1108 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——-‘——‘——–‘
——-‘——-‘——-‘
——-”——”——-”
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1108):
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثني راشد بن سعد عن عاصم بن حميد، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته فلما فرغ قال يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا.
* وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان حدثنا من طريق صفوان بن عمرو، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: ” أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَهُ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:)) يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي، وَلَعَلَّكَ أَنَّ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي ((فَبَكَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ جَزَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:)) لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ ((.
هذا حديث صحيح
*وقال الإمام أحمد بن عمرو بن أبي عاصم رحمه الله في كتاب السنة: ثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد الكوفي، عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن خرج معه يوصيه، ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقال: «إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وليس كذلك. إن أوليائي منكم المتقون، من كانوا وحيث كانوا. اللهم إني لا أحل لهم فساد ما أصلحت، وايم الله لتكفأن أمتي عن دينها كما تكفأن الإناء في البطحاء».
هذا حديث صحيح.
===================
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في السند.
الوجه الثاني: فقه الحديث، وما يرشد إليه:
(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: لَمَّا أَرَادَ إِرْسَالَهُ قَاضِيًا أَوْ عَامِلًا (إِلَى الْيَمَنِ، خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِيهِ): بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ) أَيْ: بِأَمْرِهِ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ) أَيْ: تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَتَلَطُّفًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ اسْتِحْبَابُ مُشَايَعَةِ الْأَصْحَابِ، (فَلَمَّا فَرَغَ) أَيْ: مِنَ الْوَصِيَّةِ قَالَ: «يَا مُعَاذُ إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَقَبْرِي» أَيْ: مَعَ قَبْرِي عَلَى أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى ” مَعَ ” ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى مَسْجِدِي، وَالتَّقْدِيرُ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَبِقَبْرِي أَيْضًا، وَأَبْهَمَهُ لِعَدَمِ ظُهُورِهِ حِينَئِذٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَسَى مَعْنَاهُ التَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] وَأَمَّا لَعَلَّ فَمَعْنَاهُ التَّوَقُّعُ وَهُوَ تَرَجِّي الْمَحْبُوبِ وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ نَحْوَ: لَعَلَّ الْحَبِيبَ وَاصِلٌ، وَلَعَلَّ الرَّقِيبَ حَاصِلٌ، وَيَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ بِخِلَافِ لَيْتَ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحَالِ نَحْوَ: لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ، فَاسْتِعْمَالُ عَسَى وَلَعَلَّ فِي الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، ثُمَّ فِي الْمُغْنِي يَقْتَرِنُ خَبَرُ لَعَلَّ بِأَنْ كَثِيرًا حَمْلًا عَلَى عَسَى كَقَوْلِهِ:
لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ عَلَيْكَ … مِنَ اللَّائِي يَدَعْنَكَ أَجْدَعَا
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتِعْمَالُ لَعَلَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاغِبًا لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَدْخَلَ أَنْ فِي الْخَبَرِ تَشْبِيهًا لِلَعَلَّ بِعَسَى تَلْوِيحًا إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] (فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا): بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: جَزَعًا وَفَزَعًا، فَفِي النِّهَايَةِ الْجَشَعُ أَجْزَعُ لِفِرَاقِ الْإِلْفِ فَقَوْلُهُ: (لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): لِلتَّاكِيدِ أَوْ لِلتَّجْرِيدِ (ثُمَّ الْتَفَتَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُعَاذٍ (فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ): تَفْسِيرٌ لِلِالْتِفَاتِ، وَلَعَلَّ وَجْهُ الِالْتِفَاتِ بِإِدَارَةِ وَجْهِهِ الشَّرِيفِ عَنْ مُعَاذٍ لِئَلَّا يَرَى بُكَاءَهُ وَيُصَيِّرَهُ سَبَبًا لِبُكَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَشْتَدُّ الْحُزْنُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مَعَ الْإِيمَاءِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُفَارَقَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْمُوَاجَهَةِ فِي الْعُقْبَى، فَسَلَّاهُ فِعْلًا وَوَصَّاهُ قَوْلًا، حَيْثُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّكَ تُفَارِقُنِي وَتُفَارِقُ الْمَدِينَةَ وَتَتْرُكُ الْمَدِينَةَ وَلَا تَرَانِي، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مَجْمَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ فِي دَارِ الْبَقَاءِ.
(فَقَالَ: “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي”) أَيْ: بِشَفَاعَتِي أَوْ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَنْزِلَتِي (” الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا “): جَمَعَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ، وَالْمَعْنَى كَائِنًا مَنْ كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا (” وَحَيْثُ كَانُوا “) أَيْ: سَوَاءٌ كَانُوا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَوْ بِالْيَمَنِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَسَّرَهُ، فَانْظُرْ إِلَى رُتْبَةِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ بِالْيَمَنِ عَلَى كَمَالِ التَّقْوَى، وَحَالَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَكَابِرِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِنْ حِرْمَانِ الْمَنْزِلَةِ الزُّلْفَى، بَلْ مِنْ إِيصَالِ ضَرَرِهِمْ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مِنْ بَعْضِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّكَ بُعْدُكَ الصُّورِيُّ عَنِّي مَعَ وُجُودِ قربك الْمَعْنَوِيِّ بِي، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّقْوَى كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعِ إِنْسَانٍ فَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى الْمُنَاسِبَةِ لِلْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّسْلِيَةِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُدْرِكُوا زَمَنَ الْحَضْرَةِ وَمَكَانَ الْخِدْمَةِ هَذَا الَّذِي سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ حِلِّ الْكَلَامِ عَلَى ظُهُورِ الْمَرَامِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَعَلَّ الِالْتِفَاتَ كَانَ تَسَلِّيًا لِمُعَاذٍ بَعْدَمَا نَعَى نَفْسَهُ إِلَيْهِ يَعْنِي إِذَا رَجَعْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدِي فَاقْتَدِ بِأَوْلَى النَّاسِ بِي وَهُمُ الْمُتَّقُونَ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَنَحْوُهُ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ» كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ. قُلْتُ: وَالَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ خِلَافُ الْأَدَبِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا تُرِيدُ عَدَمَ وُجُودِهِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ الْبَيْتِ …. [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح].
قال الحافظ ابن كثير: “وهذا الحديث فيه إشارة وظهور وإيماء إلى أن معاذاً -رضي الله عنه- لا يجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك; وكذلك وقع، فإنه أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع، ثم كانت وفاته -عليه السلام- بعد أحد وثمانين يوماً من يوم الحج الأكبر”. [السيرة النبوية لابن كثير – (ج 4 / ص 191 – 193)].
وأما ما يرشد إليه الحديث:
1 – سبب وروده: هذه الوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه قبل ذهابه إلى اليمن للدعوة، وقد ورد الوصية بالتقوى في عدة روايات وبمناسبات عدة، وسيأتي شيء من ذلك – إن شاء الله تعالى -.
