1094 … التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3
والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا)
——–”——-“——-‘
——–‘——–‘——-‘
——–‘——–‘——-‘
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1094):
قال الإمام الترمذي رحمه الله: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ)). هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عبدالرحمن: هو صحيح، وابن كعب هو عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، أبو عبد الله بن كعب، كما في (تحفة الأحوذي).
===================
? الكلام عليه من وجوه:
? الوجه الأول: في السند. (ترجمة الرواي، تخريجه).
أ – ترجمة الراوي
ب – التخريج:
أورد الحديث الترمذي في السنن
الوجه الثاني: شرح وفقه الحديث. وباقي الروايات: عن كعب بن مالكٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»، وفي روايةٍ: «مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ جَائِعَانِ فِي غَنَمٍ افْتَرَقَتْ، أَحَدُهُمَا فِي أَوَّلِهَا وَالآخَرُ فِي آخِرِهَا، بِأَسْرَعَ فَسَادًا مِنِ امْرِئٍ فِي دِينِهِ يُحِبُّ شَرَفَ الدُّنْيَا وَمَالَهَا» [رواه أحمد ((15784))، الترمذي ((2376))، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» ((5620))].
هذا مَثَلٌ عظيمٌ ضربه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لبيان مدى الفساد الذي يلحق المسلمَ في دينه وإيمانه عندما يحرص على المال والشرف في الدنيا
فالذئبان سيفترسان الغنم، ولن ينجوَ من الغنم إلَّا القليل، وكذلك يُعَدُّ الحرص الفاجع من أصحاب الدنيا لبلوغ الشهوة وجمعِ الأموال دون رقابةٍ أو وازعٍ إيمانيٍّ أكثرَ إفسادًا لدين المسلم من إفساد الذئبين الجائعين.
ولا شكَّ أنَّ الذي يجعل الآخرةَ نصب عينيه فإنه يسعى دائمًا لتسخير هذه الشهوات في مرضاة ربِّه عزَّ وجلَّ، وأمَّا من تعلَّقت نفسُه بالدنيا وامتلأ قلبُه بحبِّها فإنه سيجعل من شهواته هدفًا ومقصدًا حتى يكون عبدًا لها، وعندها سيحرص عليها، ويلهث وراءها بكلِّ ما أوتي من قوَّةٍ، ويبيع دينَه بعرضٍ من أعراضها الزائلة.
[راجع: شرح حديث ما ذئبان جائعان لابن رجبٍ الحنبلي].
تنبيه:
ومما ينبغي التنبيه عليه قبل كل شيء: أن الخطر ليس في المال أو في تحصيله، بل إن المال هو عصب الحياة، وأحد الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بحفظها، ولهذا اعترف الإسلام بالملكية الفردية، ولهذا حرم الإسلام السرقة والغصب والخيانة والربا والغش والرشوة وغيرها، واعتبر كلَّ مالٍ أُخذ بغير سبب مشروع بمثابة أكل له بالباطل. ومن هنا فإن طلب المال والحرص عليه يكون على مستويين:
الأول وهو (مباح وقد يكون واجباً): يتمثل في حُبّ المال وطلبه من وجوهه المباحة، وهو أمرٌ لا شيء فيه، لأنه فطري عند الإنسان، قال تعالى واصفاً للبشر: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]، وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، والخير في هذه الآية هو المال، فلا بأس بحب المال إذا كان ضمن الحدود الشرعية، ما دام صاحبه يسعى إلى تحصيله وإنفاقه فيما يرضي الله تعالى، بل هو أمرٌ يحبه الله ويرضاه، لأن (اليد العليا خير من اليد السفلى) متفق عليه، و (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) رواه مسلم، فإنفاق المال في سبيل الله من أعظم القربات، لحديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم) متفق عليه، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، به تؤدى فريضة الزكاة، وبه يتمكن المسلم من تحصيل الأجر العظيم، عن طريق مساعدة الناس والتخفيف عنهم.
