1073 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ونوح وعبدالخالق، وموسى الصوماليين.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين وحكام الإمارات ووالديهم ووالدينا والمسلمين جميعا)
———–‘———‘——-
“”””””””””””””””””””””””””””””
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1073):
قال الإمام أحمد رحمه الله في [(مسنده) (ج8/ص232)]: حَدَّثَنَا هَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، أَخْبَرَنَا ضَمْرَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيُنْقَضَنَّ الْإِسْلَامُ عُرْوَةً، عُرْوَةً، كَمَا يُنْقَضُ الْحَبْلُ قُوَّةً، قُوَّةً)).
قال الوادعي رحمه الله تعالى: هذا حديث صحيح، وابن فيروز هو عبد الله كما في ترجمة يحيى بن أبي عمر، ومن “تهذيب التهذيب”، وكما في”المسند”، في غير هذا الحديث، وكما في “تحفة الأشراف” في غير هذا الحديث.
===================
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في السند. (ترجمة الراوي، تخريجه).
أ – التخريج:
والحديث أورده الوادعي رحمه الله في ((الجامع الصحيح)) (3/ 450)، تحت باب: ” إخباره صلى الله عليه وسلم بتهاون المسلمين بالدين “. وأورد في الباب أحاديث غير هذا.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه.
(لينقضن) بالنون والقاف والمعجمة من نقض الحبل إذا حل إبرامه. (الإسلام عروة عروة) أي بغير طريقته وعرى أحكامه تبديلها كما ينقض الحبل وهو من أعلام النبوة والإخبار بالغيب وقد كان كما قاله (حم عن فيروز الديلمي) اليماني قاتل الأسود الكذاب العنسي، قال الذهبي: له وفادة وصحبة. [التنوير شرح الجامع الصغير، رقم الحديث (7720)]
(القوة): الطاقة من طاقات الحبل، والجمع قوى كما في (النهاية).
التعليق على الألفاظ في الروايات الأخرى:
وفي رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة))، ومعناه ظاهر، وهو أن الإسلام كلما اشتدت غربته كثر المخالفون له والناقضون لعراه، يعني: بذلك فرائضه وأوامره؛ كما في قوله : ((بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء)). أخرجه مسلم في صحيحه.
ومعنى قوله في الحديث: ((وأولها نقضا الحكم)) الصحيح المسند 490 معناه ظاهر، وهو عدم الحكم بشرع الله؛ وهذا هو الواقع اليوم في غالب الدول المنتسبة للإسلام.
ومعلوم أن الواجب على الجميع هو الحكم بشريعة الله في كل شيء، والحذر من الحكم بالقوانين والأعراف المخالفة للشرع المطهر لقوله سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 – 50] وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
وقد أوضح العلماء رحمهم الله أن الواجب على حكام المسلمين أن يحكموا بشريعة الله في جميع شئون المسلمين، وفي كل ما يتنازعون فيه، عملا بهذه الآيات الكريمات، وبينوا أن الحاكم بغير ما أنزل الله إذا استحل ذلك كفر كفرا أكبر مخرجا له من الملة الإسلامية، أما إذا لم يستحل ذلك وإنما حكم بغير ما أنزل الله لرشوة أو غرض آخر مع إيمانه بأن ذلك لا يجوز، وأن الواجب تحكيم شرع الله، فإنه بذلك يكون كافرا كفرا أصغر، وظالمًا ظلمًا أصغر، وفاسقًا فسقًا أصغر.
فنسأل الله سبحانه أن يوفق حكام المسلمين جميعا للحكم بشريعته والتحاكم إليها وإلزام شعوبهم بها، والحذر مما يخالف ذلك، إنه جواد كريم.
ولا شك أن في تحكيم الشريعة والتحاكم إليها، والعمل بها صلاح أمر الدنيا والآخرة وعز الدنيا والآخرة، والسلامة من مكائد الأعداء والإعانة على النصر عليهم.
كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما قول النبي في الحديث المذكور: ((وآخرهن الصلاة)) الصحيح المسند 490، فمعناه كثرة التاركين لها والمتخلفين عنها، وهذا هو الواقع اليوم في كثير من البلدان الإسلامية. وقد وردت نصوص كثيرة تبين أهمية الصلاة وأنها الركن الثاني بعد الشهادتين.
الوجه الثالث: ما يستفاد من الحديث.
1 – أهمية معرفة الإسلام وأصوله معرفة جيدة.
2 – أهمية معرفة ما يقابل مقتضى الشهادتين والْتزامِ مَضامينِها، ففي باب العقيدة والتوحيد من الشرك والإلحاد والنفاق، وما يقابل السنة من الأهواءَ والبِدَعَ والحوادث في باب الاتِّباع.
3 – خطورة الإحداث في الدين.
4 – خطورة عدم التخلص من المعتقدات السابقة بشكل جيد؛ لأنه قد يدخلها في معاملته وهو لا يشعر.
الوجه الرابع: المسائل المتعلقة بالحديث، وفيه:
فإنَّ دِينَ الإسلامِ الذي رَضِيَهُ اللهُ لخَلْقِه يُثْبِتُ ـ في باب الاعتقاد ـ دعوةَ التوحيدِ وينفي الكفرَ والشركَ والإلحادَ والنفاق، كما ينفي ـ في باب الاتِّباع ـ الأهواءَ والبِدَعَ والحوادث، ويأمر باتِّباعِ السنَّة والْتزامِ مَضامينِها؛ فذاك مقتضى الشهادتين، هكذا قام بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قامَ بالدِّين ـ بَعْدَه ـ أصحابُه رضي الله عنهم؛ ـ أَصْدَقَ الأمَّةِ إيمانًا، وأَبَرَّها قلوبًا، وأَعْظَمَها عقولًا، وأَعْمَقَها علمًا، وأَحْسَنَها بيانًا، وأَكْثَرَها فهومًا، وأَقَلَّها تكلُّفًا، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ بعد أَنْ ذَكَرَ قولَ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه: «إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إِذَا نَشَأَ فِي الإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الجَاهِلِيَّةَ» [أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» ((32472))، والحاكم في «المستدرك» ((8318)) وصحَّحه، ووافقه الذهبيُّ، ولفظُه: «قَدْ عَلِمْتُ ـ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ـ مَتَى تَهْلِكُ الْعَرَبُ»، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: «مَتَى يَهْلِكُونَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟» قَالَ: «حِينَ يَسُوسُ أَمْرَهُمْ مَنْ لَمْ يُعَالِجْ أَمْرَ الجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَصْحَبِ الرَّسُولَ صلَّى الله عليه وسلَّم»]:
قلت سيف بن دورة:
تنبيه: سيأتي في آخر البحث تخريج هذا الأثر.
«ولهذا كان الصحابةُ أَعْرَفَ الأمَّةِ بالإسلام وتفاصيلِه وأبوابِه وطُرُقِه، وأَشَدَّ الناسِ رغبةً فيه، ومَحَبَّةً له، وجهادًا لأعدائه، وتكلُّمًا بأعلامه، وتحذيرًا مِنْ خلافه؛ لكمالِ عِلْمِهم بضدِّه؛ فجاءهم الإسلامُ وكُلُّ خصلةٍ منه مُضادَّةٌ لكُلِّ خصلةٍ ممَّا كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحُبًّا، وفيه جهادًا بمعرفتهم بضِدِّه» [«مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم ((2) / (288))]؛، واقتفى صراطَهم المستقيمَ الرعيلُ الأوَّلُ مِنْ أتباعهم؛ فأقاموا الحقَّ وأشادوا ركائزَه؛ فأضاءُوا نورَه، فسارَتْ به ركائبُه، دون تقديسٍ للرجال، أو تعصُّبٍ للآباء، أو تشبُّهٍ بالأعداء، أو اتِّباعٍ للبِدَعِ والأهواء؛ فشَرْعُ اللهِ أَعْظَمُ وأَحَبُّ إليهم مِنْ أَنْفُسِهم، وأجَلُّ مِنْ أَنْ يُقدَّمَ عليه قولُ كائنٍ مَنْ كان مِنَ البشر، وأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُعارِضَه رأيٌ أو قياسٌ أو نظرٌ أو استدلالٌ؛ فهُدُوا ـ بفضل الله ـ إلى الطيِّب مِنَ القول وهُدُوا إلى صراط الحميد.
وسيكون الحديث في سبعة أمور كالتالي:
1 – نظر الناس والفِرق لضعف المسلمين (بين الأمراض والأعراض)
فإن ضعف أمتنا، وتغلب الأعداء علينا مصيبة عظيمة وبلاء جسيم يَجب علينا أن نسعى في إزالته، وهذا لا يتحقق غاية التحقيق إلا بحسن تشخيصه، وألا يَخلط في تشخيصه بين المرض والعَرَض.
فبسبب هذا؛ سنعرض أسباب ضعف المسلمين وسبيل الخلاص؛ لعلها تكون سبباً لتشخيص داء الأمة الحقيقي، وعليه يشخص دواء ناجح يرفع عنها داءها ومرضها.
وقبل هذا أذكر ما حصل من خلط في أرض الساحة الدعوية بين المرض والعرض:
فقالت طائفة: إن المرض هو: مكر الأعداء، وتغلبهم.
فعليه ظنت الدواء: إشغال المسلمين بالعدو، ومخططاته، وأقواله، وتصريْحَاته.
وظنت طائفة ثانية؛ أن المرض: تسلط الحكام الظلمة في بعض الدول الإسلامية.
فعليه ظنت الدواء: إسقاط هؤلاء الحكام، وشحن نفوس الناس تجاههم.
وظنت طائفة ثالثة؛ أن المرض: تفرق المسلمين في الأبدان.
فعليه ظنت الدواء: جمعهم، وتوحيدهم؛ ليكثروا.
وظنت طائفة رابعة؛ أن المرض: ترك الجهاد.
فعليه ظنت الدوء: رفع راية الجهاد، وقتال الكفار شرقاً وغرباً.
وكل هؤلاء مخطئون في تشخيص الداء بصريح القرآن والسنة فضلاً عما ظنوه دواء.
ووجه خطأ الطائفة الأولى: أننا إذا اتقينا الله لا يضرنا كيد الأعداء، قال ـ تعالى ـ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}، وقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}.
وأثر هذا الخطأ أنهم أشغلوا أنفسهم وغيرهم من شيب وشباب الإسلام بالسياسة (تتبع الصحف والمجلات والقنوات والإذاعات)، التي لا تخرج عن كونها نقلاً غير مصدق، إما بطريق كافر أو فاسق، أو ظنون لا يبنى عليها حكم.
أما النقل غير المصدق فقال الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، وما أكثر ما تبين لنا الأحداث القريبة كذب الإعلام، وكل يسخر إعلامه في خدمته وخدمة من ينصر.
أما التخمينات والظنون فأمرنا الله بتركها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وما أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((إياكم والظن؛ فإنه أكذب الحديث)).
ومن العجيب أنه قد أثبتت الأحداث فشل أصحاب فقه الواقع المحدث (السياسة)، وما أخبار حرب العراق للكويت والسعودية وفشل الدعاة أصحاب فقه الواقع في تشخيصه والأحكام التي بنوها عليه عنا ببعيد!!!
ووجه خطأ الطائفة الثانية: ليس الخطأ الثاني، وضع الخطأ كله على الحكام قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، فليس الحكام ـ إذن ـ الداء، بل الداء المحكومون أنفسهم.
قال ابن القيم في “مفتاح دار السعادة” (2/ 177 – 178):
“وتأمل حكمته ـ تعالى ـ في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم:
– فإن استقاموا؛ استقامت ملوكهم.
– وإن عدلوا؛ عدلت عليهم.
– وإن جاروا؛ جارت ملوكهم وولاتهم.
– وإن ظهر فيهم المكر والخديعة؛ فولاتهم كذلك.
– وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها؛ منعت ملوكهم وولاتهم مالهم عندهم من الحق، وبخلوا بها عليهم.
– وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم؛ أخذت منهم الملوك ما لا يستحقونه، وضربت عليهم الْمُكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فَعُمَّالُهم ظهرت في صور أعمالهم.
وليس في الحكمة الإلهية أن يولَّى على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم.
وَلَمَّا كان الصدر الأول خيار القرون وأبرها؛ كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شيبت لهم الولاة، فحكمة الله تأبى أن يولِّي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية، وعمر بن عبد العزيز، فضلاً عن مثل أبى بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكلا الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها” اهـ.
وأثر هذا الخطأ إشغال الناس بأخطاء الحكام؛ لزعزعة الثقة بهم؛ ليتمكنوا من الخروج عليهم، وهذا فيه من تفويت مصالح الدين والدنيا على الناس وإزاحة الأمن بإحلال الفوضى والرعب مكانه.
قال ابن تيمية في “منهاج السنة” (3/ 391): “ولهذا؛ كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف ـ وإن كان فيهم ظلم ـ، كما دلت على ذلك الأحاديث المستفيضة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ”، ثم قال: “ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته” اهـ.
ووجه خطأ الطائفة الثالثة: أن الكثرة وتوحيد الصفوف مع الذنوب لا تنفع؛ كما قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً}.
ومن الذنوب: توحيد الصفوف مع المبتدعة من الصوفية والمعتزلة؛ لأن الواجب تجاههم الإنكار عليهم، وأقل أحوال الإنكار القلبي مفارقتهم لا مجالستهم؛ قال ـ تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ}.
فمن أعظم سيما أهل السنة عداء أهل البدع وبغضهم، وعلى ذلك تواترت كلماتهم المسطورة في كتب الاعتقاد المعروفة.
