: 1121 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——‘——–‘
——-‘——-‘——-‘
——-‘——–‘——‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1121):
1121 قال أبوداود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز قال خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام بن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار.
——-‘——-‘——
الحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول: شرح وفقه الحديث:
أنه لا يجوز القيام للعلماء، ولا الأمراء، بحيث يتخذ ذلك عادة وسنة. بل ذلك من فعل أهل الجاهلية والجبابرة كملوك فارس والروم وغيرهم، فإنهم كانوا يفعلون ذلك مع عظمائهم.
الوجه الثاني: المسائل المتعلقة بـ
أحكام السلام للشيخ \ عبد السلام البرجس آل عبد الكريم
[مسألة:] من يبدأ بالسلام؟
سنة لم يرعها كثير من الناس، حتى أوشكت على الاندراس. وما هذه السنة – سنة من يبدأ بالسلام – إلا دليل صدق وشاهد عدل على ما يحظى به المسلمون من آدابٍ عالية، في دقائق الأمور، بَلْهَ جليلها. وقد أخرج الترمذي (5/ 62) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (2/ 460) من حديث فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((يسلم الفارس على الماشي. والماشي علي القائم .. )) الحديث، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. اهـ.
قال الحافظ: وإذا حمل القائم علي المستقر كان أعم من أن يكون جالساً، أو واقفاً، أو متكئاً، أو مضطجعاً. اهـ[الفتح (11/ 16)].
ويسلم القليل علي الكثير. والحكمة في ذلك: أن للجماعة فضلاً مطرداً في الشرع، فناسب أن يبدؤا بالسلام.
أو أن الجماعة لو ابتدؤا لخيف علي الواحد الزهو، فاحتيط له. [المصدر السابق].
ويسلم الصغير علي الكبير.
والحكمة في ذلك مراعاة السن فإنها معتبرة في أمور كثيرة في الشرع.
وإذا عرف هذا الأدب النبوي، وتبينت حكمه فإن هناك صوراً مشكلة، أو قد تشكل، أو لم ينص عليها هذا المقام:
منها: إذا تلاقي ماران: راكبان، أو ماشيان، فأيهما يبدأ بالسلام؟ الصحيح: استواؤهما، فمن بدأ فهو أفضل؛ لما روى البخاري في [((الأدب المفرد)) (2/ 458)] عقيب حديث أبي هريرة ((يسلم الراكب علي الماشي … )) عن أبن جريج قال: فأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: ((الماشيان إذا اجتمعا فأيهما بدأ بالسلام فهو أفضل)) [قال ابن حجر بسند صحيح. اهـ].
ومنها: إذا تعارض الصغر المعنوي، والحسي، كأن يكون الأصغر أعلم مثلاً. فالذي يظهر اعتبار السن؛ لأنه الظاهر كما تقدم الحقيقة علي المجاز. [الفتح (11/ 17)]
ومنها: إذا التقى الكبير والصغير. فإن كان أحدهما راكباً، والآخر ماشياً: يبدأ الراكب. وإن كانا راكبين، أو ماشيين: بدأ الصغير. قاله ابن رشد [الفتح (11/ 17)]
ومنها: إذا كان المشاة كثير، والقعود قليلاً فيرجح جانب الماشي، فيبدأ بالسلام. وقال في ((الإقناع)): أما إذا وردوا على قاعدٍ أو قعودٍ فإن الوارد يبدأ مطلقاً. ا هـ. [وعنه السفاريني في غذاء الألباب (1/ 383)]
قال النووي في ((الأذكار)):وهذا الأدب هو فيما إذا تلاقي الاثنان في طريق، أما إذا ورد على قعود أو قاعدٍ فإن الوارد يبدأ بالسلام على كل حال، سواء كان صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً. اهـ[الأذكار ص 219].
وإذا خالف أحد هذا الأدب فسلم الماشي علي الراكب، والكبير علي الصغير، والكثير علي القليل: فلهم أجر إفشاء السلام -إن شاء الله-، إلا أن العمل بهذا الحديث أولى طلباً للكمال، وتحصيلاً للسنة.
قال النووي في [((شرح مسلم)) (14/ 141) وعنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/ 418)]:
وهذا الذي جاء به الحديث … كله للاستحباب، فلو عكسوا، جاز وكان خلاف الأفضل. اهـ.
[مسألة:] وجوب رد السلام.
سُئل الإمام أحمد – رحمه الله تعالي – عن رجل مَر بجماعة، فسلم عليهم، فلم يردوا عليه السلام، فقال: “يُسرع في خطاهُ، لا تلحقه اللعنة مع القوم” [الآداب الشرعية (1/ 397)، وعنه السفاريتي في ((غذاء الألباب)) (1/ 277)].
قال ابن عبد البر في ((التمهيد)):
الحجة في فرض رد السلام؛ قول الله تعالي: {وإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.قال: والرد واجب عند جميعهم. اهـ. [التمهيد (5/ 288 – 289)].
قال القرطبي: أجمع العلماء علي أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة. اهـ[تفسير القرطبي (5/ 298)].وقد سبقه إلى نقل الإجماع: ابن عبد البر، وابن حزم، ونقله – أيضاً – شيخ الإسلام ابن تيمية [الآداب الشرعية (1/ 379)].
قال: ابن كثير – رحمه الله تعالي – علي قول الحسن البصري: “السلام تطوع، والرد فريضة”، وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة: أن الرد واجب علي من سلم عليه، فيأثم إن لم يفعل؛ لأنه خالف أمر الله تعالي. اهـ[تفسير ابن كثير (1/ 532)].
تنبيه: إذا قام الإنسان من المجلس، وسلم وجب الرد عليه، خلافاً لبعض العلماء.
قال المستظهري من الشافعية: السلام سنة عند الانصراف فيكون الجواب واجبا. قال النووي: هذا هو الصواب. اهـ[الأذكار للنووي ص 220، وعنه ابن حجر في الفتح (11/ 7)].
[مسألة:] كيفية الرد؟
إذا كان السلام على (جماعة)
أخرج أبو داود في سننه (5/ 387) من طريق سعيد بن خالد الخزاعي، قال: حدثني عبد الله بن الفضل حدثنا عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه -، قال أبو داود: رفعه الحسن بن علي-، قال: “يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم”.
قال الحافظ في ((الفتح)) (11/ 7):وفي سنده ضعف، لكن له شاهد من حديث الحسن بن علي عند الطبراني، وفي سنده مقال، وآخر مرسل في ((الموطأ)) عن زيد بن أسلم. اهـ.
وقول الحافظ: “سنده ضعيف”؛ لأن فيه علتين: الأولي: سعيد بن خالد، فإنه ليس بالقوي [العلل للدراقطني (4/ 22)]، وقد ضعفه جماعة منهم أبو زرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن شيبة. وجعلوا حديثه هذا منكراً؛ لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد [التمهيد (5/ 290)].
قال ابن حبان: لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد [التهذيب (4/ 21)].
والعلة الثانية: الانقطاع بين عبد الله بن الفضل وعبيد الله بن أبي رافع. قال ابن عبد البر: عبد الله ابن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع، بينهما الأعرج في غير ما حديث. اهـ.
وقد رواه المحاملي في [((أماليه)) [(5/ 62/2) انظر حاشية العلل للدارقطني (4/ 22)]،عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع.
قال الدراقطني في ((العلل)) (4/ 22): والصواب قول من لم يذكر الأعرج فيه والحديث غير ثابت. اهـ.
لكن للحديث شواهد – كما قال ابن حجر – وقد قال ابن عبد البر عن حديث علي: “هو حديث حسن”، وقد حسنه من المعاصرين المحدث الألباني [الإرواء (3/ 242)]، والله تعالي أعلم بالصواب.
قال ابن مفلح – رحمه الله -: ويجزئ سلام واحدٍ من جماعة ورد أحدهم. [الآداب (1/ 379)].
قال ابن عبد البر: قال مالك والشافعي، وأصحابهما، وهو قول أهل المدينة: إذا سلم رجل على جماعةٍ من الرجال فرد عليه واحد منهم. وشبهه الشافعي – رحمه الله – بصلاة الجماعة، والتفقه في دين الله، وغسل الموتى، ودفنهم، وبالسفر إلي أرض العدو لقتالهم. قال هذه كلها فروض علي الكفاية، وإذا قام منها بشيء بعض القوم، أجزأ عن غيرهم. اهـ. [التمهيد (5/ 288)].
وقد خالف في ذلك الحنفية، قال أبو يوسف: لا يجزئ إلا أن يردوا جميعًا.
قال أبو جعفر الطحاوي: ولا نعلم في هذا الباب شيئاً روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث مالك عن زيد بن أسلم، وشيء روي فيه عن أبي النضر مولي عمر بن عبيد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلا الوجهين لا يحتج به .. . اهـ[نقلاً عن التمهيد (5/ 288)].
[مسألة:] إرسال السلام وتبليغه. كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل السلام لمن يريد السلام عليه من الغائبين عنه. ويتحمل – صلى الله عليه وسلم – السلام لمن يبلغه إليه.
فمن الأول: ما رواه مسلم في صحيحه (3/ 1506) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن فتىً من أسلم قال: يا رسول الله، إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز. قال: ((ائت فلاناً فإنه قد كان تجهز فمرض)). فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول: ((أعطني الذي تجهزت به)). قال: يا فلانة أعطيه الذي تجهزت به. ولا تحبسي عنه شيئاً، فوا الله لا تحبسي منه شيئاً فيبارك لك فيه.
ففي: هذا الحديث مشروعية إرسال السلام إلي الغائب، وعليه العمل عند المسلمين.
من ذلك ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت أمرأة لزوجها: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: أحجني على جملك فلان. قال: ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وأنها سألتني الحج معك، قالت: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عندي ما أحجك عليه. قالت: أحجني على جملك فلان. فقلت ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: ((أما إنك لو أحججتها عليه كان ذلك في سبيل الله)).قال: وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجةً معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقرأها السلام ورحمة الله وبركاته، وأخبرها أنها تعدل حجة معي)) يعني عمرةً في رمضان [سنن أبي داود – كتاب المناسك – (2/ 505) وإسناده لا بأس به إن شاء الله وله شواهد].