أما المستوى الثاني وهو (منهي عنه): فيتمثل في المبالغة في حبه وطلبه والجد في تحصيله واكتسابه من أي طريق كان، وإن النجاة كل النجاة في اتقاء الشبهات والبعد عنها، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) متفق عليه.
وفي هذا الحديث الشريف: (ما ذئبان جائعان … ) دلالة واضحة على أن الحرص على المال والجاه مدخلٌ من مداخل الفتن قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7]، ومن هنا فإن حرص المرء على المال والجاه يوصله إلى فساد دينه، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتركون بينهم وبين الأمور المشتبهات مساحةً واسعة، امتثالاً وانطلاقاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحلالُ بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه) متفق عليه.
قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، والشح كما عرفه العلماء هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير محلها ويمنعها حقوقها.
أما حرص المرء على الجاه فهو أشد خطورة من حرصه على المال، فطلب العلو في الدنيا، والرفعة فيها أمر نهى الله تعالى عنه، حيث قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]، ومن يطلب العلو في الدنيا يتوق إلى الجاه أكثر منه إلى المال، ولذلك نراه يبذل ماله من أجل أن يصل إلى الجاه، لأنه يرى أن الجاه أهم وأثبت، وأنه إن تحصل على الجاه أمكنه بعد ذلك أن يتحصل على ما سواه، من مال وغيره، وأمكنه أن يعيد ما أنفقه وزيادة.
ويتمثل طلب الحرص على الجاه في مجالين: طلب السلطة، وطلب المكانة المرموقة. ويكون ذلك من خلال عدة وسائل، منها: العلم والمال والعمل والظهور بمظهر الزاهد وغيره من الوسائل المتعددة، وبعض هذه الوسائل نبيل وشريف، ولكنها تصبح ليست كذلك اذا استخدمها صاحبها من أجل الوصول من خلالها إلى أهداف ليست سليمة، قال صلى الله عليه وسلم: (من تعلَّم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)؛ قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وكان سفيان الثوري، يقول: “تعلمنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله”.
وبعد كل هذا، يأتي السؤال: هل الحرص على المال والجاه كله شر وضرر؟ وهل الخير في وجودهما أم في فقدهما؟ والجواب على هذا؛ أن العلم والمال فيها الخير الكثير، وجاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) متفق عليه، فيهما تظهر مراتب العزة والشرف، والتنافس في تحصيل العلم من أشرف أنواع التنافس، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] فالعلم فضله عظيم، به تتحصل المكانة العالية في الدنيا والآخرة، ومن تحصل عليه أو تحصل على الحكمة، ينطبق عليه قول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، والحسد في هذه الأمور منه المحمود؛ وهو ما يعرف بالغبطة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)، والنوع الثاني من الغبطة المذمومة، هو أن يتمنى أن يكون عنده مثل ما عند الأشرار الذين أوتوا حظاً من الدنيا، فهذه غبطة مذمومة؛ كما جاء في قصة قارون {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79]،
، وأما النوع الثالث من الحسد، وهو الجائز، فهو أن يتمنى المرء أن يكون عنده كما عند الناس، فإن رأى إنساناً عنده بيت أو أي شيء من أشياء الدنيا، تمنى أن يكون عنده مثل ذلك الشيء، فهذا من الأمور المباحة، التي ليست بمحمودة ولا مذمومة.
حق المال وحق العلم والجاه: أما من ملك المال، أو من كان من أهل الجاه، أو تحصل على علم من أنواع العلوم، فالمطلوب منه أن يؤدي حق الله فيه
، وهو ما يتمثل في تعليم القرآن والسنة، أو في الدعوة إلى الله سبحانه، وهي مهمة الرسل والأنبياء، وقد يكون النفع بالمال، على نشر العلم، فيشارك صاحب المال أهلَ العلم في هذا الخير، وقد يكون النفع بأن يقف صاحبه مع الناس في حوائجهم، أو في أمور حياتهم، كما جاء في الحديث الشريف (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم، وهي من الأمور التي لا تنقطع بموت صاحبها، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم. [مفاسد السعي خلف الجاه والمال].بتصرف.
