( 111 ) 4356 -4345 الفوائد المنتقاه من شرح مختصر صحيح مسلم
المقام في مسجد الشيخة /سلامة في مدينة العين
( ألقاه الأخ : سيف بن دورة الكعبي)
بالتعاون مع الإخوة في مجموعات السلام1،2،3 والمدارسة ، والاستفادة، وأهل الحديث همو أهل النبي صلى الله عليه وسلم
مشاركة مجموعة عبدالله المشجري وهاشم السوري
——
صحيح مسلم : بَاب عِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَشِدَّةِ خَشْيَتِهِ؛؛
4345 – عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا فَتَرَخَّصَ فِيهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَأَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ مَا بَالُ رِجَالٍ بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخَّصْتُ فِيهِ فَكَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً
4346 – عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِنْ النَّاسِ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً
——-
المبالغة، والغلو يعقبهما – غالبا – الملل، والملل من العبادة معصية، قد تأتي على ثواب ما قبلها، وفي الحديث “أوغل في الدين برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى” وما جعل عليكم في الدين من حرج [الحج: 78] يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [البقرة: 185].
أولاً : ما يتعلق بمفردات الحديث :
* قوله : (صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا فَتَرَخَّصَ فِيهِ ) : أي فاختار الرخصة واليسر، وقد أومأ ابن بطال إلى أن الذي صنعه صلى الله عليه وسلم وتنزهوا عنه القبلة للصائم، وقال غيره : لعله الفطر في السفر .
* قوله : ( فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَأَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ ) : في الرواية الثانية بدون تشبيه بل بالجزم، ولفظها (( فتنزه عنه ناس من الناس )) أي من الصحابة، بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإذا ترخص في شيء لم يكن غيره مثله، ممن لم يغفر له ذلك، إذ احتاج الذي لم يغفر له ذلك إلى الأخذ بالعزيمة، والشدة لينجو .
* قوله : ( مَا بَالُ رِجَالٍ بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخَّصْتُ فِيهِ فَكَرِهُوهُ وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ ) البال هو الحال، والاستفهام إنكاري توبيخي، أي ما كان ينبغي أن يكون حالهم كذلك، وفي الرواية الثانية (( فغضب حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ ؟ )) .
* قوله : ( فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً )) : معناه أنهم يتوهمون أن تنزههم عما فعلت أقرب لهم عند الله، وإن فعلت خلاف ذلك، وليس كما توهموا، بل أنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية وإنما يكون القرب إليه سبحانه وتعالى والخشية له على حسب ما أمر، لا بمخيلات النفوس، وتكلف أعمال لم يأمر بها . قاله النووي .
وجمع بين العلم بالله وشدة الخشية ليجمع بين القوة العلمية والقوة العملية .
* قال ابن حجر في فتح الباري:
“ولَم أعرفْ أعيان القوم المشار إليهم في هذا الحديث، ولا الشيء الذي ترخَّص فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم وجَدت ما يمكن أن يُعْرَفَ به ذلك، وهو ما أخرَجه مسلم في كتاب الصيام من وجْهٍ آخرَ عن عائشة: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إني أُصبح جنبًا وأنا أُريد الصيام، فأَغْتسل وأصوم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا تُدركني الصلاة وأنا جُنبٌ، فأصوم))، فقال: يا رسول الله، إنك لستَ مثلنا، قد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، فغَضِب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال: ((إني أرجو أن أكونَ أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتَّقِي))”.