ولا يختص إرسال السلام إلي غائب عند الحاجة إليه، بل هو عام عند الحاجة، وغيرها كما وردت بذلك النصوص والآثار، وسيأتي بعضها.
أما الهدي الثاني: وهو تحمل النبي صلى الله عليه وسلم لمن يبلغه إليه، فمنه ما في الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: أتي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصبٍ لا صخب فيه ولا نصب.
وفي الصحيحين – أيضاً – عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: ((يا عائش: هذا جبريل يقرئك السلام)) فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى. تريد رسول الله r . وهذا لفظ البخاري، وليس في رواية مسلم: ((وبركاته)).
[إلى هنا تم مراجعة المادة]
قال النووي في شرح مسلم (15/ 211) وفيه استحباب بعث السلام ويجب على الرسول تبليغه. ا هـ.
قال العلامة ابن مفلح – رحمه الله – في (الآداب 1/ 419):
وهذا ينبغي أن يجب إذا تحمله لأنه مأمور بأداء الأمانة، وإلا فلا يجب. ا هـ.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح 11/ 38):
والتحقيق أن الرسول إنِ ألتزمه أشبه الأمانة، وإلا فوديعة، والودائع إذا لم تقبل لم يلزمه شيء. ا هـ.
فعلي هذا إذا حمل شخصا سلاماً، فلا يخلوا من أحد أمرين:
الأول: أن يحمل سلاماً، فلا يتحمله إما بقوله: لا أتحمل سلامك. وإما بقوله إن شاء الله قاصداً التعليق لا التحقيق. وما شابه ذلك.
الثاني: أن إلتزم ما حمله. وذلك بقوله: سأبلغ سلامك، أو سأبلغه إن شاء الله. قاصداً التحقيق وما شابه ذلك.
فالأول: لا يجب عليه تبليغ السلام.
والثاني: يجب لأنه تحمل أمانة، فأوجب على نفسه تبليغها والدليل علي ذلك عموم ([31]) الآيات والأحاديث الدالة علي وجوب حفظ الأمانة وتأديتها والله أعلم.
كيفية رد السلام المبلغ
إذا بلغك شخص سلام شخصٍ عليك، وجب أن ترد عليه السلام، فإذا قال لك: فلان يقرأ عليك السلام. أو فلان يسلم عليك قلت: وعليه السلام، وإن زدت: ورحمة الله وبركاته، فحسن.
وذلك لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوماً: ((يا عائش: هذا جبريل يقرئك السلام)) فقالت: وعليه السلام، ورحمة الله وبركاته. هذا لفظ البخاري.
لأن رد السلام واجب كما هو متقرر، فيستوي فيه المشافهة، والإبلاغ.
قال النووي في شرح مسلم (15/ 211) على حديث عائشة:
قال أصحابنا هذا الرد واجب على الفور. وكذا لو بلغه سلام في ورقة من غائب لزمه أن يرد السلام عليه باللفظ على الفور إذا قرأه. ا هـ.
وهل يرد السلام على المُرسَل أيضاً، فيقول عليه وعليك السلام؟
في حديث عائشة أنها ردت علي جبريل فقط.
فدل ذلك علي أن الواجب رد السلام على المرسِل
وقد وردت أحاديث في رد السلام على المرسل والمرسَل وأمثلها ما رواه النسائي في ((عمل اليوم والليلة)) ص 301 من طرف جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس، قال: جاء جبريل إلي النبي صلى الله عليه وسلم وعنده خديجة، وقال إن الله يقرئ خديجة السلام. فقالت إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
قال الحاكم في ((المستدرك)) (3/ 186):
حديث صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه. ا هـ ([32])
قال ابن مفلح في ((الآداب (1/ 419):
ويستحب أن يسلم على الرسول. قيل لأحمد: إن فلاناً يقرئك السلام. قال: عليك وعليه السلام. وقال في موضع آخر: وعليك وعليه السلام. ا هـ.
وقال النووي في الأذكار ص 212
ويستحب أن يرد على المبلغ أيضاَ، فيقول: وعليك وعليه السلام. ا. هـ.
قرن المعانقة بالسلام
يعتقد بعض العامة أن من كمال التحية مصاحبة المعانقة لها، فكلما سلم على شخص عانقه، وربما يغضب إذا لم يعامل بذلك وقد جاء النهي الصريح عن هذا العمل. ففي مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي، وابن ماجة، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال:
((قال رجل: يا رسول الله: أحدنا يلقى صديقه أينحني له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال: فيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال يصافحه؟ قال: نعم)).
وفي لفظ أحمد: ((إن شاء)).
وعند ابن ماجه: ((لا، ولكن تصافحوا)) قال الترمذي: حديث حسن.
فدل الحديث على أن الصديق إذا لقي صديقه أكتفي بالمصافحة – مع السلام – ويستنثي من ذلك من قدم من سفر، فإن معانقته مستحبة عندئذ، لما ثبت عن أنس بن مالك – رضي الله عنه –من قوله: ((كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمض إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا)).
رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي في ((المجمع)): رجاله رجال الصحيح. ا هـ.
فدل الأثر علي أن الصحابة إذا لاقى بعضهم بعضاً اكتفوا بالمصافحة ما لم يكن أحدهم قدم من سفر ففي هذه الحالة يعانقونه ويقبلونه.
تنبيه:
يخطئ كثير من الناس عندما يعانقون أهل الميت حال تعزيتهم، لأن المعانقة محلها السرور لا الحزن ولما في ذلك من الوقوع في النهي المتقدم، مع مخالفة السنة النبوية والخروج عن منهج السلف الصالح والله تعالي أعلم.
القيام للداخل عند السلام عليه
مسألة القيام للداخل كثر النزاع فيها، وطال الجدل حولها. وقبل البدء في تقرير المسألة أشير إلى أمرين ينبغي لطالب العلم استحضارهما عند هذه المسألة ونحوها من المسائل الاجتهادية التي تتنازع الأفهام فيها نصوص الشرع:
الأمر الأول:
أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها.
بمعني أن المسألة إذا تجاذبتها الأدلة، أو اختلفت الأفهام في مدلول نصوصها، ولم يكن الصواب واضحاً كالشمس، فإن على الطالب أن يذكر ما وصل إليه اجتهاده، وأداه إليه فهمه، مع الإجابة عن حجج المخالف، ويكتفي بهذا القدر لأنه لو أنكر فعل المخالف، لخرج من يُنكر عليه قوله، فتصبح المسألة دوراً، ويشغل المسلمون عما هو أهم من هذه المسائل، بالإضافة إلى تشتيت أذهان العوام، وجعلهم في حيرة من أمرهم.
الأمر الثاني
وجوب مراعاة القاعدة الشرعية التالية:
((إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما))
وكذا القاعدة القائلة ((درء المفاسد أولى من جلب المصالح)).
وبعد هذا العرض نقول:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالي قديماً وحديثاً في القيام للداخل هل يجوز أم يحرم، أم يجوز في حق أُناس، ويحرم في حق آخرين، إلي غير ذلك من الآراء.
وقبل الدخول في هذا الخلاف نحرر محل النزاع، فنقول: القيام على أقسام، وهي:
1 – القيام على الرجل:
بمعني أن يقوم شخص أو أكثر على شخص جالسٍ كما هو حال الملوك والجبابرة.
فهذا القيام محرم، لورود النهي عنه صراحة في حديث جابر بن عبد الله، ونصه قال:
((اشتكي رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم قال: كدتم أنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا … )
أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 176 ط الحلبي)
ويستثني من ذلك ما إذا كان القيام لفائدة. قال ابن مفلح في (الآداب) (1/ 460): ((وأما القيام لمصلحة أو فائدة، كقيام معقل بن يسارٍ يرفع غصناً من شجرة عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت البيعة. رواه مسلم وقيام أبي بكر يظله من الشمس: فمستحب)). ا هـ.
2 – القيام للتهنئة أو التعزية:
وهذا القيام جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر طلحة بن عبيد الله على قيامه لكعب بن مالك تهنئة له بتوبة الله عليه، وهذا نص الشاهد من القصة. قال كعب:
((حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، فكان كعب لا ينساها لطلحة))
ويلحق بذلك التعزية، لأنه لما جوز القيام في شدة الفرح، فالقيام في شدة الحزن أولى والله أعلم.
3 – القيام لإعانة العاجز:
وهذا القيام مستحب، لما ثبت في مسند الإمام أحمد عن عائشة – رضي الله عنها – في قصة بني قريظة، وفيه (قال أبو سعيد: فلما طلع – يعني سعد بن معاذ – على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قوموا إلي سيدكم فأنزلوه))، فقال عمر: سيدنا الله عز وجل. قال: ((أنزلوه))، فأنزلوه. قال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح (الفتح 11/ 51)
فهذه الرواية تبين أن الأمر بالقيام إليه إنما هو لأجل إعانته، لأنه كان مصاباً يوم الخندق، ففيها استحباب القيام لمساعدة العاجز.
ولو كان القيام المأمور به في هذا الحديث لغير المعنى المذكور لما خص الأنصار دون غيرهم. قاله ابن الحجاج في المدخل (1/ 159) وقال أيضاً: لو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام لكان هو أول من فعله، وأمر به من حضر من أكابر الصحابة، فلما لم يأمر به، ولا فعله ولا فعلوه، دل علي أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع، وإنما لينزلوه عن دابته، لما كان فيه من المرض … إلخ. ا هـ.
4 – قيام الابن لأبيه والزوجة لزوجها، والعكس:
وهذا القيام جائز، لما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – في حديث الإفك، وفيه:
((فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله إني لا أقوم إليه إني لا أحمد إلا الله عز وجل)) فأقر النبي صلى الله عليه وسلم أم عائشة على هذا ويستفاد منه – أيضاً – القيام للتهنئة، وقد سبقت.
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت:
ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً ودلاً وهدياً – وقال الحسن – (حديثاً وكلاماً) برسول الله صَلى الله عَليه وسَلم. من فاطمة – رضي الله عنها – كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه. وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها))
أخرجه أبو داود في سننه (20 / البذل)
وقال ابن مفلح في (الآداب) بعد أن ساق سنده: إسناد صحيح، ورواه النسائي والترمذي وقال: صحيح غريب من هذا الوجه. ا هـ.