و”اعلم أن النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، لكن العاقل ينافس العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره”
الوجه الثالث: ما يستفاد من الحديث، وما يلحق في الباب:
أهم الفوائد التي يمكن أن نستفيد منها في هذا الحديث الشريف:
1 – أن يحرص المسلم دائماً على صفاء قلبه ونظافته، وذلك بأن يكون قلبه متعلقاً بالله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه، وقال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا يُنكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه) رواه مسلم، ولا شك أن حب الدنيا من أهم أسباب تعكير ذلك القلب، فالقلب الذي رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وذاق حلاوة الإيمان، هو من أسعد القلوب، وأكثرها استقراراً واطمئناناً، أما القلب الذي تعلق بحب الدنيا، وجاوز الحد في الحرص على العلو فيها فهو من أبعد القلوب عن السعادة أو الراحة.
2 – أن محبة المال وطلبه من وجوهه المباحة أمر لا شيء فيه، وذلك بأن يكون هذا المال في يده وليس في قلبه، أما خطورة المال فتكمن فيمن يطلبه من وجوهه المحرمة، أو فيمن يصرفه على الأمور المحرمة.
3 – أن الابتعاد عن الشح هو طريق الصالحين المفلحين، وأن الشح أهلك من كان قبلنا، والشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها.
4 – أن الحرص على الجاه والحرص على المال كلاهما خطير، ولكن الحرص على الجاه أشدهما خطورة، بل إن المال يبذل من أجل الوصول إلى العز والجاه.
5 – أن الثبات على الحق والدين توفيق من الله تعالى، وأن الخطر كل الخطر في طلب الجاه والعلو في الدنيا، وأن الأصل أن طالب الولاية لا يولى، وأن من حرص على منصب من مناصب الدنيا من إمارة أو غيرها لا يعطاه، كما جاء في الحديث الشريف: (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنا والله لا نولى على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه) متفق عليه.
6 – أن التعالي على الناس منازعة لله تعالى في كبريائه؛ وجاء في الحديث القدسي: (قال الله عز وجل: الكبرياء ردائى والعظمة إزارى فمن نازعنى واحداً منهما قذفته فى النار) رواه أبو داود.
7 – أن طلب العلم قد يكون من أجل الدنيا، وقد يكون في سبيل الله، وأن من طلبه من أجل الدنيا كان أحد الثلاثة الذين من (تُسعر بهم النار يوم القيامة) رواه الترمذي. [مفاسد السعي خلف الجاه والمال].
8 – “من طرق التعليم ضرب الامثال لتقريب الفهم.
9 – الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؛ وذلك من جهتين:
الأولى: أنها سجن المؤمن؛ لأنه مقيد فيها بالطاعات وملزم فيها بالطاعات، والابتعاد عن المحرمات، وهي جنة للكافر؛ لعدم مبالاته فيرخي الحبال، ولا يبالي بالأوامر والنواهي.
والثانية: أنها سجن للمؤمن من باب أنها رغم ما يأخذ فيها مما لذ وطاب، فهي على الرغم من ذلك سجن مقارنة بما عند الله؛ لما سيلقى من نعيم عند ربه. أما الكافر فباعتبار مآله إلى الله فهو في الدنيا في جنة بما ينظره عند الله.
10 – الحرص على المال، بأنواعه:
أ. أشده محبته مع شدة طلبه من وجوه مشروعة، وأقل ما يجعله مذموما هو تقليل الدرجات في الإيمان والثواب عند الله؛ بسبب هذا الحرص فهو يحرص ليله و نهاره في طلب المال مع أن الرزق مضمون كما دلت عليه النصوص، وفيه تضييع للعمر لغير ما خلق له.