2 – اختيار الوصية: اختار النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوصية التي من علم معناها وعمل بذلك نال سعادة الدنيا والآخرة، وكيف لا يكون ذلك وهي وصية الأولين والآخرين.
وإذا وقعت هذه الوصية في قلوب المدعوين لعملوا بما أمروا، وابتعدوا عن ما نهوا؛ وذلك لنيل مرضاة الله تعالى ومحبته.
الوجه الثالث: ما يستفاد من الحديث، والروايات الملحقة، فوق ما تقدم:
1 – هذا الحديث دلّ على فضل تقوى الله تعالى. فهذا الحديث يدل على فضل التقوى، وهي: وصية الله تعالى للأولين والآخرين؛ {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، وتكرر الأمر بالتقوى في آياتٍ كثيرة، وأثنى الله تعالى على أهلها، وأخبر بأن أهلها هم المفلحون، وأنهم هم أهل الجنة.
2 – فيه بيان لتواضع النبي صلى الله عليه وسلم.
3 – حسن تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ حيث كان يعلمهم ما يهمهم، وهكذا وهذا هو معنى المربي الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، قال البخاري: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}: حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ. وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ.
قال الحافظ: قَوْله: (وَقَالَ اِبْن عَبَّاس) هذَا التَّعْلِيق وَصَلَهُ اِبْن أَبِي عَاصِم أَيْضًا بِإِسْنَاد حَسَن، وَالْخَطِيب بِإِسْنَادٍ آخَر حَسَن. وَقَدْ فَسَّرَ اِبْن عَبَّاس: ” الرَّبَّانِيّ ” بِأَنَّهُ الْحَكِيم الْفَقِيه، وَوَافَقَهُ اِبْن مَسْعُود فِيمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي غَرِيبه عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيح، وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ وَالْإِسْمَاعِيلِيّ: الرَّبَّانِيّ نِسْبَة إِلَى الرَّبّ أَيْ: الَّذِي يَقْصِد مَا أَمَرَهُ الرَّبّ بِقَصْدِهِ مِنْ الْعِلْم وَالْعَمَل، وَقَالَ ثَعْلَب: قِيلَ لِلْعُلَمَاءِ رَبَّانِيُّونَ لِأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ الْعِلْم أَيْ: يَقُومُونَ بِهِ، وَزِيدَتْ الْأَلِف وَالنُّون لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْحَاصِل أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ النِّسْبَة هَلْ هِيَ نِسْبَة إِلَى الرَّبّ أَوْ إِلَى التَّرْبِيَة، وَالتَّرْبِيَة عَلَى هَذَا لِلْعِلْمِ، وَعَلَى مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيّ لِتَعَلُّمِهِ. وَالْمُرَاد بِصِغَارِ الْعِلْم مَا وَضَحَ مِنْ مَسَائِله، وَبِكِبَارِهِ مَا دَقَّ مِنْهَا. وَقِيلَ يُعَلِّمهُمْ جُزْئِيَّاته قَبْل كُلِّيَّاته، أَوْ فُرُوعه قَبْل أُصُوله، أَوْ مُقَدِّمَاته قَبْل مَقَاصِده. وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: لَا يُقَال لِلْعَالِمِ رَبَّانِيّ حَتَّى يَكُون عَالِمًا مُعَلِّمًا عَامِلً. [فتح الباري (1/ 192و194 – 195)].
وأما ما يستفاد من إرسال معاذ رضي الله عنه من الروايات الأخرى:
4 – “في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله .. ) إرشاد للدعاة إلى الله بالتدرج والبدء بالأهم فالمهم، فالدعوة تكون بترسيخ الإيمان بالله تعالى ورسوله، ثم تكون الدعوة بعد ذلك إلى تطبيق أركان الإسلام العملية، ثم يأتي بعد ذلك الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات، فيتقبل الناس تكاليف الإسلام التي قد تكون مخالفة لهوى النفس؛ لأن قلوبهم قد عمرت بالإيمان واليقين قبل ذلك.
5 – قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى ولمعاذ: (يسرا ولا تعسرا .. ) هذا منهج نبوي كريم أرشد إليه رسول الله معاذاً رضي الله عنه بأن يأخذا بالتيسير على الناس ونهاه عن التعسير عليهم، وأمره بالتبشير ونهاهما عن التنفير”.
6 – فيه الرد على بعض الجماعات لمن يرى بالخروج البدعي الذي يسمونه بالخروج في سبيل الله، وهم على جهل، ففي هذا الحديث وغيره من الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين الأحكام الشرعية وكذلك فقه الدعوة لمن أرسلهم، ومعاذ رضي الله عنه كان من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم،
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذ جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه البخاري ومسلم.
قال عمرو بن ميمون: قدم علينا معاذ بن جبل إلى اليمن رسولاً من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع السحر، رافعاً صوته بالتكبير، وكان رجلاً حسن الصوت، فألقيت عليه محبتي، فما فارقته حتى جعلت عليه التراب. أسد الغابة (ج 2 / ص 367) وهو في سنن أبي داود 432 وهو في الصحيح المسند 838
وعن عمرو بن ميمون أيضاً أن معاذاً -رضي الله عنه- لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} فقال رجل من القوم خلفه: لقد قرَّت عين أمُّ إبراهيم!. رواه البخاري.
وروى الإمام أحمد عن معاذ، قال: بعثني رسول الله صلى الله وسلم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر، وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعاً حولياً، وأمرني فيما سقت السماء العشر، وما سقى بالدوالي نصف العشر.
وعن يحيى بن الحكم، أن معاذاً قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصدق [أي أجمع صدقاتهم] أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً -قال هارون: والتبيع: الجذع أو الجذعة- ومن كل أربعين مسنة. فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين وما بين الستين والسبعين وما بين الثمانين والتسعين، فأبيت ذلك، وقلت لهم: أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. فقدمت فأخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمرني أن أخذ من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع. قال: وأمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا آخذ فيما بين ذلك شيئاً إلا أن يبلغ مسنة أو جذعاً، وزعم أن الأوقاص [الأوقاص: ما بين الفريضتين في الزكاة.] لا فريضة فيها.
قال ابن كثير عن هذا الحديث: “وهذا من أفراد أحمد، وفيه دلالة على أنه قدم بعد مصيره إلى اليمن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والصحيح أنه لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، كما تقدم في الحديث”. [السيرة النبوية (4/ 197)].
قلت سيف: بعثني رسول الله صلى الله وسلم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر، وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعاً حولياً …. قال أبو داود: هذا حديث منكر وبلغني عن أحمد أنه كان ينكره انكارا شديدا. قال ابن حجر في الحكم بصحته نظر لام مسروقا لم يلق معاذا.
خاصة أن الدارقطني رجح رواية من رواه عن مسروق عن معاذ وعن إبراهيم مرسلا.
