1083 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
ومراجعة ناصر الكعبي
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا والمسلمين جميعا)
——”——-”——”
——-‘——–‘—–
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1083):
قال الإمام أبو داود رحمه الله:
1083 – قال الإمام أحمد رحمه الله: قال حدثنا سليمان حدثنا روح قال حدثنا بسطام بن مسلم عن معاوية بن قرة قال قال أبي لقد عمرنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان، ثم قال: هل تدري ما الأسودان؟ قلت: لا. قال: التمر والماء.
قال أبو عبدالرحمن: هذا حديث صحيح.
===================
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: شرح الحديث.
لقد عمرنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم
(وما لنا طعام إلا الأسودان، ثم قال: هل تدري ما الأسودان؟ قلت: لا. قال: التمر والماء):
((وما لنا طعام) إلا الأسودان):
فالأسودان هما التمر والماء، كما في حديث الصحيحين عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت لعروة ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار فقلت يا خالة ما كان يعيشكم قالت: الأسودان (الماء والتمر).
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث: قولها: الأسودان، وإنما السواد للتمر خاصة دون الماء فنعتتهما جميعاً بنعت أحدهما، وكذلك تفعل العرب في الشيئين يكون أحدهما مضموماً مع الآخر كالرجلين يكونان صديقين لا يفترقان أو أخوين وغير ذلك من الأشياء فإنهم يسمونهما جميعاً باسم الأشهر منهما، ولهذا قال الناس: سنة العمرين، وإنما هما أبو بكر وعمر. انتهى. كما سيأتي زيادة بيان في كلامه رحمه الله تعالى.
وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر: هما التمر والماء، أما التمر فأسود وهو الغالب على تمر المدينة فأضيف الماء إليه ونعت بنعته إتباعاً، والعرب تفعل ذلك في الشيئين يصطحبان فيسميان معاً باسم الأشهر منهما كالقمرين والعمرين. انتهى
قال النووي في (شرح صحيح مسلم ج9/ص14): فالركنان اليمانيان هما الركن الأسود والركن اليماني، وإنما قيل لهما اليمانيان للتغليب كما قيل في الأب والأم الأبوان، وفي الشمس والقمر القمران، وفي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما العمران، وفي الماء والتمر الأسودان، ونظائره مشهورة.
وقال العيني في (عمدة القاري ج5/ص138): قوله: [بين كل أذانين] أي: الأذان والإقامة، فهو من باب التغليب. وقال الخطابي: حمل أحد الاسمين على الآخر شائع كقولهم الأسودان للتمر والماء والأسود إنما هو أحدهما.
قال أبو عبيد في
قولها: [الأسودان] وإنما السواد للتمر خاصة دون الماء؛ فنعتتهما جميعا بنعت أحدهما، وكذلك تفعل العرب في الشيئين يكون أحدهما مضموما مع الآخر، كالرجلين يكونان صديقين لا يفترقان أو أخوين وغير ذلك من الأشياء، فإنهم يسمونهما جميعا باسم الأشهر منهما، ولهذا قال: الناس سنة العمرين، وإنما هما أبو بكر وعمر.
قال: وأنشدني الأصمعي وابن الكلبي جميعا في مثل هذا لقيس بن زهير بن جذيمة يعاتب زهدما وقيسا ابني جزء:
جزاني الزهدمان جزاء سوء
وكنت المرء يجزى بالكرامه
فقال: (الزهدمان) وإنما هما زهدم وقيس.
وأنشدني الأصمعي لشاعر آخر يعاتب أخوين يقال لأحدهما الحر والآخر أبي فقال:
ألا من مبلغ الحرين عني
مغلغلة وخص بها أبيا
فقد بين لك أن أحدهما أبي وقد سماهما الحرين.
