1120 – رياح المسك العطرة بمشاركات الأصحاب المباركة على صحيح البخاري
مجموعة أبي صالح وأحمد بن علي ومجموعة ناصر الريسي
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
ومراجعة سيف بن غدير النعيمي
—-
كتاب التهجد
باب التهجد بالليل وقوله عز وجل: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك}
1120 – حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا سليمان بن أبي مسلم، عن طاوس، سمع ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: ” اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والارض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السموات والارض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والارض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والارض، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت – أو: لا إله غيرك – ” قال سفيان: وزاد عبد الكريم أبو أمية: «ولا حول ولا قوة إلا بالله» [ص:49]، قال سفيان: قال سليمان بن أبي مسلم: سمعه من طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم
____
فوائد الحديث لصاحبنا أبي صالح:
1 – قوله (باب التهجد بالليل) أي إنما يكون التهجد بالليل واستدل بقوله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك)، ثم ذكر حديث ابن عباس وفيه (إذا قام من الليل يتهجد).
2 – الحديث أخرجه الستة مختصرا ومطولا من حديث طاوس عن ابن عباس قال أبو نعيم الأصبهاني غريب من حديث طاوس عن ابن عباس.
3 – هذا من أدعية الاستفتاح في الصلاة ذكره عبد الرزاق، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان. وصرح به في طريق قيس بن سعد عن طاوس فقال كان في التهجد يقول بعدما يقول الله أكبر ثم ذكره. أخرجه أبو داود وغيره.
4 – تعظيم الله، والثناء عليه، وتحميده، وتمجيده، والإيمان به، والخضوع له، والإعتراف بربوبيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه.
5 – عظم شأن التوحيد.
6 – استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب اقتداء به صلى الله عليه وسلم.
7 – الدعاء إذا انتبه من الليل ترجم عليه البخاري في صحيحه.
8 – الإيمان بأن الله سبحانه يتكلم، وقوله الحق.
9 – النظر إلى وجه الله سبحانه يوم القيامة ولقائه. ترجم بنحوه البخاري.
10 – الإقرار بالجنة والنار وقيام الساعة.
11 – الإخبات عند قيام الليل.
12 – الدعاء والتضرع إلى الله تعالى.
13 – المداومة على قيام الليل.
14 – قوله (قيام السموات والأرض) فقيام وقيوم وقيم بمعنى واحد وهو الدائم الذي لا يزول.
15 – قال ابن عبد البر في التمهيد وقد روى هذا الحديث بعض من جمع حديث مالك فذكره عن مالك عن أبي الزبير عن عطاء عن ابن عباس وذلك خطأ، والحديث صحيح لمالك عن أبي الزبير عن طاوس عن ابن عباس.
16 – زيادة ” ولا حول ولا قوة إلا بالله” رواها النسائي وغيره من عدة طرق عن سفيان عن سليمان وأشار الحافظ إلى أنها مدرجة.
17 – كثير من الفوائد التقطتها من التمهيد والاستذكار لابن عبد البر.
18 – ورد الحديث من طريق سليمان الاحول، وابن جريج، وأبي الزبير، وقيس بن سعد، ويونس بن خباب عن طاوس به وقد يضاف إليهم عبد الكريم بن أبي المخارق.
19 – فيه مفارقة رواه سفيان بن عيينة عن سليمان بغير واسطة ورواه سفيان الثوري- وهو أعلى طبقة من ابن عيينة- عن سليمان بواسطة
—–
فوائد الحديث
20 – قال الطبري: التهجد السهر بعد نومة ثم ساقه عن جماعة من السلف
قلت سيف: وذكر ابن حجر أنه من الأضداد.
3 – قوله: ” وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ” فيه الإقرار بالبعث بعد الموت وهو عبارة عن مآل الخلق في الدار الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال.
21 – قوله: ” وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ ” فيه إشارة إلى إنهما موجودتان
22 – قوله: ” وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ ” خصه بالذكر تعظيما له.
23 – إطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها وإنها مما يجب أن يصدق بها وتكرار لفظ حق للمبالغة في التأكيد.
