1069 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي ، وعبدالحميد البلوشي، وكديم. ونوح وعبدالخالق وموسى الصوماليين.
———
الصحيح المسند (ج2/ رقم 1069):
قال الإمام أبو يعلى : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، يَعْنِي عَنِ الْفَلَتَانِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ دَامَ بَصَرُهُ مَفْتُوحَةً عَيْنَاهُ، وَفَرَغَ سَمْعُهُ، وَقَلْبُهُ لِمَا يَأْتِيَهُ مِنَ اللَّهِ، فَقَالَ لِلْكَاتِبِ : ((اكْتُبْ: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ})).
قَالَ: فَقَامَ الأَعْمَى، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا ذَنْبُنَا ؟!
فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَقُلْنَا لِلأَعْمَى: إِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، فَبَقِيَ قَائِمًا يَقُولُ: أَعُوذُ بِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكَاتِبِ: ((اكْتُبْ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ})). [سورة النساء آية 95] .
====
مشاركة محمد البلوشي وطارق أبي تيسير :
سيكون الحديث في عدة أمور على النحو التالي:
الأمر الأول: الحديث أورده الوادعي رحمه الله في ((الجامع الصحيح)) (ج1/ص21)، تحت: كتابة العلم. وذكر أحاديث أخرى.
الأمر الثاني: المسائل المتعلقة بالحديث:
فيه عدة مسائل، ومنها:
المسألة الأولى: مشكل الحديث.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى في مشكل الآثار : “باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبب الذي نزلت فيه {غير أولي الضرر} بعد أن نزل قبلها : {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} الآية”. ثم ذكر رحمه الله عدة أمور مشكلة في الروايات الواردة في هذا، ومنها:
عن الفلتان بن عاصم الجرمي، أنه قال : كنا قعودا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه ، وكان إذا أنزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما جاءه من الله عز وجل فلما فرغ قال للكاتب : (( اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ، فقام الأعمى فقال : يا رسول الله ما ذنبنا ؟ فأنزل الله عليه ، فقلنا للأعمى : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه قال : فبقي قائما يقول : أتوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للكاتب : (( اكتب {غير أولي الضرر}))
فقال قائل : كيف تقبلون هذه الأخبار وتثبتون بها أن نزول هذه الآية كان في البدء لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ، وفي ذلك تفضيل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بعذر ، وبغير عذر، والقاعدون بعذر لم يقعدوا اختيارا لترك الجهاد ، وإنما قعدوا عجزا عن الجهاد ؟
فكيف يجوز أن يستوي في ذلك فضل المجاهدين على القاعدين المعذورين ويكونون في ذلك مع العذر الذي معهم كمن سواهم من القاعدين ممن لا عذر معهم ؟
وكيف يجوز أن يكون ذوو الضرر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في الفقه على ما هم عليه منه والقرآن أيضا نزل بلغتهم يظنون بالله عز وجل أنه سوى في ذلك بينهم مع العذر الذي معهم وبين غيرهم من القاعدين عن الجهاد ممن لا عذر معه وقد سمعوا الله عز وجل يقول ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) ، ولم يؤتهم الله تعالى القوة على الجهاد وسمعوه يقول (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ، وأعظم أن تكون هذه الأخبار على ما قد ذكر فيها ، وقال : محال أن يكون كان نزول هذه الآية إلا كما يقرؤها لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم الآية ؟
فكان جوابنا له في ذلك: بتوفيق الله عز وجل وعونه
– أن هذه الآثار التي رويناها آثار صحاح ثابتة لا يدفع العلماء صحتها، ولا يطعنون في أسانيدها.
– ولا يختلفون أن الآية المذكورة فيها كان بدء نزولها: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم}[النساء: 95].
– وأن ابن أم مكتوم وأبا أحمد بن جحش لما ذكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عجزهما عن الجهاد بالضر الذي بهما أنزل الله {غير أولي الضرر} فصارت الآية {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله}.
