: 1116 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——-‘——-
——-‘——-‘——-
——-‘——-‘——–
الصحيح المسند (1116):
اخرج أبوداود 13/ 232 عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنك إن أتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم.
فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها.
=====
وتوبع راشد بن سعد كما في الأدب من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن معاوية مرفوعا وفيه ( …… إنك إذا اتبعت الريبة في الناس أفسدتهم)
الحديث صححه الألباني كما في صحيح الأدب 248، وورد من حديث أبي هريرة أخرجه مسلم.
ويدل عليه معنى سوء الظن والتجسس فإنهما يفتحان باب تتبع العورات قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)
[سورة الحجرات 12]
وسبب فسادهم أنه يقل حياؤهم منك فيجاهرونك بالمعصية.
والنميمة تعتبر من أعظم الشرور في تتبع عورات الناس وشرحنا خطر النميمة في حديث أبي هريرة أخرجه أحمد وهو في الصحيح المسند 1375 في الرجلين اللذين يعذبان في قبورهما.
ويمكن أن نشرح حديث معاوية رضي الله عنه في النقاط التالية:
” الشريعة كلها محاسن؛ لأنها نزلت من عند رب العالمين، وهو العليم الخبير بما يصلح العباد سبحانه وتعالى، جاءت هذه الشريعة ومن محاسنها ستر العورات، لما في ذلك المصالح العظيمة، ودرء المفاسد الكبيرة”.
أولا: المقصود بالعورة:
العورة تطلق على كل ما يحتاط له ويحترز، فالبلاد المتاخمة للعدو يقال لها: عورات، الثغور التي يرابط بها المسلمون في وجاه العدو يقال لها: عورات، وهكذا أيضاً تقال هذه اللفظة على ما يتخوف عليه، فالمنافقون زعموا أن بيوتهم عورة بمعنى أنها عرضة للإعتداء، والله كذبهم بهذا قال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب:13].
وهكذا أيضاً يقال: عورات المسلمين لا يجوز إطلاع الكفار على عورات المسلمين، يعني: على الخفايا والأمور الباطنة وجوانب الضعف التي ينبغي أن لا يطلع عليها عدوهم.
وهكذا أيضاً تقال لكل ما يحترز له الإنسان فلا يظهره أمام الآخرين، وأطلقت العورة على ما نعرف في باب ستر العورة فكل ما يُستحيى منه إذا ظهر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((المرأة عورة)) أخرجه الترمذي وهو في الصحيح المسند 863، فجعل المرأة بهذا الحديث عورة، ولم يقيد ولم يخصص، فأطلق ذلك في حقها، والمقصود أن كل مكمنٍ للستر يقال له: عورة، وكل ما يستره الإنسان أنفة وحياء يقال له: عورة.
ولما كانت المرأة يحترز لها، ويحتاط لها، وتمتد إليها أنظار الرجال، وصارت كما خلقها الله -تبارك وتعالى- محلاً لرغباتهم وشهواتهم التي ركبها الله عزوجل في نفوسهم احتاط الشارع لها غاية الاحتياط، فنهاها عن التبرج، وعن الخضوع بالقول، وعن أن تضرب برجلها ليعلم ما تخفي من زينتها الخفية.
[فرع: التعاريف المتعلقة بالباب: النميمة والتجسس]:
أ. النميمة: وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم. وهذا هو المشهور من تعريف النميمة، وقد نقل ابن حجر الهيتمي هذا التعريف في كتابه ” الزواجر عن اقتراف الكبائر ” ثم قال: (وقال في الإحياء: ولا يختص بذلك، بل هي كشف ما يكره كشفه، سواء أَكرهه المنقول عنه أو إليه أو ثالث , وسواء كان كشفه بقول أو كتابة أو رمز أو إيماء , وسواء في المنقول كونه فعلاً أو قولاً أو عيباً أو نقصاً في المقول عنه أو غيره , فحقيقة النميمة إفشاء السر , وهتك الستر عما يكره كشفه , وحينئذ ينبغي السكوت عن حكاية كل شيء شوهد من أحوال الناس إلا ما في حكايته نفع لمسلم أو دفع ضر , كما لو رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به , بخلاف ما لو رأى من يُخفي مال نفسه فذكره فهو نميمة وإفشاء للسر , فإن كان ما ينم به نقصا أو عيبا في المحكي عنه فهو غيبة ونميمة. انتهى) الزواجر، (الكبيرة الثانية والخمسون بعد المائتين: النميمة). والنميمة كبيرة من كبائر الذنوب.