وقال أيضًا:
“لأن المشدِّد لا يأْمَن من المَلل بخلاف المقتصِد، فإنه أمْكَنُ لاستمراره، وخير العمل ما داوَم عليه صاحبُه، وقد أرشَد إلى ذلك في قوله في الحديث الآخر: ((المُنْبَتُّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقى))، وتقدَّم في كتاب العلم شيء منه، قوله: ((لكني)): استدراكٌ من شيء محذوف دلَّ عليه السياق؛ أي: أنا وأنتم بالنسبة إلى العبوديَّة سواء، لكن أنا أعمل كذا، قوله: ((فمَن رَغِب عن سُنَّتي، فليس مني))، المراد بالسُّنة: الطريقة، لا التي تُقابل الفرض، والرغبةُ عن الشيء: الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: مَن تَرَك طريقتي، وأخَذ بطريقة غيري، فليس مني، ولَمَّح بذلك إلى طريق الرهبانيَّة، فإنهم الذين ابتدَعوا التشديد كما وصفَهم الله تعالى، وقد عابَهم بأنهم ما وفَّوه بما الْتَزَمُوه، وطريقة النبي – صلى الله عليه وسلم – الحنيفيَّة السَّمحة، فيُفطر ليتقوَّى على الصوم، وينام ليتقوَّى على القيام، ويتزوَّج لكسْر الشهوة وإعفاف النفس، وتكثير النَّسْل”.
* قال ابن الجوزي في زاد المسير:
“فإن قيل: كيف مدَح نفسه بهذا القول، ومن شأن الأنبياء والصالحين التواضُعُ؟ فالجواب: أنه لَمَّا خلا مدحُه لنفسه من بَغْي وتَكَبُّر، وكان مرادُه به الوصول إلى حقٍّ يُقيمه، وعَدْلٍ يُحييه، وجَوْرٍ يُبْطِله، كان ذلك جميلاً جائزًا.
وقد قال نبيُّنا – عليه السلام -: ((أنا أكرم ولدِ آدمَ على ربِّه)).
وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: والله ما من آية إلاَّ وأنا أعلم أبليلٍ نزَلَت، أم بنهار، وقال ابن مسعود: لو أعلم أحدًا أعلمَ بكتاب الله مني تَبلغه الإِبل، لأَتَيْتُه.
فهذه الأشياء خرَجت مخرجَ الشكر لله، وتعريف المستفيد ما عند المفيد؛ ذكَر هذا محمد بن القاسم.
* قال القاضي أبو يعلى:
في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يَصِفَ نفسه بالفضل عند مَن لا يَعرفه، وأنه ليس من المحظور في قوله: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النجم: 32]”.
ويؤخذ من الحديث
1- الحث على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله. والأصل فيه قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب: 21] وقد ذهب جمع إلى وجوبه، لدخوله في عموم الأمر، بقوله تعالى وما ءاتاكم الرسول فخذوه [الحشر: 7] وبقوله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران: 31] وبقوله تعالى فاتبعوه [الأنعام: 153 ،155] فيجب اتباعه في فعله، كما يجب اتباعه في قوله، حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية، وقال آخرون: يحتمل الوجوب والندب والإباحة، فيحتاج إلى القرينة، والجمهور للندب، إذا ظهر وجه القربة، وقيل: ولو لم يظهر، ومنهم من فصل بين التكرار وعدمه، وقال آخرون: ما يفعله صلى الله عليه وسلم، إن كان بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل، وجوبا أو ندبا أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللندب، وما لم يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة.
وأما تقريره صلى الله عليه وسلم على ما يفعل بحضرته فيدل على الجواز، وإذا تعارض فعله وقوله. قيل: يقدم القول، لأن له صيغة، تتضمن المعاني، بخلاف الفعل، وقيل: يقدم الفعل، لأنه لا يطرقه من الاحتمال ما يطرق القول، ثالث الأقوال: يلجأ إلى الترجيح، وكل ذلك ما لم تقم قرينة تدل على الخصوصية.
وذهب الجمهور إلى القول الأول والحجة له أن القول يعبر عنه عن المحسوس والمعقول، بخلاف الفعل، فيختص بالمحسوس، فكان القول أتم، وبأن القول متفق على أنه دليل، بخلاف الفعل، ولأن القول يدل بنفسه، بخلاف الفعل، فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم الفعل يقضي إلى ترك العمل بالقول، والعمل بالقول يمكن معه العمل بما دل عليه الفعل، فكان القول أرجح بهذه الاعتبارات.