ووجه خطأ الطائفة الرابعة: أنها طالبت الأمة بالجهاد في وقت ضعفها، وهذا مِمَّا يرديها أرضاً ويزيد تسلط الأعداء عليها، لأجل هذا؛ لم يشرع الله الجهاد لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَمَّا كان في مكة؛ لأنه يضر أكثر مما ينفع، ومن هنا تعلم خطأ المقولة التي يرددها المؤسس الأول لجماعة الإخوان المسلمين حسن البنا: “نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”، وهي من الأسس التي قامت عليها هذه الجماعة، لذا؛ ترى حسناً البنا وأتباعه طبقوها عملياً مع الرافضة والصوفية وغيرهما.
وأثر هذا الخطأ تضييع معتقد السلف رويداً رويداً ليحل مكانها الاعتقادات البدعية، وإحلال الشرك مكان التوحيد.
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين: “ولهذا؛ لو قال لنا قائل: الآن لماذا لا نحارب أمريكا وروسيا وفرنسا وانجلترا؟! لماذا؟! لعدم القدرة؛ الأسلحة التي قد ذهب عصرها عندهم هي التي في أيدينا، وهي عند أسلحتهم بمنزلة سكاكين الموقد، عند الصواريخ ما تفيد شيئاً، فكيف يمكن أن نقاتل هؤلاء؟
ولهذا أقول: إنه من الحمق أن يقول قائل: أنه يجب علينا أن نقاتل أمريكا وفرنسا وإنجلترا وروسيا، كيف نقاتل؟ هذا تأباه حكمة الله ـ عز وجل ـ، ويأباه شرعه، لكن الواجب علينا أن نفعل ما أمر الله به عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.
هذا الواجب علينا أن نعدَّ لَهُم ما استطعنا من قوة، وأهم قوة نعدها هو الإيمان والتقوى … ” اهـ[شرح بلوغ المرام من كتاب الجهاد، الشريط الأول، الوجه (أ)].
وبعد هذا كله، لقائل أن ينادي: قد أبنت الأخطاء في تشخيص داء أمتنا، فما التشخيص الصحيح المبني على كتاب ربِّنا وصحيح سنة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟
فيقال: تواترت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في أن المصائب التي تنزل بالعباد بسبب ذنوبهم؛ قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قال ابن تيمية في “الجواب الصحيح” (6/ 450): “وحيث ظهر الكفار؛ فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، كما قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} ” اهـ.
وقال في “مجموع الفتاوى” (11/ 645): “وأما الغلبة فإن الله تعالى قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة، كما يديل المؤمنين على الكافرين، كما كان يكون لأصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع عدوهم، لكن العاقبة للمتقين؛ فإن الله يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.
وإذا كان في المسلمين ضعفٌ، وكان عدوهم مستظهراً عليهم؛ كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم؛ إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطناً وظاهراً، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطناً وظاهراً؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}، وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ” اهـ.
وقال ابن القيم في “مدارج السالكين” (2/ 240): “فلو رجع العبد إلى السبب والموجب لكان اشتغاله بدفعه أجدى عليه، وأنفع له من خصومة من جرى على يديه، فإنه وإن كان ظالماً، فهو الذي سلطه على نفسه بظلمه، قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}. فأخبر أن أذى عدوهم لهم، وغلبتهم لهم: إنما هو بسبب ظلمهم. وقال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ” اهـ.
وقال في “إغاثة اللهفان” (2/ 182): “وكذلك النصر والتأييد الكامل، إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، وقال: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}.
فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر، والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}. ويجيب عنه كثير منهم: بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلاً في الآخرة، ويجيب آخرون: بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلاً في الحجة.
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله – تعالى -.
فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفي، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهراً وباطناً، وقد قال تعالى للمؤمنين: {وَلا تَهنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التي هي جند من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم، إذ كانت لغيره، ولم تكن موافقة لأمره” اهـ.
وإن من أعظم المصائب والبلايا: تغلب الأعداء وضعف المسلمين، فمن هذا يظهر جلياً ما يلي:
أن الداء والمرض هو: تقصير المسلمين في دينهم، ومخالفتهم لشريعة نبيهم.
ورأس ذلك: تحقيقهم للتوحيد حق الله على العبيد.
وإن في تحقيق التوحيد – إفراد الله بالعبادة، وإثبات أسمائه وصفاته – فوائد عظيمة في الدنيا والآخرة، منها:
1 – فشو الأمن، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، فَسَّرَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: الشرك، فإقامة التوحيد ونشره من أعظم أسباب الأمن.
2 – النجاة من النار، أخرج الشيخان في حديث عتبان أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)).
3 – إدخاله الجنة، أخرج الشيخان عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)).
4 – أن القيام بالتوحيد الحق سبب لصلاح الظاهر، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي: في الدنيا والآخرة، وهداية الدنيا تقتضي صلاح الباطن والظاهر.
وإن الدواء والشفاء هو: إرجاعهم إلى دينهم الحق.
وأعراض هذا الداء هو: غلبة الكفار، وتسلطهم، وتسليط الظلمة على بعض دول المسلمين.
ألا ترى إلى الشرك كيف ضربت أطنابه، ورفعت راياته في أكثر العالم الإسلامي؟!
وألا ترى إلى التوحيد كيف يحارب في العالم الإسلامي كله خلا هذه الدولة المباركة أعزها الله بالإيمان ـ التي تربي أبناءها على التوحيد جزى الله حكامها وعلماءها كل خير. والآن ولله الحمد تحالف لنصرة المظلوم.
فإذا كان هذا حال العالم الإسلامي مع أعظم ذنب يعصى الله به “الشرك الأكبر”، فكيف نريد نصراً وعزاً؟!
ناهيك عن المعاصي الشبهاتية الأخرى والشهوانية فهي السائدة الظاهرة في أكثر العالم الإسلامي، فإذا كنا صادقين، ولأمتنا راحمين، فلا نشتغل بالعرض عن علاج الداء، وهو إرجاعهم إلى دينهم.
2 – أسباب ضعف المسلمين
مقدمة في أهم أسباب الضعف والانحراف عن المنهج الصحيح:
هذا، وكان
– لدخولِ كثيرٍ مِنَ الأعاجم مِنْ أهل الدياناتِ الأخرى الإسلامَ،
– واختلاطِهم بالمسلمين بعد الفتوحات الإسلامية،
– واتِّساعِ رقعة العالَمِ الإسلاميِّ. الأثرُ السلبيُّ البالغُ في ضعفِ اللغة العربية والجهلِ بمُصْطلَحاتها وأسرارِها بسبب العجمة المُهْلِكة قال الحسن البصريُّ ـ رحمه الله: «إِنَّمَا أَهْلَكَتْكُمُ العُجْمَةُ» [انظر: «صون المنطق» للسيوطي ((1) / (42))]؛ فنَتَجَ عن
– سوءِ فهمِ اللسان العربيِّ اضطرابٌ في فهمِ معاني نصوص الكتاب والسنَّة والمسائلِ المتعلِّقة بها مِنْ جهةٍ،
– وسهَّل ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ انتشارَ ما كانوا عليه قبل إسلامهم مِنْ مُعْتَقَداتٍ وتشريعاتٍ ومَذاهِبَ مُخالِفةٍ ـ في مفاهيمها ومَناهِجِها ـ للإسلام ومَقاصِدِه الشرعية،
– ثمَّ جَدَّ في المجتمع المسلم الفسيحِ فِتَنٌ عظيمةٌ، ومِحَنٌ مَقِيتةٌ، وأحداثٌ سياسيةٌ كبرى هزَّتْ كيانَه وصدَّعَتْ صفوفَه، وتَبَلْوَرَ فيها الجدلُ العقديُّ والسياسيُّ العقيم،
– وانقلب ـ فيما بعدُ ـ إلى تفرُّقٍ عَقَديٍّ، وصراعٍ دمويٍّ عكَّرَ صفوَ حياةِ المسلمين ولبَّس عليهم أَمْرَ دِينِهم، كان مِنْ ورائِه خُلُوفٌ ظَهَرَتْ فيهم البِدَعُ والضلالات؛ فـ {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم]، ويأتي في طليعةِ الضلالات التي ظهَرَتِ:
أ – الغُلُوُّ في الدِّين الذي يُمثِّلُه مذهبُ الخوارج والشيعة والمرجئة.
فالخوارج بفِرَقِهم المتعدِّدة غَلَوْا في فهمِ آيات الوعيد وأَعْرَضوا عن آيات الرجاء والوعدِ بالمغفرة والتوبة، وكان مِنْ نتيجةِ غُلُوِّ الخوارج: اجتماعُهم على تكفيرِ عثمان وعليٍّ رضي الله عنهما، وأصحابِ الجَمَل والحَكَمَين، ومَنْ رَضِيَ بالتحكيم وصوَّبَ الحَكَمين أو أحَدَهما، وظهورُ مبدإ الخروج على السلطان الجائر، وإجماعُهم أنَّ كُلَّ كبيرةٍ كفرٌ إلَّا النَّجَدَاتِ فإنها لا تقول بذلك.
وبالمُقابِلِ فقَدْ كان الغُلُوُّ ـ أيضًا ـ أحَدَ الأسبابِ في ظهور الشيعة الروافض، تَجَسَّدَ ـ ابتداءً ـ في حامِلِ لواءِ الغُلُوِّ فيها: عبدِ الله بنِ سَبَإٍ اليهوديِّ، فقَدْ غَالَى في عليٍّ رضي الله عنه وادَّعى له الوصيَّةَ بالخلافة، ثمَّ غَالَى فيه حتَّى رَفَعَه إلى مرتبة الألوهية، ثمَّ تعدَّدَتْ ـ فيما بَعْدُ ـ فِرَقُ الشيعةِ وإِنِ اختلفَتْ مَقالاتُهم المُحْدَثةُ إلَّا أنها وَرِثَتْ مُخلَّفاتِ ابنِ سَبَإٍ في القول بإمامةِ عليٍّ رضي الله عنه وخلافتِه نصًّا ووصيةً، ثمَّ راجَتْ بدعةُ الشيعة ـ بعدها ـ في القول بالوصيَّة والرجعة والغَيْبة، وهكذا بَقِيَ خطُّ التشيُّع مُسْتمِرًّا في الانحراف عن الجادَّة حتَّى بَلَغَ الغُلُوُّ فيهم ذروتَه في رفعِ الأئمَّة إلى درجة النبوَّة، بل إلى مَقام الألوهية.
ثمَّ تَلَا ذلك غُلُوُّ المُرْجِئةِ في الظهور كرَدِّ فعلٍ مُقابِلٍ لغُلُوِّ الخوارج في تكفيرِ مُرْتَكِبِ الكبيرة؛ ففَصَلُوا بين الإيمان والعمل، وأخَّروا العملَ عن الإيمان، وقالوا: لا تضرُّ مع الإيمان معصيةٌ ولا ينفع مع الكفر طاعةٌ؛ فكان غُلُوُّهم في فهمِ آيات الوعد والرجاء والبشارة والعمل بها، والإعراضِ عن آيات الوعيد والإنذار بالتأويل والردِّ.
ومِنْ أسباب ظهورِ الضلالات ـ أيضًا ـ وما انجرَّ عنها مِنَ الفتن:
ب – تعريبُ كُتُبِ الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية مِنْ كُتُبِ العقائد الوثنية وغيرِها؛ فاشتغلَتْ بها طائفةٌ مِنْ عُقَلاءِ المسلمين قراءةً وتحليلًا ومُناقَشةً؛ فانخدعوا بمَناهِجِها ومُقرَّراتِها في البحث، ووَلِعُوا بالعلوم الكلامية والمنطقية اليونانية، وأُشْرِبَتْ قلوبُهم حُبَّها؛ فانعكسَتْ آثارُها السَّلبيةُ في إقحام الفلسفة في الحياة الفكرية للعالَمِ الإسلاميِّ، والاشتغالِ بها عن التبصُّر في نصوص الوحيين وما عليه السلفُ الصالح، واتِّخاذِها ميزانًا للحقائق الشرعية؛ الأمرُ الذي أدَّى إلى إضعافِ أثرِ العقيدة الإسلامية في النفوس إلى حَدٍّ كبيرٍ، وانحرافٍ ظاهرٍ في مسائل الاعتقاد بما لاقَتِ الآياتُ القرآنية المُعارِضةُ للكُتُبِ المُتَرْجَمةِ مِنْ شحنةٍ عارمةٍ مِنَ التبديل والتأويل والتحريف، كما تعرَّضَتِ السنَّةُ النبويةُ ـ هي الأخرى ـ لأنواعِ الانتحال والوضع والردِّ والإبطال؛ حتَّى يتمَّ لهم التوافقُ بينها وبين المقرَّرات الفلسفية والقواعدِ المنطقية المُسْتَحْدَثة.
فأَفْرَطوا في تحكيمِ العقل في قضايَا العقيدة، وبنَوْا إثباتَ المَطالِبِ الإلهية على الأقيسة وإعمالِ البراهين المنطقية، وقدَّموا العقلَ على الشرع، وأوَّلوا النصوصَ الشرعية بأنواع المَجازات، وما أعقب ذلك مِنَ المُؤثِّرات الأخرى؛ فكان أَنْ تَمَيَّزَ الخلفُ بهذه القواعد الكبرى التي تَنَكَّروا فيها لسَلَفِهم الصالح، ودنَّسُوا عقائدَهم بأدرانِ عِلْمِ الكلام اليونانيِّ وتُرَّهاتِ الفلاسفة التائهين، وانحرفوا بها عن سواء السبيل، سواءٌ مِنْ أنصار العقل كالجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج، أو مِنْ أرباب العاطفة ونحوِهم ممَّنْ دلَّتْ نصوصُ الوحيين وإجماعُ سَلَفِ الأمَّةِ على ذَمِّ طرائِقِهم ومسالِكِهم العَقَدية والسلوكية، وقد جاءَ التحذيرُ القرآنيُّ مِنْ مُخالَفةِ سبيلِ الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ في قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء]. [انظر: الدعوة السلفية السُّنِّيَّة، وعَقَباتٌ في طريق النهوض بها] [وانظر أيضًا: أسباب ضعف المسلمين أمام عدوهم ووسائل العلاج لذلك، و تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله … }، و أسباب نصر الله للمؤمنين على أعدائهم، وهذه الثلاث كلها للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى].