وأبين من هذا كله قول الله تبارك وتعالى: {كما أخرج أبويكم من الجنة} وإنما هما أب وأم، وقال: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} فكثر هذا في كلامهم حتى قالوا: في الأرضين وغيرها، وأنشدني الأحمر:
نحن سبينا أمكم مقربا
حين صبحنا الحيرتين المنون
يريد الحيرة والكوفة. ومنه قول سلمان: أحيوا ما بين العشاءين. وإنما هما المغرب والعشاء. ومنه الحديث المرفوع: “بين كل أذانين صلاة لمن شاء” وإنما هو الأذان والإقامة. ومنه: “البيعان بالخيار ما لم يفترقا” وإنما هو البايع والمشتري. فكل هذا حجة لمن قال: إن العمرين أبو بكر وعمر رحمهما الله، وليس قول من يقول إنهما عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز بشيء، إنما هذا من قلة المعرفة بالكلام، وإنما قالوا العمرين فيما نرى ولم يغلبوا أبا بكر وهو المقدم على عمر لأنه أخف في اللفظ من أن يقولوا أبو بكرين وأصح في المعنى، وإنما شأن العرب ما خف على ألسنتها من الكلام.
قال القرافي في (الذخيرة ج13/ص31):
في قوله تعالى: {ولأبويه} سمى الأم أبا مجازا من باب التغليب، وهو في لسان العرب يقع إما: لخفة اللفظ، كالعمرين فإن لفظ عمر أخف من لفظ أبي بكر. أو: لفضل المعنى وخفته، نحو: لنا قمراها والنجوم الطوالع، فغلب لفظ القمر على الشمس لأنه مذكر والشمس مؤنثة والمذكر أخف وأفضل. وإما: لكراهة اللفظ لإشعاره بمكروه، نحو قول عائشة رضي الله عنها: ما لنا عيش إلا الأسودان، تريد الماء والتمر.
والتمر أسود والماء أبيض وكلاهما مذكر، وعلى وزن أفعل، فلا تفاوت، بل لفظ الأبيض يشعر بالبرص فغلبت الأسود عليه، فهذه ثلاثة أسباب للتغليب في اللغة.
قال البيجوري: (وقيل: أسود – أي لون الماء أسود – بدليل قول العرب الأسودان التمر والماء وأجيب أنه من باب التغليب) أقول: معنى التغليب أن يكون عندنا كلمتان مفردتان (كالشمس والقمر مثلا) ونريد أن نُثَنِّيَهما معا فنعمد إلى واحدة منهما فقط فنُثَنِّيها وهي التي نُغَلِّبُها على الأخرى فنقول عند تثنية (الشمس والقمر): الْقَمَرَيْنِ، بتغليب القمر في اللفظ على الشمس، ومنه (الْأَبَوَانِ) في تثنية (الأب والأم) بتغليب الأب على الأم، ومنه ما ذكره هنا من قول العرب: (الْأَسْوَدَانِ) في تثنية التمر والماء بتغليب التمر على الماء عند التثنية. [انظر: مقال: إعانة الفقيه بتيسير مسائل ابن قاسم وشروحه وحواشيه]
وفي رواية مسلم: ((إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرا ما نستوقد بنار إن هو إلا التمر والماء)) وفي رواية إن كنا لنمكث وإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الحال والشأن محذوف والجملة بعدها خبرها والتقدير إنه كنا … وزاد (إلا أن يأتينا اللحيم) وفي رواية (إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار قال لها عروة ابن أختها يا خالة ما كان يعيشكم قالت الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه)
ما كان يعيشكم بضم الياء وفتح العين وكسر الياء المشددة قال النووي وفي بعض النسخ المعتمدة فما كان يقيتكم وفي رواية (لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل) بفتح الدال والقاف هو تمر ردئ ما يملأ به بطنه. وفي رواية قال عمر: وما ترضون دون ألوان التمر والزبد وفي رواية (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا يملأ به بطنه) [شرح مسلم فتح المنعم]. بتصرف.
وقد مر في الصحيح المسند (336): عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن بن الزبير عن الزبير رضي الله عنه قال: لما نزلت: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قال الزبير: أي: رسول الله مع خصومتنا في الدنيا قال: نعم، ولما نزلت: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} قال الزبير: أي: رسول الله، أي: نعيم نسأل عنه وإنما يعنى: هما الأسودان التمر والماء، قال: أما أن ذلك سيكون.
