: أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.
قال النووي: يحتمل أن تكون هذه الطائفة فرقة من أنواع المؤمنين ممن يقيم أمر اللَّه تعالى من مجاهد وفقيه ومحدث وزاهد وآمر بالمعروف وغير ذلك من أنواع الخير، ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد، بل يجوز أن يكونوا متفرقين.
وقال الحافظ: ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين – أي: يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع – فقد حرم الخير لأن من لم يعرف أمر ربه لا يكون فقيها ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيانٌ ظاهرٌ لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم.
رابعًا: أقسام علوم الشريعة. قال الحافظ البغوي رحمه الله تعالى (1/ 289):
العلوم الشرعية قسمان: علم الأصول، وعلم الفروع، أما علم الأصول فهو: معرفة اللَّه سبحانه وتعالى بالوحدانية والصفات وتصديق الرسل، فعلى كل مكلف معرفته ولا يسع فيه التقلب لظهور آياته ووضوح دلائله، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
وأما علم الفروع: فهو علم الفقه ومعرفة أحكام الدين؛ فينقسم إِلى فرض عين، وفرض كفاية، أما فرض العين: فمثل علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال النبي صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد، فعليه معرفة علمها مثل علم الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه.
وأما فرض الكفاية فهو: أن يتعلم ما يبلغ به رتبته الاجتهاد ودرجة الفتيا، فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا، وإذا قام واحد منهم بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يعن لهم من الحوادث، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. انتهى.
الوجه الرابع: الفوائد.
ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم:
1 – في الحَديثِ: أنَّ العِلمَ الشَّرعيَّ أشرَفُ العُلومِ إطْلاقًا؛ لعَلاقتِهِ باللهِ.
2 – … وفيه: أنَّ الفِقهَ في الدِّينِ مِن عَلاماتِ خَيْريَّةِ المُسلِمِ.
3 – وفيه: فَضلُ العِلمِ، وفَضلُ تعلُّمِهِ.
4 – ومن كتابة المغيرة إلى معاوية استدل على العمل بالمكاتبة وإجرائها مجرى السماع في الرواية ولو لم تقترن بالإجازة.
5 – واستدل به على الاعتماد على خبر الشخص الواحد.
وتعقب من بعضهم بأنه يحتمل أن معاوية كان قد سمع الحديث المذكور، فأراد التثبت من المغيرة.
6 – وفيه المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها، ففي البخاري عن وراد قال: ثم وفدت بعد على معاوية، فسمعته يأمر الناس بذلك.
7 – أخذ أكثر العلماء أن الذكر مستحب عقب الفرض دون النفل، وحملوا المطلق في دبر كل صلاة على هذا المقيد. [فتح المنعم، الموسوعة الحديثية].
8 – هناك بحث للشيخ الجنيد توصل فيه إلى مشروعية الدعاء عقب الصلاة. وقبله بحث هذه المسألة ابن رجب في بحثين عبارة عن ردود على من أنكر ذلك. أشار لبحوثه في فتح الباري