وأما أسباب الضعف بشكل نقاط، فهو كالتالي:
– الإعراض عن تعلم الدين وتفاصيله، وجهلهم بالمقابل ما عليه المخالفون لأهل الإسلام.
– ضعف الإيمان، ضعف الأمة ضعف الإيمان في قلوبنا.
إن الإيمان لما ضعف في قلوبنا، قل الدافع للعمل لهذه الأمة والنهوض بها، فضعف الإيمان يبعث الانهزامية في قلب صاحبه
– وضعف التمسك بالدين، و إضاعة الصلوات واتباع الشهوات.
– والاقتناع من غالب المسلمين بمجرد الانتماء إلى الإسلام دون التحقيق بتعاليمه، فضعف فهمنا لحقيقة الإسلام وأهدافه ومقاصده، الذي لو فهمناه حق الفهم لكنا أقوى الأمم وأعزها على الإطلاق، فالإسلام دين ودوله، وعمل وجهاد، وتعاون وإخاء، ورحمة وقوة, الإسلام اهتم بجميع جوانب الحياة العسكرية, والاقتصادية, والسياسية, والاجتماعية, وغيرها من الجوانب.
– التفرق والاختلاف وعدم جمع الكلمة وعدم الاتحاد والتعاون
– كثرة الفتن والمغريات. حيث توفرت أفلام الجنس وأصوات المغنين والفنانين والفنانات، وصور النساء العاريات أو شبه العراة؛ وذلك سبب الانهماك في هذه المحرمات، فضعف الإيمان في القلوب.
– انفتاح الدنيا على أغلب الناس، وانشغالهم بجمع الحطام الفاني والإعراض عن العلم والعمل، والسعي وراء جمع المال وتنمية التجارات والمكاسب؛ فكان سببا لنسيان حق الله -تعالى- وتقديم الشهوات وما تتمناه النفس، مع توفر الأسباب والتمكن من الحصول عليها.
– حب الدنيا وكراهية الموت.
وإن الحياة الدنيا بزخرفها طغت على قلوب كثير من المسلمين اليوم، وإنه الوهن الذي جاء في الحديث. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا، وكراهية الموت))، فكثير من المسلمين اليوم يكره الجهاد في سبيل الله، ويحب البقاء في هذه الدنيا.
– ضعف الدعاة إلى الإسلام الحقيقي، وقلة ما معهم من العلم الصحيح، ورضاهم بأقل عمل، مع مشاهدة كثرة الفساد وتمكن المعاصي وكثرة من يتعاطاها على مرأى ومسمع من الجماهير!
3 – أسباب النصر
وإن أعظم سمات من أراد النصر العودة إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه، ويظهر هذا على النحو التالي:
أ – مقدمة في أسباب النصر.
أولاً: نصر الله للمسلمين على أعدائهم من الكفار المحاربين لهم وعدُ حقٍّ، وقولُ صدقٍ، فقد وعد الله تعالى به المؤمنين، وأخبرهم أنه قريب، وإنما يؤخره تعالى لحكَم جليلة، ومن كان قوي الإيمان، صادق اليقين فسيعلم أن ذلك يكون قريباً كما أخبر به الرب تعالى؛ قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَاسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة/ 214].
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله:
” فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختبروا به من ” البأساء “، وهو شدة الحاجة والفاقة، ” والضراء “، وهي العلل والأوصاب، ولم تزلزلوا زلزالهم، يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ، حتى يستبطئ القومُ نصرَ الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه، فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا ” انتهى. [“تفسير الطبري” (4/ 288)].
وذكر الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – بعض الفوائد المستقاة من الآية:
” ومنها:
1. أنه ينبغي للإنسان ألا يسأل النصر إلا من القادر عليه، وهو الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: {متى نصر الله}. 2. أن المؤمنين بالرسل منهاجهم منهاج الرسل، يقولون ما قالوا؛ لقوله تعالى: {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله}، يتفقون على هذه الكلمة استعجالاً للنصر.
3. تمام قدرة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: {ألا إن نصر الله قريب}.
- حكمة الله حيث يمنع النصر لفترة معينة من الزمن، مع أنه قريب.
5. أن الصبر على البلاء في ذات الله عزّ وجلّ من أسباب دخول الجنة؛ لأن معنى الآية: اصبروا حتى تدخلوا الجنة.
6. تبشير المؤمنين بالنصر ليتقووا على الاستمرار في الجهاد ترقباً للنصر المبشرين به ” انتهى.
[“تفسير سورة البقرة” (3/ 42)].
ثانياً: نصر الله تعالى القريب ليس لكل من ادعى الإيمان، وزعم الإسلام، إنما هو لمن حقق الإيمان بقلبه، وعمل بالإسلام بجوارحه؛ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور/55، 56].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
” هذا وعدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمةَ الناس، والولاةَ عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك، وله الحمد والمنَّة، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة، وخيبر، والبحرين، وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مَجُوس هَجَر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية – وهو المقوقس -، وملوك عُمان، والنجاشي ملك الحبشة، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة، رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة: قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ” انتهى. [“تفسير ابن كثير” (6/ 77)].
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: ” هذا من أوعاده الصادقة، التي شوهد تأويلها ومخبرها، فإنه وعدَ من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام، الذي فاق الأديان كلها، ارتضاه لهذه الأمة، لفضلها وشرفها ونعمته عليها، بأن يتمكنوا من إقامته، وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة، في أنفسهم، وفي غيرهم، لكون غيرهم من أهل الأديان وسائر الكفار مغلوبين ذليلين، وأنه يبدلهم من بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم لا يتمكن من إظهار دينه، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار، وكون جماعة المسلمين قليلين جدّاً بالنسبة إلى غيرهم، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس واحدة، وبغوا لهم الغوائل.
فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث يعبدون الله، ولا يشركون به شيئاً، ولا يخافون أحداً إلا الله، فقام صدر هذه الأمة من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقون على غيرهم، فمكَّنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام، فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح: فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين، ويديلهم في بعض الأحيان: بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح” انتهى.
[“تفسير السعدي” (ص/573)].
وانظر أيضا: [“أضواء البيان” للشنقيطي (6/ 36)]، [“فتح القدير” للشوكاني (4/ 69)].
ثالثاً: صدق الناس في إيمانهم بربهم، وإقامتهم لشرعه، دليل على ما يكون من حالهم، حين يمكن الله تعالى لهم، وهؤلاء هم الذي وعدهم الله تعالى بالنصر والتمكين؛
قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج/ 41].
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – بعد أن ساق آيات فيها بيان نصر الله تعالى للمؤمنين -: ” وفي قوله تعالى: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} [الحج/ 41] الآية: دليل على أنه لا وعدَ من الله بالنصر إلا مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فالذين يمكِّن الله لهم في الأرض، ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر: فليس لهم وعدٌ من الله بالنصر؛ لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه: فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومَن هذا شأنه: فلا عقل له.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} العزيز: الغالب الذي لا يغلبه شيء، كما قدمناه مراراً بشواهده العربية.
وهذه الآيات تدل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأن الله نصرهم على أعدائهم؛ لأنهم نصروه، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وقد مكَّن لهم، واستخلفهم في الأرض، كما قال: {وَعَدَ الله الذين آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض}.
والحق: أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل، والعلم عند الله تعالى ” انتهى. [“أضواء البيان” (5/ 272)].
ب – أسباب النصر.
وبالإضافة لما سبق بيانه: فإنه يجب أن يُعلم أن للنصر أسبابه، ومن أراد النصر دون القيام بأسبابه فهو مخالف للشرع والعقل.
فيقال: ” من المعلوم يقينًا أن النصر على الأعداء له أسباب تحققه للمسلمين على عدوهم بإذن الله تعالى، ومن هذه الأسباب ما يأتي:
1. الإيمان بالله – تبارك وتعالى – والعمل الصالح؛
الإيمان أول مقومات التمكين والنصر، وهو رأسها وبدونه لا قيمة لغيره من المقومات والأدوات، ومن هنا كان تقديم المولى سبحانه وتعالى له على غيره.
وقد عد الله – تبارك وتعالى – المؤمنين بالنصر المبين على أعدائهم وذلك بإظهار دينهم، وإهلاك عدوهم وإن طال الزمن قال – تعالى -: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، وقال – تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، فعلق الله – تبارك وتعالى – الوعد بالتمكين هنا بأربعة أمور هي:
1 – وجود الجماعة المؤمنة وتحقق الإيمان فيها.
2 – عمل الصالحات: من القيام بشرائع الدين، وتنفيذ أوامر الله عملاً وليس ادعاءً فقط.
3 – التزام نهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين لقوله: {مِنْكُمْ}، فالخطاب لهم، وينسحب على من نهج نهجهم.
4 – انتفاء الشرك في العبادة قال الله – تبارك وتعالى -: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
والمتدبر لكتاب الله تعالى يجد أن الله عز وجل حين يعد المؤمنين بالنصر والتمكين يضع نصب أعنيهم شرطاً أساسياً ألا وهو الإيمان، يقول تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. فالاستعلاء صفة المؤمنين، ولكن أداته محددة واضحة: {إن كنتم مؤمنين} فبالإيمان يكون النصر حليفاً للمسلمين.
2. نصر دين الله تعالى.
ومن أعظم أسباب النصر نصر دين الله – تبارك وتعالى -، والقيام به قولاً، واعتقاداً، وعملاً، ودعوةً
فالعمل الصالح: يأتي العمل الصالح في المرتبة التالية، بعد الإيمان في مقومات النصر والتمكين كما جاء في قول الله: { … آمنوا منكم وعملوا الصالحات .. }. فالعمل الصالح يجعل الأمة تكون في رفعة، والعمل: هو فعل الشيء عن قصد. والصالح: هو النافع. مأخوذ من الصلاح وهو الاستقامة والسلامة من العيب.
3. التوكل على الله، والأخذ بالأسباب.
التوكل على الله مع إعداد القوة من أعظم عوامل النصر.
قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران/ 159.
ولابد من التوكل من الأخذ بالأسباب؛ لأن التوكل يقوم على ركنين عظيمين:
الأول: الاعتماد على الله والثقة بوعده ونصره تعالى.
الثاني: الأخذ بالأسباب المشروعة؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} الأنفال/ 60.
4. المشاورة؛ قال سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} الشورى/ 38.
5. الثبات عند لقاء العدو.
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أيها الناس، لا تمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)).
6. الشجاعة والبطولة والتضحية في سبيل الله – تبارك وتعالى -:
قال – تعالى -: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}، فعن على – رضي الله عنه -، قال: “لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأس” [رواه أحمد في المسند برقم (654)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير حارثة بن مضرب؛
7. الدعاء وكثرة الذِّكر.
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة/ 186].
8. طاعة الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} النور/ 52.
9. الاجتماع وعدم النزاع.
قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال/ 46.
10. الصبر والمصابرة.
لابد من الصبر في الأمور كلها، ولا سيما الصبر على قتال أعداء الله ورسوله.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران/ 200].
11. الإخلاص لله تعالى.
لا يكون المقاتل والغازي مجاهداً في سبيل الله إلا بالإخلاص؛
قال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} الأنفال/ 47.
12. الرغبة فيما عند الله تعالى.
مما يعين على النصر على الأعداء هو: الطمع في فضل الله، وسعادة الدنيا، والآخرة.
13. إسناد القيادة لأهل الإيمان.
من أسباب النصر: تولية قيادة الجيوش، والسرايا، والأفواج، والجبهات، لمن عُرفوا بالإيمان الكامل، والعمل الصالح، ثم الأمثل فالأمثل.
قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات/ 13.
14. التحصن بالدعائم المنجيات من المهالك والهزائم ونزول العذاب.
وتتلخص في اتباع الدعائم المنجيات الآتية:
أولاً: التوبة، والاستغفار من جميع المعاصي والذنوب، كبيرها، وصغيرها، بشروطها
ثانياً: تقوى الله تعالى، وهي أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك.
ثالثاً: أداء جميع الفرائض، وإتباعها بالنوافل.
رابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامساً: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع الاعتقادات، والأقوال، والأفعال.
سادساً: الدعاء، والضراعة ” انتهى من [انظر: الجهاد في سبيل الله، فضله، ومراتبه، وأسباب النصر على الأعداء، للقحطاني (ص21 – 30)] باختصار.
15. العلم، فالعلم من أهم مقومات النصر والتمكين للأمة الإسلامية؛ لأن من المستحيل أن يمكن الله تعالى لأمة جاهلة، متخلفة عن ركاب العلم. فالعلم هو الذي يجعل المسلمين أقوياء في جميع جوانب الحياة, وبالعلم تكون قوتهم في الجانب العسكري، وبالعلم تكون قوتهم في الجانب الاقتصادي, وكذلك السياسي وغيرها من الجوانب؛ لأن الجاهل لا يستطيع أن يعمل شيئاً. فالجهل آفة كبيرة وهو سبب في ضعف المسلمين ورجوعهم إلى الوراء.