ففي هذا الحديث جواز قيام الابن لأبيه والعكس. وفي معني الأب: الأم والعم والخال والخالة والله أعلم.
وقد سأل حنبل الإمام أحمد – وهي احدي الروايات عنه – فقال: قلت لعمي ترى للرجل أن يقوم للرجل إذا رآه؟ قال: لا يقوم أحد لأحد إلا الولد لوالده أو لأمه. فأما لغير الوالدين فلا، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ا هـ من (الآداب) لابن مفلح (1/ 463)
وسئل الإمام مالك عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه، وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس، فقال أما التلقي فلا بأس وأما القيام حتى يجلس فلا، فإن هذا فعل الجبابرة. وقد أنكره عمر بن عبد العزيز. ا هـ من (فتح الباري) (11/ 51)
5 – القيام للقادم من سفر:
وهذا القيام جائز، لأن الصحابة كانوا إذا قدموا من سفر تعانقوا. قال ابن مفلح في (الآداب 1/ 459): والمعانقة لا تكون إلا بالقيام. ا هـ.
وسأل مُثني أبا عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول في المعانقة؟ وهل يقوم أحد لأحد في السلام إذا رآه؟ قال: لا يقوم أحد لأحد في السلام إذا رآه؟ قال: لا يقوم أحد لأحد وأما إذا قدم من سفر فلا أعلم به بأساً، إذا كان على التدين يحبه في الله، أرجوا، لحديث جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقه وقبل جلده بين عينيه. ا هـ.
6 – القيام للاستقبال عند القدوم:
وهذا القيام لا بأس به وصورته أن يقوم الشخص من مجلسه لاستقبال إنسان قادم عليه. وقد حمل العلامة ابن القيم الأحاديث الواردة في القيام
– كحديث قيام فاطمة للنبي صلى الله عليه وسلم وقيامها له – علي هذا النوع من القيام. كما قال – رحمه الله تعالي – جمعاً بين الأحاديث الواردة في القيام والناهية عنه:
وأما الأحاديث المتقدمة: فالقيام فيها عارض للقادم، مع أنه قيام للرجل للقائه، لا قياماً له وهو وجه حديث فاطمة.
فالمذموم القيام للرجل وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم: فلا بأس به. وبهذا تجتمع الأحاديث والله أعلم. ا هـ من ((حاشية السنن)) (4/ 84)
وقال أيضاً في الحاشية (8/ 93):
ففرق بين القائم للشخص المنهي عنه، والقيام عليه: المشبه لفعل فارس والروم. والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب، وأحاديث الجواز تدل عليه فقط. ا هـ.
وقد نقل اللفظ ابن حجر – رحمه الله تعالي – في ((الفتح)) (11/ 51) كلاماً لابن القيم وعزاه إلى حاشية السنن)) هذا نصه:
قال – أي ابن القيم – والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب:
قيام على رأس الرجل. وهو فعل الجبابرة.
وقيام إليه عند قدومه. لا بأس به.
وقيام له عند رؤيته. وهو المتنازع فيه. ا هـ.
7 – القيام عند رؤية الرجل:
وذلك بأن يكون الناس في مجلس فيدخل واحد، فيقومون له، ويسلمون عليه.
وقد كثر الكلام حول حكم هذه الصورة من صور القيام. والقول الراجح – إن شاء الله تعالي – تحريمها والنهي عنها، وذلك لورود الأدلة الصحيحة بالزجر عنها، والترهيب منها، وما خالف ذلك من الأحاديث فإنه صحيح غير صريح أو صحيح لا دلالة فيه، أو غير صحيح البتة. ومن الأدلة علي ذلك:
مما رواه الإمام أحمد في مسنده (20/ 353 فتح) وأبو داود في سننه (20/ 167 بذل) والترمذي، وغيرهم، عن أبي مجلز أن معاوية دخل بيتاً فيه ابن عامر وابن الزبير. فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير. فقال معاوية – رضي الله عنه – اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((من سره أن يتمثل له العباد قياماً فليتبوأ مقعده من النار)). هذا لفظ أحمد.
قال الترمذي: حديث حسن. ا هـ.
فدل الحديث على تحريم القيام للداخل عند رؤيته.
ووجه دلالته أن الصحابي الجليل راوي الحديث: معاوية – رضي الله عنه. – فهم منه تحريم القيام للداخل، ولم يعترض عليه من كان حاضراً.
وهذا هو المستقر في أذهان الصحابة – رضي الله عنهم.– ولذا لم يقر ابن الزبير لمعاوية لما دخل.
وقد استدل بهذا الحديث على تحريم القيام في هذه الصورة: العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالي – ووضح وجه دلالة الحديث على المراد، ورد على من زعم أن الحديث لا يتناول هذه الصورة. وذلك في حاشيته علي السنن (8/ 93). ويتلخص كلامه فيما يلي:
(أ) الرد علي من زعم أن هذا الحديث يتناول القيام علي الرجل، كما هو فعل فارس والروم. وذلك من وجوه:
1 – سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك.
2 – أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهي عن القيام له إذا خرج عليهم.
3 – لأن العرب لم يكونوا يعرفوا هذا.
4 – لأن هذا لا يقال له: قيام للرجل، وإنما هو قيام عليه.
(ب) أن هذا الحديث يدل علي تحريم القيام للشخص.
وقال ابن القيم – رحمه الله تعالي – في موضع آخر من ((الحاشية)) (8/ 48) علي هذا الحديث:
((وفيه رد على من زعم أن معناه: أن يقوم الرجل للرجل في حضرته وهو قاعد، فإن معاوية روى الخبر لما قاما له حين خرج)). ا هـ.
وقال ابن الحاج – رحمه الله تعالي – في كتابه ((المدخل)) (1/ 185): ((وانظر – رحمك الله وإيانا – إلى معاوية الذي تلقى الحديث من صاحب الشريعة – صلوات الله وسلامه عليه – كيف نهى عن ذلك على العموم، وذلك الذي فهم، فكان ينبغي أتباعه في فهمه وفقهه)). ا هـ.
فإن قال قائل: إن قوله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)).
يدل علي أن الإنسان إذا أحب أن يقوم له الناس، وقع في الوعيد. أما إذا لم يحب فلا شيء عليه. وكذا لا حرج علي القائم له، لأن الحديث ليس فيه ذكر له ولا وعيد عليه.
*****
والجواب عن هذه الشبهة يحصل بالمقدمات التالية:
أولاً: أن معرفة من يحب قيام الناس له، ممن لا يحب ذلك، أمر يستحيل على المكلف معرفته.
ثانياً: أن التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون علي الإثم والعدوان واجب شرعي، ويبني عليه من الأحكام ما لا يحصى.
إذا تبين هذا فإن ترك القيام واجب، سدا للذريعة، لأنك لا تعلم هل يحب من قمت له، قيامك، أم يكرهه. وإذا كنت لا تعلم فترجيح المحظور أحوط، وهو أنه يحب القيام، لما جبلت عليه النفوس من محبة التعظيم، وهذا أحد صوره فيحرم القيام تعاوناً علي البر والتقوى.
ويجلي هذا ويوضحه ما رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 132) والترمذي، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال:
((ما كان أحد أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك)).
قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ا هـ.
فانظر إلى هذا الهدي النبوي العظيم وتأمله، يتبين لك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من سد أبواب الذرائع المفضية إلى المعاصي وغيرها.
فها هو يربي أصحابه على ترك القيام له، حتى أصبحوا لا يقومون له، وهو أحب الناس إلى نفوسهم.
(وذلك أن القيام لو كان إكراماً شرعاً، لم يجز له صلى الله عليه وسلم أن يكرهه من أصحابه له، وهو أحق الناس بالإكرام، وهو أحق الناس بحقه عليه الصلاة والسلام) قاله العلامة المحدث الألباني.
وقل سئل أئمة الدعوة السؤال الآتي:
ما تقولون في القيام في وجه الأمراء، والعلماء، وأهل الفضل، كما يفعله أهل فارس والروم.
وبعض (المطاوعة) يفتون أن القيام جائز في حق العلماء وأهل الفضل؟
الجواب:
أنه لا يجوز القيام للعلماء، ولا الأمراء، بحيث يتخذ ذلك عادة وسنة. بل ذلك من فعل أهل الجاهلية والجبابرة كملوك فارس والروم وغيرهم، فإنهم كانوا يفعلون ذلك مع عظمائهم.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)).
وفي حديث آخر عن أنس بن مالك:
((لم يكن أحد أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك … )). ا هـ. (المجموعة 1/ 36).
وقد أورد ابن العماد في ((شذرات الذهب)) (3/ 123)، واقعة يحسن ذكرها هنا، فقال:
واجتاز ابن بطة بالأحنف العكبري فقام له فشق ذلك عليه، فأنشأ الأحنف:
لا تلمني على القيام فحقي حين تبدوا أن لا أمل القياما
أنت من أكرم البرية عندي ومن الحق أن أجل الكراما
فقال ابن بطة:
أنت إن كنت لا عدمتك ترعى لي حقاً وتظهر الإعظاما
فلك الفضل في التقدم والعلم ولسنا نحي منك احتشاما
فاعفني الآن من قيامك أولا فأجزيك بالقيام قياماً
وأنا كاره لذلك جداً إن فيه تملقاً وأثاما
لا تكلف اخاكا أن يتلقاك بما يستحل فيه الحراما
وإذا صحت الضمائر منا أكتفينا ألا نتعب الأجساما
كلنا واثق بود أخيه ففيم انزعاجنا وعلاما
وقد نقلت إلينا مواقف لبعض العلماء من القيام نذكرها، ليتأسى بهم العلماء ويتقووا بها في إنكار القيام:
منها ما ذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (10/ 171) في حوادث سنة ست وسبعين ومائة، قال:
وفيها توفي: فرج بن فضالة التنوخي الحمصي …. ومن مناقبه: أن المنصور دخل يوماً إليدى قصر الذهب، فقام الناس إلا فرج بن فضالة. فقال له، وقد غضب عليه: لِمَ لَمْ تقم؟ قال: خفت أن يسألني الله عن ذلك ويسألك: لما رضيت بذلك، وقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام للناس.