ب. الثاني شبيه بالأول لكن مع منع الحق الواجب، وهذا اشر من الأول؛ لأنه اتصف بالشح، ولأنه لا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد.
ج. الثالث وهو من يبذل قصارى جهده لتملكه ولو من حرام فلا يبالي، مع أنه محاسب ومسؤول عن ذلك!
وأما ما يتعلق بطلب الشرف والجاه:
11 – الحرص على الشرف أشد اهلاكًا لدين المسلم من حرصه على المال؛ والدليل أن شدة محبته للمنصب ينفق ماله من مال فيه طلبه، وحاله اخطر من حال من يجمع المال.
12 – الحرص على الشرف، نوعان:
أ. طلب الشرف للولاية والسلطان والمال:- ومن دقيق حب الشرف طلب الولاية لمجرد علو المنزلة على الخلق، وهذا من أقبح ما يكون؛ لأنه يريد أن يحوج الناس إليه ويذكر فيهم ويتعاظم.- ومن دقيق الحرص على الشرف حب الحمد على أفعاله وأن يذكره الناس بالخير.
ب. الحرص على الشرف في الأمور الدينية: وهذا أفحش من الأول؛ لآثار كثيرة تذم من تعلم العلم ليبتغي الدنيا ومحمدة الناس، ومن طلب العلم من أجل الرياسة. ومن دقيق الحرص على الرياسة في الدين الجراءة على الفتيا”.
13 – يشير الحديث” إلى أنه لا يسلمُ من دين المسلم مع حرصه على المال والشَّرفِ في الدنيا إلا القليل, كما أنه لا يسلمُ من الغنمِ مع إفسادِ الذئبين المذكورين فيها إلا القليل.
فهذا المثل العظيم يتضمنُ غاية التحذير من شرِ الحرصِ على المالِ والشرفِ في الدنيا”.
——-
الوجه الرابع: المسائل الملحقة:
المسألة الأولى (1): مختصر شرح حديث (ما ذئبان جائعان)
“فهذا مثل ضربه رسول الله ? الذي أوتي جوامع الكلم، دلل فيه أن الفساد الذي يقع على دين المرء بحرصه على المال والشرف، ليس أقل من الفساد الذي يرتكبه ذئبان جائعان ضاريان دخلا حضيرة غنم غاب رعاتها فأكلا وافسدا فيها، فلن ينج من الغنم إلا القليل، وهكذا فلن يسلم من دينه من حب الجاه والمال إلا القليل. ومفهوم هذا الحديث التحذير من هذا الفساد.
والحرص على المال نوعان:
الأول: شدة حب المال، مع شدة الحرص على اكتسابه من وجوه مباحة، كما فعل عاصم رضي الله عنه وكان ذلك ورود الحديث، وذلك أنه اشترى مئة سهم من سهام خيبر [كما عند الطبراني في الأوسط برقم 5317]، ووجه الذّم أن في زيادة الحرص على المال انشغال، وإضاعة للعمر والجهد في متاع الدّنيا الزائل، مما يلهيه عن العمل للآخرة.
أما النوع الثاني: أن يطلب ذلك المال بوجوه غير مشروعة، أو بامتناعه عن أداء حقوق واجبة، كالزكاة والنفقة على الأهل، وما شاببها، وهذا مِن الشُّح؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقال رسوله ?: ((َاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)) رواه مسلم في صحيحه برقم 2578
والشحّ هم رغبة النفس بما لم يبحه الله لها، وعدم القناعة فيما أباحه الله، فهذا مناف للإيمان، ولهذا كان سببًا في استحلال الدماء وقطيعة الرحم، فكانت المعاصي كلها بسبب الشح والبخل كما قال بعض السّلف، ومن هنا نفهم قول رسول الله ? ((وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا)) [رواه النسائي برقم 3110].
أما الحرص على الشرف
فالحرص على الشرف أكثر إهلاكا للعبد من حرصه على المال، بل إن المال يُنفق لطلب الشرف.
والحرص على الشرف نوعان: ما أن يكون في الرياسة والولاية، أو بالدّين.