16. عدم العجب والاغترار بالقوة والكثرة:
فإن العجب والاغترار بالنفس والقوة والعدة والعتاد سبب في وقوع الهزيمة وحلولها بمن هذا حاله قال الله – تبارك وتعالى -: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}، فالنصر ليس بكثرة العدة والعتاد فقد قال الله – تبارك وتعالى -: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}،
========
فائدة:
في أسباب الانحراف عن (العقيدة الصحيحة) وسبل التوقي في هذا الانحراف لفضيلة الشيخ: صالح بن فوزان بن عبد الله آل فوزان، قال حفظه الله تعالى:
” الانحراف عن العقيدة الصحيحة له أسباب تجب معرفتها، من أهمها:
1ـ الجهل بالعقيدة الصحيحة: بسبب الإعراض عن تعلمها وتعليمها، أو قلة الاهتمام والعناية بها؛ حتى ينشأ جيل لا يعرف تلك العقيدة، ولا يعرف ما يخالفها ويضادها؛ فيعتقد الحق باطلا، والباطل حقا، كما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: ” إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية “.
2ـ التعصب لما عليه الآباء والأجداد، والتمسك به وإن كان باطلا، وترك ما خالفه وإن كان حقا؛ كما قال الله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} [البقرة/170].
3 ـ التقليد الأعمى: بأخذ أقوال الناس في العقيدة من غير معرفة دليلها، ومعرفة مدى صحتها، كما هو الواقع من الفرق المخالفة من جهمية ومعتزلة، وأشاعرة وصوفية، وغيرهم، حيث قلدوا من قبلهم من أئمة الضلال؛ فضلوا وانحرفوا عن الاعتقاد الصحيح.
4ـ الغلو في الأولياء والصالحين، ورفعهم فوق منزلتهم؛ بحيث يعتقد فيهم ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب النفع، ودفع الضر، واتخاذهم وسائط بين الله وبين خلقه في قضاء الحوائج وإجابة الدعاء؛ حتى يؤول الأمر إلى عبادتهم من دون الله، .. ، كما حصل من قوم نوح في حق الصالحين حين قالوا: {لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} [نوح/23].
وكما هو الحاصل من عباد القبور اليوم في كثير من الأمصار.
5ـ الغفلة عن تدبر آيات الله الكونية، وآيات الله القرآنية، والانبهار بمعطيات الحضارة المادية؛ حتى ظنوا أنها من مقدور البشر وحده؛ فصاروا يعظمون البشر، ويضيفون هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده، كما قال قارون من قبل: {قال إنما أوتيته على علم عندي} [القصص/78] ولم يتفكروا وينظروا في عظمة من أوجد هذه الكائنات، وأودعها هذه الخصائص الباهرة {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات/96]
6ـ أصبح البيت في الغالب خاليا من التوجيه السليم؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) [أخرجه الشيخان] فالأبوان لهما دور كبير في تقويم اتجاه الطفل.
7ـ إحجام وسائل التعليم والإعلام في غالب العالم الإسلامي عن أداء مهمتهما، فقد أصبحت مناهج التعليم في الغالب لا تولي جانب الدين اهتماما كبيرا، أو لا تهتم به أصلا، وأصبحت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في الغالب أداة تدمير وانحراف، أو تعنى بأشياء مادية وترفيهية، ولا تهتم بما يقوم الأخلاق، ويزرع العقيدة الصحيحة، ويقاوم التيارات المنحرفة؛ حتى ينشأ جيل أعزل أمام جيوش الإلحاد لا يدان له بمقاومتها.
وسبل التوقي في هذا الانحراف تتلخص فيما يلي:
1ـ الرجوع إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتلقي الاعتقاد، كما كان السلف الصالح يستمدون عقيدتهم منهما، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، مع الاطلاع على عقائد الفرق المنحرفة، ومعرفة شبههم للرد عليها والتحذير منها؛ لأن من لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه.
2ـ العناية بتدريس العقيدة الصحيحة – عقيدة السلف الصالح – في مختلف المراحل الدراسية، وإعطاؤها الحصص الكافية من المنهج، والاهتمام البالغ في تدقيق الامتحانات في هذه المادة.
3ـ أن تقرر دراسة الكتب السلفية الصافية، ويبتعد عن كتب الفرق المنحرفة، كالصوفية والمبتدعة، والجهمية والمعتزلة، والأشاعرة والماتوريدية، وغيرهم إلا من باب معرفتها لرد ما فيها من الباطل والتحذير منها.
4ـ قيام دعاة مصلحين يجددون للناس عقيدة السلف، ويردون ضلالات المنحرفين عنها. [انظر: كتاب عقيدة التوحيد للفوزان، ص (14 – 18) بتصرف يسير].
ومِنْ هذه العَقَبات والعوائق ما يأتي:
أوَّلًا: هيمنة العلمانيةِ المُنْتشِرة في العالَمِ الإسلاميِّ بمَظاهِرِ الحضارة المادِّيَّةِ ذاتِ المفاهيمِ المُناهِضةِ لعقيدة المسلمين، والمناهِجِ المُناوِئةِ لأحكام الدِّين، تلك العلمانيةُ المفروضةُ على أبناءِ أمَّةِ الإسلامِ قائمةٌ على الإلحاد بوجهه الصريحِ وإبعادِ الدِّينِ عن الدولة والحياة [رسالة: «العلمانية، حقيقتُها وخطورتُها»]، بل تسعى إلى هدمِ صَرْحِ الدِّينِ في المجتمع أو إخراجه إخراجًا كاملًا مِنْ مَضامِينِه وقِيَمِهِ، وتعمل على تحطيمِ سدودِ قِيَمِه الأخلاقية التي تحول دون استشراءِ الإباحيَّة والإلحاد؛ فكان هدفُ العلمانيةِ الأوَّلُ هو احتواءَ التربيةِ والتعليمِ مِنْ أجلِ بَعْثِ أجيالٍ لا تعرف الدِّينَ ولا الأخلاق، وساعَدَ سريانَ العلمانيةِ في العالَمِ الإسلاميِّ انحرافُ كثيرٍ مِنَ المسلمين عن العقيدة السليمة، وانتشارُ البِدَعِ والأهواء، وضآلةُ الفقهِ في الدِّين، وانبهارُ المسلمين بتقدُّمِ الغرب الواسع في ميدانِ العلم المادِّيِّ والقُوَّة العسكرية، خاصَّةً بعد ضعفِ شوكة المسلمين واحتلالِ الغرب الغاشم لأراضيه وأوطانِه التي عَمِلَ فيها على إقصاء الإسلام وإبعاده مِنْ واقعِ الحياة وسياسةِ الدولة والحكم، وترسيخِ الركائز العلمانية، وإحلالِ المناهج الإلحادية مَحَلَّها، وتَمكَّنَ الغربُ مِنْ دَعْمِ المخدوعين مِنْ ذوي الثقافات الغربية وأصحابِ الاتِّجاهات المُنْحرِفةِ بمَزاعِمِ الكُفَّارِ بأنَّ الدِّينَ مُعيقٌ للعلم، وأنَّ تَقدُّمَ بلادهم مُتوقِّفٌ على فصلِ الدِّين عن الدولة والحياة، وغالبيةُ المسلمين يجهلون حقيقةَ العلمانية لتَسَتُّرِها بأَقْنِعةٍ مُخْتَلِفةٍ كالوطنية والاشتراكية والقومية وغيرِها مِنَ الأفكار والإيديولوجيات السياسية، كما تختفي العلمانيةُ وراءَ النظريات الهدَّامة كالفرويدية والداروينية التطوُّرية؛ فالعلمانية تجعل القِيَمَ الروحية قِيَمًا سلبيةً، وتفتح
المجالَ لانتشارِ الإلحاد والاغتراب، وإشاعةِ الفواحش والشذوذ والإباحية والفوضى الأخلاقية، ومُحارَبةِ الحدود الشرعية، والاستهانةِ بالسنن، وتدعو إلى تحريرِ المرأةِ تماشيًا مع الأسلوب الغربيِّ الذي لا يُدِينُ العلاقاتِ المحرَّمةَ بين الجنسين؛ الأمرُ الذي ساعَدَ على فَتْحِ الأبواب على مِصْرَاعَيْها للمُمارَساتِ الدنيئة التي أَفْضَتْ إلى هَدْمِ كيان الأسرة وتشتيتِ شَمْلِها، وبهذا النَّمَطِ والأسلوب تُرَبَّى الأجيالُ تربيةً لا دِينيةً في مُجْتمَعٍ يغيب فيه الوازعُ الدِّينيُّ ويعدم فيه صوتُ الضمير الحيِّ، ويَحِلُّ مَحَلَّه هيجانُ الغرائز الدنيويةِ كالمنفعة والطمع والتَّنَازُعِ على البقاء وغيرِها مِنَ المَطالِب المادِّيةِ دون اعتبارٍ للقِيَمِ الروحية، تلك هي العلمانيةُ التي انتشرَتْ في العالَمِ الإسلاميِّ والعربيِّ بتأثير الاستعمار وحَمَلاتِ التنصير والتبشير، وبغفلةٍ مِنَ المغرورين مِنْ بني جِلْدَتِنا الذين رَفَعُوا شِعارَها، ونفَّذُوا مخطَّطاتِ واضِعِيها ومُؤيِّدِيها، الذين لبَّسوا على العوامِّ شُبُهاتٍ ودَعَاوَى غايةً في الضلال.
ثانيًا: اعتمادُ مُعْظَمِ الدراسات والبحوثِ الإسلامية على آراء المُسْتَشْرِقين الذين كان لهم السَّبْقُ في العناية الماكرة بالفِرَقِ المُخالِفَةِ لأهل السنَّةِ وإيجادِ الصِّلَاتِ بين مُخْتَلَفِ مُعْتَقَداتِها مِنْ جهةٍ، وإبرازِ المقالات العَقَدية الخلافية لهذه الفِرَقِ الغالية المُنشقَّة كالخوارج والشيعة الروافض والقَدَريةِ والجبرية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة وفِرَقهم، وبيانِ أنَّ مَصادِرَ مقالاتِها خارجيةٌ مُسْتمَدَّةٌ مِنْ عقائدَ ودياناتٍ قائمةٍ على فلسفاتٍ يونانيةٍ وفارسيةٍ وهندوسيةٍ وغيرِها، ثمَّ تصوير التاريخ الإسلاميِّ مِنْ خلالِ تلك المُعْتقَداتِ الفاسدةِ والآثارِ السلبيةِ مُتمثِّلةً في الجدل والخلاف العقيم، وما تُخلِّفُه مِنِ انقسامٍ وشقاقٍ عريضٍ.
ولم تَحْظَ المدرسةُ السُّنِّيَّةُ السلفيةُ بالقَدْرِ الكافي في دراسةِ منهجها في الاستدلال على أصول الدِّين، ولم تُعْطَ الوجهَ الصافيَ في بيانِ خصائص المنهج السنِّيِّ السلفيِّ ومميِّزاته وطريقته في عَرْضِ العقيدة والنقاش والردِّ على المُخالِفين، بل أظهرَتْ تلك الدراساتُ المَدارسَ السُّنِّيَّةَ والمنهجَ السلفيَّ بصُوَرٍ مُضلِّلةٍ بعيدةٍ عن الحقِّ والإنصاف.
وكثيرٌ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنا سَلَكوا في دراساتهم وبحوثِهم مَسْلَكَ الدراسات الاستشراقية، وتَعمَّقُوا في دراسة المَدارِسِ الفكرية للمُتكلِّمين مِنَ المعتزلة والأشعرية، وكذا مُعْتقَدات الصوفية المُتَفَلْسِفَة، وغيرها:
ـ إمَّا ظنًّا أنَّها دِينُ اللهِ الإسلامُ، وعَمِيَ عليهم المنهجُ الربَّانيُّ الحقُّ وَسَطَ خُزَعْبلات المَناطقة وتُرَّهات الفلاسفة وتَمَحُّلات المُتكلِّمين وشَطَحات الصوفية.
ـ وإمَّا أَنْ تكون الدراساتُ الإسلاميةُ مُتأثِّرةً بالدراسات الاستشراقية، فتعكس ـ في جوهرها ـ تطبيقَ العلمنة على التعليم ومَناهِجِه، وعدَمَ تصفيةِ مَصادِرِه ومَوارِدِه؛ الأمرُ الذي تَبَلْوَرَ في سلوكياتِ بني جِلْدَتِنا في تنشئتهم الجامعية، مُتشبِّعين في ذلك بزخمِ ثقافة القويِّ المتبوع.
ثالثًا: تَقمُّصُ بعضِ الحركات التكفيرية والأحزابِ المشبوهةِ ثوبَ أهل السنَّة والجماعة وتَغَلْغُلُها في الساحة الدعويَّة باسْمِ السلفية الجهادية أو السلفية الحزبية ـ زَعَمُوا ـ وغيرِهما مِنَ الأسماء؛ ليُعْطوا المصداقيةَ لحركاتهم الثورية القائمةِ على نَزْعِ اليد مِنْ طاعة الحاكم، وترويعِ الآمنين، وسَفْكِ الدماء وقَتْلِ الأبرياء، وإتلافِ المُنْشآت وتخريبِ المُمْتلَكات، وإحداثِ الفوضى الاجتماعية والاضطرابات الأمنية لزعزعةِ كيان الدولة المسلمة، ثمَّ نِسْبتها إلى السلفية؛ تشويهًا للحقِّ وتضليلًا للناس، وترسًا للتعمية في مُخادَعةٍ خطَّافةٍ مِنْ أعداء أهل السنَّة لمُغالَطةِ ضُعَفاءِ البصيرة أو القلوب غيرِ الواعية، الفاقدةِ لمَعاييرِ التمييز بين الحقِّ والباطل [انظر جوانبَ الافتراق والتقاطع مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية مِنْ حيثياتٍ عديدةٍ في: الكلمة الشهرية رقم: ((83)) الموسومة ب: «شرف الانتساب إلى مذهب السلف»].