الوجه الثاني: فقه الحديث.
في هذا الحديث وغيره بيان لكيفية معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم
وقد دل هذا الحديث على ما يأتي:
أولاً: كيف كان يعيش النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة رضوان الله عليهم حياة التقشف والزهد إيثاراً للحياة الباقية على الدار الفانية، كما قال – صلى الله عليه وسلم – لعمر رضي الله عنه: ((أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)).
ثانياً: فضيلة الزهد والاكتفاء بالقليل من العيش، وكونه من أخلاق النبيين، وسيرة سيد المرسلين ولا شك أنه – صلى الله عليه وسلم – إنما زهد في الدنيا اختياراً فقد كان في إمكانه – صلى الله عليه وسلم – أن ينعم بالدنيا وزهرتها، وأن تصير له الجبال ذهباً، وقد أمر به – صلى الله عليه وسلم – في قوله: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وقد ورد: ((ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام بر)) من حيث أن فيه بيان عيش آل النبي – صلى الله عليه وسلم – على الوجه المذكور.
وقد مرت في الأحاديث السابقة ذكر شيء من فقه الحديث، كما في الحديث (1041) وغيرها، مما يتعلق بما كتبه الله للعبد من الرزق، وأنواع المقادير، ومعنى لفظة السعادة، والفقر.
وفي الحديث (1060) مر حول التنافس في الدنيا، وخطورة ذلك، والضوابط في ذلك.
وأما عن الكفاف والصبر عليه، والقناعة مر في الحديث (1061).
وقد جاء في كتب الشمائل بيان (ما جاء في عيش النبي صلى الله عليه وسلم)، وقد بوب البخاري وغيره في ذلك، كما جاء في الصحيح، في (كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتخليهم من الدنيا)، وكذلك من كتب في الزهد كالإمام أحمد وغيره أوردوا هذه الأحاديث.
وكذلك راجع الصحيح المسند 1011 حديث عمرو بن العاص قال: لقد اصبحتم ترغبون في الدنيا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزهد فيها والله ما أتت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من دهره إلا كان الذي عليه أكثر مما له. قال: فقال له بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسلف.
وفي رواية: والله ما مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الدهر إلا والذي عليه أكثر من الذي له.
الوجه الثالث ما يستفاد من الأحاديث، فوق ما تقدم:
1 – ما كانت عليه حالتهم في أول الأمر من شدة الحال وخشونة العيش والجهد ثم إنهم اتسعت عليهم الدنيا بالفتوحات وولوا الولايات. وبعضهم بقي على حاله. وبعضهم عتب على نفسه التوسع ويغبط من استشهد.
2 – قال الطبري: استشكل بعض الناس كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعا مع ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع لأهله قوت سنة وأنه قسم بين أربعة أنفس ألف بعير مما أفاء الله عليه وأنه ساق في عمرته مائة بدنة فنحرها وأطعمها المساكين وأنه أمر لأعرابي بقطيع غنم وغير ذلك مع من كان معه من أصحاب الأموال كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم؟
قال: والجواب أن ذلك كان منهم في حالة دون حالة لا لعوز وضيق بل تارة للإيثار وتارة لكراهة الشبع ثم قال وما نفاه مطلقا فيه نظر لما تقدم من الأحاديث اهـ
قال الحافظ ابن حجر: والحق أن الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة حيث كانوا بمكة ثم لما هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل والمنائح، فلما فتحت لهم النضير وما بعدها ردوا عليهم منائحهم، نعم كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار ذلك مع إمكان التوسع والتبسط في الدنيا له كما أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة عرض على ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وإذا شبعت شكرتك.
3 – … والتحذير من كفران النعم
4 – والحث على شكر نعمة الله وعدم ازدرائها.