قال: فبكي المنصور، وقربه، وقضي حوائجه. ا هـ.
وروي الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (11/ 360/361) عن عبد الرزاق بن سليمان بن علي بن الجعد قال: سمعت أبي يقول: لما أحضر المأمون أصحاب الجوهر، فناظرهم على متاع كان معهم ثم نهض المأمون لبعض حاجته، ثم خرج، فقام كل من كان في المجلس إلا ابن الجعد فإنه لم يقم. قال: فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب، ثم استخلاه فقال له: يا شيخ ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك؟
قال: أجللت أمير المؤمنين، للحديث الذي نأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ما هو؟ قا ل علي بن الجعد: سمعت المبارك بن فضالة يقول: سمعت الحسن يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من أحب أن يمتثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار))
قال: فأطرق المأمون متفكراً في الحديث، ثم رفع رأسه فقال: لا يشترى إلا من هذا الشيخ. قال: فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار. ا هـ.
قال الشيخ الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1/ 629):
ونحو هذه القصة ما أخرج الدنيوري في ((المنتقى من المجالسة)) (ق8/ 1 – نسخة حلب):
حدثنا أحمد بن علي البصري قال وجه المتوكل إلى أحمد بن العدل، وغيره من العلماء، فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم، فقام الناس كلهم إلا أحمد بن العدل. فقال المتوكل لعبيد الله إن هذا الرجل لا يري بيعتنا، فقال له: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن بصره في سوء.
فقال أحمد بن العدل / يا أمير المؤمنين ما في بصري من سوء، ولكنني نزهتك عن عذاب الله تعالي. قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من أحب أن يمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار)) فجاء المتوكل فجلس إلي جنبه. ا هـ.
تنبيه:
ينبغي لطلبة العلم القائلين بتحريم القيام للداخل، تحذير الناس من الوقوع فيه، وبيان الأدلة علي منعه، وتوضيح هدي النبي r في هذا المقام مع مراعاة ما يأتي:
أولاً: عدم التشديد في الإنكار بالقول والفعل
ثانياً: إذا كان جلوسهم للقادم يفضي إلي الشحناء والبغضاء – وغير ذلك من الأمور المتفق على تحريمها ومفسدتها أكبر من مفسدة ما نحن فيه –
فيجب القيام درءً للمفسدة، وتوقياً من الوقوع فيما هو أعظم ضرر من القيام. لكن ينبغي مع ذلك تبيين الحكم وتوضيحه، والمحاولة في الإقناع، بالحكمة واللين وسأكتفي في التدليل لهذين الأمرين بفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي – يتبين من خلالها تلك النظرة التي يتمتع بها هذا الإمام في معاملته للنصوص الشرعية. وهذا نصها:
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية قدس الله وروحه ونور ضريحه:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين، في النهوض والقيام الذي يعتاده الناس من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر؟ وهل يجوز أم لا عند غلبة ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذي باطنه وربما آل ذلك إلي بغض ومقت وعداوة؟ … إلخ
الجواب: الحمد لله: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كما يردون على السلام، كما يفعل كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلموا من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبة تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه، أنه قام لعكرمة وقال للأنصار لما قدم سعد بن عبادة: قوموا إلى سيدكم وكان سعد متمرضاً بالمدينة وكان قد قدم إلي بني قريظة شرقي المدينة
والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدى محمد، فلا يعدل أحد عن هدى خير الخلق وهدى خير القرون إلى ما هو دونه وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له ولا يقوم لهم إلا في اللقاء المعتاد فأما القيام من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن.
وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه أو قصد لخفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك إصلاح لذات البين وإزالة للتباغض والشحناء.
وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له … إلى أن قال – رحمه الله تعالي – وجماع ذلك الذي يصلح إتباعه عادة السلف وأخلاقهم والاجتهاد بحسب الإمكان فمن لم يعتد ذلك أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مفسدة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصالحين بتفويت أدناهما ([34])
“”””
ترك السلام على أهل البدع والفسق
ترك السلام علي أهل البدع والفسقه تعلق كبير بمسألة ((الهجر)) ولذا فإن أحد تعاريف العلماء للهجر: ترك السلام والكلام عند الملاقاة)) وهذا مقتبس من ظاهر حديث عائشة – رضي الله عنها -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((لا يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثة فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرات، كل ذلك لا يرد عليه، فقد باء بإثمه)). رواه أبو داود. وقال ابن مفلح في الآداب (1/ 287): حديث حسن ا هـ.
إذا تقرر هذا فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً متيناً، يتبين من خلاله متى يسوغ إيقاع الهجر ((المشروع)) ومتى لا يصح إيقاعه.
قال – رحمه الله تعالي:
((النوع الثاني: الهجر علي وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، يهجر حتى يتوب منها …
إلى أن قال: وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم.
فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله.
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلي ضعف الشر، وخفته، كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والمهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة علي مصلحته: لم يشرع الهجر))
بل التأليف لبعض الناس أنفع من التأليف.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين. اهـ ([35])
وقال في موضع آخر:
وأما هجر التعزير، فمثل هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: الثلاثة الذين خلفوا، وهجر عمر والمسلمين: لصبيغ.
فهذا من أنواع العقوبات
فإذا كان يحصل بهذا الهجر حصول معروف أو اندفاع منكر فهي مشروعة.
وإن كان يحصل بها من الفساد ما يزيد علي فساد الذنب، فليست مشروعة. . ا هـ ([36])
قال الخلال في كتاب ((المجانبة))
أبو عبد الله – يعني أحمد بن حنبل -: يهجر أهل المعاصي، ومن يقارف الأعمال الردية، أو تعدى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على معني الإقامة عليه، والإصرار.
وأما من شرب أو سكر، أو فعل فعلاً من هذه الأشياء المحظورة، ثم لم يكاشف بها، ولم يلق فيها جلباب الحياء فالكف عن إعراضهم وعن المسلمين، والإمساك عن إعراضهم وعن المسلمين أسلم. ا هـ. ([37])
قال شيخ الإسلام فيمن فعل شيئاً من المنكرات، كالفواحش والخمر والعدوان وغير ذلك: فإن كان الرجل متستراً بذلك، وليس معلناً له: أنكر عليه سراً، وستر عليه، إلا أن يتعدى ضرره، وإذا نهاه المرء سراً، فلم ينته: فعل ما ينكف به، من هجرٍ، وغيره، إذا كان ذلك أنفع في الدين. ا هـ ([38])
إذا تقرر هذا وعرف، فإنه يسوغ لنا الآن أن نتكلم عن قضيتنا فنقول:
ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يسلم على الفاسق، ولا المبتدع.
قال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية. وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع ([39])
فتحصل مما سبق علي أمور، منها:
1 – أن الهجر في الشرع إنما وضع للزجر، فإذا وجدت هذه العلة، استحب الهجر وذلك كأن يهجر الوالد ولده والعالم تلميذه وذو الرياسة من دونه، وهكذا ممن إذا هجر كان لهجره وقع في نفس المهجور، بحيث ينكف عما هو سبب لهجره.
2 – أن الهجر في الشرع إنما وضع للزجر فإذا لم توجد هذه العلة لم يشرع الهجر، وقد يحرم، وقد يكره وقد يباح.
3 – أن محل الهجر – على التفصيل السابق – إنما يكون دائرة المجاهرين بالمعاصي، أما من استتر، فالواجب نصحه، والستر عليه، فإن لم ينزجر – ففي هذه الحالة – يتخذ معه الآمر ما يناسب حاله، من هجر أو غيره.
قال الإمام البخاري – رضي الله تتعالي عنه – في صحيحه – كتاب الاستئذان:
باب من لم يسلم على من أقترف ذنباً، ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي؟
وقال عبد الله بن عمرو:
((لا تسلموا على شَرَبة الخمر))
ثم ساق بسنده عن عبد الله بن كعب قال:
سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن تبوك، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا حتى كملت خمسون ليلة، وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر)). ا هـ
وقال – رحمه الله – في ((الأدب المفرد)) (2/ 472)
باب لا يسلم على الفاسق.
ثم ساق بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال:
((لا تسلموا على شراب الخمر)).
وعن الحسن أنه قال:
((ليس بينك وبين الفاسق حرمة)) وعن علي بن عبد الله بن عباس أنه قال ((لا تسلموا على من يلعب بها – أي الاشترنج – وهى من الميسر)). ا هـ.
ثم قال: باب من ترك السلام على المتخلق، وأصحاب المعاصي وساق فيه عدة أحاديث منها:
حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: أقبل رجل من البحرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فلم يرد – وفي يده خاتم من ذهب، وعليه جبة حرير – فانطلق الرجل محزونا فشكا إلى امرأته، فقالت: لعل رسول الله رأى جبتك وخاتمك، فألقها ثم عد. ففعل فرد السلام ….. الحديث. ا هـ ([40])
وقال أبو داود في سننه – كتاب السنة – (5/ 8): باب ترك السلام على أهل الأهواء.
وساق بسنده إلى يحي بن يعمر، عن عمار بن ياسر قال ([41]) ((قدمت على أهلي ليلاً، وقد تشققت يداي، فخلقوني بزعفران. فغدوت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي ولم يرحب بي. وقال: ((إذهب فاغسل هذا عنك)) فذهبت فغسلته، ثم جئت وقد بقي علي منه ردع، فسلمت فلم يرد علي، ولم يرحب بي. وقال: ((إذهب فاغسل هذا عنك)) فذهبت فغسلته، ثم جئت فسلمت عليه، فرد علي، ورحب بي …. . ا هـ. ([42])
قلت سيف بن دورة: راجع تخريجنا على سنن أبي داود
وفي مسائل الإمام أحمد – رحمه الله تعالي – لأبي داود قال: قلت لأحمد أمر بالقوم يتقاذفون أسلم عليهم؟
قال هؤلاء قوم سفهاء، والسلام من أسماء الله تعالى. ا هـ. ([43])
وقال إسحاق بن منصور للإمام أحمد: نمر على القوم وهم يلعبون بالنرد أو الشطرنج، نسلم عليهم؟ فقال ما هؤلاء بقوم يسلم عليهم ([44]) وعن المنقري قال: كان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير ([45]) لم يسلم عليهم.