– ولم يكن ذلك عندنا – والله أعلم – على أن الله عز وجل أرادهما وأمثالهما بهذه الآية مع عجزهما عن المعنى الذي فيها مما يفضل به المجاهدون على القاعدين {غير أولي الضرر}، ولكنهما ذهب ذلك عنهما حتى كان منهما من القول ما ذكر عنهما في هذه الآثار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل عند ذلك على رسوله {غير أولي الضرر} إعلاما منه إياهما أنه لم يردهما، ولا أمثالهما بذلك التفضيل الذي فضل به المجاهدين على القاعدين.
فكيف يجوز أن يكون الأمر بخلاف ذلك، وقد سمعوا الله عز وجل يقول: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}، يعني: في تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل : أفيجوز أن يذهب عنهما مثل هذا من مراد الله عز وجل بهذه الآية ؟
قيل له : وما تنكر من هذا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه في الصيام {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود}، وتلاها عليهم حملوها على ما قد ذكره سهل بن سعد الساعدي من حملهم إياها عليه، حتى أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم ما أعلمهم به أن مراده جل وعز غير ما ظنوه به جل وعز”. انتهى.
المسألة الثاني: نزول الوحي، وفيه عدة مسائل:
الأولى: وقت بدء الوحي إليه – صلى الله عليه وسلم .
عن أبي قتادة الأنصاري – رضي الله عنه – قال: سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ – أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)). [أخرجه مسلم (1162)].
الثانية: طريقة بدء الوحي إليه – صلى الله عليه وسلم.
عن عروة بن الزبير : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء فيتحنث فيه – والتحنث : التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك.
ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال : اقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا بقارئ)).
قال: ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني)) فقال : اقرأ.
قلت: ((ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني))
فقال: اقرأ.
قلت : ((ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني))
فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم ..} الآيات إلى قوله {.. علَّم الإنسان ما لم يعلم}.
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال : ((زملوني، زملوني)). فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
قال لخديجة: ((أي خديجة، ما لي لقد خشيت على نفسي)) فأخبرها الخبر.
قالت خديجة: كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا، فو الله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل – وهو ابن عم خديجة أخي أبيها -، وكان امرأ تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي.
فقالت خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك.
قال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى.
فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أو مخرجي هم ؟! ))
قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك حيّاً أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي
وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن شهاب : فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو يحدِّث عن فترة الوحي – : ((بينا أنا أمشي، سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملَك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، ففرقت منه فرجعت. فقلت: زملوني، زملوني))، فدثروه، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر}
قال أبو سلمة : وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون.
قال: ثم تتابع الوحي . [رواه البخاري ( 4671 ) .
ومسلم ( 160 ) دون مرسل الزهري في محاولة انتحاره . ولما ذكرها البخاري أظهر أنها من مرسل الزهري حيث قال قال الزهري. …].
الثالثة: تعددت طرق الوحي التي كان يوحي بها الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها:
- تكليم الله تعالى مباشرة من وراء حجاب، يقظة كما حصل ليلة المعراج، ومناماً؛ كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ – أي : في المنام –)) فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، قُلْتُ : ((لَبَّيْكَ رَبِّ وَسَعْدَيْكَ ))، قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْتُ : ((رَبِّ لَا أَدْرِي … )) [رواه الترمذي ( 3234 )، وصححه الألباني في ” صحيح الترمذي “].
- النفث في الرُّوع .
وهو ما يقذفه الله في قلب الموحَى إليه مما أراد الله تعالى ، وهو داخل في ” الوحي ” المذكور في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى/ 51 ].
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي أَنّه لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ وَلاَ يَحْمِلَنّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَن تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ )). [رواه الحاكم في ” المستدرك ” ( 2 / 4 ) من حديث أبي أمامة ، وصححه الألباني في ” صحيح الجامع ” ( 2085 ) ].
قلت سيف بن دورة :وأخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود . وورد من حديث جابر عند ابن حبان 3239 : لا تستبطؤا الرزق فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له ، فاجملوا في الطلب أخذ الحلال وترك الحرام .