ونقل عن الحافظ المنذري قوله: (أجمعت الأمة على تحريم النميمة وأنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل. انتهى).
ب. التجسس: قال النووي رحمه الله: (قال بعض العلماء: “التحسس ” بالحاء: الاستماع لحديث القوم , وبالجيم: البحث عن العورات. وقيل: بالجيم: التفتيش عن بواطن الأمور , وأكثر ما يقال في الشر , والجاسوس صاحب سر الشر , والناموس صاحب سر الخير. وقيل: بالجيم أن تطلبه لغيرك , وبالحاء: أن تطلبه لنفسك. قاله ثعلب: وقيل: هما بمعنى (واحد). وهو طلب معرفة الأخبار الغائبة والأحوال) انتهى.
والفرق بين التجسس والتحسس: وقال القرطبي رحمه الله: “التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس، إذا كان يبحث عن الأمور، والتحسس: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه”. تفسير القرطبي [16/ 218].
وقد جاء في ذم النميمة، والتجسس، وتتبع العورات جملة من النصوص الكفيلة بزجر المسلم وردعه عن ارتكاب هذه المحرمات:
1 – فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا يدخل الجنة نمام “. وفي رواية: ” قتّات ” رواه البخاري (6056) ومسلم (105).
والقتات هو النمام. وقيل: النمام الذي يكون مع جمع يتحدثون حديثا فينم عليهم. والقتات: الذي يستمع عليهم وهم لا يعلمون ثم ينم.
2 – وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال: ” يعذبان وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير، كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة ” (البخاري 216، ومسلم 292).
3 – وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا “. البخاري 5144، ومسلم 2563
4 – وروى البخاري (7042) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من تحلم بحُلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ”. والآنك: هو الرصاص المذاب.
[يستثنى من النهي عن التجسس]
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويستثنى من النهي عن التجسس: ما لو تعين طريقاً إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا، كأن يخبر ثقةٌ بأنَّ فلانا خلا بشخص ليقتله ظلماً، أو بامرأة ليزني بها: فيشرع في هذه الصورة التجسس، والبحث عن ذلك، حذراً من فوات استدراكه. [” فتح الباري ” (10/ 482)].
قال الإمام النووي – رحمه الله -:قال إمام الحرمين: … وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثَر على منكر غيَّره جهدَه.
وقال أقضى القضاة الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يَظهر من المحرمات، فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت: [فذلك ضربان]:أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل: أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة: جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار.
الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار: لم يهجم عليها بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن. [” شرح النووي ” (2/ 26)].
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -: التجسس لا يجوز، إلا إذا وُجدت قرائن تدل على وجود المنكر، قرائن قوية، ثم لا يجوز أن يتجسس كل واحد؛ لأن هؤلاء الذين على منكر لو خرج واحد منهم ووجد هذا الرجل ربما يقتله .. ” انتهى مختصرا. [لقاءات الباب المفتوح ” (230 / السؤال 12)].
—-
—
ثانيًا: التنبيه على أن مسالة العورة ينبغي التفصيل فيها: فالعورة أنواع وأقسام فينبغي أن نفصِّل فيها، فهنا عورة في الصلاة، وهي أيضاً على أنواع عورة مخففة، وعورة متوسطة، وعورة مغلظة، والفقهاء يفصلون في هذا. وهناك عورة في حكم النظر، وهذه فيها تفصيل نظر الأجنبي، نظر المحارم والنساء، نظر الطفل، نظر المرأة الكافرة، نظر الخاطب، نظر الطبيب والقاضي عند الحاجة، وهكذا نظر المملوك، و ستر العورة في الصلاة يوضحه قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
والفقهاء أيضاً قد فصلوا في هذه المسألة في أحكام النظر، في النظر إلى الأجنبية، في النظر إلى المخطوبة، في النظر إلى الكبيرة – القواعد من النساء -، النظر إلى البنت التي بلغت التاسعة ولم تبلغ بعد، نظر السيد لأمته، نظر المرأة للمرأة، وهكذا، ولهذا يقول ابن قدامة -رحمه الله- في نظر المحرم مثلاً: “ليس له النظر إلى ما يستتر غالباً كالصدر والظهر ونحوهما”،
ولهذا يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله: “الخُلاصة أن اللباس شيء والنظر إلى العورة شيء آخر، أما اللباس فلباس المرأة مع المرأة المشروع فيه أن يستر ما بين كف اليد إلى كعب الرجل هذا هو المشروع، لكن لو احتاجت المرأة إلى تشمير ثوبها لشغل أو نحوه فلها أن تشمر إلى الركبة، وكذلك لو احتاجت أن تشمر الذراع إلى العضد فإنها تفعل ذلك بقدر الحاجة فقط”، انتهى كلامه.