وعن المعافي بن عمران في رجل يمر بالقوم فيراهم على بعض المنكر، ويسلم عليهم؟ قال: إن أراد أن يأمرهم وينهاهم، فليسلم، وإلا فلا يسلم. . ا هـ. ([46])
ففي هذه الأخبار: ترك السلام على المقيم علي المعصية، إلا لمن أراد نصحه.
وروى الخلال عن الإمام أحمد أنه سئل عن رجلٍ له جار رافضي يسلم عليه؟
قال: لا وإذا سلم عليه لا يرد عليه ([47]) ا هـ
وقال الإمام مالك – رحمه الله تعالي -: لا يسلم على أهل الأهواء.
قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم، والتبري منهم ([48]). ا هـ
وقال ابن القيم – رحمه الله تعالي: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ترك السلام ابتداءً ورداً على من أحدث حدثاً حتى يتوب منه، كما هجر كعب بن مالك وصاحبيه. وسلم عليه عمار بن ياسر، وقد خلقه أهله بزعفران، فلم يرد عليه، قال ((اذهب فاغسل هذا عنك)). ا هـ. ([49])
——-
المصافحة بعد الانتهاء من كل صلاة مفروضة
يتساءل الكثير عن حكم ما يفعله بعض المصلين من المصافحة لمن بجوارهم – يميناً وشمالاً – بعد الفراغ من أداء الفريضة.
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي – عن التساؤل فقال:
المصافحة بعد الصلاة ليست مسنونة بل هي بدعة. والله أعلم. ا هـ (الفتاوى 23/ 339)
وما أجمل ما قاله ابن الحاج – رحمه الله تعالي – موصياً طالب العلم:
وينبغي له أن يمنع ما أحدثوه من المصافحة بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر وبعد صلاة الجمعة بل زاد بعضهم في هذا الوقت: فعل هذا بعد الصلوات الخمس. وذلك كله من البدع.
وموضع المصافحة في الشرع إنما هو عند لقاء المسلم لأخيه لا في أدبار الصلوات الخمس. وذلك كله من البدع، فحيث وضعها الشرع نضعها فينهي عن ذلك، ويزجر فاعله لما أتي من خلاف السنة. ا هـ (المدخل 2/ 223)
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي: ما يفعله الناس من المصافحة عقيب الصلوات الخمس مكروهة لا أصل لها في الشرع. ا هـ.
وقد أشار بعض العلماء إلي أن المصافحة بعد الصلاة، من سنن الروافض – خذلهم الله – (السعاية ص 264 للعلامة اللكنوي).
###
الزيادة بعد ((وبركاته)) في السلام ابتداء ورداً
المشروع في السلام الكامل هو قول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بدليل ما رواه أبو داود في سننه (20/ 133 البذل) عن عمران بن حصين – رضي الله عنه – قال: جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((عشر)) ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس: فقال: ((عشرون)) ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس. فقال ((ثلاثون)).
قال الحافظ في (الفتح 11/ 6) علي هذا الحديث: أخرجه أبو داود والترمذي، والنسائي بسند قوي ا هـ وقال ابن مفلح في (الآداب 1/ 383) بإسناد جيد. ا هـ.
وقد أخرج البخاري في ((الأدب المفرد)) نحوه عن أبي هريرة، وفيه ((عشر حسنات)) ((عشرون حسنة)) ((ثلاثون حسنة)).
قال العلامة القرطبي – رحمه الله تعالي – في تفسير قوله تعالي في سورة النساء: (إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: من الآية86)
رد الأحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام ورحمة الله لمن قال: سلام عليك. فإن قال: سلام عليك ورحمة الله، زدت في ردك وبركاته. وهذا هو النهاية، فلا مزيد عليه. قال تعالي مخبراً عن البيت الكريم: (رحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ) مَجِيدٌ ((هود: من الآية73)
وقال – أيضاً – علي آية هود التي سبقت في كلامه: ودلت الآية – أيضاً – على أن منتهي السلام ((وبركاته) كما أخبر عن صالحي عباده. ا هـ.
وقد ورد ما يدل علي عدم جواز الزيادة علي (وبركاته) في السلام. ومن ذلك ما احتج به ابن كثير في تفسير قوله تعالى (و إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا … ) الآية.
حيث ساق سند ابن جرير عن سلمان الفارسي – رضي الله عنه – قال:
((جاء رجل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله فقال: ((وعليكم السلام ورحمة الله)) ثم جاء آخر فقال السلام عليك يا رسول الله، ورحمة الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((وعليك السلام ورحمة الله وبركاته)) ثم جاء آخر فقال السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له ((وعليك)) فقال له الرجل: يا نبي الله: بأبي أنت وأمي، أتاك فلان، وفلان، فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما ردت علي. فقال له صلى الله عليه وسلم: ((إنك لم تدع لنا شيئاً))
قال الله تعالي (إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا فرددناها عليك) ([50])
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالي –
وفي هذا الحديث دلالة علي أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة ((السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)) إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا هـ (1/ 531)
ومن ذلك ما رواه الإمام مالك في ((الموطأ)) بسند جيد عن محمد بن عمرو بن عطاء، أنه قال: كنت جالساً عند عبد الله بن عباس، فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال: السلام عليكم ورحمة الله، وبركاته – ثم زاد شيئاً بعد ذلك قال ابن عباس – وهو يومئذ قد ذهب بصره -:من هذا؟
قالوا: هذا اليماني الذي يغشاك – فعرفوه إياه – قال: فقال ابن عباس: ((إن السلام انتهى إلى البركة)).
وأخرجه البيهقي في ((الشعب)) (6/ 455)، ولفظه: ((قال محمد بن عمرو بن عطاء: بينا أنا عند ابن عباس وعنده أبنه، فجاءه سائل فسلم عليه فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، وعدد من ذلك.
فقال ابن عباس: ما هذا السلام؟ وغضب حتى أحمرت وجنتاه.
فقال له ابنه علي: يا أبتاه: إنه سائل من السؤال.
فقال: ((إن الله حد السلام حداً، ونهي عما وراء ذلك. ثم قرأ (رحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) ومن ذلك ما أخرجه البيهقي في ((الشعب)) عن زهرة بن معبد قال: قال عمر – رضي الله عنه – ((انتهى السلام إلى وبركاته)) قال الحافظ ابن حجر: – رجاله ثقات. ا هـ (11/ 6 الفتح)
ومن ذلك ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 390) عن معمر، عن أيوب، عن نافع أو غيره: أن رجلاً كان يلقى ابن عمر فيسلم عليه فيقول: السلام عليك، ورحمة الله وبركاته، ومغفرته، ومعافاته، فقال له ابن عمر وعليك مئة مرة، لئن عدت إلى هذا لأسوءنك))
ومن ذلك ما أخرجه البيهقي في ((الشعب) 9 (6/ 456) أن رجلاً سلم على عبد الله بن عمر فقال: سلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته
فانتهره ابن عمر وقال:
((حسبك إذا انتهيت إلى وبركاته، إلى ما قال الله عز وجل، وقد)) ا هـ قلت: يعني بما قال الله تعالي:
(رحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هود: من الآية73)
وفي ((الشعب)) أيضاً (6/ 510) عن زهرة بن معبد عن عروة بن الزبير أن رجلاً سلم عليه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال عروة: ((ما ترك لنا فضلاً، إن السلام انتهى إلى وبركاته)).
فتقرر من جملة ما تقدم: المنع من الزيادة على ((وبركاته)) في السلام ابتداءً ورداً
وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما قال المحقق ابن القيم رحمه الله ([51]) وما خالف ذلك من الأحاديث المرفوعة فلا يثبت، وتفصيل ذلك أن الزيادة على ((وبركاته)) وردت في أحاديث:
الأول: حديث سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ثم أتى آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، وبركاته، ومغفرته. فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((أربعون)) قال: هكذا تكون الفضائل)) قوله ((أربعون) أي أربعون حسنة أخرجه أبو داود في سننه – كتاب الأدب – باب كيف السلام (5/ 380).
قال العلامة ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (1/ 382)
خبر ضعيف وخلاف الأمر المشهور. ا هـ.
قال العلامة ابن القيم – رحمه الله – في زاد المعاد (2/ 418):
ولا يثبت هذا الحديث.
وقال ابن حجر في ((الفتح)) (11/ 6):
سنده ضعيف. ا هـ.
الحديث الثاني حديث أنس – رضي الله عنه– قال: ((كان رجل يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم – يرعى دواب أصحابه – فيقول: السلام عليك يا رسول الله. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم وعليك السلام، ورحمة الله، وبركاته، ومغفرته ورضوانه .. )) الحديث.
قال ابن القيم وهو أضعف من الحديث السابق.
وقال النووي في ((الأذكار)) ص 209: إسناده ضعيف. ا هـ.
وقال ابن حجر في ((الفتح)) (11/ 6) إسناده واهٍ ا هـ.
الحديث الثالث: قال البخاري في ((التاريخ الكبير)) (1/ 330)
قال محمد، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن شعبة، عن عن هارون بن سعد، عن ثمامة بن عقبة عن زيد بن أرقم قال: كنا إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قلنا وعليك السلام، ورحمة الله، وبركاته، ومغفرته. ا هـ.
وهذا إسناد ضعيف جداً، علته محمد – شيخ البخاري – وهو: ابن حميد.
قال أبو زرعة: تركه محمد بن إسماعيل. وقال النسائي: كذاب. وقال مرة ليس بثقة. وقال ابن خراش: كان والله يكذب. ا هـ من ((التهذيب)) (9/ 127)
قال ابن حجر: حافظ ضعيف، كان ابن معين حسن الرأي فيه. ا هـ.
والحديث أخرجه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (6/ 45) (ح 8881) وقد صرح في السند بأن محمداً هو ابن حميدٍ.
قال البيهقي عقبه: ((تابعه محمد بن غالب – يعني علي بن الحسين – عن محمد بن حميد وهذا إن صح قلنا به، غير أن في إسناده إلي شعبة من لا يحتج به، والله أعلم. ا ه.