قال المناوي – رحمه الله – : ( في رُوعِي ) بضم الراء ، أي : ألقى الوحي في خلَدي وبالي ، أو في نفسي ، أو قلبي ، أو عقلي ، من غير أن أسمعه ولا أراه . [” فيض القدير ” ( 2 / 571 )].
- الرؤيا الصادقة .
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : ” أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ . [رواه البخاري].
وقال عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ – وهو من كبار التابعين – : ” رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ثُمَّ قَرَأَ ( إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) ” . [رواه البخاري ( 138 )].
- عن طريق جبريل عليه السلام ، وكان يأتيه على صور ، منها :
أ. أن يأتيه على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها .
عن مسروق أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ) التكوير/ 23 وقوله ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) النجم/ 13 ، 14 : فَقَالَتْ : أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ( إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ) . رواه مسلم ( 177 ) .
ب. أن يأتيه في مثل صلصلة الجرس .
عن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ ) . رواه البخاري ( 2 ) ومسلم ( 2333 )
قال البغوي – رحمه الله – :” قوله ( يأتيني في مثل صلصلة الجرس ) فالصلصلة : صوت الحديد إذا حرك ، قال أبو سليمان الخطابي : يريد – والله أعلم – أنه صوت متدارِك يسمعه ولا يثبته عند أول ما يقرع سمعه حتى يتفهم ، ويستثبت ، فيتلقفه حينئذٍ ويعيه ، ولذلك قال : وهو أشده عليَّ “. ” شرح السنَّة ” ( 13 / 322 ) .
وقال أبو العباس القرطبي – رحمه الله – :
وقوله ( وهو أشده عليَّ ) إنما كان أشد عليه لسماعه صوت الملك الذي هو غير معتاد ، وربما كان شاهَدَ الملَك على صورته التي خُلق عليها ، كما أخبر بذلك عن نفسه في غير هذا الموضع ، وكان يشتد عليه أيضاً ؛ لأنه كان يريد أن يحفظه ويفهمه مع كونه صوتا متتابعا مزعجاً ، ولذلك كان يتغير لونه ، ويتفصد عرقه ، ويعتريه مثل حال المحموم ، ولولا أن الله تعالى قواه على ذلك ، ومكَّنه منه بقدرته : لما استطاع شيئا من ذلك ، ولهلك عند مشافهة الملك ؛ إذ ليس في قوى البشر المعتادة تحمل ذلك بوجه .” المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم ” ( 6 / 172 ) .
وقال المباركفوري – رحمه الله – :
( وهو أشده علي ) أي : هذا القسم من الوحي أشد أقسامه على فهم المقصود ؛ لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة ، أشكلُ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود ، وفائدة هذه الشدة : ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى ورفع الدرجات . ” تحفة الأحوذي ” ( 10 / 79 ) .
ج. أن يتمثل له رجلاً ، قد يُرى من الصحابة ، كما في حديث جبريل المشهور ، وقد تمثل للنبي صلى الله عليه وسلم بصورة الرجل الغريب ، فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان .
وقد لا يُرى منهم ، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( … وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ ) . رواه البخاري ( 2 ) ومسلم ( 2333 ) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاني من التنزيل عليه بالوحي ، ويظهر ذلك بالعرق الذي كان يسيل من جبهته وجبينه في اليوم الشديد البرد ، إلا أن بعض صور الوحي كانت عليه يسيرة كتشكل جبريل بصورة رجل ، إلا أن أشدَّها عليه صلى الله عليه وسلم كانت مجيئ الوحي على مثل صلصلة الجرس – كما سيأتي – .
وكانت تحصل مع النبي صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي عليه أحوال ، يراها ويسمعها ويشعر بها من حوله من أصحابه رضي الله عنهم ، وفي بعضها معاناة شديدة ، ومن ذلك :
- أنهم كانوا يسمعون عند وجهه دويّاً كدويّ النحل .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل ” . رواه الترمذى ( 3173 ) .