قال ابن بطال – بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله صلى الله عليه وسلم – محتجا لمن قال بالوجوب بحديث الخاتم، فقد خلع خاتمه، فخلعوا خواتيمهم، ونزع نعله في الصلاة، فنزعوا، ولما أمرهم في الحديبية بالتحلل، وتأخروا عن المبادرة، رجاء أن يؤذن لهم في القتال، وأن ينصرفوا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: اخرج إليهم، واحلق واذبح، ففعل، فتابعوه مسرعين فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول، ولما نهاهم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، فقال: إني أطعم وأسقى، فلولا أن لهم الاقتداء به لقال: وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنه عدل عن ذلك، وبين لهم وجه اختصاصه بالمواصلة. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر: وليس في جميع ما ذكره ابن بطال ما يدل على المدعي، من الوجوب بل على مطلق التأسي به صلى الله عليه وسلم.
2- وذم التعمق، والمغالاة في الدين، لقوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم [النساء:171] والغلو هو المبالغة في الشيء، والتشديد فيه، بتجاوز الحد، وعند النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين”
3- وأن الخير في الاتباع، سواء كان ذلك في العزيمة، أو الرخصة.
4- وأن استعمال الرخصة، بقصد الاتباع، في المحل الذي وردت فيه، أولى من استعمال العزيمة، بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذ مرجوحا، كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموما، إذا كان رغبة عن السنة.
ونقل ابن التين عن الداودي أن التنزه عما ترخص فيه صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب، لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله، وهذا إلحاد.
قال الحافظ ابن حجر: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، ولكن الذي اعتل به من أشير إليهم في الحديث أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلا يكون إلحادا.
5- وفي الحديث الغضب عند انتهاك حرمات الشرع، وإن كان المنتهك متأولا تأويلا .
6- وفيه حسن المعاشرة، بإرسال التعزير، والإنكار في الجمع، من غير تعيين الفاعل.
إرسال : بمعنى إطلاق
7- وأن القرب إلى الله تعالى سبب لزيادة العلم به، وشدة خشيته.
8- عدم مواجهة المخطأ :
قال النووي: في شرحه على صحيح مسلم (9 / 176):
“إنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – حَمِد الله تعالى وأثنى عليه، فقال: ((ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا))، هو موافق للمعروف من خُطَبه – صلى الله عليه وسلم – في مثل هذا؛ أنه إذا كَرِه شيئًا، فخَطَب له، ذكَر كراهيته ولا يُعَيِّن فاعله، وهذا من عِظَم خُلقه – صلى الله عليه وسلم – فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يَبلغه ذلك، ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ”.
قلت سيف : وفيه :
9- فيه عدم جواز التبتل وما شابه من الرهبانية.
10- لا حجة للطاعنين في النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تزوج أكثر من أربع.
11- يجوز التعبير بكمال النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الكمال البشري
12- ذكر الموت لا يمنع من رعاية المصالح الدنيوية والأخروية.
13 – حديث( لن يشاد الدين أحد إلا غلبه… ) أخرجه البخاري 427، ومسلم 528، قريب من معنى أحاديث الباب، وكذلك حديث(…. عليكم من الأعمال ما تطيقون… ) أخرجه مسلم 782
14 – شدة رغبة الصحابة في العبادة
15 – لا بد في الورع من علم :فقد يكون الورع مبني على الظن أو الميل النفسي فحسب.
وعن هذا يتحدث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيقول: (( .. إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه من أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم فى أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد … ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقوامًا تنزهوا عنها، فقال: ((ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله أني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم)) [4].
ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم «أهـ.
16- تبويبات الأئمة على الحديث وما فيها من فقه :
بوب البخاري باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم، والغلو في الدين والبدع. نقله في نشر الصحيفة الشيخ مقبل وذكر النصوص.