فكأنهم ينكرون المرفوع لأن الترمذي صوب انه عن مسروق مرسلا. وقد ورد عن طاوس عن معاذ وهو منقطع. وورد من حديث ابن مسعود وفيه خصيف الجزري. وورد من مراسيل الشعبي فلعل ذلك يجعل له اصلا
7 – وَمِنْهُ يُؤْخَذُ اسْتِحْبَابُ مُشَايَعَةِ الْأَصْحَابِ.
8 – فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّقْوَى كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعِ إِنْسَانٍ.
9 – فَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى الْمُنَاسِبَةِ لِلْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] 10 – مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّسْلِيَةِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُدْرِكُوا زَمَنَ الْحَضْرَةِ وَمَكَانَ الْخِدْمَةِ هَذَا الَّذِي سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ حِلِّ الْكَلَامِ عَلَى ظُهُورِ الْمَرَامِ. انتهى.
11 – أن طوائف مِن الأمة تترك دينها؛ بعضهم كليًّا، وبعضهم جزئيًّا.
الوجه الرابع: المسائل الملحقة:
التقوى وحقيقته
المبحث الأول التعريف بالتقوى، وفيه أربع مطالب: المطلب الأول: التقوى في لغة العرب:
نقل ابن منظور في معجمه الكبير [لسان العرب: 3/ 971 – 973] عن ابن الأعرابي أنَّ: التُّقاة، والتَّقيَّة، والتقوى، والاتِّقاء بمعنى واحد، وبيَّن ابن منظور أنَّ معنى وقاه الله وقياً ووقاية: صانه، تقول: وقيت الشيء أقيه: إذا صنته وسترته من الأذى، وتوقَّى، واتقى بمعنى. والوقاء والوقاء والوقاية: كلّ ما وفيت به شيئاً، ووقاك الله شرَّ فلان وقاية، أي: حفظك، وقال أبوبكر: رجل تقي، ويجمع أتقياء، معناه أنه موقٍ نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح، وفي الحديث: «كنا إذا احمرَّ البأس اتقينا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – “أي” جعلناه وقاية لنا من العدو قدامنا، واستقبلنا العدوَّ به، وقمنا خلفه، وقال أفنون التغلبي:
لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقي … إذ هو لم يجعل له الله واقيا
المطلب الثاني: تعريف التقوى في الاصطلاح:
ومن أجود ما ورد في تعريف التقوى ما قاله التابعي طلق بن حبيب، فإنه قال: “التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تجتنب معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله” [كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك (ص 473)، فقرة (1343) وجامع العلوم والحكم: (ص 149)].
يريد بالنور الدليل الذي أمر بالطاعة، ونهى عن المعصية،
ومن التعريفات الجميلة للتقوى التي ذكرها بعض المتأخرين: “التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل”.
المطلب الثالث: موضع التقوى القلب.
يدلُّنا على ذلك أن مكان التقوى القلب، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة: 7]،
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات. [مسلم عن أبي هريرة: 2564].
قال النووي: “قوله – صلى الله عليه وسلم -: «التقوى ها هنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات، وفي رواية: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» [مسلم: 2564] معنى الرواية الأولى أن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته” [شرح النووي على مسلم: 16/ 94].
وقال ربُّ العزة في الهدي الذي نحره أصحاب رسوله – صلى الله عليه وسلم – في الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
فالله تبارك وتعالى لا يصل إليه اللحوم والجلود والدماء، وإنما يصل إليه سبحانه ما يقع في قلب العبد وهو يقدم الهدي والأضحية من تعظيم لرب العزة سبحانه، ولذلك قال في آخر الآية: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].
المطلب الرابع: المقصود الأعظم من العبادات تحقيق التقوى في القلوب
يقول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ بعد أن تحدث عن أعمال الحج: ” المقصود الأعظم هو تحقيق التقوى، وما يحصل في القلب ويقوم به من معاني العبودية والخضوع والانقياد لأمر الله وتعظيم شعائره، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، ويقول جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]،
فالقرآن أمر بتقوى الله، ثم نهى عما بقي من الربا، وفي آية أخرى نهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة ثم أمر بتقوى الله عز وجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} [البقرة: 278]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان وأمر بتقوى الله فقال: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 2] وأمرنا الله أن نقول القول السديد، وأمرنا قبل ذلك بالتقوى، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} [الأحزاب: 70].
المبحث الثاني: كلمة التقوى، وفيه مطلبين:
المطلب الأول كلمة التقوى لا إله إلا الله.
أثنى الله – تبارك وتعالى: – على الصحابة الذين التزموا بكلمة التقوى في عزوة الحديبية، قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26].
والمراد بالذين كفروا حيث رفضوا أن يكتبوا “هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله” فأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى، وهي قول: لا إله إلا الله، فعن أبي بن كعب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] قال: «لا إله إلا الله». [قال الترمذي (3265): هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث الحسن بن قزعة، وحكم الشيخ ناصر الدين الألباني عليه بالصحة. صحيح الترمذي: 2603].
قلت سيف: وحسنه جامع تفسير ابن سعد. راجع كتابنا تهذيب تفسير ابن كثير.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] “شهادة أن لا إله إلا الله”. [وصححه محقق ابن كثير: 5/ 626] وقال بمثل هذا القول عليٌّ وابن عمر وعطاء بن أبي رباح، والمسور، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، والزهري، وقتادة. [ابن كثير: 5/ 627].
المطلب الثاني: فضل كلمة التقوى.
– وكلمة التقوى التي هي (لا إله إلا الله) أفضل كلمة، بها يعصم المرء دمه وماله.
– والذي يقول: لا إله إلا الله خالصاً من قبله يدخل الجنة، فعن عثمان قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» [مسلم: 26].
– يحرم عليه النار، فعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «من شهد أن لا إله إلا لله، وأن محمداً رسول الله، حرَّم الله عليه النار» [مسلم: 29].
– ويدلُّ على مدى فضل لا إله إلا الله حديث البطاقة
– وعن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما قال عبد: لا إله إلا الله قط مخلصاً من قلبه، إلا فتحت له أبواب السماء، حتى تفضي إلى العرش، ما اجتنبت الكبائر» [حكم عليه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5648) بالحسن، وعزاه إلى الترمذي، وخرجه في المشكاة (2314) والترغيب (2/ 328) وهو في الصحيح المسند 1280]
وساق الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع [2/ 1098] جملة من الأحاديث فيها بيان فضل لا إله إلا الله.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – مبيناً فضل كلمة التقوى:”أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسِّست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جرِّدت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد؛ وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنّة، ومن كل آخر كلامه: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة” [إعلام الموقعين: (2/ 6)].
[كلمة التقوى هي الكلمة الطيبة]
وكلمة التقوى التي هي لا إله إلا الله، هي الكلمة الطيبة التي قال الله تعالى فيها: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24].