قلت سيف بن دورة : هو في ضعيف الجامع .
وقال محققو المسند إسناده ضعيف لجهالة يونس بن سليم . وراجع علل الحديث لابن أبي حاتم حيث نقل تجهيله عن أبي حاتم.
قال النسائي هذا حديث منكر. لا أعلم رواه غير يونس. ويونس لا اغرفه تهذيب التهذيب . انتهى من تحقينا لنظرة النعيم
ويمكن أن يكون صوت دوي النحل باعتبار ما يسمعه من حول النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما هو صلى الله عليه وسلم فيسمعه كصلصلة الجرس .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – :
فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس ؛ لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين – كما في حديث عمر ” يُسمع عنده كدوي النحل ” – والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين ، وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه . ” فتح الباري ” ( 1 / 19 ) .
- أن جبينه وجبهته تفيضان بالعَرَق حتى في اليوم الشديد البرد .
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : ” وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا ” . رواه البخاري ( 2 ) ومسلم ( 2333 ) ولفظه : ” ثُمَّ تَفِيضُ جَبْهَتُهُ عَرَقًا ” .
( يفصم ) : ينقطع . ( يتفصد ) : يسيل .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – : “وفي قولها في اليوم الشديد البرد دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لما فيه من مخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد ، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية”. [” فتح الباري ” ( 1 / 21 ) ].
وعن عائشة – في حديث البراءة من الإفك – قالت :
حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِى الْيَوْمِ الشَّاتِ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الذي أُنْزِلَ عَلَيْهِ . رواه مسلم ( 2770 ) .
( الجمان ) هو حب من فضة يعمل على شكل اللؤلؤ ، وقد يسمى به اللؤلؤ .
- أنه يثقل وزنه صلى الله عليه وسلم جدّاً، حتى إن البعير الذي يكون عليه يكاد يبرك ، وحتى خشي زيد بن ثابت على فخذه أن ترضَّ وقد كانت فخذه رضي الله عنه تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم .
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : ” إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا ” . [رواه أحمد ( 41 / 362 ) وصححه المحققون].
قلت سيف بن دورة : على شرط المتمم على الذيل على الصحيح المسند
زاد البيهقي في ” دلائل النبوة ” ( 7 / 53 ) قولها ” مِن ثقل ما يوحي إلى رسول الله ” .
الجِران : باطن عنق الناقة .
قال السندي – رحمه الله – :
قوله ( فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا ) – بكسر الجيم – : باطن العنق ، والبعير إذا استراح مدَّ عنقه على الأرض .
حاشية ” مسند أحمد ” ( 41 / 362 ) .
وعن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قال : ” … فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي ” . رواه البخاري ( 2677 ).
- وكان تصيبه الشدة .
وعن عائشة – في حديث البراءة من الإفك – قالت : فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ . رواه مسلم ( 2770 ) .
قال بدر الدين العيني – رحمه الله – : ( البُرَحاء ) بضم الباء الموحدة وفتح الراء وبالحاء المهملة الممدودة ، وهو شدة الكرب ، وشدة الحمَّى أيضاً . ” عمدة القاري ” ( 1 / 43 ) .
- وكان يتغير وجهه صلى الله عليه وسلم فيتربَّد ثم يحمرُّ .
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : ” كَانَ نبي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوحي كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ ” . رواه مسلم ( 2334 ) .
قال النووي – رحمه الله – : ( وتربَّد وجهُه ) أي : علته غبرة ، والربد تغير البياض إلى السواد ، وإنما حصل له ذلك لعظم موقع الوحي ، قال الله تعالى ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلاً ) . ” شرح مسلم ” ( 11 / 190 ) .
وفي ( 15 / 89 ) قال : ومعنى تربد أي تغير وصار كلون الرماد . انتهى
وقد وصف الصحابي الجليل يعلى بن أمية وجه النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه بقوله ” فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ ( أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا ) ، كما رواه رواه البخاري ( 1463 ) ومسلم ( 1180 ) .