وقد ضعف الحافظ إسناد البيهقي في ((الفتح)) (11/ 35). ([52]) فتبين مما تقدم أن الزيادة على ((وبركاته) في السلام، غير مشروعة، سواء ابتداءً، أو رداً.
كيف والله تعالي قد انتهي إلي ((وبركاته))؟
كيف والمستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ((وبركاته))؟ وما ورد من الزيادة فضعيف لا يقوى مجتمعاً، فكيف منفرداً؟ والله الموفق.
السلام على المسلم بلفظ
((السلام على من اتبع الهدى))
السلام بهذا اللفظ سلام مقيد، معناه أن السلامة تغشى من اتبع الهدى، فإن كان المسلم عليه كذلك غشيته، وإلا فلا.
ولذا فإن النصوص الشرعية لا توجه هذا السلام إلا على من يرجى هدايته ودخوله في الإسلام.
قال الله سبحانه وتعالى في قصة موسي وهارون – عليهما السلام – مع فرعون (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) (طه: من الآية47)
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: ((بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبد الله ورسوله إلى هِرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى))
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ((السلام علي أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم: ((السلام على من اتبع الهدى))
وأخرج ابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين مِثله.
وقد أثار الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالي – سؤالاً عن الآية السابقة، وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
فإن قيل كيف يبدأ الكافر بالسلام؟
فالجواب:
أن المفسرين قالوا: ليس المراد من هذا التحية، وإنما معناه: سلم من عذاب الله من أسلم، ولهذا جاء بعده: (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)
وكذلك جاء في بقية هذا الكتاب: ((فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)) فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصداً، وإن كان اللفظ يشعر به، لكنه لم يدخل في المراد لأنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يسلم عليه. ا هـ.
والحكمة من ابتداء هؤلاء بهذه الصيغة – والله أعلم – استمالة قلوبهم وإشعارهم بالإيمان بشرطه، وهو: الاهتداء.
وهذا منتفٍ في حق المؤمن، فإنه من المهتدين قطعاً، فلم يجز إلقاء هذا اللفظ المحتمل عليه.
ولذا فإن السلام من النبي – صلى الله عليه وسلم – على أصحابه، ومن أصحابه عليه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن إلا بلفظ (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فتبين أن تحية المؤمنين فيما بينهم هذا اللفظ. وأن ذاك اللفظ خاص بمخاطبة غير المؤمنين. فوجب اجتنابه فيما بين المؤمنين والله أعلم.
السلام بلفظ ((عليك السلام))
روى الترمذي، وأبو داود، وأحمد، وغيرهم – واللفظ للترمذي – عن أبي تميمة الهجيمي، عن رجل من قومه – كما هو في الروايات الأخرى: أبو جُري الهجيمي – قال: طلبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أقدر عليه، فجلست فإذا نفر هو فيهم ولا أعرفه، وهو يصلح بينهم. فلم فرغ قام معه بعضهم فقالوا: يا رسول الله. فلما رأيت ذلك قلت عليك السلام يا رسول الله، عليك السلام يا رسول الله، عليك السلام يا رسول الله. قال:
((إن عليك السلام تحية الموتى. إن عليك السلام تحية الموتى إن عليك السلام تحية الموتى)) ثم أقبل علي فقال: ((إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل: السلام عليكم ورحمة الله)) ثم رد علي النبي صلى الله عليه وسلم: ((وعليك ورحمة الله. وعليك ورحمة الله. وعليك ورحمة الله)).
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. ا هـ.
وقد بوب جماعة من أهل العلم على هذا الحديث: بباب كراهية أن يقول عليك السلام كأبي داود والترمذي وفي الحديث دلالة صريحة عن النهي عن ابتداء السلام بهذه الصيغة، من وجوه:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه السلام فوراً
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم أنكر عليه الصيغة
الثالث: أنه أرشده إلى الصيغة الشرعية للسلام، فدل على أن تلك الصيغة ليست شرعية
وقد أشار ابن القيم – رحمه الله تعالي إلى نكتةٍ بديعةٍ في سر النهي عن قول: ((عليك السلام))
حيث قال – تبعاً للقاضي عياض -:
وهنا نكتة بديعة ينبغي التفطن لها وهي أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه – أي اسم السلام – على المُسلم عليهم، لأنه دعاء بخير
والأحسن في دعاء الخير أن يتقدم الدعاء به علي المدعوا له كقوله تعالي: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)، (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ)، (سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ)، (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ)
وأما الدعاء بالشر فيتقدم فيه المدعوا عليه، على المدعوا به غالباً، كقوله تعالي لإبليس (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي)، وقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) وقوله (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) وقوله (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ)
وسر ذلك – والله أعلم – أن في الدعاء بالخير قدموا اسم الدعاء المحبوب، الذي تشتهيه النفوس، وتطلبه ويلذ للسمع لفظه فيبدأ السمع بذكر الاسم المحبوب المطلوب، ويبدأ القلب بتصوره فيفتح له القلب والسمع، فيبقى السامع كالمنتظر لمن يحصل هذا، وعلى من يحل، فيأتي باسمه فيقول: عليك أولئك، فيحصل له من السرور والفرح ما يبعث على التحاب والتواد والتراحم الذي هو المقصود بالسلام
وأما في الدعاء عليه: ففي تقديم المدعو عليه إيذان باختصاصه بذلك الدعاء، وإنه عليه وحده كأنه قيل له: هذا عليك وحدك لا يشركك فيه السامعون
بخلاف الدعاء بالخير فإن المطلوب عمومه، وكل ما عم به الداعي كان أفضل ..
وفائدة ثانية – أيضاً – وهي أنه في الدعاء عليه إذا قال له عليك، انفتح سمعه وتشوف قلبه إلي أي شيء يكون عليه، فإذا ذكر له اسم المدعو به، صادف قلبه فارغاً متشوفاً لمعرفته، فكان أبلغ في نكايته .. إلخ. ا هـ (بدائع الفوائد 2/ 174)
تنبيه:
ليس قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن عليك السلام تحية الموتى)) تشريعاً، وإنما هو: إخبار عن واقع الأمر الذي جرى على ألسن الناس ذلك الوقت (والإخبار عن الواقع لا يدل على جوازه، فضلاً عن كونه سنة. بل نهيه صلى الله عليه وسلم عنه مع إخباره بوقوعه يدل علي عدم مشروعيته. وأن السنة في السلام: تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه في السلام على الأحياء والأموات. فكما لا يقال في السلام على الأحياء عليكم السلام فكذلك لا يقال في سلام الأموات، كما جاءت السنة الصحيحة الصريحة علي الأمرين). ا هـ من كلام ابن القيم (البدائع 2/ 173) وقد تبع القاضي عياض في هذا الجمع، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر في (الفتح 1/ 5).
إشارة اليد بالسلام
يكتفي كثير من المسلمون بالإشارة عندما يسلم على غيره، ولا يقرن هذه الإشارة بلفظ السلام. وقد ورد النهي عن هذا العمل فيما أخرجه الترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده – رفعه:
((لا تشبهوا باليهود والنصاري، فإن تسليم اليهود الإشارة بالإصبع، وتسليم النصارى بالأكف))
قال الترمذي: حديث غريب. ا هـ
قال الحافظ ابن حجر: وفي إسناده ضعف، لكن أخرج النسائي بسند جيد عن جابر – رفعه: ((لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف زالإشارة)). ا هـ من الفتح (11/ 14)
وقد ثبت في سنن الترمذي وغيره عن أسماء بنت يزيد – رضي الله عنها – ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوماً وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم)).
قال الترمذي: حديث حسن. ا هـ.
ولا تعارض بين هذا الحديث والحديث الأول، لأن حديث أسماء محمول علي أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين اللفظ والإشارة.
ويؤيد هذا الجمع ما جاء فيه رواية أبي داود عن أسماء – رضي الله عنها – قالت:
((مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوةٍ فسلم علينا))
أشار إلى ذلك العلامة النووي – رحمه الله – في ((رياض الصالحين))
تنبيه:
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -:
والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حساً وشرعاً وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام، كالمصلي، والبعيد والأخرس، وكذا السلام علي الأصم. ا هـ.
قلت سيف بن دورة حديث أسماء هو من طريق: شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ يَقُولُ: أَخْبَرَتْهُ أَسْمَاءُ ابْنَةُ يَزِيدَ: «مَرَّ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا»
ذكرنا في مختلف الحديث 51: قبول الأئمة لهذا الحديث فقلنا:
وحديث اسماء، نقل الترمذي عن أحمد أنه قال: لا بأس بحديث عبدالحميد بن بهرام عن شهر.
وقال أبوطالب أحمد بن حميد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: عبدالحميد بن بهرام أحاديثه متقاربة هي حديث شهر، وكان يحفظها، كأنه يقرأ سورة القرآن، وإنما هي سبعون حديثا، وهي طوال، وفيها حروف ينبغي أن تضبط، لكن يقطعونها (الكامل)
وقال أبوحاتم: أحاديثه عن شهر صحاح.
والشيخ الألباني اختلف حكمه على حديث اسماء لكن لعل آخر أحكامه في طبعة دار المعارف للسنن.
المهم يشير كلام الأئمة إلى أنه ليس فيه ما يستنكر. انتهى
ويقصدون بحديث أسماء السلام مع التلويح باليد وقدموا حديث أسماء وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد إشارة في الصلاة على حديث النهي عن التسليم بالإشارة فإنه تسليم اليهود.
ترك إفشاء السلام
يزهد كثير من الناس في خير وفير، عندما يمرون بإخوانهم في الإسلام، فيبخلون عليهم بالسلام (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه).
إنه لمظهر مزري، وفعل مؤذي. كيف يستمرئ المسلم من نفسه هذا؟
والرسول صلى الله عليه وسلم حجب الجنة إلا بالإيمان، وحجب الإيمان إلا بالمحبة ودلنا على طريق المحبة فقال: ((أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم)). أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنها -.
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام ليفشو الخير، وتتألف القلوب وتتحد الصفوف.
فعن البراء بن عازب – رضي الله عنهما – قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( … وإفشاء السلام .. )) الحديث متفق على صحته.