قال ابن القيم رحمه الله: “الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله”، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وكل عمل صالح مرضيٍّ لله ثمرة هذه الكلمة، وفي (تفسير علي بن أبي طلحة)، عن ابن عباس قال: “كلمة طيبة: شهادة أن لا إله إلا الله، كشجرة طيبة، وهو المؤمن، أصلها ثابت: قول لا إله إلا الله، في قلب المؤمن، وفرعها في السماء، يقول: يرفع به عمل المؤمن إلى السماء”.
وقال الربيع بن أنس: “كلمة طيبة هذا مثل الإيمان؛ فالإيمان: الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول: الإخلاص فيه، وفرعه في السماء: خشية الله”.
المبحث الثالث: لا تكون من المتقين حتى تكون عالما بما تتقي:
قال ابن رجب في [جامع العلوم والحكم: 150]: “وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتَّقى ثم يتقي، قال عون بن عبد الله: تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم يعلم منها إلى ما علم ومنها، وذكر معروف الكرخي عن بكر بن خنيس قال: كيف يكون متقياً من لا يدري ما يتقي؟ ثم قال معروف الكرخي: إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك
تنبيه: [ظن بعض الناس أنه بالتقوى يحصل العلم بغير تعلم]
قد يظنُّ بعض الذين لا يعلمون أنهم إذا اتقوا الله علَّمهم الله من غير معاناة في طلب العلم، وقد يحتجون على ذلك بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة: 282].وحسبك في ردَّ هذا الخطأ أن تعلم أن هذه الآية ختم الله بها آية الدين، فقد جاء في خاتمة تلك الآية قولة تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ واللَّهُ بِكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
أنسب شيء لهذه الخاتمة أن يتقي العبد ربَّه بفعل ما أمره الله تعالى بخصوص الدَّين، ومن ذلك كتابه الدَّين، وأن توكل كتابته إلى كاتب يكتب بالعدل، فالالتزام بهذا الذي أمر الله تعالى به، يحتاج إلى تعلم حتى يتقيه، فإذا كان جاهلاً بتلك الأحكام لم يكن متقياً الله عز وجل بخصوص الدَّين، فمن تعلَّم الأحكام التي في الآية، والتزم بها كان متقياً لله عز وجل.
المبحث الرابع: المحذورات التي يجب علينا أن نتقيها
التقوى تتحقق بفعل ما أمر الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – به، وترك المحذورات التي نهى الله تبارك وتعالى ورسوله – صلى الله عليه وسلم – عنها، وسأورد هنا المنهيات:
أولا: تقوى الكفر والشرك
ثانيا: اتقاء البدع
ثالثا: اتقاء كبائر الذنوب والشيطان إذا ظفر بالعبد، زين له الكبائر، وحسَّنها في عينه، وسّوف به، وفتح له باب الإرجاء
رابعا: اتقاء صغائر الذنوب
فالشيطان يوسوس للإنسان ويقول له: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللَّمم؛ أو ما علمت بأنها تكفَّر باجتناب الكبائر وبالحسنات؟ ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصرَّ عليها، فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه؛ فالإصرار على الذنب أقبح منه، ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «إياكم ومحقرات الذنوب، ثم ضرب لذلك مثلاً بقوم نزلوا بفلاة من الأرض، فأعوزهم الحطب، فجعل يجيء بعود، وهذا بعود، حتى جمعوا حطباً كثيراً، فأوقدوا ناراً، وأنضجوا خبزتهم؛ فكذلك فإن محقرات الذنوب تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه» [عزاه جامع مجموع القيم إلى أحمد: 22808 (5/ 331) والطبراني في الكبير (10/ 261) وذكر أن الألباني صححه في الصحيحة (389). وتم وضعه على شرط الذيل على الصحيح المسند].
خامسا: اتقاء المباحات عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «اجعلوا بينكم وبين الحرام سترةً من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لدينه وعرضه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى» [أخرجه الألباني في سلسلة الصحيحة: (896)، وعزاه إلى ابن حبان في صحيحه، والديلمي وغيرهما].
قلت سيف: قال الألباني يشهد لمعناه أن الحرام بين وإن الحلال بين ولينهما امور مشتبهات …..
والمباحات لا حرج على فاعلها، ولكن التوسع في فعلها، قد يضير صاحبها.
سادسا: اتقاء الأعمال المرجوحة المفضولةالشيطان يأمر العبد بالأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات؛ فيأمره بها، ويحسِّنها في عينه، ويزينها له، ويريه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم كسباً وربحاً؛ لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية؛ فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له، ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول. [المجموع القيم من كلام ابن القيم، جمع وإعداد منصور بن محمد المقرن: 2/ 1085 – 1190، بزيادة وتصرف].
المبحث الخامس: كيف نغرس التقوى في قلوبنا؟
أعظم التقوى أن نتقي الله عز وجل حقَّ تقاته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، أي: اتقوه على نحو ما أمركم به ونهاكم عنه، والذين يتقون الله حقَّ تقاته قليل، قال ابن عباس في تفسير الآية: “أطيعوا الله حقَّ طاعته” وبيّن مجاهد كيف يتَّقى الله حقَّ التقوى، فقال: “هو أن يطاع، ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر، فلا يكفر” [بصائر ذوي التمييز: 5/ 257].
وسأورد أربعاً مما دلنا عليه الكتاب والسنّة لغرس التقوى في القلوب:
أولا: تعرف العبد إلى ربِّه:
أنزل الله تبارك وتعالى هذا القرآن العظيم، فإذا فقهه الناس وعلموه، أنشأ التقوى في قلوبهم: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 17 – 18].
وقد جعل الله القرآن كتاب هداية {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ومع أن القرآن كتاب هداية للناس جميعاً، إلا أن الذين ينتفعون به هم المتقون قال تعالى بعد أن بيَّن الأحكام التي تتعلق بالصيام: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] فكيف يتقي الناس ما شرع لهم في الصيام، لولا هذا البيان الذي بيّنه الله، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115].
[ثانيا: عبادة الله تبارك وتعالى بصدق]
وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] ..
ومن العبادات التي تنشئ التقوى في القلوب الصيام،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “أمر الله بالصيام لأجل التقوى، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن، يدع طعامه وشرابه» فإذا لم تحصّل التقوى لم يحصل له مقصود الصوم، فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك” [مختصر الفتاوى المصرية: (289)].
ومع أن العبادة تنشئ التقوى، فإن التقوى بدورها تدعو لعبادة الله، وقد صحَّ أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال لأبي ذرٍّ ناصحاً ومعلِّماً: «اتَّق الله تكن أعبد الناس» [حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي: 1876، وأخرجه في الصحيحة: 930].
قلت سيف: نقل الألباني عن الأحياء أن الدارقطني قال حديث ثابت. ولكن الذي في العلل 7/ 265: والحديث غير ثابت.
[ثالثا: التفكر في خلق الله تعالى]
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 5 – 6] والنصوص الآمرة بالتفكر في آيات الله في الكون كثيرة جداً، والتفكر فيها يدلنا على أن الله لم يخلق الكون عبثاً، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 190 – 194].