وقد جمع بينهما النووي رحمه الله فقال : وجوابه : أنها حمرة كدرة ، وهذا معنى ” التربد ” ، أو : أنه في أوله يتربد ثم يحمر ، أو بالعكس . ” شرح مسلم ” ( 15 / 89 ) .
- وكان صلى الله عليه وسلم ينكس رأسه ، ويغطيه بثوب .
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : ” كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ نَكَسَ رَأْسَهُ وَنَكَسَ أَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ فَلَمَّا أُتْلِىَ عَنْهُ رَفَعَ رَأْسَهُ ) . رواه مسلم ( 2335 ) .
أتلى : ارتفع عنه الوحى
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : ” … وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَرَفْنَا ذَلِكَ فِيهِ فَتَنَحَّى مُنْتَبِذًا خَلْفَنَا قَالَ فَجَعَلَ يُغَطِّي رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ وَيَشْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى عَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَتَانَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) . رواه أحمد ( 7 / 426 ، 427 ) وحسنه المحققون .
أخرجه أبو داود 447 مختصرا
- كان صلى الله عليه وسلم يحرِّك لسانه بسرعة وشدة ليحفظ عن جبريل حتى نهاه الله عن ذلك وطمأنه أنه سيجمع القرآن له في صدره .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) قَالَ : جَمْعُهُ لَه فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) قَالَ : فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ . رواه البخاري ( 5 ) ومسلم ( 448 ) .
ورواه مسلم ( 447 ) بلفظ : ” يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ يُعْرَفُ مِنْهُ ” .
قال ابن الجوزي – رحمه الله – :
تفسير هذا أنه كان يحرك شفتيه بما قد سمعه من جبريل قبل إتمام جبريل الوحي مخافة أن يذهب عنه جبريل وما حفظ فقيل له ( لا تحرك به ) أي القرآن ( لسانك لتعجل به ) أي بأخذه ( إن علينا جمعه وقرآنه ) أي علينا جمعه وضمه في صدرك ( فإذا قرأناه ) أي إذا فرغ جبريل من قراءته ( فاتبع قرآنه ) قال ابن عباس فاستمع وأنصت . ” كشف المشكل من حديث الصحيحين ” ( 1 / 528 ) .
- وكان يُسمع له غطيط كغطيط البَكر ، وهو الفتي من الإبل .
عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال : ” وددت أنى قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي فقال عمر : تعال ، أيسرك أن تنظر إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه الوحي ؟ قلت : نعم ، فرفع طرف الثوب ، فنظرت إليه له غطيط ، وأحسبه قال : كغطيط البَكر . رواه البخارى ( 1789 ) ومسلم ( 1180 ) .
فرع: وكل ما أصاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من كربٍ وشدَّة لا شك أنه بسبب ثقل الوحي الذي أخبره الله تعالى به قبل إنزاله عليه ، وقد هيَّأه تعالى لذلك التلقي .
قال أبو شامة المقدسي – رحمه الله – : وهذا العرق الذي كان يغشاه صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث ، واحمرار الوجه ، والغطيط ، المذكوران في حديث يعلى بن أمية ، وثقله على الراحلة ، وعلى فخذ زيد بن ثابت كما ورد في حديثين آخرين : إنما كانت لثقل الوحي عليه كما أخبره سبحانه في ابتداء أمره بقوله {إنِّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}، وذلك لضعف القوة البشرية عن تحمل مثل ذلك الوارد العظيم من ذلك الجناب الجليل ، وللوجل من توقع تقصير فيما يخاطب به من قول أو فعل .
قال ابن إسحاق : ” وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملهما ولا يستطيع لها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله عز وجل”. ” شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى ” ( ص 73 ، 74 ) .
—-
المسألة الثالثة: شرح الآية.
قال تعالى: {لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: (95)].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في (تفسيره): ”
قال البخاري: عن البراء، قال: لما نزلت: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله عز وجل {غير أولي الضرر}. وعن البراء، قال : لما نزلت : {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ادع فلانا)) فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال: (( اكتب : {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، أنا ضرير، فنزلت مكانها : {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله}.