وبوب البيهقي في السنن الكبرى 3/200: باب كراهية ترك التقصير والمسح على الخفين، وما يكون رخصة رغبة عن السنة، وذكر حديث الباب
وبوب النسائي باب ما يقول إذا بلغه عن الرجل الشئ، وذكر حديث الباب، وحديث( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله…. ) وبوب أبوداود باب في حسن العشرة
وجعله الطحاوي في مشكله وأن الرجل الذي قال فيه لاحرقن عليه بيته، انه بلغه عنه أمر عظيم، وإلا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه الرجل إن رأى منه شئ.
وجعله ابن خزيمة في باب الصوم جائز لمن أصبح جنبا مع أحاديث أخرى، وذكره في باب أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم عصاه إذ أمرهم بالإفطار وصاموا
17-سُئلت اللجنة الدائمة:
س4: في الفترة الأخيرة التحيت وأصلي الفرائض وتمسكت بالسنة النبوية الشريفة، وعندنا في قريتنا يعتبرون المتمسك بالسنة متشددا في الدين، وترد عليهم فيقولون (هلك المتنطعون) ، فمن هم المتنطعون؟ وهل يعتبر التمسك بالسنة تشددا؟
ج4: أحمد الله تعالى أن هداك إلى الحق، وأشكره أن وفقك إلى العمل به، وبين لمن عارضك أن الإسلام سمح، وأن الدين يسر، وأن التنطع في الدين هو التكلف والغلو في العمل بالزيادة على ما شرع الله وأنك لم تزد، وإنما تمسكت بما شرع الله فقط.
السؤال الرابع من الفتوى رقم (8973)
18- فيه إثبات الصفات لله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأشدهم له خشية، فوصف ربه بالصفات اللائقة به سبحانه
19- الرد على عباد القبور لأنهم أهل غلو.
وعلى العموم هذا الحديث يرد على كل من فتح بابا للغلو من أي جهة
20-ونقل بعض الباحثين عن التنطع فقال:
وللعلماء في تفسير ” التنطع ” و ” المتنطعين ” عبارات كثيرة ، تتوافق ولا تتعارض ، وكلها تجتمع في معنى واحد ، يرجع إلى التكلف والتشدد فيما لا ينبغي وفي غير موضعه الصحيح. ومن هذه المعاني :
1- الغلو في العبادة والمعاملة ، بحيث يؤدي إلى المشقة الزائدة ، والشريعة لم تأمر إلا بما فيه يسر وسماحة ، ونهت عن التشدد في الدين ، وصور الغلو التي أحدثها الناس في الدين وعدها العلماء من التنطع لا تكاد تحصى بعدد .
يقول النووي في “شرح مسلم” (16/220) :
” أي : المتعمقون ، الغالون ، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم ” انتهى .
2- الابتداع في الدين ، بتحريم ما لم يحرمه الله ورسوله ، واستحداث صور من العبادات والإلزامات لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في “مجموع الفتاوى” (10/620) – :
” الرهبانيات والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات ، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( هلك المتنطعون ) ، وقال : ( لو مد لي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ) مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم ، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه ، وكذلك الاحتفاء والعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة ، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم ، وأن يقوم قائما ولا يجلس ، ولا يستظل ، ولا يتكلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليجلس ، وليستظل ، وليتكلم ، وليتم صومه ) رواه البخاري . وهذا باب واسع ” انتهى .
3- التقعر في الكلام ، والتشدق باللسان ، بتكلف الكلمات التي تميل قلوب الناس إليه ، حيث لا معنى ولا مضمون ، ولا فائدة ترجى من تشدقه وتقعره .
فقد أورد ابن أبي الدنيا هذا الحديث في رسالة ” الغيبة والنميمة ” في باب ” ما جاء في ذم التقعر في الكلام ” (ص/15) وروى فيه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ )
رواه أيضا أحمد في “المسند” (1/22) وحسنه محققو المسند .
وروى فيه أيضا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان )
قال ابن الأثير في “النهاية” (5/164) :
” المُتَنَطِّعون : هم المُتعَمِّقون المُغالون في الكلام ، المتكلِّمون بأقْصَى حُلوقهم . مأخوذ من النِّطَع ، وهو الغارُ الأعْلى من الفَم ، ثم استُعْمِل في كل تَعَمُّق قولاً وفعلا ” انتهى .