[رابعا: التفقه في النصوص المتحدثة عن القبر وعذابه والآخرة وأهوالها]
قال تعالى: {لَهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16].
خامسا: الإكثار من ذكر الله تعالى يغرس التقوى في قلوب العباد، قال ابن القيم: “إنَّ أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطباً بذكر الله تعالى” [الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص85].
[المبحث السادس: مدى عناية الإسلام والمسلمين بالتقوى]
[المطلب الأول: لا أنفع للعباد من الالتزام بالتقوى]
لا أنفع للعباد من الالتزام بالتقوى، والتحلي بها، ولذلك وصّى الله تعالى ورسوله – صلى الله عليه وسلم – بها، ووصّى بها الصالحون من الصحابة والتابعين، وأئمة الدين.
وقد سأل أبو القاسم القاسم بن يوسف المغربي شيخ الإسلام ابن تيمية أن يوصيه بما يكون فيه صلاح دينه ودنياه، فأوصاه بالتقوى، قال:”ما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها” [الوصية الصغرى، لابن تيمية، ص8].
[المطلب الثاني: توصية الله الأولين والآخرين بالتقوى]
نادى ربُّ العزة الناس جميعاً آمراً إياهم بتقواه سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
[المطلب الثالث: توصية جميع الأنبياء أممهم بالتقوى] كل الرسل الذين أرسلهم ربُّ العزة أمروا أقوامهم بالتقوى، ووصوا بها، فأوَّل الرسل الذين أمروا بالتقوى نوح عليه السلام {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 23] وهكذا بقية الأنبياء
[المطلب الرابع: كثرة إيصاء الله هذه الأمة التقوى]
من ينظر في كتاب الله تعالى يجد أن الله تعالى وصّى هذه الأمة بالتقوى كثيراً، فقد أمرنا الله بلفظ {اتَّقُوا اللَّهَ} أو {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أكثر من ستين مرة، وأمر بالتقوى بألفاظ أخرى مقاربة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]،
وكثرة الأمر من الله تعالى بالشيء الواحد يدلُّ على مدى عناية الله بهذا الأمر.
[المطلب الخامس: توصية رسولنا – صلى الله عليه وسلم – بالتقوى]
وصّى رسولنا – صلى الله عليه وسلم – أفراداً من أصحابه بالتقوى، كما أوصى جميع أمته بها.
وقد ضمّن رسولنا – صلى الله عليه وسلم – خطبة الحاجة التي كانت يبدأ بها خطبة، ثلاث آيات تأمر بالتقوى، وسأذكر بعض النصوص التي وصّى بها رسولنا – صلى الله عليه وسلم – بالتقوى، ومنها خطبة الحاجة:
1 – جمع الشيخ ناصر الدين الألباني مجموع ما كان يقوله رسولنا – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الحاجة من كتب السنّة في رسالة صغيرة، طبعها المكتب الإسلامي، وعنوان لها بـ”خطبة الحاجة” [الطبعة الثانية، 1389 هـ، بيروت]. ونص هذه الخطبة:
«إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شررو أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده وسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب 70 – 71].أما بعد: ثم يذكر حاجته».
وقد ساق الشيخ ناصر طرق هذه الخطبة في كتب السنّة
2 – عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن» [الترمذي: 1987، وقال: هذا حديث حسن صحيح].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “جمع النبي – صلى الله عليه وسلم – بين التقوى وحسن الخلق، لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته” [الفوائد: ص 69].
3 – وعن أبي سعيد الخدري، قال: قلت: يا رسول الله، أوصني. فقال: «أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء» [أورده الألباني في الصحيحة ورقمه (555)، وعزاه لأحمد (3/ 82) والطبراني في المعجم الصغير: ص 197، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: ص 243: قال الحافظ أبو نعيم: هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين].
قلت سيف: وضعفه محققو المسند من كل طرقه (تحقيقنا لنضرة النعيم)
4 – عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة … [الترمذي 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح].
5 – وصّى الرسول – صلى الله عليه وسلم – أحد أصحابه، فقال له: «عليك بتقوى الله تعالى، والتكبير على كل شرف» [حكم عليه الشيخ ناصر بالحسن، وعزاه إلى الترمذي عن أبي هريرة، صحيح الجامع الصغير: (4046)].
قلت سيف: أخرجه أحمد 8385، وفيه المقبري اختلط. وأسامة الليثي لم تتميز روايته.
6 – عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخطب في حجّة الوداع، فقال: «اتقوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم» [الترمذي: 616، وقال: هذا حديث حسن صحيح].
7 – وعن النعمان بن بشير أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» [البخاري: 2587، مسلم: 1623].
8 – وعن جابر، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «فاتقوا الله في النساء» [مسلم: 1218].
[المطلب السادس: توصية أهل العلم بالتقوى]
1 – كان أبو بكر يقول في خطبته: “أوصيكم بتقوى الله” [المستدرك: (2/ 415) ورقمه: (3447) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد].
2 – وكتب عمر إلى ابنه عبد الله: “أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نصب عينيك، وجلاء قلبك” [جامع العلوم والحكم: ص 151].
3 – واستعمل عليُّ بن أبي طالب رجلاً على سرية، فقال له: “أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقياه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة” [جامع العلوم والحكم: ص 151].
4 – وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: “أوصيك بتقوى الله عز وجل، التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين” [جامع العلوم والحكم، ص: 151].
5 – ولما وِّلي خطب، وحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: “أوصيكم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله عز وجل خلفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ” [جامع العلوم والحكم: ص 151].
6 – وقال شعبة: كنت إذا أردت الخروج، قلت للحكم: ألك حاجة، فقال: أوصيك بما أوصى به النبي – صلى الله عليه وسلم – معاذ بن جبل: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» [جامع العلوم والحكم: ص 151].
7 – وصية شيخ الإسلام ابن تيمية بالتقوى: سأل أحد طلبة العلم بالمغرب وهو أبو القاسم القاسم بن يوسف بن محمد التجيبي السبتي المغربي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بأن يوصيه بما يكون فيه صلاح دينه ودنياه، فكتب له رسالة، سميت بـ”الوصية الصغرى”. وقد جعل عمدة وصيته الحديث الذي وصى فيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بتقوى الله، وسأورد في هذا الموضع بعضاً منها؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الجواب: “أما “الوصية”، فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء” 131] “.
ووصى النبي – صلى الله عليه وسلم – معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: «يا معاذ: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» [رواه الترمذي (1987) وقال فيه: هذا حديث حسن صحيح].