وقال البخاري أيضا: حدثني سهل بن سعد الساعدي: أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى علي : ((لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله}. فجاءه ابن أم مكتوم ، وهو يمليها علي، قال : يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت – وكان أعمى – فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله : {غير أولي الضرر}. انفرد به البخاري دون مسلم، وقد روي من وجه آخر عن زيد فقال الإمام أحمد :
حدثنا سليمان بن داود ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثابت : إني قاعد إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أوحي إليه ، قال : وغشيته السكينة ، قال : فوقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة . قال زيد : فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سري عنه فقال : ” اكتب يا زيد ” . فأخذت كتفا فقال : ” اكتب : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون ) إلى قوله ( أجرا عظيما ) فكتبت ذاك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم – وكان رجلا أعمى – فقام حين سمع فضيلة المجاهدين، فقال : يا رسول الله، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى ، وأشباه ذلك ؟ قال زيد : فوالله ما مضى كلامه – أو ما هو إلا أن قضى كلامه – حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه، فقال : {اقرأ }. فقرأت عليه: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {غير أولي الضرر } قال زيد: فألحقتها، فوالله لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف.
ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج ، أخبرني عبد الكريم – هو ابن مالك الجزري – أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث – أخبره أن ابن عباس أخبره : لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر ، والخارجون إلى بدر .انفرد به البخاري دون مسلم .
وقد رواه الترمذي من طريق حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الكريم ، عن مقسم ، عن ابن عباس، وفيه: فنزلت : {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} درجات منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر. هذا لفظ الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
فقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} كان مطلقا ، فلما نزل بوحي سريع : {غير أولي الضرر} صار ذلك مخرجا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد – من العمى والعرج والمرض – عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم .
ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين، قال ابن عباس : {غير أولي الضرر} وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصحيح عند البخاري، عن أنس ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : ((إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه)). قالوا : وهم بالمدينة يا رسول الله ؟! قال : ((نعم حبسهم العذر)).
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وعن قدر.
ومن أقام على عذر فقد راحا.
وقوله: {وكلا وعد الله الحسنى} أي: الجنة والجزاء الجزيل.
وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية.
قلت سيف بن دورة : نقل البيهقي أنه فرض كفاية بعد هذا الحديث . سنن البيهقي 18394
ثم قال تعالى: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}، ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجنان العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وحلول الرحمة والبركات، إحسانا منه وتكريما; ولهذا قال تعالى:
{درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما}
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : {إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)).
وقال الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بلغ بسهم فله أجره درجة)) فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال : ((أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام)) .” انتهى. بتصرف يسير.
قلت سيف بن دورة : أبو عبيدة لم يسمع من أبيه . وورد من حديث كعب بن مرة وهو في أحاديث معلة ظاهرها الصحة 353 وسالم لم يسمع من شرحبيل .انتهى لبعضه شواهد كما في الصحيحة 2611 من حديث أبي قلابة عن شرحبيل بن حسنة .
لكنه يحتمل التقوية بهذين السندين
المسألة الرابعة: ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم
1- جواز كتابة القرآن في الألواح والأكتاف، وتقييد العلم بالكتابة.
2- قال النووي: وفيه طهارة عظم المذكي.
3- وجواز الانتفاع بعظم المذكي.
4- وفيه جواز اتخاذ الكاتب.
5- وتقريبه.
6- قال النووي: وفيه أن الجهاد فرض كفاية، وليس بفرض عين.
7- وفيه رد على من يقول: إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين، وبعده كفاية، والصحيح أنه لم يزل فرض كفاية من حين شرع.
8- ثبوت الجنة للشهيد.
9- المبادرة بالخير، وأنه لا يشتغل عنه بحظوظ النفس.
10- وجواز أخذ النفس بالشدة في الجهاد.
11- وبذل النفس في طلب الشهادة، وفي الوفاء بالعهد.