وعن عبد الله بن سلام – رضي الله عنه –
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أيها الناس أفشوا السلام، واطعموا الطعام، وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلامٍ)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
واعلم أيها المسلم – أن في إفشاء السلام بين المسلمين فوائد كثيرة، ومزايا عظيمة:
منها: إحياء سنة المصطفي – صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: امتثال سنة المصطفي – صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: قوة إيمان مفشيه. قال البخاري – رحمه الله – في صحيحه (1/ 82): باب إفشاء السام من الإسلام. وقال عمار – بن ياسر -: ((ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار)). ا هـ.
وفي بعض ألفاظه عند غير البخاري: ((ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان))
ووجهه: أن من اتصف بالإنصاف: أدى جميع الحقوق التي عليه لربه وللخلق.
فمن بذل السلام تحلى بمكارم الأخلاق فحصل التآلف والتحاب بين المسلمين.
ومن أنفق مع اقتاره، فقد بلغ ذروة الكرم ووثق بما عند الله ([53])
ومنها نفي صفة البخل الذميمة، الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وأبخل الناس من بَخل بالسلام)). رواه الطبراني، وهو حديث حسن.
ومنها أنه سبب من أسباب دخول الجنة.
ومنها نشر المحبة والوئام بين المسلمين.
ومنها: أداء حق المسلم فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((حق المسلم علي المسلم ست: إذا لقيه فسلم عليه … )) الحديث.
ومنها إغاظة اليهود فقد ثبت في سنن ابن ماجه عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه ((ما حسدتكم اليهود علي شيء، ما حسدوكم علي السلام والتأمين))
ومنها أولوية المسلم بالله كما ثبت في سنن أبي داود عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام)) ا هـ.
قال العلامة النووي في ((الأذكار)) وينبغي لكل أحدٍ من المتلاقين أن يحرص على أن يبدأ بالسلام لهذا الحديث. ا هـ.
ومعنى الحديث كما قاله العلامة المناوي في ((الفيض)):
((أولى الناس بالله)): أي: من أخصهم برحمته، وغفرانه والقرب منه في جنانه.
وقيل: أقربهم من الله بالطاعة من بدأ أخاه بالسلام عند ملاقاته، لأنه السابق إليدى ذكر الله. ا هـ.
لذا قال أبو بكر – رضي الله عنه للأغر المزني: ((لا يسبقك أحد إلى السلام)).
رواه الطبراني، وقال ابن حجر (11/ 16): بسند صحيح. ا هـ.
ومنها الحصول على ثلاثين حسنة، إن أتى بالسلام تاماً.
ومنها: تحصيل ثواب الصدقة الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم ((يُصبح كل يومٍ على كل سلامي من ابن آدم صدقة .. وتسليمك علي الناس صدقة .. )) الحديث رواه أحمد بإسناد صحيح وهو في صحيح مسلم بدون ذكر السلام ([54])
هذه بعض فوائد إفشاء السلام.
وقد كان الطفيل بن أبي بن كعب يأتي عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – فيغدوا معه إلي السوق. قال الطفيل: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله على سقاطٍ، ولا صاحب بيعةٍ ولا مسكينٍ ولا أحدٍ إلا سلم عليه.
قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يوماً فاستتبعني إلى السوق. فقلت له: ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ فقال: يا أبا بطن – وكان الطفيل ذا بطن – إنما نغدوا من أجل السلام، نسلم على من لقيناه.
قال النووي في (رياض الصالحين)): رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيحٍ. ا هـ.
السلام على الصبيان
روى الشيخان عن أنس – رضي الله عنه – أنه مر علي صبيان فسلم عليهم. وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. وفي لفظ الإمام أحمد عن شعبة عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت البناني فمر بصبيان فسلم عليهم وحدث أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم وحدث أنس أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم.
قال ابن بطال: في السلام على الصبيان تدريبهم على آداب الشريعة. وفيه: طرح الأكابر رداء الكبر، وسلوك التواضع، ولين الجانب. ا هـ،
راجع ابن حجر في ((الفتح)) (11/ 33)
وقال الكرماني: هذا من خلقه – صلى الله عليه وسلم – العظيم وأدبه الشريف وفيه تدريب لهم على تعلم السنن، ورياضة لهم بآداب الشريعة ليبلغوا متأدبين بآدابها. ا هـ، بواسطة نقل ابن علان في ((الدليل)
وقد هجر الناس هذه السنة إلا قليلاً منهم فحري بالمؤمن إحياءها إقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتنقية لنفسه من داء الكبر وتعويد للصغار على السنة والفضيلة.
وإذا تعاظم الإنسان هذا العمل، ورأى نفسه أعلى من أن يسلم على الصبيان، فليتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وما هو عليه من التواضع، وخفض الجناح حتى للصبيان.
(لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)
قال في ((الفتح)): ويستثني من السلام على الصبي ما لو كان وضيئاً وخشي من السلام عليه الإفتتان، فلا يشرع. ولا سيما إن كان مراهقاً منفرداً. ا هـ.
ترك السلام:
عند الانصراف من المجلس
اعتاد كثير من الناس عند خروجهم ممن مجالسهم ألا يسلموا على من بقي في المجلس، وإنما يكتفون بقولهم: ((في أمان الله)) أو ((مع السلامة)) وما شابه هذه العبارات.
وهذا العمل فيه مخالفة للهدي النبوي، الذي أرشدنا إلى السلام عند الخروج من المجلس.
ففي مسند الإمام أحمد – وغيره – عن أبي هريرة رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس ثم إذا قام والقوم جلوس: فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة)). حديث صحيح.
قال الطيبي: قيل كما أن التسليمة الأولى إخبار عن سلامتهم من شره عند الحضور فهكذا الثانية إخبار عن سلامتهم عند الغيبة. وليست السلامة عند الحضور أولى من السلامة عند الغيبة، بل الثانية أولى. ا هـ، بواسطة نقل ابن علان في ((دليل الفالحين))
قال شارح الأدب المفرد: أي أن كلا منهما حق وسنة، مشعرة بحسن المعاشرة، فإنه إذا رجع ولم يسلم ربما يتشوش أهل المجلس من رجوعه على طريق السكوت. ا هـ.
فينبغي للمسلمين أن يحيوا هذه السنة في مجالسهم، وأن يحافظوا عليها فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا مانع من أن يقول المسلم ألفاظاً للوداع مثل ((في أمان الله)) ونحوها، إذا أتى بالسنة وهي السلام عند الانصراف من المجلس. والله الموفق.
ترك السلام عند قرب اللقاء:
ثبت أن رجلاً جاء فصلى، ثم جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم: فسلم، فرد عليه – النبي صلى الله عليه وسلم – السلام فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام. فقال له ارجع فصل فإنك لم تصل …. الحديث، متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وقد بوب النووي في ((رياض الصالحين على هذا الحديث، فقال:
باب استحباب إعادة السلام على من تكرر لقاؤه على قرب، بأن دخل ثم خرج، ثم دخل في الحال، أو حال بينهما شجرة أو نحوها. ا هـ.
هذه هي السنة، فعلى المسلم إذا سلم على أخيه المسلم، ثم التقى به بعد قليل أن يكرر السلام، تحصيلاً للأجر، وزيادة في الألفة والله الموفق.
السلام على المصلي وكيف يرد:
أن السلام على المصلي جائز، لا كراهة فيه.
وإذا سلم على المصلي فإن رده للسلام لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولي: أن يرد نطقاً فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أن يرد إشارة دون نطق.
الثالثة: أن يرد بعد الفراغ من الصلاة.
أما الحالة الأولي، وهي: الرد نطقاً داخل الصلاة، فإنها مبطلة للصلاة في أصح أقوال العلماء.
قال البخاري – رحمه الله تعالي – في ((صحيحه)) ([55]): باب ما ينهي عن الكلام في الصلاة. ثم ساق بسنده عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال: ((إن في الصلاة شغلاً)).
ورواه مسلم أيضاً في ((صحيحه)) كتاب المساجد ([56]) وبوب عليه النووي فقال: ((باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته)). ا هـ.
قد روى أبو داود (1/ 568) هذا الحديث من طريق أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – بأتم من هذا ولفظه:
كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا، فقدمت ……
السلام عند الاستئذان:
السنة في الاستئذان أن يسلم المستأذن على أهل الدار، وما شابهها، فيقف يمين الباب، أو شماله، ثم يقول – بعد الدق – السلام عليكم يفعل ذلك ثلاثاً، فإن أذن له دخل، وإلا رجع.
أما كون الاستئذان بالسلام، فما ثبت في سنن أبي داود (5/ 369) عن ربعي بن حراش قال: حدثنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: ألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له قل: السلام عليكم، أأدخل؟)) فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل.
صححه الدراقطني، وقال ابن مفلح وابن حجر: إسناد جيد. ا هـ (فتح 11/ 3) الآداب الشرعية 1/ 449).
وفي سنن أبي داود (5/ 368) عن كلدة بن حنبل، أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فدخلت ولم أسلم فقال: ((ارجع فقل السلام عليكم)) وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية.
أخرجه الترمذي وزاد (أأدخل) وقال: – حسن غريب. ا هـ (5/ 65). وقال ابن مفلح: حديث جيد. ا هـ (الآداب الشرعية 1/ 449).
وفي مصنف أبي شيبة (8/ 646) عن ابن بريدة قال: استأذن رجل على رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم علي الباب، فقال: أأدخل – ثلاث مرات – وهو ينظر إليه، فلم يأذن له، ثم قال السلام عليكم أأدخل، فقال ادخل. ثم قال: لو قمت …… تقول: أأدخل، ما أذنت لك حتى تبدأ بالسلام.
وفي الأدب المفرد للبخاري – باب الاستئذان غير السلام – (2/ 505/518) أن أبا هريرة – رضي الله عنه – قال: جاء أبو موسي إلى عمر بن الخطاب، فقال: السلام عليكم هذا عبد الله بن قيس. فلم يأذن له فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسي. السلام عليكم، هذا الأشعري. ثم انصرف فقال ردوا علي، ردوا علي فجاء فقال يا أبا موسي ما ردك؟ كنا في شغلٍ. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع))
ولا تنبغي الزيادة على ثلاث لظاهر هذا الخبر، ولما روى عبد الرزاق في المصنف (10/ 381) والبخاري في الأدب المفرد (2/ 511) عن أبي العلانية قال: سلمت على أبي سعيد الخدري ثلاثاً فلم يجبني أحد، فتنحيت في ناحية الدار، فإذا رسول قد خرج إلي فقال: أدخل فلما دخلت قال لي أبو سعيد: أما إنك لو زدت لم آذن لك. ا هـ.