4- الخوض فيما لا يعني ، والسؤال عما لا ينبغي ، وتكلف البحث فيما لا يغني .
قال الخطابي :
” المتنطع : المتعمق في الشيء ، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم ، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم ” انتهى . نقلا عن ” عون المعبود ” (12/235)
ويقول ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” (ص/285) :
” المتنطع : هو المتعمق ، البحاث عما لا يعنيه ؛ فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات ، قد يوجب اعتقاد تحريمه ، أو إيجابه لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات ، فقبول العافية فيه ، وترك البحث عنه والسؤال خير ” انتهى بتصرف. ثم ذكر ابن رجب رحمه الله أمثلة لما ينبغي تجنب البحث فيه من تفاصيل أمور الغيب المجهولة والفروق الفقهية المتكلفة ، والتفريع على المسائل التي يندر وقوعها، ونحوها.
قال الشيخ ابن عثيمين في “شرح رياض الصالحين” (1/416-418) :
” كذلك أيضاً من التشديد في العبادة ، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه ، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك .
ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى – ولا سيما في رمضان – حين يكون الله قد أباح له الفطر وهو مريض ، ويحتاج إلي الأكل والشرب ، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائماً ، فهذا أيضاً نقول إنه ينطبق عليه الحديث : هلك المتنطعون .
ومن ذلك ما يفعله بعض الطلبة المجتهدين في باب التوحيد ؛ حيث تجدهم إذا مرت بهم الآيات والأحاديث في صفات الرب عز وجل جعلوا ينقبون عنها ، ويسألون أسئلة ما كلفوا بها ، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم ،
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة من إدخال الاحتمالات العقلية في الدلائل اللفظية ؛ فتجده يقول : يحتمل كذا ويحتمل كذا ، حتى تضيع فائدة النص ، وحتى يبقى النص كله مرجوجاً لا يستفاد منه . هذا غلط . خذ بظاهر النصوص ودع عنك هذه الاحتمالات العقلية ، فإننا لو سلطنا الاحتمالات العقلية على الأدلة اللفظية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما بقي لنا حديث واحد أو آية واحدة يستدل بها الإنسان ، ولأورد عليها كل شيء ، وقد تكون هذه الأمور العقلية وهميات وخيالات من الشيطان ، يلقيها في قلب الإنسان حتى يزعزع عقيدته وإيمانه والعياذ بالله .
وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( هلك المتنطعون . هلك المتنطعون . هلك المتنطعون )
فكل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث ” انتهى باختصار .
ثانيا :
أما الالتزام بشعائر الدين الظاهرة ، والمحافظة على حدود الله ، وامتثال أوامره ، فهذا من واجبات الدين ، وسبيل دخول جنة رب العالمين ، ولا يعدها مِن التنطع إلا مَن يريد التحلل من الشريعة ، والطعن في الأحكام الثابتة ؛ فإن التنطع المذموم هو خروج عن الشريعة وآدابها ، فكيف يكون التزامها ، والتمسك بها ، والعض عليها بالنواجذ تنطعا ؟!!
والحَكَمُ الفصل في ذلك هو الأدلة من الكتاب والسنة ، فما جاءت به الأدلة الصحيحة الظاهرة بإيجاب شيء – كغطاء الوجه وإعفاء اللحية – ، أو تحريم شيء – كتحريم المعازف والاختلاط بالنساء ونحوه – فهذا لا يجوز وصفه بالتنطع والتشدد ، إذ يلزم منه اتهام النبي صلى الله عليه وسلم – الذي أمرنا بها – بأنه متنطع !! وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك.
أما ما لم تأت به النصوص ، وكان من أحد الأوجه الأربعة السابقة في تفسير التنطع ، فهذا هو ما ينبغي ذمه واجتنابه ، ولا يخلط بينه وبين أحكام الشريعة الظاهرة الثابتة .