5 – هوان الدنيا على الله وتحقير شأنها بالنسبة للآخرة ونعيمها
أعلم. [فتح المنعم] بتصرف يسير.
مسألة: زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وضيق الحال وأسبابه
وقد صح في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ” جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ، قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: ” بَلْ عَبْدًا رَسُولًا “.
رواه أحمد في مسنده (7160)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
قلت سيف بن دورة: وصححه الألباني وراجع تخريج نضرة النعيم
وفي حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، قُلْتُ: لاَ يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا، أَوْ قَالَ ثَلاَثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ) رواه الترمذي في “السنن” (2347) وقال: حديث حسن. ثم عقبه بتضعيف أحد رواته.
قلت سيف بن دورة: ضعيف هو في ضعيف الترغيب 1902
بل فيه علي بن يزيد الالهاني وعبيد الله بن زحر الضمري.
كما رويت بعض الآثار توضح سبب ما كان يصيبه صلى الله عليه وسلم من تفاوت الفقر والغنى، وأن هذه الحال، إنما كانت: … ” لكثرة من يغشاه، وأضيافه، وقوم يلزمونه لذلك، فلا يأكل طعاما قط إلا ومعه أصحابه وأهل الحاجة، يشبعون في المسجد. فلما فتح الله عز وجل خيبر اتسع الناس بعض الاتساع، وفي الأمر بعض ضيق، والمعاش شديد، وهي بلاد لا زرع فيها، إنما طعام أهلها التمر، وعلى ذلك أقاموا”. انظر: “سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد” (7/ 101)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
“الناس ثلاثة أصناف:
غني: وهو من ملك ما يفضل عن حاجته.
وفقير: وهو من لا يقدر على تمام كفايته.
وقسم ثالث: وهو من يملك وفق كفايته.
ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيا: كإبراهيم الخليل، وأيوب، وداود، وسليمان، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وأسعد بن زرارة، وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ونحوهم ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين.
وفيهم من كان فقيرا: كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، وعلي بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسي، ونحوهم ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين.
وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران: الغنى تارة، والفقر أخرى؛ وأتى بإحسان الأغنياء، وبصبر الفقراء: كنبينا صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر” انتهى من “مجموع الفتاوى” (11/ 124)
وبهذا يمكنك أن تتفهم ما ورد في بعض الأحاديث الصحيحة، كحديث أنه عليه الصلاة والسلام: (قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقًا) رواه البخاري (4101)، وحديث عدم إيقاد النار في بيته المكرم عليه الصلاة والسلام الشهر والشهرين، وحديث (أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا [يعني الجوع]) رواه مسلم (2038)، وحديث (وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ) رواه البخاري (5414)
كلها نفهمها في إطار حدوثها في بعض الفترات التي كانت تمر على النبي صلى الله عليه وسلم، وليست حالة دائمة، ولا صفة ملازمة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الفقر، ويدعو ويقول: (اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا) رواه البخاري (6460)، فلم يودعه ربه عز وجل لسلطان الفقر، بل فتح عليه من خزائن المال، ولكنه كان أجود بها من الريح المرسلة، فكان ينفقها في بعض الأوقات ولا يدع لبيته شيئا، فتقع له مثل هذه الحوادث العارضة، خاصة بعد قريظة وخيبر، حيث اتسع حال المسلمين، وأصابوا من المال بفعل ما تعاقدوا عليه مع أهل خيبر.
والواقع الثابت في السيرة النبوية يدل على ذلك في عشرات الأدلة الشرعية، فلا بد من فهم ما وقع له عليه الصلاة والسلام من مواقف الجوع، في هذا الإطار الظرفي المؤقت.