ثالثًا: أنواع العورات:” العورة نوعان: عورة حسية، وعورة معنوية. فالعورة الحسية: هي ما يحرم النظر إليه؛ كالقبل والدبر، وما أشبه ذلك، مما هو معروف في الفقه.
والعورة المعنوية: وهي العيب والسوء الخلقي أو العملي.
ثالثًا: مما يتصف به الإنسان: ولا شك أن الإنسان كما وصفه الله عز وجل في قوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب:72. فالإنسان موصوف بهذين الوصفين: الظلم والجهل؛ فإما أن يرتكب الخطأ عن عمد؛ فيكون ظالما، وإما أن يرتكب الخطأ عن جهل؛ فيكون جهولاً، هذه حال الإنسان إلا من عصم الله عزَ وجلَ ووفقه للعلم والعدل، فإنه يمشي بالحق ويهدي إلى الحق.
رابعًا: ما يجب على الأخ نحو أخيه إذا وقع في تقصير أو عيب: وإذا كان الإنسان من طبيعته التقصير والنقص والعيب؛ فإن الواجب على المسلم نحو أخيه أن يستر عورته ولا يشيعها إلا من ضرورة. فإذا دعت الضرورة إلى ذلك فلابد منه، لكن بدون ضرورة فالأولى والأفضل أن يستر عورة أخيه؛ لأن الإنسان بشر ربما يخطئ عن شهوة ـ يعني عن إرادة سيئة ـ أو عن شبهة، حيث يشتبه عليه الحق فيقول بالباطل أو يعمل به، والمؤمن مأمور بأن يستر عورة أخيه. مثلاً:
أ. الذي يغش الناس في البيوع ولم يقبل النصح وجب عليك أن تبين أمره للناس؛ لئلا يغتروا به.
ب. عموما ما دام الستر ممكنا، ولم يكن في الكشف عن عورة أخيك مصلحة راجحة أو ضرورة ملحة، فاستر عليه ولا تفضحه.
—-
خامسًا: أصناف الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بين المسلمين: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}. [النور: من الآية19]
ولمحبة شيوع الفاحشة في الذين آمنوا معنيان:
المعنى الأول: أن يحب شيوع الفاحشة في المجتمع المسلم، ومن ذلك من يبثون الأفلام الخليعة، والصحف: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19]،
ونقول: إنه يجب على كل مسلم أن يحذر من هذه الصحف وأن يتجنبها، و الأخلاق إذا فسدت؛ فسدت الأديان، نسأل الله العافية.
المعنى الثاني: أن يحب أن تشيع الفاحشة في شخص معين، وقضية الإفك مشهورة”. [شرح الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين رحمه الله تعالى]
سادسًا: من صور كشف عورات المسلمين، وخذلانهم:
كشف عورة المسلم: أما كشف عورة المسلم فإن جزاءه معجل ولا بد وهو هتك عورة من فعله وفضحها جزاء وفاقًا، ويكون كشف عورة المسلم وفضحه بطرق هي:
الأولى: وهي كشف عيوبه للناس وإظهاره للتَّشهير به، وتنفير الناس منه
وتنقيصه وتجريحه من غير موجب شرعي لذلك، وهذا ديدن كثير من الناس إلا من رحم الله
الثانية: تتبع عورة المسلم، والاطلاع على عيوبه، سواء عن طريق التجسُّس عليه، أو متابعة أحواله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبَّع عورةَ أخيه المسلم يتتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» (رواه الترمذي) وهو في الصحيح المسند 725.
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا … فيهتك الله سترًا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا … ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا
سمع أعرابيٌّ رجلاً يقع في الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لما يطلب بقدر ما فيه منها.
الثالثة: تعيير المسلم بذنبه؛
يقول ابن القيم الجوزية: إن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه، وأشد من معصيته؛ لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس، وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وإن أخاك باء به، ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذل والخضوع والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب – أنفع له، وخير من صولة طاعتك، وتكثرك بها والاعتداء بها، والمنة على الله وخلقه بها، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلاً هو فيك ولا تشعر (مدارج السالكين لابن القيم).
هذا مَنْ عَيَّرَ المسلمَ بذنب قد فعله، فكيف بمن عير المسلم بشيء ليس له فيه يد؛ كأن يكون سمينًا أو طويلاً أو جاهلاً أو قليل الفهم أو نحو ذلك.