ثالثا :
أما حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : ( مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ) رواه البخاري (3367) ومسلم (2327)
فلا يعني بوجه من الوجوه التخلي عن الشريعة ، والتقصير في الواجبات ، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على تحقيق العبودية لله بجميع لوازمها ، ولكن المراد بقوله ( بين أمرين ) أي من أمور الدنيا التي ليس للشرع فيها أمر أو نهي ، أو من الأمور التي يسع فيها الاختيار من السنن والمستحبات ، أما إذا جاء التكليف بالوجوب أو التحريم فيجب الوقوف عنده من غير تعد ولا تقصير .
يقول الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” (6/575) :
” قوله : ( بين أمرين ) أي : من أمور الدنيا ، يدل عليه قوله : ( ما لم يكن إثما ) ؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها ، وقوله : ( ما لم يكن إثما ) أي : ما لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم ، فإنه حينئذ يختار الأشد . وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط : ( إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ) ” انتهى مختصرا .
قال ابن رجب :
فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل ، وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله وإنما زاد علمه بالله لمعنيين :
أحدهما : زيادة معرفته بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه وما يستحقه من الجلال والإكرام والإعظام .
والثاني : أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين ، فإنه رآه إما بعين بصره أو بعين بصيرته ، كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : رآه بفؤاده مرتين ، وعلمهم به مستند إلى علم يقين ، وبين المرتين [ تباين ] ( 229 ) ، ولهذا سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يرقيه من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين بالنسبة إلى رؤية إحياء الموتى – وقد سبق التنبيه على ذلك والكلام في تفاصيل المعرفة التامة بالقلب ( 230 ) – فلما زادت معرفة الرسول ( 191 – أ / ف ) بربه زادت خشيته له وتقواه ، فإن العلم التام يستلزم الخشية كما قال تعالى ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( [ فاطر : 28 ] فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى ، ، إنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله . وقد خرج البخاري في آخر ” صحيحه ” عن مسروق قال : قالت عائشة : صنع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شيئا ترخص فيه وتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فحمد الله ثم قال : ” ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية ” ( 231 ) .
ثم ذكر أن القول بأن عمله إنما لأجل الاتكال على مغفرة ذنبه فيه التعريض أن هديه ليس خير الهدي وهو القائل( خير الهدى هدى محمد )….
تنبيه حديث( المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ):
هو في السلسلة الضعيفة –
رقم الحديث: 8
الحديث: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا . ( لا أصل له ) _ وإن اشتهر على الألسنة . وقد روي مرفوعا عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فذكره في تمام حديث أوله إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولاتبغض إلى نفسك عبادة ربك فإن المنبت لاسفرا قطع ولاظهرا أبقى فأعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبدا واحذر حذر ( إمرئ ) يخشى أن يموت غدا . ( وهذا سند ضعيف ) _ وبه علتان . لكن يغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا . . . أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا . وقد روي الحديث بنحوه من طريق أخرى انظر الحديث رقم 874 من الضعيفة . أصلحوا دنياكم واعملوا لآخرتكم، كأنكم تموتون غدا .
قال الحافظ في الفتح في شرح حديث ( لن يشاد الدين ..) :
والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينيه ويترك الرفق الا عجز وانقطع فيغلب قال ابن المنير في هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع وليس المراد منع طلب الاكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة بل منع الافراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة أو إلى أن خرج الوقت المختار أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة وخير دينكم اليسرة وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعيه فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصه تنطع كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. اهـ
قال السعدي في بهجة قلوب الأبرار:
ما أعظم هذا الحديث، وأجمعه للخير والوصايا النافعة، والأصول الجامعة. فقد أُسّس صلّى الله عليه وسلم في أوله هذا الأصل الكبير. فقال: “إن الدين يسر” أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه. فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره: هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة. وبفواتها يفوت الصلاح كله. وهي كلها ميسرة مسهلة، كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه، ولا تكلفه، عقائده صحيحة بسيطة. تقبلها العقول السليمة، والفطر المستقيمة. وفرائضه أسهل شيء.