و قد يكون: تَسلُّلُ تقسيماتٍ اصطلاحيةٍ باطلةٍ ابتدعها المُغْرِضُونَ للدعوة السلفية والمُناوِئون لها، وأهلُ أحزاب المَناهِجِ الدعوية وشِيعَتُهم يعملون على تفعيلها في وسط الساحة الدعوية: كتقسيم السلفية إلى: سلفيةٍ وطنيةٍ، أي: المُوالِية للسلطة، وتُقابِلها: السلفية الجهادية، أي: المُعادِية لها؛ وسلفيةٍ تجديديةٍ أي: الداخلة في مُعْترَكِ السياسة والأحزاب، وتُقابِلُها: سلفيةٌ تقليديةٌ وهي السلفية العلمية، ناهيك عن الألقاب والنعوت والمَعايِبِ الكاذبة التي ما أَنْزَلَ اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، وأَكْثَرُها انتشارًا كلمةُ: «الوهَّابية»، ثمَّ صِيرَ بعدها إلى كلمةِ «الجاميَّة» ف «المدخليَّة»؛ كُلُّ ذلك بُغيةَ إضعافِ تأثيرِ الدعوة السلفية في نفوس المَدْعُوِّينَ، وتنفيرِ العامَّة وإبعادِهم عنها، وشَقِّ الصفِّ السلفيِّ؛ جريًا على القاعدة الاستعمارية: «فَرِّقْ تَسُدْ»، قال محمَّد البشير الإبراهيميُّ ـ رحمه الله ـ فاضحًا هذا الأسلوبَ في مُحارَبةِ دعوة الحقِّ بما نصُّه: «يقولون عنَّا: إنَّنا وهَّابيون، كلمةٌ كَثُرَ تَرْدادُها في هذه الأيَّام الأخيرة حتَّى أَنْسَتْ ما قبلها مِنْ كلماتٍ: عبداويِّين وإباضيِّين وخوارج، فنحن ـ بحمد الله ـ ثابتون في مكانٍ واحدٍ وهو مُسْتقَرُّ الحقِّ، ولكنَّ القومَ يصبغوننا في كُلِّ يومٍ بصبغةٍ، ويَسِمُونَنَا في كُلِّ لحظةٍ بِسِمَةٍ، وهُمْ يتَّخِذون مِنْ هذه الأسماء المُخْتلِفةِ أدواتٍ لتنفير العامَّة منَّا وإبعادِها عنَّا، وأسلحةً يُقاتلوننا بها، وكُلَّما كَلَّتْ أداةٌ جاءوا بأداةٍ، ومِنْ طبيعةِ هذه الأسلحةِ الكَلالُ وعدمُ الغَناء، وقد كان آخِرُ طرازٍ مِنْ هذه الأسلحةِ المفلولةِ التي عَرَضوها في هذه الأيَّام كلمةُ: «وهَّابيٍّ»، ولعلَّهم حَشَدوا لها ما لم يحشدوا لغيرها، وحَفَلوا بها ما لم يحفلوا بسواها، ولعلَّهم كافَأوا مُبْتدِعَها بلقبِ: «مُبْدعٍ كبيرٍ»» [«آثار
الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» ((1) / (123))]، وقال ـ رحمه الله ـ ـ أيضًا ـ: «يا قومِ!! إنَّ الحقَّ فوق الأشخاص، وإنَّ السنَّةَ لا تُسمَّى باسْمِ مَنْ أحياها، وإنَّ الوهَّابيِّين قومٌ مسلمون يشاركونكم في الانتساب إلى الإسلام، ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدوده، ويفوقون جميعَ المسلمين في هذا العصرِ بواحدةٍ، وهي: أنهم لا يُقِرُّون البدعة، وما ذَنْبُهم إذا أنكروا ما أَنْكَرَهُ كتابُ اللهِ وسنَّةُ رسوله وتَيسَّرَ لهم مِنْ وسائل الاستطاعة ما قَدَرُوا به على تغيير المُنْكَر؟ أإذا وافَقْنا طائفةً مِنَ المسلمين في شيءٍ معلومٍ مِنَ الدِّينِ بالضرورة وفي تغييرِ المُنْكَرات الفاشيةِ عندنا وعندهم ـ والمُنْكَرُ لا يختلف حكمُه بحكم الأوطان ـ تنسبوننا إليهم تحقيرًا لنا ولهم، وازدراءً بنا وبهم، وإِنْ فرَّقَتْ بيننا وبينهم الاعتباراتُ؛ فنحن مالكيُّون برغم أنوفكم، وهُمْ حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهُمْ في الجزيرة، ونحن نُعْمِلُ في طريق الإصلاح الأقلامَ وهُمْ يُعْمِلون فيها الأقدام، وهُمْ يُعْمِلون في الأضرحة المَعاوِلَ ونحن نُعْمِلُ في بانيها المَقاوِلَ» [المصدر السابق ((1) / (124))].
علمًا أنَّ: «أهل السنَّة السلفيِّين ـ والحمدُ لله ـ لا يُداهِنُون وُلَاةَ الأمر بباطلٍ، ولا يمدحونهم على معصيةٍ بنفاقٍ، ولا يُزيِّنون لهم الباطلَ، ولا يُتاجِرُون بعلمهم، وإنما عُرِفوا بالصدق في مُناصَحةِ الحُكَّام؛ لأنَّ مُناصَحتَهم مُنافِيةٌ للغِلِّ والغِشِّ، كما عُرِفُوا بالصدع بالحقِّ وبيانِه بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة مِنْ غيرِ تعنيفٍ ولا تحريضٍ على الخروج ولا اغتيالٍ ولا تفجيرٍ، ولا يرضَوْن بهذه الأمور إلَّا ما كانَتِ الشدَّةُ والغلظةُ في مجالها الحقِّ الصحيح وبالوجه المشروع» [الكلمة الشهرية رقم: ((83)) الموسومة ب: «شرف الانتساب إلى مذهب السلف»].
كما يَتجاسرُ أهلُ المَناهِجِ الدعويةِ المُخالِفةِ للدعوة السلفية والمُوالون لهم مِنَ الأحزاب وأصحاب الصُّحُفِ وغيرِها على اصطناعِ أخبارٍ مُلفَّقةٍ كاذبةٍ وبياناتٍ مُغْرِضةٍ ونقاشٍ للحقائق هزيلٍ؛ {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: (47)]، وهذا أمرٌ جَرَتْ عليه سُنَّةُ المُبْطِلين الطاعنين في أهل السنَّة السلفيِّين، قال الصابونيُّ ـ رحمه الله ـ: «وأصحابُ الحديثِ عِصَامةٌ مِنْ هذه المَعايب، وليسوا إلَّا أهلَ السيرة المَرْضيَّة، والسُّبُلِ السويَّة، والحُجَجِ البالغة القويَّة، قد وفَّقهم اللهُ جَلَّ جلالُه لاتِّباع كتابه، ووحيِه وخطابِه، والاقتداءِ برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في أخباره التي أَمَرَ فيها أُمَّتَه بالمعروف مِنَ القول والعمل، وزَجَرَهم فيها عن المُنْكَرِ منهما، وأعانَهم على التمسُّك بسيرته، والاهتداءِ بمُلازَمةِ سُنَّته» [«عقيدة السلف» للصابوني ((107))].
خامسًا: ومِنَ العَقَبات العائقةِ عن النهوض بالدعوة إلى الله على وجه التمام: تصلُّبُ بعضِ الدُّعاةِ المُنْتَسِبين للسلفية على مَواقِفَ وآراءٍ مُجانِبةٍ للصواب يقضي الشرعُ ببطلانها، ومع ذلك لا يرجعون إلى الحقِّ ولو أَمْدَدْتَهم بألفِ دليلٍ، بل يَتعصَّبون لآرائهم ويَسْتميتون عليها، ويُحرِّكون أنصارَهم المُوالِينَ لهم للدفاع عنها بما أَنْكَرَهُ السلفُ مِنَ الجدل المذموم والخوضِ في المِراءِ والخصومات المُشْتمِلةِ على تأسيساتٍ كاذبةٍ وإيحاءاتٍ وظنونٍ وهميةٍ وقراءاتٍ ما بين السطور ـ زَعَموا ـ وأخرى بلا سطورٍ، وغالبًا ما تكون مُخالِفةً للحقِّ والواقع، واللهُ المستعانُ.
وآخَرُون مِنْ طلبةِ العلم لم يَلْتَزِموا بقواعدِ العُلَماء، ولم يَتقيَّدُوا بمنهجهم في بيانِ أحوال الرجال؛ لذلك لم يسلكوا سبيلَ النزاهة والأمانة في الحكم، ولا سبيلَ الحيطة والأدب في نَقْدِهم، وهذا ما يجري في مَناطِقَ عِدَّةٍ مِنْ بلادنا؛ فأَشْبَهَ الوقيعةَ بغير حقٍّ في مَقامِ التجريح، وهو أَقْرَبُ إلى التشنيع المدفوع بِدَاءِ الحسد والغَيْرة، أو بِدَاءِ الهوى والبغي، ونحوِ ذلك مِنَ العداوات الدنيوية.
وقد اتَّسَعَ الخَرْقُ في هذا المَجال بما أَسْهَمَ به ـ بشكلٍ مُلاحَظٍ ـ كثيرٌ مِنَ المُشارِكين في المُنْتَدَيَات الإسلامية ـ في عالَمِ الإنترنت ـ في تأجيجِ الوضع على الساحة الدعوية بالجدل والخصومات والتحدِّي، وفَتْحِ مجالاتها للنَّيْل مِنْ رجالِ الدعوة إلى الله مِنْ هذه الأمَّةِ، ورَمْيِ عُلَمائها وخِيارِها وصفوتها بالجهل والنقص وسوء الظنِّ، وتقزيمِ رسالتهم الدعوية ومَهَمَّتِهم التربوية؛ الأمرُ الذي أَحْدَثَ ضغائنَ وعداواتٍ وبَغْضاءَ، وخلَّف تقاطعًا وتدابرًا، وفَتَحَ بابَ فتنةٍ وهَلَكةٍ، وأعداءُ الإسلامِ يسعدون في كُلِّ مكانٍ بما آلَتْ إليه الدعوةُ السُّنِّيَّةُ السلفيةُ بسببهم.
وهذه المنتدياتُ ـ بمُخْتلَفِ عناصرِها وأشكالِهَا ـ تَتحمَّلُ المسئوليةَ المُلْقاةَ على عاتِقِها وأوزارَ حصيلةِ جِنايتِها في تصدُّعِ أركان الصفِّ السلفيِّ وتمزيقِ وحدته، وإعاقةِ الدعوة وتَقَهْقُرِها.
وقد ظَنَّ أهلُ المنتديات أنَّ كثرةَ المَقال والجدال، والكلامِ والخصام، والتوسُّعَ في القِيلِ والقال، ونحو ذلك يدلُّ على الأحَقِّية والأعلمية؛ فهذا ـ بلا شكٍّ ـ جهلٌ مُبينٌ.
وقد وضَّح ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ حقيقةَ العلمِ المطلوب بقوله: «فليس العلمُ بكثرة النقل والبحثِ والكلام، ولكِنْ نورٌ يُميَّزُ به صحيحُ الأقوالِ مِنْ سقيمها، وحَقُّها مِنْ باطِلِها، وما هو مِنْ مشكاة النبوَّةِ ممَّا هو مِنْ آراء الرِّجال» [«اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيِّم ((80))].
وزاد ابنُ رجبٍ ـ رحمه الله ـ تأكيدًا لهذا المعنى بقوله: «وقَدْ فُتِنَ كثيرٌ مِنَ المُتأخِّرِين بهذا فظنُّوا أنَّ مَنْ كَثُرَ كلامُه وجِدالُه وخِصامُه في مَسائلِ الدِّينِ فهو أَعْلَمُ ممَّنْ ليس كذلك، وهذا جهلٌ محضٌ، وانْظُرْ إلى أكابِرِ الصحابةِ وعُلَمائِهم كأبي بكرٍ وعمر وعليٍّ ومُعاذٍ وابنِ مسعودٍ وزيد بنِ ثابتٍ: كيف كانوا؟ كلامُهم أَقَلُّ مِنْ كلام ابنِ عبَّاسٍ وهُمْ أَعْلَمُ منه، وكذلك كلام التابعين أَكْثَرُ مِنْ كلام الصحابة والصحابةُ أَعْلَمُ منهم، وكذلك تابِعُو التابعين كلامُهم أَكْثَرُ مِنْ كلام التابعين والتابعون أَعْلَمُ منهم؛ فليس العلمُ بكثرة الرواية ولا بكثرة المَقال، ولكنَّه نورٌ يُقْذَفُ في القلب يَفْهَمُ به العبدُ الحقَّ ويُميِّزُ به بينه وبين الباطل، ويُعبِّرُ عن ذلك بعباراتٍ وجيزةٍ مُحصِّلةٍ للمَقاصد» [«بيان فضل علم السلف» لابن رجب ((62))]، وقال ـ أيضًا ـ: «فما سَكَتَ مَنْ سَكَتَ عن كثرة الخصام والجِدال مِنْ سَلَفِ الأمَّةِ جهلًا ولا عجزًا، ولكِنْ سَكَتوا عن علمٍ وخشيةٍ لله، وما تَكلَّمَ مَنْ تَكلَّمَ وتَوسَّعَ مَنْ تَوسَّعَ بَعْدَهم لاختصاصه بعلمٍ دونَهم، ولكِنْ حبًّا للكلام وقِلَّةَ وَرَعٍ» [المصدر السابق ((60))]. [انظر: الدعوة السلفية السُّنِّيَّة، وعَقَباتٌ في طريق النهوض بها]
5 – مقدمة فيما ورد من معرفة الباطل لاجتنابه وعدم خلطه بالحق، وفيه ثمانية أمور:
1 – فيما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم في التقصد لمعرفة الباطال لاجتنابه بعد معرفتهم للخير.