الرابعة: الافتراء على المسلم وقذفه في عرضه، وهذا من أعظم الكبائر التي يعجل الله جل وعلا عقابها في الدنيا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23].
وإذا كان مجرَّد حبِّ إشاعة الفاحشة في المؤمنين والرضا به موجب للعذاب الأليم في الدنيا، فكيف بإشاعة الفاحشة نفسها!
قال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم. وقال مالك رحمه الله: كفى بالمرء شرًا أن لا يكون صالحًا ويقع في الصالحين (صفة الصفوة).
خذلان المسلم: ففي الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل امرءًا مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته» (رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني في صحيح الجامع).
قلت سيف: في يحيى بن سليم وذكر الألباني الحديث في الضعيفة 6871 وضعفه بجهالة يحيى بن سليم مع أنه نقل عن أبي نعيم انه قال حديث ثابت مشهور ثم رده بجهالة يحيى بن سليم.
وربما أبو نعيم يقصد أن في معناه أحاديث لكن ليست بتمامه
فورد بمعناه حديث لأبي الدرداء مرفوعا: كن رد عن عرض أخيه المسلم كان حقا على الله عزوجل أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة. قال محققو المسند حسن لغيره. وعن أسماء بنت يزيد مرفوعا من ذب عن عرض أخيه غيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار.
وحديث انس مرفوعا: من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة وسيأتي
وهنا أمور يجب التنبيه عليها: الأولى: أن الحديث يشمل المسلم – أي مسلم – ولا يستلزم نصره أن يكون معروفًا لدى من نصره؛ وإنما يجب نصره ويحرم خذلانه بمجرد أن يكون مسلمًا ويصدق عليه اسم الإسلام، وسواء كان ذاك المسلم المنتقص من عرضه حاضرًا أم غائبًا.
الثانية: أن نصر المسلم وعدم خذلانه يكون بأمور:
فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (رواه البخاري ومسلم).
الثالث: أن الله جل وعلا جعل الجزاء في هذه الخصال من جنس العمل وجعلها معجلة في الدنيا؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة» (رواه البيهقي وحسنه الألباني في الصحيحة). [” كشف عورة المسلم وخذلانه “]
——
سابعًا: ما ورد في الباب:
أ. القرآن الكريم:
1) قال الله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} [النور (19)].
هذه الآية نزلت في الذين رموا عائشة رضي الله عنها بالإفك. وهي عامة في كل من رمى المحصنين والمحصنات. والعذاب الأليم: هو حد القذف في الدنيا، وفي الآخرة بالنار.
2) قول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} سورة [الأعراف (31)]. كانت المرأة في الجاهلية تطوف بالبيت عريانة، كان أهل الجاهلية يطوفون عراة، يزعمون أن هذه الملابس التي لديهم قد عصوا فيها، فلا ينبغي أن يطوفوا فيها3) قال جل وعز: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَامُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف (28)]. 4) وقول الله عزوجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ .. } الآية [النور (30 – 31)].
هذا كذلك دليل على وجوب ستر العورات عن النظر، فتأمل محاسن الشريعة، كيف أنها أمرت بغض البصر وأمرت بستر العورة، لكي تعالج الموضوع من جميع جوانبه.
ب. السنة النبوية.
1) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة». رواه مسلم. في هذا الحديث: الحث على ستر المسلم، خصوصا من كان غير معروف بالشر.
2) عن أبي هريرة – رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه». متفق عليه.
المجاهر: الذي يظهر معصيته فيتحدث بها، وهو استخفاف بحق الله تعالى.
3) عن أبي هريرة – رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر». متفق عليه
«التثريب»: التوبيخ. فيه: المسارعة لمفارقة أرباب المعاصي، ويلزمه تبيين العيب للمشتري، ولعلها تتعفف عنده؛ لأنه يرجى تبديل الحال عند تبديل المحل.
4) عن أبي هريرة – رضي الله عنه قال: أتي النبي – صلى الله عليه وسلم – برجل قد شرب خمرا، قال: «اضربوه». قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان». رواه البخاري. في هذا الحديث: أن الضرب باليد، والنعل، والثوب يجزئ في حد الخمر. وفيه: كراهة الدعاء عليه بالخزي ونحوه. [انظر: تطريز رياض الصالحين].
5) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبِكَ جُنُونٌ قَالَ لَا قَالَ فَهَلْ أَحْصَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ. رواه البخاري (6430) ومسلم (1691).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويؤخذ من قضيته: أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحد كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز. وأن مَن اطلع على ذلك: يستر عليه بما ذكرنا، ولا يفضحه، ولا يرفعه إلى الإمام، كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة (لو سترته بثوبك لكان خيراً لك)، وبهذا جزم الشافعي رضي الله عنه، فقال: أُحبُّ لمَن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب، واحتج بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر. [فتح الباري (12/ 124، 125)].
قلت سيف: ذكر ابن حجر من مرسل سعيد بن المسيب قال عند مالك والنسائي أن رجلا من أسلم قال لأبي بكر الصديق: إن الآخر زنى، قال: فتب إلى الله واستتر بستر الله. ثم أتى عمر كذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ثلاث مرار حتى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله.
بل أورد ابن حجر في حديث بريدة عند مسلم … (قال ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه. فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني.
حتى إذ كانت الرابعة قال فبم أطهرك.
و بوب البخاري باب إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه. وأورد حديث أنس في الرجل الذي قال يا رسول الله أصبت حدا فأقم فيَّ كتاب الله قال: أليس قد صليت معنا؟ قال نعم. قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدَّك.
مع أن أبوبكر البرزنجي نقل ابن حجر أنه ينكر هذا الحديث بتفرد همام وتفرد عمرو بن عاصم ورده ابن حجر بأنه يشهد له حديث أبي أمامة الذي أشرت إليه ومن ثم أخرجه مسلم عقبه. انتهى نقل ابن حجر
وبوب البخاري باب من أصاب ذنبا دون الحد فأخبر الإمام فلا عقوبة عليه بعد التوبة إذا جاء مستفتيا.
6) عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). رواه مسلم (2580).فيه: عظم فضل من يستر على المسلمين.
7) فعن نضلة بن عبيد أبو برزة الأسلمي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يدخلْ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم، فإنه من اتَّبعَ عوراتِهم يتَّبعُ اللهُ عورتَه، ومن يتَّبعِ اللهُ عورتَه يفضحُه في بيتِه)). أخرجه أبو داود (4880)، وأحمد (19776)،قال الألباني: حسن صحيح. وهو في الصحيح المسند 725.
وفي هذا الحديثِ يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: “يا مَعشرَ مَن آمَنَ بلِسانِه وَلم يَدخُلِ الإيمانُ قلبَه” وهذا نِداءٌ للتَّحذيرِ؛ لأنَّ الإيمانَ يجبُ أن يكونَ بالجَوارِحِ بعدَما يَصدُقُ ويستَقِرُّ في القلبِ، فتكونُ الأفعالُ والأعمالُ والاستِجابةُ للأوامرِ والنَّواهي دليلًا على هذا التَّصديقِ.
“لا تَغْتابوا المسلِمينَ”، أي: لا تَذكرُوهم في غَيبتِهم بما يَسوءُهم ويُحزِنُهم، “ولا تتبِعوا عَوراتِهم”، أي: ولا تتحرَّوْا تتبُّعَ سقَطاتِهم وزَلَّاتِهم، وكشْفَ ما يَسترُونَه عن النَّاسِ من القَبائحِ؛ “فإنَّه مَنِ اتَّبع عَوراتِهم يتَّبِعِ اللهُ عورتَه، ومَن يتَّبعِ اللهُ عوْرتَه يفضَحْه في بيتِه”، أي: يكونُ الجزاءُ مِن جِنس العَملِ، فكمَا تتبَّعوا سَقطاتِ المسلمينَ وزلَّاتهِم واغْتابوهم لفَضحِهم، سَخَّر اللهُ تَعالى له مَن يتَّبعُ عورتَه فيفضَحُه حتى وهو في بيتِه.
ثامنًا: فوائد الباب:
فيه: أن الإسلامُ دِينُ الأخلاقِ الحسَنةِ، وقد أمرَ بحفظِ الأعْراضِ مِن أنْ تُنتَهكَ بالقولِ أو الفعلِ؛ لأنَّه ممَّا يورِثُ العَداوةَ والبَغضاءَ بينَ المسلِمينَ
وفيه: بيانُ أنَّ الإيمانَ يكونُ بالقولِ والعَملِ والجوارحِ، وأنَّ المغْتابَ لم يَستقِرَّ الإيمانُ في قلبِه.
وفيهِ: النَّهيُ التَّحذيرُ من الغِيبةِ.
وفيه: الترهيبُ الشَّديدُ مِن تتبُّعِ عوراتِ المسلمينَ. فيه: خطورة تتبع عورات المسلمين.
—-