وكان معاذ – رضي الله عنه – بمنزلة عليَّه؛ فإنه قال له: «يا معاذ! والله! إني لأحبك» [عزاه محقق الوصية الصغرى إلى أبي داود والنسائي وغيرهم، وصححه] وكان يردفه وراءه [عزاه محقق الوصية الصغرى إلى البخاري ومسلم]، وروي فيه: “أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام” [قال محقق الوصية الصغرى: أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح]، وأنه يحشر أمام العلماء برتوة [أي: بخطوة] ومن فضله أنه بعثه النبي – صلى الله عليه وسلم – مبلغاً عنه داعياً ومفقهاً ومفتياً وحاكماً إلى أهل اليمن.
ثم إنه – صلى الله عليه وسلم – وصاه هذه الوصية، فعل أنها جامعة، وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير الوصية القرآنية.
أما بيان جمعها، فلأن العبد عليه “حقان”:
حقٌّ لله عز وجل، ـ وحقٌّ لعباده، ثم الحق الذي عليه لا بد أن يخَّل ببعضه أحياناً: إما بترك مأمور به، أو فعل منهي عنه، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «اتق الله حيثما كنت» وهذه كلمة جامعة، وفي قوله: «حيثما كنت» تحقيق لحاجته إلى التقوى في السر والعلانية، ثم قال: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» فإن الطبيب متى تناول المريض شيئاً مضراً أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيِّس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات، وإنما قدَّم في لفظ الحديث «السيئة» وإن كانت مفعولة، لأن المقصود هنا محوها لا فعل الحسنة، فصار كقوله في بول الأعرابي: «صبوا عليه ذنوباً من ماء» [رواه البخاري ومسلم].
وجماع الخلق الحسن مع الناس: أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له، والاستغفار والثناء عليه، والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض. وبعض هذا واجب وبعضه مستحب.
وأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمداً – صلى الله عليه وسلم – (أي في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]) فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقاً، هكذا قال مجاهدا وغيره، وهو تأويل القرآن، كما قالت عائشة رضي الله عنها: “كان خلقه القرآن” [رواه مسلم] وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحب الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر.
واسم “تقوى الله” يجمع فعل كل ما أمر الله إيجاباً واستحباباً، وما نهى عنه تحريماً وتنزيهاً، وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد، لكن لما كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية للانكفاف من المحارم، جاء مفسراً في حديث معاذ، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي وصححه: “قيل: يا رسول الله! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: «تقوى الله وحسن الخلق». قيل: وما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال «الأجوفان: الفم والفرج» [رواه الترمذي، وقال فيه: صحيح غريب].
و قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً» [عزاه محققه إلى أبي داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح]. قلت سيف: ورد عن أبي هريرة وهو في الصحيح المسند 1327 وراجع تخريجنا لسنن أبي داود 4682
وتفصيل أصول التقوى وفروعها لا يحتمله هذا الموضع، فإنها الدين كله؛ لكن ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وفي قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 23]، وفي قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، وفي قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17] بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعاً بهم أو عملاً لأجلهم، ويجعل همته ربه تعالى، وذلك بملازمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقه وحاجة ومخافة وغير ذلك، والعمل له بكل محبوب، ومن أحكم هذا فلا يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك.
[التقوى، عمر بن سليمان- بتصرف].
تنبيه: ليس من التقوى الغلو في العبادة.
المبحث السادس: ثمار التقوى
التقوى تُثمر لأهلها ثمراتٍ عظام وخيراتٍ كثيرة ينالها المتقون في دنياهم وأخراهم، بل إن الخيرات كلها واندفاع الشرور والمحن ثمرةٌ من ثمار التقوى وجنًى من جناها.
1 – أن الله سبحانه وتعالى يمن على المتقين بالنور والضياء والهدى والفرقان؛ كما قال الله سبحانه: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]،وقال جل وعلا: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
ومن ثمارها: تيسير الأمور وتفريج الكروب وحصول الأرزاق والنِّعم والخيرات والبركات كما قال الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 – 7]، وقال جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]. وقال جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} أي من كل بلاء وشدة وكرب {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 – 3].
ومن ثمراتها: تكفير السيئات ونيل الأجور؛ كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5].
ومن آثارها: الرفعة؛ رفعة الدرجات وعلو المنازل كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212].
ومن ثمارها: الفوز بالجنات والنجاة من النار والفوز برضا الله سبحانه وتعالى؛ كما قال الله عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31))
فهذه كلها ثمرات وآثار للتقوى، وآثار التقوى وثمارها لا حدَّ لها ولا عد، ومن اتقى الله عز وجل كان من المفلحين كما قال الله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189]، والفلاح: هو حيازة الخير في الدنيا والآخرة.
[انظر: التَّقْوَى وَوَسَائِل تَحْقِيقِهَا، وخطبة الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى كلاهما للشيخ عبد الرزاق العباد].
المبحث السابع: الْأَوْلِيَاء
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الزمر:3]،
حصل في قديم الزمان وحديثه من مفاهيم خاطئة بل انحرافات عظيمة تحت مسمى «الولاية» و «الأولياء»، وأصبح في مفاهيم بعض الناس ولاسيما من وقع في الانحراف وانجرَّ إلى الضلالة مَن أصبح مفهوم الأولياء عنده: هو اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله سبحانه وتعالى
وقد قال الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
وأولياء الله سبحانه وتعالى حقًا هم المؤمنون المتقون، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 – 63]؛ فمن كان مؤمنًا تقيا كان لله وليا، فالولاية حقا تقوم على هذين الأساسين، وترتكز على هذين الأصلين: الإيمان، والتقوى.
والإيمان إذا جُمع مع التقوى في نصٍ واحد يراد به أصول الدين التي عليها قيامه؛ وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، ويراد به أيضًا فعل فرائض الدين وواجبات الإسلام وما أمر الله سبحانه وتعالى عباده بفعله. والتقوى يراد بها ترك المنهي واجتناب المحظور، وأعظم ذلكم الشرك بالله سبحانه وتعالى.
وقد بيَّن العلماء رحمهم الله تعالى أن أولياء الله على درجتين، إحداهما أعلى من الأخرى:
الدرجة الأولى: درجة أصحاب اليمين ويقال لهم «المقتصدون»؛ وهم الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات.
والدرجة الثانية: وهي أعلى منها وهي درجة المقربين، ويقال لهم «السابقون بالخيرات»؛ وهم الذين إضافةً إلى فعلهم للواجب وتركهم للمحرم نافسوا في الرغائب والمستحبات.
وقد جُمع بين هاتين الدرجتين في الحديث القدسي العظيم المعروف عند أهل العلم بحديث الأولياء، وهو حديث مخرجٌ في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) وهذه مكانة الأولياء عند الله؛ ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ))
قال: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))؛ وهذا مما يبين مكانة الأولياء عند الله وأنهم مستجابوا الدعوة.