النوع الأول: الشرف بالرئاسة والولاية والسّلطان.
وهذا فيه إفساد لآخرة العبد؛ فقد قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
وفيه إفساد لدنياه، فلا يعينه الله عليها، فقد قال رسول الله ?: ((يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا)) [رواه البخاري برقم 6622].
وقد ذكر الآجري رحمه الله تعالى في كتابه “أخلاق العلماء” أن من صفات علماء السوء أنه: قد فتنه حب المال والشرف والمنزلة عند أهل الدنيا! يتجمل بالعلم كما يتجمل بالحلّة الحسناء للدنيا، ولا يجمل علمه (إلا) بالعمل به.
[إلى أن قال:] فهذه الأخلاق وما يشبهها تغلب على قلب من لم ينتفع بالعلم فبينا هو مقارف لهذه الأخلاق إذ رغبته نفسه في حب المنزلة، فأحب مجالسة الملوك وأبناء الدنيا، فأحب أن يشاركهم فيما هم فيه من منظر بهي ومركب هني وخادم سري ولباس ليِّن وفراش ناعم وطعام شهي، وأحب أن يعتنى به، وأن يسمع قوله، ويطاع أمره، فلم يقدر عليه إلا من جهة القضاء فطلبه فلم يمكنه إلا ببذل دينه، فتذلل للملوك وأتباعهم، فخدمهم بنفسه وأكرمهم بماله، وسكت عن قبيح ما ظهر من منازل أبوابهم وفي منازلهم وفعلهم، ثم زين لهم كثيرًا من قبيح فعلهم بتأويله الخطأ ليحسن موقعه عندهم، فلما فعل هذه مدة طويلة واستحكم فيه الفساد ولوه القضاء، فذُبح بغير سكين، فصارت لهم عليه منَّة عظيمة، ووجب عليه شكرهم فآلم نفسه؛ لئلا يغضبهم عليه، فيعزلوه عن القضاء، ولم يلتفت إلى غضب مولاه، فاقتطع أموال اليتامى والأرامل والفقراء والمساكين وأموال الوقف الموقفة على المجاهدين وأهل الشرف بالحرمين وأموالاً يعود نفعها على جميع المسلمين، فأرضى بها الكاتب والحاجب والخادم، فأكل الحرام وأطعم الحرام، وكثر الداعي عليه، فالويل لِمَن أورثه علمه هذه الأخلاق هذا العلم الذي استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمر أن يستعاذ منه، وهذا العلم الذي قال فيه- عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِهِ) ” انتهى نقله. قلت، هذا الحديث ضعيف، قال الحافظ العراقي: ” رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الصَّغِير وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِإِسْنَاد ضَعِيف.”، قلت: وذلك لفرد عثمان بن مقسم بروايته وهو راو متروك.
ثم أتي الشيخ رحمه الله بحديث رسول الله ? الصحيح، إذ قال: (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا) [رواه مسلم في صحيحه برقم 2722]
وقد يصل بالمرء حب الشرف إلى أمور أخطر من ذلك، للتأمر على الناس، وأن يحتاج الناس إليه، أو يتذللوا له، بل قد يفعل أفعالا يحيج بها الناس إلى نفسه، ليتعاظم عليهم، وهذا نوع من التطاول على ربوبية الله تعالى وإلهيته، فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}، وقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}، فهذا الفاعل قد يقع في الشرك من هذه الحيثية.