وقد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم خير معين للنبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشدة، فلم يضِنُّوا بأموالهم وطعامهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبياته، فكانوا يبعثون إليهم الهدايا مما يجدون من الطعام، وكانوا يهدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما وسع الله عليهم. وهكذا ورد في تلك الأحاديث – المعدودة – التي تحدثت عن الشدة التي أصابت النبي صلى الله عليه وسلم – اختيارا لا اضطرارا – ما يبين موقف الصحابة الكرام، وحرصهم على إعانته صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام الطبري رحمه الله:
“إن قال لنا قائل:
وما وجه هذه الأخبار ومعانيها، وقد علمت صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يرفع ما أفاء الله عليه من النضير وفدك قوته وقوت عياله لسنة، ثم يسلف ما فضل عن ذلك في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، وأنه قسم بين أنفس معدودين زهاء ألف بعير من خاصة حقه، مما أفاء الله من أموال هوازن في اليوم الواحد، وأنه ساق في حجة الوداع مائة بدنة، فنحرها وأطعمها من حضر مكة من أهل المسكنة وغيرهم، وأنه كان يأمر للأعرابي يقدم عليه من البادية، فيسلم، بقطيع من الغنم.
هذا مع ما يكثر تعداده من عطاياه وفواضله التي لا يذكر مثلها عن من قبله من ملوك الأمم السالفة، مع كونه بين أرباب الأموال العظام، والأملاك الجسام، كأبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان رحمة الله عليهم، وأمثالهم في كثرة الأموال، وبذلهم له مهجهم وأولادهم وأموالهم، وخروج أحدهم من جميع ملكه إليه، تقربا إلى الله تعالى ذكره بفعله ذلك، ثم مع إشراك الأنصار في أموالهم من قدم عليهم من المهاجرين، وبذلهم نفائسها في النفقة في ذات الله عز وجل، فكيف بإنفاقها على رسول الله صلى الله عليه وسلم! وبه إليها الحاجة العظمى! ليرد بذلك جسيم ما نزل به من المجاعة، وحل به من عظيم الخموصة، إن هذا لمن أعجب العجب وأنكر النُّكر، لإحالة بعضه معنى بعض، ودفع بعضه صحة ما دل عليه البعض، إذ كان غير جائز اجتماع قشف المعيشة، وشظفها، والرخاء والسعة فيها في حال واحدة.
فهل عندك لذلك مخرج في الصحة فيصدق بجميعها، أم لا حقيقة لشيء من ذلك فندفعها، أم بعضها صحيح معناه، وبعضه مستحيل في الصحة مخرجه، فتدلنا على صحيح ذلك من سقيمه، لتحق الحق وتبطل الباطل؟
قيل له:
لا خبر فيما ذكرت أو لم أذكر، يصح سنده بنقل الثقات العدول، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا وهو عندنا حق، والدينونة به للأمة لازمة، ولا شيء من ذلك يدفع شيئا منه، ولا ينقض شيء منه، معنى شيء غيره، ونحن ذاكرو بيان ذلك بعلله وحججه، إن شاء الله ذلك، بعونه وتوفيقه.
فأما الخبر الذي روينا عن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يظل اليوم يلتوي من الجوع، لا يجد ما يملأ به بطنه من الدقل، وما أشبه ذلك من الأخبار، فإن ذلك كان يكون في الحين بعد الحين، من أجل أنَّ مَن كان منهم يومئذ ذا مال، كانت تستغرق نوائب الحقوق من النفقة على المهاجرين وأهل الحاجة والضعف من المسلمين، وعلى الضيفان ومن اعتراهم وقدم عليهم من وفود العرب، وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل = كثرة ماله، وحتى يقل كثيره، أو يذهب جميعه.
وكيف لا يكون ذلك كذلك، وقد روينا عن عمر بن الخطاب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله فقال: هذا صدقة لله) فكيف يُستنكَر لمن كان هذا فعله، أن يملق صاحبه، ثم لا يكون له السبيل إلى سد عوزه، ولا إرفاقه لما يغنيه عن غيره!
وعلى هذه الخليقة: كانت خلائق أتباعه وأصحابه رضوان الله عليهم. وذلك كالذي ذكر عن عثمان أنه جهز جيشا من ماله حتى لم يفقدوا حبلا ولا قتبا، وكالذي ذكر عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء بأربعة آلاف دينار صدقة منه تصدق بها.