قال البخاري في صحيحه 3606: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ جَابِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رضي الله عنه، يَقُولُ:
“كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي”. وهذا من عظيم فقه حذيفة رضي الله عنه، وكيف لا يخاف الإنسان من الوقوع في الشرك وقد خاف من ذلك إبراهيم الخليل حين قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ *رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 – 36] مع أنه عليه السلام كسر الأصنام بيده. لكنه خشي من الفتنة. والمؤمن لا يزكي نفسه ولا يأمن الفتنة، فهو بحاجة إلى أن يثبته الله على الحق. وكيف لا يخاف الإنسان من الوقوع في الشرك ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: ((إن أخوف ما أخاف علم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء. يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا على الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا: هل تجدون عندهم جزاء؟)) رواه الإمام أحمد.
فإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دنهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصاً إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقرّ به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله.
وفي هذا قال ابن القيم رحمه الله كلامًا نفيسا في (): ” قاعدة جليلة أهل الهدى وأهل الضلال
قال الله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} وقال: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} الآية. والله تعالى قد بين فى كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء والاسباب التى وفق بها هؤلاء والاسباب التى خذل بها هؤلاء وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الابصار للضياء والظلام.
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية فاستبانت لهم السبيلان كما يستيبين للسالك الطريق الموصل الي مقصوده والطريق الموصل الى الهلكة فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الادلاء الهداة.
برز الصحابة على جميع من أتي بعدهم الى يوم القيامة فانهم نشأوا فى سبيل الظلال والكفر والشرك والسبل الموصلة الي الهلاك وعرفوها مفصلة ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات الى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم فخرجوا من الظلمة الشديدة الى النور التام ومن الشرك الى التوحيد ومن الجهل الى العلم ومن الغى الى الرشاد ومن الظلم الى العدل ومن الحيرة والعمى الى الهدى والبصائر فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به ومقدار ما كانوا فيه فان الضد يظهر حسنه الضد وانما تتبين الأشياء بأضدادها فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا اليه ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه وكانوا أحب الناس فى التوحيد والايمان والاسلام وأبغض الناس فى ضده عالمين بالسبيل على التفصيل:
وأما من جاء بعد الصحابة فمنهم من نشأ فى الاسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين فان اللبس انما يقع اذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب انما تنقض عري الاسلام عروة اذا نشأ فى الاسلام من لم يعرف الجاهلية وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه فانه اذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول فانه من الجاهلية فانها منسوبة الى الجهل وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن فى بعض سبيلهم انها من سبيل المؤمنين كما وقع فى هذه الأمة من أمور كثيرة فى باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل أدخلها من لم يعرف انها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا اليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لاكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا اليها وكفر من خالفها
والناس فى هذا الموضع أربع فرق:
الاولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك.
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته الى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وان لم يتصوره على التفصيل بل اذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه وهو بمنزلة من سلمت نفسه من ارادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه اليها نفسه بخلاف الفرقة الأولى فانهم يعرفونها وتميل اليها نفوسهم ويجاهدونها علي تركها الله وقد كتبوا الى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسالة أيما أفضل رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله أو رجل نازعته اليها نفسه فتركها لله فكتب عمر ان الذى تشتهى نفسه المعاصي ويتركها لله عز و جل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مفغرة وأجر عظيم وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه ايمانه ولا تورثه شبهة ولا شكا بل يزداد بمعرفتها بصيرة فى الحق ومحبة له وكراهة لها ونفرة عنها أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه فانه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به فيقوى ايمانه به كما ان صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها الى ضدها ازداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه فما ابتلي الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه اليها الا ليسوقه بها الي محبة ما هو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه فتورثه تلك المجاهدة الوصول الى المحبوب الأعلى فكلما نازعته نفسه الى تلك الشهوات وشتدت ارادته لها وشوقه اليها صرف ذلك الشوق والارادة والمحبة الى النوع العالي الدائم فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك فانها وان كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم ألا ترى ان من مشي الى محبوبة على الجمر
والشوك أعظم ممن مشي إليه راكبا على النجائب فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها الى غيره فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات إما حجابا له عنه أو حاجبا له يوصله الى رضاه وقربه وكرامته.
الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك بل عرفه معرفة مجملة وان تفصلت له في بعض الأشياء ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها اذا تاب ورجع عنها الى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره فى تصرفها وسلوكها
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب تبغض، كما يجب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك.
وفى هذه المعرفة من الفوائد والأسرار مالا يعلمه الا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتضائها لآثارها وموجباتها وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه، والله أعلم”.
2 – ممن عرف من العلماء أنه أعلم بعلم المقالات.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 387):” لكن أحمد كان أعلم بمقالات الناس من غيره”.
3 – معرفة العلم من النعم، ومنها علم المقالات.
قال عبد الرحمن السعدي في تيسير اللطيف المنان ص269:” أن من أكبر نعم الله على عبده أن يرزقه العلم النافع، ويعرف الحكم بين الناس في المقالات والمذاهب، وفي الخصومات والمشاحنات كما قال تعالى: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} “.
4 – معرفة المنكر معرفة يتقي بها ويجتنبه كما يعرف سائر المحرمات.
وقال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 432):” وغرضنا لا يتوقف على معرفة تفاصيل باطلهم، ولكن يكفينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح والمعروف، والمستحب والواجب، حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما نعرف سائر المحرمات؛ إذ الفرض علينا تركها، ومن لم يعرف المنكر – جملة ولا تفصيلا – لم يتمكن من قصد اجتنابه، والمعرفة الجملية كافية، بخلاف الواجبات: فإن الغرض: لما كان فعلها، والفعل لا يتأتى إلا مفصلا، وجبت معرفتها على سبيل التفصيل”.
5 – الحض على معرفة الباطل لكي لا يختلط بالحق
وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في مسائل الجاهلية:” هذه أمور خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أهل الجاهلية الكتابيين والأميين، مما لا غنى للمسلم عن معرفتها، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء.
فأهم ما فيها وأشدها خطراً، عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية، تمت الخسارة، كما قال تعالى: {والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} “.
وقال أيضاً في مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد:” قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه “إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية”.
وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، فالله المستعان”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (3/ 24):” ويروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.
وهذا حال كثير ممن نشأ في عافية الإسلام وما عرف ما يعارضه ليتبين له فساده، فإن لا يكون في قلبه من تعظيم الإسلام مثل ما في قلب من عرف الضدين.
ومن الكلام السائر: (الضد يظهر حسنه الضد) (وبضدها تتبين الأشياء) “.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:”من عرف الشر وذاقه ثم عرف الخير وذاقه فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما، بل من لم يعرف إلا الخير فقد يأتيه الشر فلا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكره كما أنكره الذي عرفه. ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وهو كما قال عمر؛ فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من عَلِمَهُ، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره. ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي. ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغني والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك. ولهذا يقال: والضد يظهر حسنه الضد.”اه الفتاوى 10/ 300 – 301،جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وأعانه ابنه محمد، طبع بأمر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، تحت إشراف وزارة الشؤون الدينية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية 1425هـ/ 2004م.
وقرر هذا المعنى ابن القيم أيضا.
– وقيل في معنى الأثر هو ما أخرجه الببيهقي في «شعب الإيمان» 12/ 204:
قال البيهقي: وتفسير هذا فيما أخبرنا أبو ذر محمد بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكر أنا محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى نا الفضل بن محمد البيهقي نا أحمد بن حنبل نا أبو معاوية نا الأعمش عن شقيق قال: “قال لي يا سليمان إن أمراءنا هؤلاء ليس عندهم واحدة من اثنتين ليس عندهم تقوى أهل الإسلام و لا أحلام الجاهلية “.
ويشهد لتفسير أحمد ما رواه البغوي في مسند ابن الجعد ص344:
فيه « .. إذا ساسهم من لم يصحب الرسول؛ فيقيده الورع، أو يدرك الجاهلية؛ فيأخذ بأحلامهم».
6 – الحض على معرفة مذاهب السلف
وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ كما في الدرر السنية (3/ 288):” وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري; وظنه بعض الناس من مذاهب عقيدة أهل السنة والجماعة ; وسبب ذلك: هو الجهل بالمقالات والمذاهب، وما كان عليه السلف; قال حذيفة رضي الله عنه: ” كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة الوقوع فيه”.
فالواجب على من له نهمة في الخير وطلب العلم، أن يبحث عن مذاهب السلف وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك، وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة; قال الله تعالى: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} “.
وقال شيخ الإسلام في الفتوى الحموية الكبرى ص250:” ثم رد عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي: علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم”.
فيه بيان ما تحمله كتب الردود لمنهج وعقيدة أهل السنة والجماعة اتباع السلف الصالح.
7 – الحض على كتب المقالات لمعرفة منهج وعقيدة السلف الصالح
وقال ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص141:” وينبغي لكل طالب سنة مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كتابيه وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جدا وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما”.
ويعني بالكتابين: كتاب الرد على الجهمية والرد على المريسي كلاهما لعثمان بن سعيد الدارمي.
وفي المجموع من آثار حماد الأنصاري يقول ابنه عبد الأول:” 17 – أوصى الوالد أحدَ الطلبة أن يقرأ (الشريعة) للآجري، وقال: “هي للمبتدئ”، وقال له: “اقرأها كلّ يوم”.
وهذه الكتب مسندة، ومراجع في معرفة الاعتقاد الصحيح.
8 – تأليف كتب المقالات لمعرفة الباطل وبيانه للعامة
قال عثمان الدارمي في رده على المريسي ص62:” لَوْلَا مَا بَدَأَكُمْ هَذَا الْمُعَارِضُ بِإِذَاعَةِ ضَلَالَاتِ الْمَرِيسِيِّ وَبَثِّهَا فِيكُمْ، مَا اشْتَغَلْنَا بِذِكْرِ كَلَامِهِ، مَخَافَةَ أَنْ يَعْلَقَ بَعْضُ كَلَامِهِ بِقُلُوبِ بَعْضِ الْجُهَّالِ، فَيُلْقِيهِمْ فِي شَكٍّ مِنْ خَالِقِهِمْ وَفِي ضَلَالٍ، أَوْ أَنْ يَدعُوهُم إِلَى تَاوِيله”
قال أبو نصر السجزي في رسالته إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص295:” الفصل التاسع: في ذكر شيء من أقوالهم ليقف العامة عليها فينفروا عنهم ولا يقعوا في شباكهم”.
ولقد صنف أهل العلم كتب لبيان المنكرو أصوله، كما فعل الشيخ محمد عبد الوهاب التميمي رحمه الله في كتبه: “مسائل الجاهلية”، و”القواعد الأربع”.
وفي الرجال بين القواعد الدكتور ربيع بن هادي المدخلي ” منهج أهل السنة في نقد الرجال والكتب والطوائف”، وله ردود على الأصول والقواعد التي أحدثها الجماعات والأفراد.
6 – ظهور قواعد المنهج السلفيِّ ومميِّزاته: (نتائج ظهور تفرق المسلمين، وضعفهم: ونتج على ذلك)
هذا، وأمامَ تفرُّقِ الأمَّةِ الإسلامية، وتعدُّدِ الاتِّجاهات العَقَدية والفكرية فيها، وخاصَّةً بعد فتنة القول بخَلْقِ القرآن، بَدَأَ الشعورُ بالخطر على دِينِ الله الحقِّ يَقْوَى تُجاهَ المَذاهب الضالَّة، وظهرَتِ الحاجةُ مُلِحَّةً إلى استعادةِ المسلك الذي كان عليه السلفُ الصالح وما كانَتْ عليه عقائدُهم، والانتسابِ إليهم، والعودةِ بالإسلام إلى صَفائِهِ الأوَّل؛ الأمرُ الذي دَعَا علماءَ السنَّةِ الأثباتَ وأساطينَها الأعلامَ لنصرة الحقِّ ورَفْعِ رايتِه وتحذيرِ الأمَّةِ مِنْ ضلالاتِ أرباب الأهواء والابتداعِ وانحرافاتهم في مقالاتهم العَقَدية على اختلافِ مَراتِبِ حُكْمِها.