كذلك فان هذا الشخص سيلتمس مدائح الناس، بشتى الطرق، حتى لو لجأ إلى الخداع وإلى إظهار خلاف ما يُبطن، ولقد قال تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وهذا كله مخالف لشرع الله تعالى، فإن الله تعالى جعل الولاية منصبًا صحبه مكلف بإقامة شرع الله تعالى، وإحقاق الحق، والقيام بشؤون الرعية، والنصح لهم، قال ربنا: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ? وَلَا يَامُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَامُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. وكان الرسول ? يأبى ويحذر من أن يرفعه أحد إلى غير منزلته البشرية، فقد قال: (لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ) رواه البخاري برقم 3445. فالذين اهتدوا بهديه وخلفواه بإحسان كانوا من أبعد الناس عن تعظيم أنفسهم، بل كانوا يدعون على تعظيم الله ذو الجلال والإكرام. وكان منهم من يتولى القضاء، لا يتولاه إلا ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وتجد الرّسل والصالحين يؤذون في الله، ويتحملون المشقة في ذلك، بل قد يتلذذون بما يصيبهم لأنه أصابهم في الله، وهذا ضد ما يريده أهل الدنيا.
النوع الثاني:
طلب الشرف عند الله والفضل عنده على الناس بالدين، كالزهد والورع والعلم والعمل، وهذا محمود. أما لو طلب به شيئًا من متاع الدّنيا الفاني، فهذا نوعان:
الأول: أن يطلب به المال بالأسباب الممنوعة. وهذا الذي جاء فيه قول رسول الله ?: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ – عز وجل – لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [رواه أبو داود 3664، ووابن ماجه 252، وصححه الألباني]، ووجه هذا أن في الدنيا جنّة، وهي جنّة معرفة الله تعالى وطاعته، والتي يبتغي العبد بها جنّة الآخرة، فمن لم يدخلها في الدنيا، لم يجد ريح جنّة الآخرة، بل كان هو الذي باع دنياه بآخرته. ولهذا عاب أبو سليمان الدارني على من لبس عباءة وكان في قلبه شهوة من شهوات الدنيا تفوق قيمة تلك العباءة.
والثاني: أن يطلب العلم، ويظهر الورع لينال بذلك الرياسة على الخلق، ويتعاظم عليهم، ويجعلهم منقادين له، فهذا متكبر، وهذا قبيح منه جدًا، إذ استعمل في غايته الرخيصة هذا وسيلةً الأصل فيها أنها وسيلةٌ للآخرة، وهو استخدمها لغرض رخيص في الدنيا. قال رسول الله ?: (مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ) [رواه الترمذي برقم 2654، وابن ماجه برقم 253، وصححه الالباني].
وقال ?: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَاتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَاتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) [رواه مسلم برقم 1905]
ومن هذا الباب كره السلف الصالح الجرأة على الفتيا، وقيل “أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار”، وَعَنْ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: (لَقَدْ أَدْرَكْتُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الْأَنْصَارِ , وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ , إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ , وَلَا يُسْأَلُ عَنْ فُتْيَا , إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا) [رواه الدارمي 153 وصححه حسين سليم أسد]. وقال الإمام أحمد: “من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم , إلا أنه قد تجيء الضرورة ” قال الحسن: إن تركناهم وكلناهم إلى عي شديد , فإنما تكلم القوم على هذا , وكان قوم يرون أنهم أكثر من غيرهم فتكلموا , قيل لأبي عبد الله: فأيما أفضل الكلام أو الإمساك؟ قال: ” الإمساك أحب إلي لا شك ” , قيل له: فإذا كانت الضرورة؟ فجعل يقول: ” الضرورة الضرورة ” وقال: ” الإمساك أسلم له ” قلت: الإمساك أقرب إلى السلامة , لكن ما يجوزه المجتهد إذا نصح وبذل مجهوده في طلب الحق من الفضل وعظيم الثواب والأجر أولى ما رغب فيه الراغبون , وفي ذلك فليتنافس المتنافسون [انتهى من الفقيه والمتفقه، رقم 642].
ومما كرهه السلف: الدخول على الامراء، والتّقرب منهم، فيتقرب المرء بعلمه إليهم لينال الشّرف عندهم، و عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ تِسْعَةٌ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعَةٌ، أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْآخَرُ مِنَ الْعَجَمِ، فَقَالَ: (اسْمَعُوا، هَلْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ) [رواه النسائي برقم 4208، والترمذي برقم 2259، وصححه الألباني].