24 – وفي هذا الحديث العظيم من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام تضمن حمد الله والثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى الدالة على عظمته وجلاله وكماله وإحاطته بخلقه
25 – وفي هذا الدعاء إظهار العبودية لله والتأله وتفويض الأمور إليه، والإقرار بذكر الإيمان بالأمور الغيبية التي هي أصول الإيمان وأركانه مثل الإيمان بالله والنبيين واليوم الآخر والجنة والنار
26 – وفي رواية: قيام وفي أخرى قيوم، وهي من أبنية المبالغة
27 – وفيه زيادة معرفة النبي – صلى الله عليه وسلم – بعظمة ربه وعظيم قدرته ومواظبته في الليل على الذكر والدعاء والاعتراف له بحقوقه والإقرار بصدق وعده ووعيده وغير ذلك.
—–
فوائد أحمد بن علي:
28 – حديث الاستفتاح هذا كل الشراح شرحوه على أنه في قيام الليل لقول ابن عباس: إذا قام من الليل.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في ” فتاوى نور على الدرب ” (8/ 182):
” أما في الفريضة، فالأفضل: (سبحانك اللهم وبحمدك …. إلخ)، أو: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي … إلخ) هذا المحفوظ عنه في صلاة الفريضة عليه الصلاة والسلام ” انتهى.
وروى مسلم (771)، والنسائي (897) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أنه كان إذا قام إلى الصلاة، قال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ).
قال ابن القيم رحمه الله في ” زاد المعاد ” (1/ 196):
” الْمَحْفُوظَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِفْتَاحَ، إِنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ – عليه الصلاة والسلام – فِي قِيَامِ اللَّيْلِ ” انتهى.
….
من القواعد المقررة المعروفة أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض وما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل يدل على ذلك ويدل على هذه القاعدة أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل وما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم حكوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يصلى على راحلته حيث توجهت به غير أنه لا يصلى عليها المكتوبة) لئلا يتوهم واهم أن الفريضة مثل النافلة في هذه الحال وهذا يدل على أن الفريضة ما ثبت في النفل ثبت فيها إلا بدليل
قاله العثيمين في نور على الدرب
قال صاحبنا أبو صالح:
ذكر شيخ الاسلام حديث ابن عباس من ضمن الاستفتاحات في شرح العمدة 1/ 93 وقال:
فهذه الاستفتاحات مستحبة في النافلة، كما جاءت بها السنة، ولا بأس بها في الفرض، بل الاستفتاح بها حسن، نص عليه في غير موضع.
….
بوب البغوي في شرح السنة باب ما يقول إذا قام من الليل وقريب منه تبويب النسائي في عمل اليوم والليلة ما يقول اذا قام من الليل والمنذري بوب: فصل في الدعاء إذا تهجد من الليل.
29 – ورد في الفتح وروى الطبري عن ابن عباس أن النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة لانه أمر بقيام الليل وكتب عليه دون أمته وإسناده ضعيف.
حسنه في الصحيحة 1756 عن أبي أمامة وهو في الصحيح المسند 492 عن أبي أمامة
قال الحافظ:
وترجم عليه ابن خزيمة الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هـذا التحميد بعد أن يكبر ثم ساقه من طريق قيس بن سعد عن طاوس عن بن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر اللهم لك الحمد.
صحيح ابن خزيمة 1152
——–
مشاركة سيف الكعبي:
30 – إذا أورد البخاري زيادة غير مقصودة لذاتها فلا يعتبر من زادها من رجال البخاري قرره ابن حجر.
31 – قد يغلط بعض العلماء بين عبدالكريم بن أبي المخارق وعبدالكريم الجزري. مثل حديث النهي عن صبغ الشعر بالسواد فظنه البعض ابن أبي المخارق الضعيف وإنما هو الجزري الثقة.
32 – شرْحُ مَتْنٍ عَظِيمٍ جَامِعٍ فِي الإعْتِقاد: أرسله لنا أحمد بن علي واختصره سيف بن غدير:
لفضيلة الشيخ عبد الرزاق البدر –
قال حفظه الله تعالى-هذا متنٌ جامع كان نبينا عليه الصلاة والسلام يكرره كل ليلة يستفتح به صلاته من الليل، فيستفتح صلاته من الليل بهذه الكلمات العظيمات التي كلها إيمانٌ واعتقادٌ وتوحيدٌ وإخلاصٌ لله تبارك وتعالى.