ولقَطْعِ باب الحوادث والضلال على كُلِّ مَنِ ابتدع بدعةً يَتوصَّلُ بها إلى القَدْح في سلامة المَفاهيم العَقَدية، فقَدْ شمَّر لذلك أئمَّةُ الإسلامِ العدولُ عن ساعِدِ الجِدِّ لتلخيصِ الأصول العُظْمى وترتيبِ القواعد الكبرى للمذهب السنِّيِّ السلفيِّ؛ حيث تَمَيَّزَ منهجُهم في تقرير الأمور الاعتقادية بمنهجِ عَرْضِ العقيدة الصحيحة مِنَ الكتاب والسنَّة وأقوالِ الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ مِنْ جهةٍ، وبمنهج الردِّ على المُنْحَرِفين عنها ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ صيانةً للدِّين وحفظًا للسنَّة؛ وذلك بعَرْضِ شُبَهِ الخصوم وبيانِ الحقِّ فيها مُدعَّمًا بالأدلَّةِ النقلية مِنَ الوحيين وأقوال الصحابة والتابعين؛ فاجتهدوا في إنقاذِ عقائِدِ الإسلام مِنَ الديانات الضالَّةِ ذاتِ الأصول الوثنية، وانبرَوْا لنَقْدِ كُلِّ جوانِبِ التيَّاراتِ الفلسفية ومُعْتقَداتِ الصوفية المُتَفَلْسِفَةِ، والتيَّاراتِ الباطنية مِنْ أرباب الفِرَقِ الغالية، والديانات المُحرَّفة، ومُعْتقَداتِ المُتكلِّمين مِنَ الجهمية والمعتزلة وغيرِهم، كما عَمِلوا على تصفيةِ عقائِدِ الإسلام مِنْ مَظاهِرِ التعقيد العَقَديِّ، ومِنْ كُلِّ دخيلٍ فيها يُؤدِّي ـ بطريقٍ أو بآخَرَ ـ إلى زعزعةِ عقائدِ المسلمين.
وامتازَ المذهبُ السلفيُّ ـ في تقرير العقيدة عَرْضًا ورَدًّا على الخصوم ـ بقواعِدَ سليمةٍ وخواصَّ شريفةٍ؛ فمِنْ قواعِدِه الكبرى المُميِّزةِ له:
أوَّلًا: الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والاسترشادُ بفهم السلف الصالح مِنَ الصحابة والتابعين وتابِعِيهم ومَنِ الْتزَمَ بنهجهم واقتفى آثارَهم، ويظهر ذلك في العناية بالكتاب والسنَّة حفظًا وتدوينًا ودراسةً وتفسيرًا وتجويدًا واستنباطًا لأحكام الشرع منهما، والردِّ عند التنازع إليهما، ومُراعاةِ ألفاظهما عند بيانِ العقيدة، وتركِ الألفاظ المُجْمَلة والمُصْطلَحات المُوهِمةِ غيرِ الشرعية.
ثانيًا: اتِّخاذُ الكتاب والسنَّةِ ميزانًا للقَبول والردِّ، وأخذُ مَطالِبِ الدِّين مِنْ قِبَلِهما؛ لأنَّ بهما يتجلَّى الهدى مِنَ الضلال، والحقُّ مِنَ الباطل، والصوابُ مِنَ الخطإ، وما سِواهُمَا مِنْ أقوالِ الرجال وأعمالِهِم وآرائهم واجتهاداتهم ومُعْتقَداتهم تُعْرَضُ عليهما؛ فما وافَقَ الكتابَ والسنَّةَ قُبِلَ وعُمِلَ به، وما خالَفَهما رُدَّ على أصحابه مهما كانَتْ منزلتُهم، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله: «جِماعُ الفرقانِ بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغيِّ، وطريقِ السعادة والنجاة وطريق الشقاوة والهلاك: أَنْ يُجْعَلَ ما بَعَثَ اللهُ به رُسُلَه وأَنْزَلَ به كُتُبَه هو الحقَّ الذي يجب اتِّباعُه، وبه يحصل الفرقانُ والهدى والعلمُ والإيمان؛ فيُصَدَّقُ بأنه حقٌّ وصِدْقٌ، وما سِواهُ مِنْ كلامِ سائرِ الناس يُعْرَضُ عليه؛ فإِنْ وافَقَهُ فهو حقٌّ، وإِنْ خالَفَهُ فهو باطلٌ» [«مجموع الفتاوى» لابن تيمية ((13) / (135))].
ثالثًا: تقديم الشرع على العقل مع أنَّ العقل الصحيح لا يُنافي النصَّ الصحيح ولا يُعارِضُه، بل هو مُوافِقٌ له، قال الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «لا ينبغي للعقل أَنْ يتقدَّمَ بين يدَيِ الشرع؛ فإنه مِنَ التقدُّم بين يدَيِ اللهِ ورسوله، بل يكون مُلبِّيًا مِنْ وراءَ وراءَ، ثمَّ نقول: إنَّ هذا هو المذهبُ للصحابةِ رضي الله عنهم وعليه دَأَبُوا، وإيَّاهُ اتَّخذوا طريقًا إلى الجنَّة فوَصَلوا» [«الاعتصام» للشاطبي ((2) / (331))]، وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «قد ثَبَتَ أنَّ الله ـ سبحانه ـ قد أَنْزَلَ الكتابَ والميزان؛ فكلاهما في الإنزال أخَوانِ، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يَتناقَضُ الكتابُ في نَفْسِه فالميزانُ الصحيحُ لا يَتناقضُ في نَفْسِه، ولا يَتناقضُ الكتابُ والميزانُ؛ فلا تَتناقضُ دلالةُ النصوصِ الصحيحة، ولا دلالةُ الأقيسة الصحيحة، ولا دلالةُ النصِّ الصريحِ والقياسِ الصحيح، بل كُلُّها مُتصادِقةٌ مُتعاضِدةٌ مُتناصِرةٌ يُصدِّقُ بعضُها بعضًا، ويشهد بعضُها لبعضٍ؛ فلا يُناقِضُ القياسُ الصحيحُ النصَّ الصحيحَ أبدًا» [«الاعتصام» للشاطبي ((2) / (331))].
رابعًا: ويدخل في مَعْنَى هذه القاعدةِ والتي قبلها: الاعتمادُ على الكتاب والسنَّة، وعدمُ مُعارَضتِهما بما دونهما مِنْ رأيٍ أو ذَوْقٍ أو عقلٍ أو وَجْدٍ أو قياسٍ، ورَفْضُ الأوهام والخُرافات ونَبْذُ البِدَعِ والشركيات، كما تقتضيه الفِطَرُ القويمةُ والعقول السليمة؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحُجُرات]؛ فأهلُ السنَّةِ لم يُهْمِلوا ـ بمَنْهَجِهم ـ العقلَ ولم يُعطِّلوا وظيفتَه، بل أَعْمَلوه في مَجالِه فاستخدموا الأدلَّةَ العقلية والأقيسة الشرعيةَ مُسْتنبَطةً مِنْ نصوصِ الكتاب والسنَّة، كما أَعْمَلوا التفكُّرَ والتدبُّرَ في دلائلِ الهداية وبواعِثِ الإيمان، والتدبُّرَ والنظرَ في الآيات الكونية والمسموعة، هذا مِنْ جهةٍ، ولانتفاءِ التعارُضِ بين النصوصِ الشرعيةِ مِنْ جهةٍ ثانيةٍ؛ لأنَّ الشارع حكيمٌ، والتناقض يُنافي الحكمة، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا حديثان صحيحان صريحان مُتناقِضان مِنْ كُلِّ وجهٍ، ليس أحَدُهما ناسخًا للآخَر؛ فهذا لا يُوجَدُ أصلًا، ومَعاذَ اللهِ أَنْ يُوجَدَ في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج مِنْ بين شفتَيْهِ إلَّا الحقُّ، والآفةُ مِنَ التقصير في معرفة المنقول والتمييزِ بين صحيحه ومعلوله، أو مِنَ القصور في فهمِ مُراده صلَّى الله عليه وسلَّم، وحملِ كلامِه على غيرِ ما عَناهُ به، أو منهما معًا» [«زاد المَعاد» لابن القيِّم ((4) / (149))]، وقال الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «بعد أَنْ نُقدِّمَ مُقدِّمةً لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِها، وهي: أنَّ كُلَّ مَنْ تَحقَّقَ بأصول الشريعةِ فأَدِلَّتُها عنده لا تكاد تَتعارَضُ، كما أنَّ كُلَّ مَنْ حقَّقَ مَناطَ المسائل فلا يكاد يَقِفُ في مُتشابِهٍ؛ لأنَّ الشريعة لا تَعارُضَ فيها ألبتَّةَ؛ فالمتحقِّقُ بها
متحقِّقٌ بما في نَفْسِ الأمر؛ فيَلْزَمُ أَنْ لا يكون عنده تعارُضٌ؛ ولذلك لا تجد ألبتَّةَ دليلين أَجْمَعَ المسلمون على تَعارُضِهما بحيث وَجَبَ عليهم الوقوفُ؛ لكِنْ لمَّا كان أفرادُ المجتهدين غيرَ معصومين مِنَ الخطإ أَمْكَنَ التعارضُ بين الأدلَّة عندهم» [«المُوافَقات» للشاطبي ((4) / (294))].
خامسًا: قَبولُ أخبارِ الآحاد التي رواها عدلٌ ضابطٌ ـ واحدًا كان أو أَكْثَرَ ما لم يبلغ حَدَّ التواتر ـ عن مِثْلِه بسندٍ مُتَّصِلٍ إلى مُنتهاهُ وسَلِمَ مِنَ الشذوذ والعِلَّةِ القادحة، ولم يُعارِضْه نصٌّ مِثلُه، ووجوبُ العمل بها، قال ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ: «وأَجْمَعَ أهلُ العلم مِنْ أهل الفقه والأثر في جميعِ الأمصار ـ فيما عَلِمْتُ ـ على قَبولِ خبرِ الواحد العدل وإيجابِ العمل به إذا ثَبَتَ ولم ينسخه غيرُه مِنْ أثرٍ أو إجماعٍ، على هذا جميعُ الفُقَهاءِ في كُلِّ عصرٍ مِنْ لَدُنِ الصحابةِ إلى يومِنا هذا إلَّا الخوارجَ وطوائفَ مِنْ أهل البِدَع» [«التمهيد» لابن عبد البرِّ ((1) / (2))]، كما يُحْتَجُّ بأخبار الآحاد في مسائل العقيدة وغيرِها مِنْ مسائلِ الدِّين، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ولم يَزَلِ الصحابةُ والتابعون وتابِعُوهم وأهلُ الحديثِ والسنَّة يحتجُّون بهذه الأخبارِ في مسائل الصفات والقَدَرِ والأسماء والأحكام، لم يُنْقَلْ عن أحَدٍ منهم ألبتَّةَ أنه جوَّزَ الاحتجاجَ بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصِفَاته» [«الصواعق المُرْسَلة» لابن القيِّم ـ باختصار الموصلي ـ ((2) / (509))].
سادسًا: رَفْضُ التأويل الكلاميِّ المذموم، وهو تأويلُ المتكلِّمين للنصوص الشرعية بما يقتضي التحريفَ والتغيير، حيث يُؤوِّلُ أهلُ الباطلِ نصوصَ الكتابِ والسنَّةِ على غيرِ تأويلها، ويدَّعُونَ صَرْفَ اللفظِ عن مدلوله إلى غيرِ مدلوله بغيرِ دليلٍ يُوجِبُ ذلك؛ لأنَّ الحقَّ ـ عندهم ـ ما عَرَفوهُ بعقولهم ووصلوا إليه بأقيستهم، فإذا ما حَصَلَ تعارُضٌ بين النصوص الشرعية ومُقرَّراتِهم العقلية صَرَفُوا النصوصَ عن ظاهِرِها على وجه الباطل لتُسايِرَ أهواءَهم وتُوافِقَ عقولَهُم، وسَمَّوُا التحريفَ تأويلًا تزيينًا له وزخرفةً، وقد ذَمَّ اللهُ تعالى الذين زخرفوا الباطلَ في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: (112)].