أما الصلوات الخمس: فإنها تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات في أوقات مناسبة لها. وتمم اللطيف الخبير سهولتها بإيجاب الجماعة والاجتماع لها؛ فإن الاجتماع في العبادات من المنشطات والمسهلات لها ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان، وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب للمؤمن أن يستحليها، ويحمد الله على فرضه لها على العباد؛ إذ لا غنى لهم عنها.
وأما الزكاة: فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب زكوي. وإنما تجب على الأغنياء تتميماً لدينهم وإسلامهم، وتنمية لأموالهم، وأخلاقهم، ودفعاً للآفات عنهم وعن أموالهم، وتطهيراً لهم من السيئات، ومواساة لمحاويجهم، وقياماً لمصالحهم الكلية. وهي مع ذلك جزءٌ يسير جداً بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق.
وأما الصيام: فإن المفروض شهر واحد من كل عام، يجتمع فيه المسلمون كلهم، فيتركون فيه شهواتهم الأصلية – من طعام وشراب ونكاح – في النهار, ويعوضهم الله على ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم، وزيادة كمالهم، وأجره العظيم، وبره العميم، وغير ذلك مما رتبه على الصيام من الخير الكثير، ويكون سبباً لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل الخيرات كلها، وترك المنكرات.
وأما الحج: فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع، وفي العمر مرة واحدة. وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن تعداده. وقد فصلنا مصالح الحج ومنافعه في محلّ آخر. قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحجّ:28] , أي: دينية ودنيوية.
ثم بعد ذلك بقية شرائع الإسلام التي هي في غاية السهولة الراجعة لأداء حق الله وحق عباده. فهي في نفسها ميسرة. قال تعالى {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] , ومع ذلك إذا عرض للعبد عارض مرض أو سفر أو غيرهما، رتب على ذلك من التخفيفات، وسقوط بعض الواجبات، أو صفاتها وهيئتها ما هو معروف.
ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد صلّى الله عليه وسلم رأى ذلك غير شاق عليه، ولا مانع له عن مصالح دنياه، بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها: حقّ الله، وحقّ النفس، وحقّ الأهل والأصحاب، وحقّ كلّ من له حقّ على الإنسان برفق وسهولة، وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه، بل غلا، وأوغل في العبادات: فإن الدين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع، ولهذا قال: “ولن يَشادَ الدينَ أحد إلا غلبه” فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو، ولم يقتصد: غلبه الدين، واستحسر ورجع القهقرى. ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم بالقصد، وحثّ عليه. فقال: “والقصد القصد تبلغوا”.
ثم وصى صلّى الله عليه وسلم بالتسديد والمقاربة، وتقوية النفوس بالبشارة بالخير، وعدم اليأس.
فالتسديد: أن يقول الإنسان القول السديد، ويعمل العمل السديد، ويسلك الطريق الرشيد، وهو الإصابة في أقواله وأفعاله من كل وجه. فإن لم يدرك السداد من كل وجه فليتق الله ما استطاع، وليقارب الغرض. فمن لم يدرك الصواب كله فليكتف بالمقاربة. ومن عجز عن العمل كله فليعمل منه ما يستطيعه…
فعلمت بهذا: أنه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد:
القاعدة الأولى: التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم.
القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير وقت حصولها.
القاعدة الثالثة: إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.
القاعدة الرابعة: تنشيط أهل الأعمال، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال.
القاعدة الخامس: الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله، التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء.
فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها.
وقد نقلنا في شرحنا لبعض أحاديث الصحيح المسند بعض القواعد في يسر الشريعة وذكرنا أمثلة على ذلك استفدناها من أسماء رسائل جامعية ألفت في ذلك.
تنبيه : حديث( …. أخوف ما أخاف على كل منافق عليم اللسان…..) -أعله الدارقطني بالوقف.
تنبيه : حديث انا أكرم ولد آدم على ربي، ضعفه الألباني في سنن الترمذي