بدأ عليه الصلاة والسلام هذه الكلمات في مناجاة رب الأرض والسماوات سبحانه وتعالى بقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ))؛ فبدأه بالحمد – حمد الله تبارك وتعالى-، والحمد: هو الثناء على الله تبارك وتعالى بما هو أهله مع الحب له جلَّ في علاه، فالحمد ثناء وحب، وإذا عري الثناء عن الحب كان مدحاً وليس حمداً.
وفي هذا الحديث تكرر الحمد بتكرر ما يُحمد عليه الرب سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يُحمد على كل اسمٍ من أسمائه، وكل صفة من صفاته، وكل فعل من أفعاله، وكل حُكمٍ من أحكامه، ويُحمد تبارك وتعالى على كل نعمةٍ من نعمه وعطيةٍ من عطياته، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل:18]، وهو عز وجل أهل الحمد والثناء جلَّ في علاه.
وقوله: ((قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ)) أي: القائم بشؤون السموات والأرض تصريفاً وتدبيراً وتسخيراً وعطاءً ومنعاً، فالأمر بيد الرب تبارك وتعالى القيوم.
((قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)): أي أن السموات والأرض ومن فيهن كل هذه الكائنات قائمة بأمر الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] وقال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد:33].
ومن أسمائه تبارك وتعالى: «القيوم»، قد ورد في ثلاثة مواضع من القرآن منها: آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، وفي أوائل آل عمران، وفي سورة طه {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}.
والقيوم يدل على قيومية الله سبحانه وتعالى، وقيوميته تبارك وتعالى تتناول أمرين في دلالتها:
الأول: قيامه سبحانه وتعالى بنفسه؛ وهذا فيه ثبوت غناه جل وعلا.
والثاني: قيامه سبحانه وتعالى بشؤون خلقه؛ وهذا فيه كمال قدرته جل وعلا.
وقوله: ((أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ)) فيه إثبات النور اسماً لله عز وجل، وصفةً له سبحانه وتعالى.
وقوله: ((أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) فيه إثبات أن السموات والأرض ومن فيهن أن هذه المخلوقات كلها ملْكٌ لله سبحانه وتعالى.
ثم يقول نبينا عليه الصلاة والسلام ماضياً في مناجاته لربه سبحانه وتعالى: ((وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ))؛ الله أكبر ما أعظمها من مناجاة.
((أَنْتَ الحَقُّ))؛ و «الحق» اسم من أسماء الله تبارك وتعالى الحسنى، يتوسل صلوات الله وسلامه عليه إلى ربه جل في علاه بأن الله سبحانه وتعالى الحق، وكل شيءٍ ما خلا الله باطل، فالله سبحانه وتعالى هو الحق، وله سبحانه وتعالى وحده دعوة الحق؛ فلا يُدعى إلا الله، ولا يُصرف شيء من العبادة إلا للحق المبين سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]
قال: ((وَوَعْدُكَ الحَقُّ)) والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وهذا فيه أيضاً إيمانٌ بأن الله عز وجل يوفِّي عباده وأولياءه وأصفياءه بكل ما وعدهم به من عطايا وهبات وخيرات وكرامات في الدنيا والآخرة. فالله الحق ووعده سبحانه وتعالى الحق.
قال: ((وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ))؛ وهذا أمر عظيم جداً في باب الاعتقاد ينبغي أن يكون حاضراً في ذهن العبد؛ أن يكون حاضراً في ذهنه أنه سيلقى الله، وأن يكون على عقيدةٍ متينةٍ ثابتة أنه سيقف بين يدي الله تبارك وتعالى، والله جل وعلا يقول في آخر آية من سورة الكهف: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
((وَقَوْلُكَ الحَقٌّ))؛ قول الله سبحانه وتعالى حقٌ لا باطل فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى عن القرآن الكريم: {لَا يَاتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقال جل وعلا عن القرآن: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فالله سبحانه وتعالى قوله كله حقٌ لا باطل فيه، تنزه وتقدس قوله عن الباطل.
قال: ((وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ))؛ وهذا فيه الإيمان بالجنة والإيمان بالنار، إيمانٌ بأن الجنة حق أعدها الله سبحانه وتعالى لأوليائه وأصفيائه وعباده.