قال الإمام ابن عبد البر – رحمه الله – في ((التمهيد)) (24/ 204) على حديث أبي موسي:
وظاهر هذا الحديث يوجب ألا يستأذن الإنسان أكثر من ثلاث، فإن أذن له، وإلا رجع.
وهو قول أكثر العلماء .. وقال بعضهم: المرة الأولى من الاستئذان: استئذان. والمرة الثانية مشورة هل يؤذن في الدخول أم لا؟
والثالثة: علامة جاء يريد الدخول، فالأول له الاكتفاء بالدق والثاني يسلم والله أعلم.
كراهية السلام على المشغول بقضاء الحاجة:
لما كان السلام اسماً من أسماء الله تعالى، كره ذكره في الأماكن المستقذرة، ولهذا منع المسلم من السلام على من كان مشتغلاً بقضاء حاجته لئلا يفضي ذلك إلى رد السلام في مثل هذا الموطن
وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه (4/ 65 نووي) عن ابن عمر أن رجلاً مر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلم، فلم يرد عليه.
قال ابن مفلح في الآداب (1/ 378): ويكره السلام على من يقضي حاجته، ورده منه. نص عليه أحمد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد على الذي سلم عليه وهو يبول. رواه مسلم. ا هـ.
قال النووي: قال أصحابنا ويكره أن يسلم على المشتغل بقضاء حاجة البول، والغائط. فإن سلم عليه كره له رد السلام. ا هـ.
استحباب السلام على طهارة:
لما كان السلام ذكراً مشروعاً، استحب أن ينفذه الإنسان وهو علي طهارة.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي الجهيم – رضي الله عنه – قال: ((أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جملٍ فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام)).
وروى النسائي (1/ 37) وأبو داود (1/ 23) وابن ماجة (1/ 126) جميعاً عن الحسن عن حصين بن المنذر أبي ساسان عن المهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يرد عليه حتى توضأ، فلما توضأ رد عليه. هذا لفظ النسائي. ولفظ ابن ماجة: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فسلمت عليه فلم يرد علي السلام فلما فرغ من وضوئه قال: ((إنه لم يمنعني من أن أرد إليك إلا أنني كنت علي غير وضوء))
وقد بوب عليه ابن ماجة فقال: ((باب الرجل يسلم عليه وهو يبول)). ا هـ.
قال السندي – رحمه الله – في حاشيته علي ابن ماجة
قوله وهو يتوضأ في رواية النسائي وأبي داود ((وهو يبول)) فيحمل قوله وهو يتوضأ. أي: وهو في مقدمات الوضوء. والمصنف نبه على ذلك بذكر الحديث في هذه الترجمة. ا هـ.
وأخرج الحديث الإمام أحمد في المسند. (4/ 345) وفيه: فكان الحسن من أجل هذا الحديث يكره أن يقرأ أو يذكر الله عز وجل حتى يتطهر. ا هـ
والحديث صححه الحاكم (1/ 167) وأقره الذهبي. وقال ابن مفلح في ((الآداب)) (1/ 377) إسناده جيد. ا هـ.
قال ابن حبان عقب إخراجه للحديث (3/ 83) الإحسان):
قوله صلى الله عليه وسلم ((إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهرٍ)) أراد به صلى الله عليه وسلم الفضل، لأن الذكر على الطهارة أفضل، لا أنه يكرهه لنفي جوازه. ا هـ.
ويشهد لما قرره ابن حبان – رحمه الله – ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
قال النووي: (( … ويكون معظم المقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله متطهراً ومحدثاً …. ))
: تتمة شرح الصحيح المسند 1121
ابتداء الكافر بالسلام:
لقد بلينا في هذا العصر بكثرة وفود الكفار إلى ديارنا، مما أضعف واجب البراء والعداوة للكافرين في قلوب كثير من المسلمين. حتى بلغ الحد ببعضهم إلى التسوية بين المؤمنين والكافرين في التحية الإسلامية، فتراه يبدأ الكافر بالسلام، كما يبدأ به أخاه المسلم، ولا يرى في ذلك ضيراً، بل يظنه من المحامد والآداب.
وقد ورد النهى عن هذا العمل القبيح صراحة. ففي صحيح مسلم – وغيره – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام. فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقة))
ففي ابتداء الكافر بالسلام مفاسد منها:
1 – الوقوع في النهي المتقدم.
2 – إظهار الاعتناء والتكريم للكفار.
3 – إذهاب وهج الحسد من قلوبهم. إذ اليهود لم تحسدنا على شيء كما حسدتنا على السلام. فإذا سلم عليهم المسلم أدخل على أفئدتهم سروراً لتشريكهم في هذه التحية.
4 – مخالفة قول الله تعالى: (وليجدوا فيكم غلظة)
والابتداء بالسلام علامة الوئام والود لذلك ولغيره منع جمهور العلماء ابتداء الكافر بالسلام. قال النووي – رحمه الله تعالى – في شرح صحيح مسلم:
فمذهبنا تحريم ابتدائهم به، ودليلنا في الابتداء قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام))، وبهذا الذي ذكرناه عن مذهبنا، قال أكثر العلماء وعامة السلف. ا هـ.
وأما الاحتجاج على جواز ابتدائهم بالسلام بقوله تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
وبقوله تعالى عن إبراهيم – عليه السلام مخاطباً أباه: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)
فلا دلالة فيه البتة أما الآية الأولى: فقد نسخت بآية السيف وهي قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)
وعلى تقدير عدم النسخ فليس المراد بقوله ((سلام)) التحية، وإنما المراد المتاركة، والمباعدة، وعدم مخاطبتهم بما يخاطبوننا به من الكلام الرديء
وأما الآية الثانية: فإن جمهور العلماء يرون أن معنى سلام إبراهيم: المسالمة التي هي المتاركة لا التحية. قال الطبري: معناه: أمنة مني لك. ا هـ.
والأسوة بإبراهيم التي أمرنا بها هي ما لم يرد في الشرع المحمدي خلافه فعلى تسليم القول بأن سلام إبراهيم تحية، فلا دلالة فيه، لورود ما يخالف ذلك في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قوله: ((لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام))
وما ورد عن بعض السلف من جواز ابتدائهم بالسلام مطلقاً كما ورد عن أبي أمامة، وابن عيينة، أو مقيداً بالحاجة إليهم كما ورد عن ابن مسعود والنخعي ([62])
فإن النقل عن كثير منهم لا يثبت، وما ثبت فإنه محجوج بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام)) والله أعلم.
وقد احتج بعضهم بحديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم ((مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، فسلم عليهم)) على جواز السلام على الكفار.
كيف يرد المسلم سلام أهل الكتاب
عن ابن عمر – رضي الله عنهما –قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك. فقل: وعليك)) متفق عليه.
السام: الموت.
وعن أنس – رضي الله عنه– قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)) متفق عليه.
وعن عائشة – رضي الله عتها – قالت: استأذن رهط من اليهود علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم. فقالت عائشة – رضي الله عنها – بل عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله)) قالت: ألم تسمع ما قالوا: قال: ((قد قلت: وعليكم)) وفي بعض الروايات عند مسلم عدم ذكر الواو في قوله: ((وعليكم)).
قال النووي – رحمه الله تعالى -:
أتفق العلماء علي الرد علي أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم: وعليكم السلام. بل يقال عليكم فقط، أو وعليكم.
وقد جاءت الأحاديث التي ذكرها مسلم: عليكم وعليكم، بإثبات الواو، وحذفها. ا هـ.
ولكل صيغة من الرد معنى يختص بها.
فالصيغة الأولى، وهي قولنا: ((وعليكم)) تعني أن الموت كما أنه سيقع علينا لا محالة، فسيقع عليكم كذلك. فالواو هنا للتشريك.
وتحتمل معنى آخر وهو: أن عليكم ما تستحقون من الذم، فالواو هنا للاستئناف لا للعطف ولا للتشريك.
وأما الصيغة الثانية: وهي قولنا: ((عليكم)) بحذف الواو فمعناها: عليكم السام وحدكم.
قال القاضي عياض – رحمه الله تعالي – اختار بعض العلماء منهم ابن حبيب المالكي: حذف الواو لئلا يقتضي التشريك. وقال غيره بإثباتها، كما هو في أكثر الروايات. ا هـ، بواسطة نقل النووي.
قال الخطابي: هكذا يرويه عامة المحدثين ((وعليكم)) بالواو وكان سفيان بن عيينة يرويه ((عليكم)) بحذف الواو. وهو الصواب.
وذلك: أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردوداً عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم، والدخول فيما قالوه. لأن الواو حرف للعطف والجمع بين الشيئين. ا هـ.
قال النووي رحمه الله -:
هذا كلام الخطابي. والصواب: أن إثبات الواو، وحذفها جائزان، كما صحت به الروايات وأن الواو أجود كما هي في أكثر الروايات ولا مفسدة فيه، لأن السام الموت، وهو علينا وعليهم. ا هـ.
وقد رد العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالي – قول الخطابي المتقدم فقال:
وأما الحديث في رد السلام فإدخال الواو فيه يقتضي اشتراكاً معهم في مضمون هذا الدعاء – وإن كان كلامين لمتكلمين – بل غايته: التشريك في نفس الدعاء.
وهذا: لأن الدعاء الأول قد وجد منهم، وإذا رد عليهم نظيره: حصل الاشتراك في نفس الدعاء ولا يستلزم ذلك الاشتراك معهم في مضمونه ومقتضاه، إذ غايته إنا نرد عليكم كما قلتم لنا.
وإذا كان السام معناه الموت – كما هو المشهور فيه – فالاشتراك ظاهر. والمعني أنا لسنا نموت دونكم، بل نحن نموت وأنتم أيضاً تموتون.
فلا محذور من دخول الواو على كل تقدير وقد تقدم أن أكثر الأئمة رووه بالواو. ا هـ من حاشية السنن (8/ 77).