والولاية لا علاقة لها بلون أو جنس، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: ((إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ؛ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ))
والحق أن أولياء الله الصادقون لا يزكون أنفسهم، وقد قال الله جل وعلا: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، قال عبد الله بن أبي مُليكة وهو من علماء التابعين: «أدركتُ أكثر من ثلاثين صحابيًا كلهم يخاف النفاق على نفسه»، يقول الحسن البصري رحمه الله: «إن المؤمن جمع بين إحسان ومخافة، والمنافق جمع بين إساءة وأمن»
وقد عاين الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في زمانه أمورًا شنيعة وخطيرة جدا في هذا الباب ولها نظائر مماثلة ومطابقة في زماننا هذا؛ فكتب رحمه الله تعالى كتابه الفذ العظيم «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان»، [الْأَوْلِيَاء، للشيخ عبد الرزاق العباد، الموقع الرسمي]
المبحث الثامن: أنواع البكاء
الفرع الأول: لا شك أن البكاء طبيعة من طبائع الإنسان، فالإنسان يفرح ويحزن، وللفرح أعراضه، وللحزن أعراضه، وأبرز أعراض الحزن البكاء، وأبرز أعراض الفرح الضحك والانبساط، ودمعة العين ليست مظهراً أو عرضاً فقط، وإنما هي منفسة عن نفس الحزين، مبردة لحرارة المصيبة، مخففة للوعات الفؤاد، فالبكاء دواء، وكبته وكظمه في وقت يحتاجه داء خطير العواقب، كثيراً ما يورث عقدة نفسية أو أضرارا جسيمة، وأشد المصائب موت عزيز، وفقد حبيب، لهذا كثر البكاء عند الموت، وقل أو ندر عند فقد مال.
وتطورت هذه الظاهرة حتى أصبحت علامة على وفاء أهل الميت لميتهم ومظهراً من مظاهر معزتهم له، ورمزاً لقيمته عندهم، حتى قال طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله *** وشقي علي الثوب يا ابنة معبد
وجاء الإسلام وتلك عادة العرب، ووجدنا أم سلمة -رضي الله عنها وهي من السابقات إلى الإسلام المهاجرة مع زوجها إلى الحبشة مرتين ثم إلى المدينة- وجدناها حين مات زوجها من جراحة أصابته في غزوة أحد.
وجدناها تقول: غريب وفي أرض غربة، ولأبكينه بكاء يتحدث به الركبان، وقامت وتهيأت للصراخ وللألوان، وأعدت العدة لاستقبال النادبات المساعدات، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فوعظها أن لا تفعل، وقال لها: ما من عبد تصيبه مصيبة فيصبر ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها.
إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها، قال لها: قولي: اللهم اغفر لي وله، واعقبني منه عقبى حسنة.
فاستسلمت وكفت عن البكاء والصراخ، واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم إحدى المساعدات النادبات فقال لها: إياك أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه، فلا ندبة ولا عويل.
وأخذ الإسلام ينشر نوره وتعاليمه المتمثلة في الرضا بالقضاء، والصبر عند البأساء، وفي الإيمان بأن كل شيء حتى نفوسنا ملك لله، لقد أرسلت إليه صلى الله عليه وسلم إحدى بناته تخبره أن ابناً لها يموت وفي النزع الأخير، وتطلب حضوره إليها يواسيها ويخفف عنها وتحصل به البركة والرحمة، فأرسل إليها يواسيها. وأرسلت إليه تقسم لياتينها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم. ونفس الصبي تنزع فبكى صلى الله عليه وسلم وسمى هذه الدمعة رحمه
ومرة قال: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بما فوق هذا من فعل الجاهلية.
ورأى امرأة تصرخ وتولول عند قبر صبي لها فقال لها: اتقي الله واصبري
وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تبعث يوم القيامة وهي تلبس ثياباً من قطران تصيبها بالجرب.
فتح المنعم].
الفرع الثاني: تحرير المسألة:
البكاء دمع العين، وقد يصاحبه من القول أو الفعل ما هو مكروه أو حرام.
ولتحرير الأحكام الفقهية نقول: (وسيأتي إن شاء الله في الفرع الثالث ذكر الأدلة مع ذلك)
أولاً: حزن القلب ودمع العين من غير أن يصاحبهما سخط على القضاء، أو جزع شديد في القلب، أو اعتراض نفسي على القدر، ومن غير أن يصاحبهما قول أو فعل يغضب الرب، هذا النوع لا شيء فيه شرعاً.
على معنى أنه مباح باعتباره مسايراً للطبيعة البشرية، بل قد يكون ممدوحاً شرعاً إذا نبع من العاطفة المشروعة، والرحمة التي أنزلها الرحمن في قلوب الرحماء، والتي بها يتراحم الخلق.
ومن هذا القبيل بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم، وقوله: إن القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
و قوله: إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب.
وبناء على هذا يحمل ما ورد من مؤاخذات على البكاء أو من نهي عنه على أنه لم يكن من هذا النوع، بل كان مصاحباً لممنوع شرعي، وإن اختلفت درجات المنع باختلاف الفعل.
[فتح المنعم]
الفرع الثالث: ما ورد من الأحاديث وكيفية الجمع: أولا:
أخرج أحمد في “مسنده” (22054)، والطبراني في “المعجم الكبير” (20/ 121)، والبزار في “مسنده” (2647)، من طريق صفوان بن عمرو، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: ” أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَهُ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي، وَلَعَلَّكَ أَنَّ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي، فَبَكَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ جَزَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
ثانيا: الحديث يدل بظاهره على النهي عن البكاء، إلا أنه بعد جمع الأدلة الواردة في المسألة يتبين أن مطلق البكاء عند فقد الأحبة: لا يحرم، وإنما المحرم البكاء مع رفع الصوت، وكذلك النياحة، وما صاحبه من تسخط على أقدار الله.
وبيان ذلك كما يلي:
أولا: جاءت الأحاديث الصحيحة التي تدل على بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند فقده أحبته، ومن ذلك:
بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم عليه السلام.
والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (1303)، ومسلم في “صحيحه” (2315)،
بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند علمه باستشهاد جعفر وزيد وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم.
والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (2798)، من حديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ” خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ، وَقَالَ: مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا، قَالَ أَيُّوبُ أَوْ قَالَ: مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند موت عثمان بن مظعون. والحديث أخرجه ابن ماجه في “سننه” (1456)، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ” قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى دُمُوعِهِ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ “. والحديث صححه الشيخ الألباني في “صحيح ابن ماجه” (1191).
ثانيا: ثبت في بعض الأحاديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البكاء، ففهمه بعض الصحابة أنه نهي عن مطلق البكاء، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه لا يحرم منه إلا ما كان جزعا، أو تسخطا على قدر الله، أو ما صاحبه نياحة ونحو ذلك.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في “الفتاوى” (24/ 380) – عن بكاء الأم والإخوة على الميت هل فيه بأس على الميت؟ فقال رحمه الله: (أما دمع العين وحزن القلب فلا إثم فيه , لكن الندب والنياحة منهي عنه) اهـ.