ولا يخفى خطورةُ التأويلِ المذمومِ وما يُخلِّفُه مِنْ عظيمِ الآفاتِ والفِتَنِ والجنايات على الإسلام وأهلِه؛ فهو أصلُ كُلِّ فسادٍ ومَضَرَّةٍ، وقد أَفْصَحَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ عن الآثار السيِّئة الناجمة عن التأويل الفاسد بما نصُّه: «إذا تَأمَّلَ المُتأمِّلُ فسادَ العالَمِ وما وَقَعَ فيه مِنَ التفرُّق والاختلاف وما دفع إليه أهل الإسلام وَجَدَهُ ناشئًا مِنْ جهةِ التأويلات المُخْتلِفةِ المُسْتعمَلةِ في آيات القرآن وأخبارِ الرسول التي تَعلَّقَ بها المُخْتلِفون على اختلافِ أصنافهم في أصول الدِّين وفروعه؛ فإنها أَوْجَبَتْ ما أَوْجَبَتْ مِنَ التباين والتحارُبِ، وتفرُّقِ الكلمة، وتشتُّتِ الأهواء، وتصدُّع الشمل، وانقطاعِ الحبل، وفسادِ ذاتِ البَيْنِ؛ حتَّى صارَ يُكفِّرُ ويلعن بعضُهم بعضًا، وترى طوائفَ منهم تسفك دماءَ الآخَرِين وتَسْتحِلُّ منهم أَنْفُسَهم وحُرَمَهم وأموالَهُم ما هو أَعْظَمُ ممَّا يرصدهم به أهلُ دار الحرب مِنَ المُنابِذين لهم؛ فالآفاتُ التي جَنَتْها ويَجْنِيها ـ كُلَّ وقتٍ ـ أصحابُها على المِلَّةِ والأمَّةِ مِنَ التأويلات الفاسدة أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى أو يبلغها وصفُ واصفٍ أو يُحيطَ بها ذِكْرُ ذاكرٍ، ولكنَّها في جملةِ القول أصلُ كُلِّ فسادٍ وفتنةٍ، وأساسُ كُلِّ ضلالٍ وبدعةٍ» [«الصواعق المُرْسَلة» لابن القيِّم ((1) / (348))]، ثمَّ يزيد ـ رحمه الله ـ القولَ وضوحًا عند ذِكْرِ بعضِ وجوه الفِتَنِ والمِحَنِ التي لَحِقَتْ دارَ الإسلامِ مِنْ وراءِ التأويل الفاسد بقوله: «ومِنْ جناياتِ التأويلِ ما وَقَعَ في الإسلام مِنَ الحوادث بعد موت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإلى يومِنا هذا، بل في حياته صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ فإنَّ خالد بنَ الوليد قَتَلَ بني جَذيمةَ بالتأويل، ولهذا تَبرَّأَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ صُنْعِه وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ
إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» [أخرجه البخاريُّ في «المغازي» بابُ بَعْثِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم خالدَ بنَ الوليد إلى بني جَذيمة ((4339))، وفي «الدعوات» ـ معلَّقًا ـ باب رفعِ الأيدي في الدعاء، وفي «الأحكام» باب: إذا قضى الحاكم بجَوْرٍ أو خلاف أهل العلم فهو ردٌّ ((7189))، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما]، ومَنَعَ الزكاةَ مَنْ مَنَعَها مِنَ العرب بعد موت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالتأويل وقالوا: «إنما قال اللهُ لرسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: (103)]، وهذا لا يكون لغيره»؛ فجَرَى بسببِ هذا التأويلِ الباطلِ على الإسلام وأهلِه ما جَرَى، ثمَّ جَرَتِ الفتنةُ التي جَرَّتْ قَتْلَ عثمانَ بالتأويل، ولم يَزَلِ التأويلُ يأخذ مَاخَذَهُ حتَّى قُتِلَ به عثمانُ؛ فأخَذَ بالزيادة والتولُّدِ حتَّى قَتَلَ به بين عليٍّ ومُعاويةَ بصِفِّينَ سبعين ألفًا أو أَكْثَرَ مِنَ المسلمين، وقُتِلَ أهلُ الحَرَّةِ بالتأويل، وقُتِلَ يومَ الجملِ بالتأويل مَنْ قُتِلَ، ثمَّ كان قَتْلُ ابنِ الزبير ونَصْبُ المنجنيق على البيت بالتأويل، ثمَّ كانَتْ فتنةُ ابنِ الأشعث وقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنَ المسلمين بدِيرِ الجماجم بالتأويل، ثمَّ كانَتْ فتنةُ الخوارجِ وما لَقِيَ المسلمون مِنْ حروبهم وأذاهم بالتأويل، ثمَّ خروجُ أبي مسلمٍ وقَتْلُه بني أُمَيَّةَ وتلك الحروبُ العِظامُ بالتأويل، ثمَّ خروج العلويِّين وقَتْلُهم وحَبْسُهم ونفيُهم بالتأويل، إلى أضعافِ أضعافِ ما ذَكَرْنا مِنْ حوادثِ الإسلام التي جرَّها التأويلُ، وما ضُرِبَ مالكٌ بالسياط وطِيفَ به إلَّا بالتأويل، ولا ضُرِبَ الإمامُ أحمدُ بالسياط وطُلِبَ قَتْلُه إلَّا بالتأويل، ولا قُتِلَ أحمد بنُ نصرٍ الخُزَاعيُّ إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على نُعَيْمِ
بنِ حمَّادٍ الخُزاعيِّ ما جَرَى وتَوجَّعَ أهلُ الإسلام لمُصابِه إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على محمَّد بنِ إسماعيل البخاريِّ ما جَرَى ونُفِيَ وأُخْرِجَ مِنْ بلدِه إلَّا بالتأويل، ولا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ خُلَفاءِ الإسلام وملوكه إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على شيخ الإسلام عبد الله أبي إسماعيل الأنصاريِّ ما جَرَى وطُلِبَ قَتْلُه بضعةً وعشرين مرَّةً إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على أئمَّةِ السنَّةِ والحديثِ ما جَرَى حين حُبِسوا وشُرِّدُوا وأُخْرِجُوا مِنْ ديارهم إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على شيخ الإسلام ابنِ تيمية ما جَرَى مِنْ خصومه بالسَّجْنِ وطَلَبِ قَتْلِه أَكْثَرَ مِنْ عشرين مرَّةً إلَّا بالتأويل؛ فقاتَلَ اللهُ التأويلَ الباطلَ وأهلَه، وأخَذَ حَقَّ دِينِه وكتابِه ورسولِه وأنصارِه منهم» [المصدر السابق ((1) / (376))].
هكذا أقامَ السلفُ دِينَ اللهِ بالحفظ والتعظيم والعمل دون تحريفٍ أو تأويلٍ، وكان فَضْلُهم على الخلف كبيرًا، وضِمْنَ هذا المنظورِ قال الشيخ محمَّد البشير الإبراهيميُّ ـ رحمه الله ـ: «أقامَ سَلَفُنا الصالحُ دِينَ اللهِ كما يجب أَنْ يُقامَ، واستقاموا على طريقته أَتَمَّ استقامةٍ، وكانوا يَقِفُون عند نصوصه مِنَ الكتاب والسنَّة، لا يتعدَّوْنَها ولا يتناولونها بالتأويل، وكانَتْ أدواتُهم لفَهْمِ القرآن: روحَ القرآن، وبيانَ السنَّة، ودلالةَ اللغة، والاعتباراتِ الدينيةَ العامَّة، ومِنْ وراءِ ذلك فطرةٌ سليمةٌ، وذوقٌ متمكِّنٌ، ونظرٌ سديدٌ، وإخلاصٌ غيرُ مدخولٍ، واستبراءٌ للدِّينِ قد بَلَغَ مِنْ نفوسهم غايتَه، وعزوفٌ عن فتنة الرأي وفتنةِ التأويل، أدَّبهم قولُه تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: (13)]، وقولُه تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: (59)]؛ فكانوا أَحْرَصَ الناسِ على وفاقٍ، وكانوا كُلَّما طافَ بهم طائفُ الخلافِ في مسألةٍ دينيةٍ بادَرُوهُ بالردِّ إلى كتاب الله وإلى سنَّةِ رسوله؛ فانحسم الداءُ وانجابَتِ الحيرةُ» [«آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» ((1) / (164))].
تلك هي بعضُ نماذِجِ قواعدِ المنهج السلفيِّ القائم على خاصِّيةِ الشمول، وفَتْحِ باب الاجتهاد، وذَمِّ الهوى، ونبذِ الجمود الفكريِّ والتعصُّبِ للمذاهب وآراءِ الرجال، وذَمِّ التشبُّه بالكُفَّار.
والمنهج السلفيُّ مُؤسَّسٌ ـ أيضًا ـ على التوسُّط والاعتدال بين المَناهج الأخرى في الاعتقاد والقول والعمل؛ لذلك كان الانتسابُ إلى السلف رمزًا للافتخار؛ لأنَّ منهجهم يُمثِّلُ الإسلامَ في ذاته الذي كان عليه الرعيلُ الأوَّلُ، مِنْ غيرِ تحريفٍ أو تبديلٍ، وعلامةً على العدالة في الاعتقاد؛ لأنَّ منهجهم يعكس ـ بوضوحٍ ـ الإشعاعَ العلميَّ قديمًا وحديثًا، ويُجسِّدُ أصالةَ الفكر الإسلاميِّ وعقيدةِ الإسلام.
7 – مسألة: هل هناك تلازم بين فضيلة الإنسان في نفسه ودينه وبين أن يكون قد ولد على الإسلام من أول الأمر، أو أنه كان على غير دين الإسلام، ثم أسلم؟
لا تلازم بين فضيلة الإنسان في نفسه ودينه، وبين أن يكون قد ولد على الإسلام من أول الأمر، أو أنه كان على غير دين الإسلام، ثم أسلم؛ وإنما الأصل المعوَّل عليه هنا قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات/ 13؛ فمن كان أتقى لله، وأطوع له، وأعظم ائتماراً بأمره، وانتهاءً عن نهيه: هو أفضل وأعظم منزلة عند الله ممن كان دونه في ذلك، وسواء في ذلك أن يكون الاثنان قد ولدا على الإسلام، أو لم يولدا عليه، أو ولد أحدهما في الإسلام، والآخر قد أسلم بعد أن لم يكن مسلماً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
” وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكْفُرْ قَطُّ، أَفْضَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ: لَيْسَ بِصَوَابِ؛ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْعَاقِبَةِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَتْقَى لِلَّهِ فِي عَاقِبَتِهِ: كَانَ أَفْضَلَ.
فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ كُفْرِهِمْ: هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِ أَوْلَادِهِمْ.
بَلْ مَنْ عَرَفَ الشَّرَّ وَذَاقَهُ، ثُمَّ عَرَفَ الْخَيْرَ وَذَاقَهُ، فَقَدْ تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَيْرِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالشَّرِّ وَبُغْضُهُ لَهُ: أَكْمَلَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيَذُقْهُمَا كَمَا ذَاقَهُمَا؛ بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إلَّا الْخَيْرَ فَقَدْ يَاتِيهِ الشَّرُّ فَلَا يَعْرِفُ أَنَّهُ شَرٌّ، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُنْكِرَهُ كَمَا أَنْكَرَهُ الَّذِي عَرَفَهُ.
وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (10/ 300 – 302).
مع أن عاقلاً لا ينكر فضل أن يكون الإنسان على دين غير دين الإسلام، ثم يترك ما كان عليه لله، ويهجر أهله ووطنه، وعاداته التي اعتادها، ويدع ذلك كله لله؛ فهذا قد تحقق له من عبودية الهجرة إلى الله، والفرار إليه، ومجاهدة نفسه في الله، ما لم يتحقق لغيره ممن ولد على الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” من اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب، أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه: فهو مخالف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام، فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد كفرهم، وهداهم الله به بعد ضلالهم، وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم: أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام.
وهل يُشَبِّه بني الأنصار بالأنصار، أو بني المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له؟
وأين المنتقل بنفسه من السيئات إلى الحسنات، بنظره واستدلاله، وصبره واجتهاده، ومفارقته عاداته، ومعاداته لأوليائه، وموالاته لأعدائه، إلى آخر، لم يحصل له مثل هذه الحال؟ “. انتهى من “منهاج السنة النبوية” (2/ 399).
خاتمة:
وأخيرًا، نسأل اللهَ تعالى أَنْ يَهْدِيَنَا للحقِّ ويُقيمَنا عليه، ويَرْزُقَنا الإخلاصَ في السرِّ والعَلَن، والاتِّباعَ في العمل، والسدادَ في القول، وأَنْ يُعيذَنا مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، وأَنْ يُصْلِحَ أَمْرَ آخِرِ هذه الأمَّةِ كما أَصْلَحَ أوَّلَها، وأَخْتِمُ بكلام اللَّالَكائيِّ ـ رحمه الله ـ وهو يَصِفُ أهلَ السنَّةِ والحديثِ في ثباتهم على الحقِّ المُبين وسلامةِ اعتقادهم ووحدةِ منهجهم بما نصُّه: «والحمد لله الذي كمَّل لهذه الطائفةِ سهامَ الإسلام، وشرَّفهم بجوامعِ هذه الأقسام، وميَّزَهم مِنْ جميع الأنام؛ حيث أعَزَّهم اللهُ بدِينِه، ورَفَعَهم بكتابه، وأعلى ذِكْرَهم بسُنَّتِه، وهداهم إلى طريقته وطريقةِ رسوله؛ فهي الطائفةُ المنصورة، والفِرْقةُ الناجية، والعُصْبةُ الهادية، والجماعةُ العادلة المتمسِّكةُ بالسنَّة، التي لا تُريدُ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بديلًا، ولا عن قوله تبديلًا، ولا عن سُنَّتِه تحويلًا، ولا يَثْنِيهم عنها تَقلُّبُ الأعصار والزمان، ولا يَلْوِيهم عن سَمْتِها تغيُّرُ الحدثان، ولا يصرفهم عن سَمْتِها ابتداعُ مَنْ كادَ الإسلامَ ليَصُدَّ عن سبيل الله ويَبْغِيَها عِوَجًا، ويَصْرِفَ عن طُرُقِها جدلًا ولجاجًا، ظنًّا منه كاذبًا، وتَمَنِّيًا باطلًا أنه يُطْفِئُ نورَ الله، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} [الصف]» [«شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة» للَّالَكائي ((1) / (25) ـ (26))].
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.”
——-
تنبيه:
قال باحث: حول أثر عمر بن الخطاب الذي نقله ابن تيمية: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية:
لم أجد الأثر بهذا اللفظ، وقد كنتُ وقفتُ على أثرٍ بمعناه قبل سنوات.
وآمل ممن وقف عليه بلفظه ألا يبخل علينا بالإفادة.
أما الأثر الذي وقفتُ عليه؛ فهو ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف
(6/ 410) وابن سعد في الطبقات (6/ 129) والحاكم في المستدرك (4/ 475) والبيهقي في الشعب (6/ 69) وأبو نعيم في الحلية (7/ 243) والحارث بن مسكين (البداية والنهاية 11/ 650) كلهم من طريق:
شبيب بن غرقدة عن المستظل بن حصين البارقي قال:
خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قد علمتُ وربِّ الكعبة متى تهلك العرب. فقام إليه رجلٌ من المسلمين فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يسوس أمرَهم من لم يعالج أمر الجاهلية ولم يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم.
و (المستظل) قال عنه ابن سعد: ثقةٌ قليل الحديث.
وذكره العجلي في الثقات (رقم ” 1558″) وابن حبان (5/ 462)
ويُنظر / الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 429).
فائدة / ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الأثر بلفظ:
(إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية)
في مواضع من كتبه، منها:
منهاج السنة النبوية (2/ 398 وَ 4/ 590)
مجموع الفتاوى (10/ 301 وَ 15/ 54)