12- لقاء الشهداء ربهم ورضاهم عنه ورضاه عنهم فضيلة عظمى للشهادة والشهداء.
13- وثبوت الرضا منهم ولهم.
[فتح المنعم].
=====
======
مشاركة طارق أبي تيسير :
ونقل باحث قوله
دعوى بطلان أحاديث قعود أولي الضرر عن الجهاد(*)
مضمون الشبهة:
ويتساءلون: إذا كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم ينتبه لوجود ابن أم مكتوم، وأنه أعمى ومعذور، فهل الله – سبحانه وتعالى – غفل عن هذا حتى نزل النص وانتهى، وبعد اعتراض واستدراك ابن أم مكتوم تذكر الله – سبحانه وتعالى – ذلك فعدل في النص؟!
قال القرطبي: فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي، فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق؛ فيثبت على النية الصادقة ما لا يثبت على الفعل[11].
ومن ثم فلا حجة لمن يطعن في هذا الحديث الشريف الذي ثبتت صحته ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة:
- إن الأحاديث الواردة في سبب نزول قوله تعالى: )غير أولي الضرر((النساء:٩٥) بعد قوله تعالى: “لا يستوي القاعدون من المؤمنين” صحيحة كلها لا مطعن فيها ولا مغمز؛ وذلك لمجيئها من أكثر من طريق عن الصحابة – رضوان الله عليهم – ولورودها في الصحيحين؛ حيث أعلى درجات الصحة.
- إن نزول الوحي للمرة الثانية ليس دليلا على نسيان الله – سبحانه وتعالى – أو غفلته بل يدل على رحمته – سبحانه وتعالى – بعباده.
- إن نزول قوله تعالى: )غير أولي الضرر( بعد قوله تعالى: “لا يستوي القاعدون من المؤمنين” ليس فيه أدنى قصور في النص القرآني – كما يدعي هؤلاء – وإنما هو بمثابة البيان الشافي الكافي لما ظنه ابن أم مكتوم وغيره من أن عموم الاستواء في الآية يستوي فيه صاحب الضرر وغيره، فخاف من ذلك، وسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – الرخصة، فنزل قوله تعالى: )غير أولي الضرر( في الحال، ولا يظن أحد أن ما صدر من ابن أم مكتوم اعتراض أو استدراك على النص القرآني؛ لعلمه أن ذلك كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
- لا شك أن نزول قوله تعالى: )غير أولي الضرر( بعد شكوى ابن أم مكتوم وغيره ضرارتهم يعد من الحكم الجليلة لنزول القرآن مفرقا، إذ إن نزول القرآن كان على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال، ولكل قسم حكم ومقاصد لا يعرفها إلا من أنعم النظر وأجال البصر.
(*) تحرير العقل من النقل، سامر إسلامبولي، دار الأوائل، دمشق، 2001م.
[1] . صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: ) لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله (،، (8/ 108)، رقم (4593).
[2] . صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: سقوط فرض الجهاد عن المعذورين، (7/ 2965)، رقم (4828).
[3] . مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص106.
[4]. الناسخ والمنسوخ، النحاس، تحقيق: د. محمد عبد السلام محمد، مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1408هـ، ص62.
[5]. المقدمات الأساسية في علوم القرآن، عبد الله الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص36.
[6]. المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1422هـ/ 2003م، ص77 بتصرف.
[7]. صحيح: أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، باب: بيان مشكل ما روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السبب الذي نزلت فيه ) غير أولي الضرر ( (النساء: ٩٥) بعد أن نزل قبلها: ) لا يستوي القاعدون من المؤمنين ( (النساء:٩٥)، (4/ 151، 152). وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المشكل.
[8]. شرح مشكل الآثار، أبو جعفر الطحاوي، تحقي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، (4/ 151، 152).
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: قوله تعالى: ) وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (، (4/ 157)، رقم (1916). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، (4/ 1734)، رقم (2492).
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: رقم (81)، (7/ 732)، رقم (4423).
[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (5/ 342).