قال الخطابي في “أعلام الحديث” (1/ 681):” وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم واستعباره بالدموع: يدل على أن النهي عن البكاء: إنما وقع عن رفع الصوت به، والصياح على الميت، والتأبين بالقول المنكر “. انتهى
وقال ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (3/ 275):” وكل حديث أتى فيه النهى عن البكاء: فمعناه النياحة عند العلماء “. انتهى
وقال ابن عبد البر في “التمهيد” (19/ 203):” وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لَا بَاسَ بِالْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، مَا لَمْ يُخْلَطْ ذَلِكَ بِنَدْبِهِ، وَبِنِيَاحَةٍ، وَشَقِّ جَيْبٍ، وَنَشْرِ شَعْرٍ، وَخَمْشِ وَجْهٍ “. انتهى.
وقال النووي في “شرح صحيح مسلم” (15/ 75):” قَوْلُهُ (فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آخِرِهِ): فِيهِ جَوَازُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْحُزْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخَالِفُ الرِّضَا بِالْقَدَرِ، بَلْ هِيَ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ.
وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ: النَّدْبُ وَالنِّيَاحَةُ وَالْوَيْلُ وَالثُّبُورُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا “. انتهى
وقال ابن القيم في “عدة الصابرين” (ص102):” فهذه اثنا عشرة حجة، تدل على عدم كراهة البكاء، فتعين حمل أحاديث النهى على البكاء الذى معه ندب ونياحة ” انتهى.
ولأجل ما قدمنا من معنى البكاء المنهي عنه، والبكاء الذي فيه رخصة وتوسعة.
والخلاصة:
يحمل حديث معاذ رضي الله عنه، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم له: على أنه ربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في بكائه الجزع، وهذا جاء في الرواية أنه بكى جزعا، أو وربما رفع صوته أثناء البكاء، وبهذا تجتمع الأدلة كلها. [الجمع بين حديث:” لا تبك يا معاذ، إن البكاء من الشيطان “، مع ثبوت بكائه صلى الله عليه وسلم]
وإذا كانت التقوى من أعظم أسباب تحصيل العلم والانتفاع به، فالمعاصي من أعظم أسباب نسيان العلم ومحق بركته والعياذ بالله، قال تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون).
قال البغوي: قال عطاء: (أراد الدنيا وأطاع شيطانه وهذه أشد آية على العلماء وذلك أن الله أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة والانسلاخ عنها ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله). [مختصر تفسير البغوي 1/ 324]
ومن الأخبار المشهورة في هذا الباب البيتان المرويان عن الشافعي حيث يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
ومن عجيب ما يروى في هذا الباب قصة المرابط العالم الشنقيطي صاحب مراقي السعود شرح مراقي السعود (ت 1325هـ أو في التي تليها) أنه خرج ذات يوم فرأى بعض تلامذته مع نسوة يتحدثون إليهن، فقال لهم إخواني تلامذتي: إنني عندما جئت وأنشأت مدرستي كان لا يمكث عندي طالب عدة سنوات إلا استكمل جميع معلوماتي والآن عندي منكم جمع مكث أكثر مما يمكثه الطلاب الألون ولم ستكمل معلوماتي، وكنت أظن أن هذا مني والآن عرفت أنه منكم .. إلى أن قال: وأنا بالله الذي لا إله إلا هو ما عصيت الله عمداً منذ بلغت إلا مرة واحدة وذلك أني كنت أضع الفخوخ للطيور في وقت مبكر من عمري مع عبد لآل فلان وذات يوم سبقته للفخوخ فوجدت قرعة في فخه فنزعتها فجعلتها في فخي وما زلت إلى اليوم وأنا أستغفر الله لمالكيه. اهـ[مقدمة تحقيق مراقي السعود ص 21]
ثانيًا: هل تأتي التقوى قبل العلم أم العلم قبل التقوى؟
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}. والخشية قوة الخوف من الله تبارك وتعالى لكمال عظمته وسلطانه. وهذا لا يتأتى إلا من شخص عالم بالله وأسمائه وصفاته؛ ولهذا قال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} أي ما يخشاه الخشية التامة إلا العلماء، والمراد العلماء بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه، وليس العلماء بطبقات الأرض وأجواء السماء وعلم الفيزياء وما أشبه ذلك، فإن هؤلاء علومهم لا تؤثر عليهم بالنسبة لخشية الله، ولهذا نجد من هؤلاء العلماء الكبار هم رءوس في الكفر والعياذ بالله، لكن المراد بالعلماء هنا العلماء بالله وأسمائه وصفاته واحكامه، فهم الذين يخشون الله تعالى حق خشيته، والخشية مبنية على العلم، فكل ما كان الإنسان أعلم بالله كان أشد خشية لله واعظم محبة له تبارك وتعالى. وأما قوله تعالى {واتقوا الله ويعلمكم الله} فإن كثير من الناس يظنون أن قوله: {ويعلمكم الله} مبني على قوله: {واتقوا الله}. وليس كذلك، بل الأمر بتقوى الله أمر مستقل، ولا يمكن تقوى الله إلا بالعلم بالله، وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذا المعنى بقوله في صحيحه: باب العلم قبل القول و العمل، ثم استدل على ذلك بقول الله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}. وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين؛ لأن قوله اتقوا الله أمر مستقل بالتقوى، ولا يمكن أن يتقي الإنسان ربه إلا إذا علم ما يتقيه. أما قوله: ويعلمكم الله فهي جملة مستأنفة تفيد أن العلم الذي نناله إنما هو من عند الله وحده، فلا علم لنا إلا ما علمنا الله تبارك وتعالى، وتعليم الله إيانا نوعان؛ غريزي وكسبي.
فالغريزي هو ما يؤتيه الله تعالى للعبد من العلم الذي لا يحتاج إلى تعلم، أرأيت الصبي تلده أمه ويهتدي كيف يتناول ثديها ليرضع منه بدون أن يعلمه أحد، وكذلك البهائم تعلم ما ينفعها مما يضرها دون أن يسبق لها تعليم من أحد. وأما التعليم الكسبي فهو ما يورثه الله العبد بتعلمه للعلم وتعاطي أسبابه، حيث يتعلم على المشايخ ومن بطون الكتب ومن أصوات أشرطة التسجيل وغير ذلك، ولهذا لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح ما هي؟ مع أنها مادة الحياة ولا حياة للبدن إلا بها أمر الله نبيه أن يقول: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا}. وهذا يتضمن توبيخهم عن السؤال عن الروح، كأنه قال: الروح من أمر الله وماذا عليكم أن تسألوا عن شيء إلا عن الروح، ما بقي عليكم من العلوم أن تدركوه إلا عن الروح، ولهذا قال: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، والحاصل أن قوله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، تفيد أنه من كان بالله أعلم كان له أخشى، وأما آيه البقرة: {واتقوا الله ويعلمكم الله} فليس فيها أن التقوى مقدمة على العلم، لأنه لا يمكن تقوى إلا بعلم من يتقى، وأن الجملة: {ويعلمكم الله} ليس لها ارتباط بما قبلها. انتهى. [الموقع الرسمي]