وكان من السلف من ينهى عن الدخول على الأمراء لمن أراد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وممن نهى عن ذلك: عمر بن عبد العزيز، وابن المبارك، والثوري، وقال ابن المبارك: (ليس الآمر الناهي عندنا من دخل على الملوك فأمرهم ونهاهم، وإنما الآمر الناهي من اعتزلهم)، وسبب هذا أن الرجل قد تُخيل له نفسُه أنه إذا دخل عليهم سيأمرهم وينهاهم ويغلظ عليهم، فإذا دخل فربما هابهم، او سولت له نفسه التّقرب منهم، خاصّة إذا أغدقوا عليه وأكرموه.
ومن هذه المخاطر: اشتهار المرء بين الناس بالزهد والتّدين؛ حتى يقصده الناس ويطلبون بركته، ويقبلون يده، وهو راض سعيد بذلك!
أما السلف فكانوا لا يحبون الشهرة ويبعدون عنها ويسرون أعمالهم عن الناس.
وهنا يُنتبه إلى أن المرء قد يذم نفسه أمام الناس، يريد أن يُظهِر لهم التواضع، فيمدحونه زيادة، وهذا باب من أبواب الرياء خطير.
وسبب الكبر والحسد أن النفس تحب الرفعة على أبناء جنسها، إلا أن العاقل ينافس على ما عند الله، وليس على متاع الدنيا الفاني الذي فيه سخط الله، ويلحقه عقاب منه، قال الله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ? عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ? تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ? يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. أما الرفعة في الدّنيا فينبغي للمرئ الزهد فيها، وذلك لأسباب:
منها: سوء العاقبة لمن تولى الولاية ولم يقم بحقها.
ومنها: سوء عاقبة المتكبرين، إذ قال رسول الله ?: (يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ) [رواه الترمذي برقم 2492 وحسّنه الألباني]
ومنها: رفعة منزلة المتواضعين عند الله.
وقد كتب وهب بن منبه إلى مكحول الدمشقي: “أما بعد فقد أصبت بظاهر علمك عند الناس منزلة وشرفًا، فاطلب بباطن علمك منزلة وزلفى، وأعلم أن إحدى المنزلتين تمنع الأخرى” انتهى.
ومعناه أن العلم الظاهر من التحديث والوعظ، ينال به المرء المنزلة عند الناس، والعلم الباطن هو عمل القلوب، من خشية لله، وتعظيم له، ينال به المرء المنزلة عند الله، ويزهّده في الدنيا ومن انشغل بعمل القلب انشغل عن إرضاء الناس، والاشتغال بالمنزلة عندهم، ومع انشغاله عن ذلك فإن الله يهب له المنزلة في قلوب الخلق، وإن كان يهرب منها، قال ربنا الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}، وقال نبيه ?: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ) [رواه البخاري برقم 7485، ومسلم برقم 2637).
[مختصر شرح حديث (ما ذئبان جائعان)].
المسألة الثانية (2): من مظاهر الحرص على المال والشرف، ومفاسد ذلك:
الحرص على المال سبق ذكر مفاسده
المرض الثاني: مرض الحرص على الشرف.
* من أوجه إفساد الشرف للدين: – حمل طالبه على الكذب المتعمد دون مسوغ شرعي، والمداهنة في الدين بلا استحياء. ويدخل في هذا المتحدثون باسم أحزابهم وجماعتهم، فلا يبعد عنهم الكذب
– ترك مواجهة الباطل، وعدم المطالبة بإزالة المنكر عملياً مع القدرة على ذلك طلباً للراحة، وحرصاً على الكرسي،
– التحلل من الأخلاق دون حياء من الله أو حياء من الناس. فكم كان حرصه سبب لمسخه، وجرَّده من كل الأخلاق السوية. –
– التزلف بالفتاوى الباطلة من قبل بعض علماء السوء, حفاظاً على مناصبهم.