((وَالنَّارُ حَقٌّ))؛ وهي الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى لأعدائه، وأعدَّ لهم فيها النكال الأليم والعذاب العظيم. وإيمان العبد بأن النار حقٌ يتضمن الإيمان أيضا بكل أوصاف النار المذكورة في كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال: ((وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ)) وهذا الإيمان بالرسل الكرام، وهو أصل من أصول الإيمان؛ فإن الإيمان يقوم على ستة أصول منها الإيمان بالرسل.
قال: ((وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ)) ففيه الإيمان بأنبياء الله ورسله، قال الله سبحانه وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] فالإيمان أصل من أصول الإيمان.
قال: ((وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ))؛ وهذا فيه الإيمان الخاص بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، فمحمد عليه الصلاة والسلام حقٌ أي رسولٌ أرسله الله بالحق والهدى بشيراً ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا؛ فبلَّغ البلاغ المبين ..
قال عليه الصلاة والسلام في مناجاته لله سبحانه تعالى بهذا الدعاء المبارك والذكر العظيم: ((وَالسَّاعَةُ حَقٌّ))، والساعة: أي التى ينفخ فيها إسرافيل فيها في الصور ملك الصور وينتهى هذا العالم تنتهى هذه الحياة الدنيا، وهي ساعة {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7] ساعة لأن في لحظة واحدة ينتهى كل شيء، في لحظة واحدة تنتهى الحياة الدنيا بكل تفاصيلها وتبدأ الحياة الآخرة.
بعد هذه الأصول التي قدَّمها النبي صلى الله عليه وسلم في مناجاته لربه سبحانه وتعالى بدأ بنوعٍ آخر من التوسل إلى الله ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ … )) إلخ، فهذا الذي مضى نوع وهذا نوع آخر من التوسل، والمطلوب سيأتي فيما بعد، وهذا كله توسل؛ فتستفيد من ذلك فائدة عظيمة جداً: أن أعظم ما تتوسل إلى الله سبحانه تعالى به لتفوز عنده وتنال رضاه هو العقيدة الصحيحة، أعظم وسيلة تتوسل إلى الله بها العقيدة الصحيحة، أنظر وسيلة النبي صلى الله عليه وسلم لربه في سكون الليل بهذا الأمور أمور الاعتقاد ((اللَّهُمَّ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، ((أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ))، ((أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ))، ((أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ)) هذه كلها عقائد يذكرها مقرراً إيمانه وتصديقه بها متوسلاً إلى الله سبحانه وتعالى بها، فأعظم وسيلة تتوسل إلى الله سبحانه تعالى بها العقيدة الصحيحة، وهذا يستفاد منه: أن فساد العقيدة انقطاع في الوسيلة، إذا فسدت عقيدة الإنسان انقطعت الوسيلة بينه وبين الله، لا وسيلة إلى الله بدون عقيدة، والله لا وسيلة إلى الله بدون عقيدة صحيحة، فالعقيدة الفاسدة تقطع الوسيلة بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى، فلا وسيلة تُدنيك من الله وتقربك منه إلا العقيدة الصحيحة المستمدة من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبينا الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وهذه فائدة ثمينة جداً نتنبه لها.
قال: ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ)) هذه كلها أيضاً وسائل أخرى غير النوع الأول يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بها.
قوله ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ)) أي انقدت؛ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] الإسلام: هو الإستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك. فالإسلام استسلامٌ لله وطاعة وامتثال لأمر الله تبارك وتعالى.
((وَبِكَ آمَنْتُ))؛ قوله ((بِكَ آمَنْتُ)) هذا فيه الاعتقاد؛ أي: آمنت بك وبأسمائك وصفاتك وبكل ما أمرتني بالإيمان به.
وقوله ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ)) فيه جمع بين الإسلام والإيمان، والقاعدة عند أهل العلم: «أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا».
فقوله: ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ)) هذا العمل، وقوله ((وَبِكَ آمَنْتُ)) هذا العقيدة، وفيه من الفائدة: أن الاسلام عقيدة وشريعة، قول وعمل، مثل ما قال السلف: «الإيمان قول وعمل».
قال: ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ))؛ والإنابة هي الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بالإقبال عليه وعلى طاعته كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54]، فالإنابة: هي الرجوع إلى الله والإقبال عليه بفعل طاعته وتجنب ما نهى سبحانه وتعالى عباده عنه.
((وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ)) وهذا فيه التوكل على الله، والتوكل: هو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى وتفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى.
وقوله: ((وَبِكَ خَاصَمْتُ)) أي أنني مستعينٌ بك يا الله في محاجَّتي ومخاصمتي لأعدائك وردِّي عليهم وبياني لفساد عقائدهم وضلالهم وباطلهم، مستعيناً بك ملتجئاً إليك وحدك.
((وَبِكَ خَاصَمْتُ))؛ وهذا فيه تفويض العبد أمره إلى الله سبحانه وتعالى في رده باطل المبطلين وضلال المضلين، يكون بذلك مستعيناً برب العالمين سبحانه وتعالى.
وقوله: ((وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ)) هذا فيه أن التحاكم إنما يكون إلى شرع الله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
((إِلَيْكَ حَاكَمْتُ)): أي التحاكم إلى شرع الله سبحانه وتعالى، والرد لا يكون إلا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59]، والرد إلى الله: ردٌ إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: ردٌ إلى سنته صلوات الله وسلامه عليه.
بعد هذه التوسلات العظيمة التي جمعت بين العقيدة والشريعة – ففي أول هذه التوسلات العقيدة وفي آخرها شريعة وعمل وإقبال وطاعة وذل لله سبحانه وتعالى – بهذه التوسلات العظيمة بدأ عليه الصلاة والسلام بذكر المطلوب، ما هو المطلوب؟
((فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ))؛ انظر هذه العقيدة وهذه الإيمانيات وهذه الأعمال وهذه التعبدات وهذا التذلل وهذه التوسلات إلى الله سبحانه وتعالى من أجل طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى.
((فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ)) لو قال فاغفر لي ذنوبي كلها كانت الجملة أخصر ومتناولة لكل هذا، لكن مقام الاستغفار مقام عظيم جداً يحتاج العبد أن يستحضر فيه تفاصيل الذنوب التي عملها وتنوعها، وأن فيها قديم وحديث، وأن منها سر ومنها علن، يحتاج أن يستحضر ذلك مثل قوله عليه الصلاة والسلام في سجوده ((اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ؛ دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ))
((فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ)) انظر هذا التوسل العجيب في هذا المقام، توسُّل بهذين الاسمين العظيمين لله سبحانه وتعالى ((أَنْتَ المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ)) وذكَر هذين التوسلين في مقام طلب ماذا؟ في مقام طلب الغفران؛ مما يفيدك: أنك إن منَّ الله عليك فغفر لك تقدّمت وارتفعت وعلا شأنك وعظُم ثوابك عند الله سبحانه وتعالى، وإن بقي الإنسان مكبَّلاً بخطاياه فإنَّ خطاياه وذنوبه تؤخره وتبعده.
فهذا فيه أن العبد كلما كان عظيم الإقبال على الله والإنابة إليه والاستغفار وطلب الغفران واللجوء إلى الله هذا كله باب من أبواب التقدم والرفعة عند الله، وبقاء الإنسان على ذنوبه وخطاياه وتقصيره وتفريطه في جنب الله سبحانه وتعالى هذا كله يؤخره ويُبعده.
ثم ختم هذه المناجاة العظيمة بأعظم الكلمات على الإطلاق؛ كلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، قال: ((أَنْتَ المقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) وهذا فيه توسلٌ إلى الله سبحانه وتعالى بألوهيته وأنه لا إله إلا الله.
و ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) هذه كلمة التوحيد، ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) أي: لا معبود بحق سواك. فـ ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) نفي وإثبات؛ نفيٌ العبودية عن كل من سوى الله، وإثباتٌ للعبودية بكل معانيها لله سبحانه وتعالى وحده.
فالذي يقول «لا إله إلا الله» لا يدعو إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح إلا لله، ولا يصرف شيئاً من العبادة إلا لله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 – 163].
وجاء في بعض روايات الحديث في الصحيح أضاف إلى ذلك «وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»؛ ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)) وهذا فيه جمعٌ بين التوحيد بذكر كلمة التوحيد ((لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ))، والإستعانة بقوله «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»، لأن «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» كلمة استعانة.
ولهذا فإن «لا إله إلا الله» تحقيق لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، ولا حول ولا قوة إلابالله تحقيق لـ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ «لا إله إلا الله» كلمة توحيد، و «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»»