فمعلوم أن – مَن كانت هذه أفعاله وخلائقه – أنه لا يخطئه أن تأتي عليه التارة من الزمان، والحين من الأيام: مملقا لا شيء له، قد أسرع في ماله نوافل عطاياه، وفواضل نداه، إن احتاج له أخ أو خليل إلى بعض ما يحتاج إليه الآدميون، لم يكن له سبيل إلى مؤاساته لقلة ذات يده، إلى أن يثوب له مال، أو يتعين له مال.
فقد ثبت إذًا بما ذكرت ووصفت خطأ قول القائل: كيف يجوز أن يرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي على أوسق من شعير، وفي أصحابه من أهل الغنى والسعة من لا يُجهل موضعه! أم كيف يجوز أن يوصف بأنه كان يطوي الأيام ذوات العدد خميصا، وأصحابه يمتهنون له أموالهم، ويبذلونها لمن هو دونه من أصحابه! فكيف له!
إذ كان صلى الله عليه وسلم معلوما جوده وكرمه وإيثاره ضيفانه والقادمين عليه من وفود العرب بما عنده من الأقوات والأموال على نفسه وأهله، واحتماله المشقة والصبر على الخموصة والمجاعة في ذات الله، وامتثال أصحابه وأتباعه في ذلك أخلاقه، ومن كان كذلك وأتباعه؛ فمعلوم أنه غير مستنكر له ولأتباعه حال ضيق يحتاج، هو وهم، معها إلى الاستسلاف، والاستقراض، وإلى طي الأيام على المجاعة والشدة.
فكان ما يكون من ضيق يصيبه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو من يصيبه ذاك منهم ومعيشته، لهذه الأسباب التي وصفنا، وهذه الأحوال، من أحواله وأحوال أصحابه، عنيت بالأخبار التي رويت عنه من شده الحجر على بطنه هو وأصحابه، وعدمهم القوت وما يشبعهم الأيام المتتابعة. وتقول عائشة رحمة الله عليها: (لقد أتى علينا شهران ما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مصباح) وما أشبه ذلك من الأخبار …
وأما الأخبار التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه لم يشبع شبعتين في يوم حتى لحق بالله تعالى، وأنه لم يشبع هو وأهله من خبز الشعير حتى قبضه الله، وما أشبه ذلك من الأخبار، فإن ذلك لم يكن منه صلى الله عليه وسلم في كل أحواله لعوز ولا لضيق، وكيف يكون ذلك كذلك، وقد كان الله تعالى ذكره أفاء عليه من قبل وفاته بلاد العرب كلها، ونقل إليه الخرج من بعض بلاد العجم كأيلة والبحرين وهجر. ولكن ذلك كان بعضه لما وصفت من إيثاره نصيب حقوق الله تعالى بماله، وبعضه كراهة منه الشبع وكثرة الأكل، فإنه كان يكره ذلك، وبترك ذلك كان يؤدب أصحابه، وبذلك جاءت الآثار عنه، وإن كان في إسناد بعضه بعض ما فيه” انتهى باختصار من “تهذيب الآثار مسند عمر” (2/ 712 – 716)
ويقول الإمام النووي رحمه الله:
“وقوله: (ينفق على أهله نفقة سنة) أي: يعزل لهم نفقة سنة، ولكنه كان ينفقه قبل انقضاء السنة في وجوه الخير، فلا تتم عليه السنة. ولهذا توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأهله، ولم يشبع ثلاثة أيام تباعا. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بكثرة جوعه صلى الله عليه وسلم وجوع عياله” انتهى من “شرح مسلم” (12/ 70)
ويقول ابن حجر رحمه الله:
“ومع كونه صلى الله عليه وسلم كان يحتبس قوت سنة لعياله، فكان في طول السنة ربما استجره منهم لمن يَرِدُ عليه، ويعوضهم عنه، ولذلك مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير اقترضه قوتا لأهله” انتهى من “فتح الباري” (9/ 503)