1061 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وعبدالحميد البلوشي، وكديم. ونوح وعبدالخالق وموسى الصوماليين
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ووالديهم ووالدينا)
———‘———‘——–
الصحيح المسند (2 / رقم 1061):
قال الترمذي رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بن محمد الدُّورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ المُقْرِئُ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الخَوْلَانِيُّ، أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ الجَنْبِيَّ، أَخْبَرَهُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَعَ)). «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ»، وَأَبُو هَانِئٍ اسْمُهُ: حُمَيْدُ بْنُ هَانِئٍ”.
========””=======
أولاً: تخريج الحديث: أخرجه الترمذي في السنن، أبواب الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه، حديث رقم 2349.
الحديث صحيح، الصحيحة (1506)، صحيح الترغيب والترهيب (830).
قال الألباني في ” السلسلة الصحيحة ” 4/ 10:
1506 ” أفلح من هدي إلى الإسلام و كان عيشه كفافا و قنع به “.
أخرجه الحاكم (4/ 122) من طريق ابن وهب عن أبي هاني الخولاني عن أبي علي
الجنبي – و هو عمرو بن مالك – عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره. و قال: ” صحيح الإسناد “. و وافقه
الذهبي. و هو كما قالا. و أخرجه الترمذي (2/ 56) و ابن حبان (2541 (
و الحاكم (1/ 35) و كذا ابن المبارك في ” الزهد ” (553) و من طريقه
القضاعي في ” مسنده ” (ق 52/ 1) و أحمد (6/ 19) من طريق حيوة بن شريح:
أخبرني أبو هاني … بلفظ: ” طوبى لمن هدي … ” الحديث. و قال الترمذي:
” حديث حسن صحيح “. و قال الحاكم: ” صحيح على شرط مسلم “. و وافقه الذهبي.
و أقول: الصواب: أنه صحيح فقط كما قالا في الرواية الأولى، فإن عمرو بن مالك
لم يخرج له مسلم شيئا. و له شاهد يرويه حسام بن مصك عن ثابت عن أنس بن مالك
مرفوعا بلفظ: ” طوبى لمن أسلم و كان عيشه كفافا “. أخرجه أبو عبد الله الرازي
في ” مشيخته ” (ق 26/ 2). لكن حسام هذا قال الحافظ: ” ضعيف يكاد أن يترك ”
و له شاهد آخر صحيح بنحو الرواية الأولى من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا
و قد مضى تخريجه برقم (129) و ذكرنا له هناك ثلاث طرق لا تجدها في كتاب آخر.
ثانياً: شرح الحديث:
قال محمد بن علان الصديقي في [دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين]، في شرحه للحديث: (وعن أبي محمد فضالة) بفتح الفاء وبالضاد المعجمة، (ابن عبيد) بصيغة التصغير ابن ناقذ بالمعجمة ابن قيس بن صهيب بن الأصرم بن جحجبا بجيمين مفتوحتين، بينهما حاء ساكنة، وبباء موحدة ابن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس (الأنصاري) العمري (رضي الله عنه). قال المصنف –أي النووي- في «التهذيب»: أول مشاهده أحد شهدها وما بعدها من المشاهد ومنها بيعة الرضوان، وشهد فتح مصر وسكن دمشق وولى قضاءها لمعاوية وأمره على غزو الروم في البحر، روي له عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خمسون حديثاً، روى له مسلم منها حديثين، توفي بدمشق ودفن بباب الصغير سنة ثلاث وخمسين، وقيل: تسع وستين والصحيح الأول فقد نقلوا أن معاوية حمل نعشه وقال لابنه: أعني يا بنيّ فإنك لا تحمل بعده مثله، وتوفي معاوية سنة ستين.
(أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: طوبى) قال في «المصباح» قيل: من الطيب، والمعنى: العيش الطيب، وقيل: الحسن، وقيل: الخير، وأصلها طيبي فقلبت الياء واو المجانسة الضمة، وفي كتاب الجهاد من «صحيح البخاري»: طوبى فعلى منكل شيء طيب، وهي ياء حولت إلى الواو، وهو من يطيب اهـ (لمن هدى) أي أوصل (للإسلام) فعدي باللام لتضمنه معنى أوصل.
و (طوبى) هي: شجرة في الجنة يخرج منها حلل أهل الجنة، وثيابهم.
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن هدي إلى الإسلام))، أي: من هداه الله عز وجل لهذا الدين العظيم.
قوله: ((هُدي)): أرشد ووفق، قال تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} (النور: 35) أي يوصله للدخول في جملة أهله (وكان عيشه كفافاً وقنع) الأقرب أنه بالبناء للمفعول من باب التفعيل كما يدل عليه ما قبله، ويحتمل أن يكون بتخفيف النون مفتوحة، والجملتان الأقرب كونهما معطوفتين على جملة الصلة، ويجوز كونهما في محل الحال من نائب فاعل هدي، فقوله: ((وكان عيشه كفافاً))،أي: بقدر ما يكفيه، لا زيادة في رزقه ولا نقصان، يعني: بقدر حاجته. أي: رضي بما عنده.
قوله: ((وقنع))، وهذا الحديث هو مثل الحديث الذي جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً، وقنعه الله بما آتاه))، يعني: أن الفضل من الله سبحانه وتعالى، وهذا الإنسان أفلح بفضل الله سبحانه؛ لأن الله هو الذي هداه للإسلام، وهو الذي رزقه سبحانه، وهو الذي سخر له هذا الرزق، بحيث جعله على قدر حاجته، لا زيادة فيه ولا نقصان؛ حتى لا يُفتن هذا الإنسان، والله هو الذي من عليه بأن رزقه القناعة، والله هو الذي من عليه بالفلاح سبحانه وتعالى.
وقد يهدي الله الإنسان إلى الإسلام ويكون عيشه كفافاً ولكنه لا يقنع، بل يتسخط، فلا يزال يشكو ربه ليل نهار، ويقول: ربنا يعطي الناس ولا يعطيني، فيسخط الله عز وجل عليه.
وقد يهدي الله عز وجل الإنسان إلى الإسلام، ويعطيه رزقاً واسعاً، ويشكر هذه النعم العظيمة ويؤدي الحقوق فيها فهذا أيضاً له الجنة.
إن الفقير الصابر له أجر عظيم، والغني الشاكر أيضاً له أجر عظيم (رواه الترمذي وقال: حديث صحيح) قال في «الجامع الصغير»: ورواه ابن حبان والحاكم في «مستدركه». انتهى بتصرف يسير.
قال الشيخ الألباني في شرحه الصوتي لكتاب الترغيب والترهيب الحديث السابع والعشرين: وهو قوله رحمه الله وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع) طوبى هنيئا له أو شجرة له في الجنة فهي بشارة له وأنه من أهل الجنة من هو (لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافا) لا مقترا عليه في الرزق ولا موسعا وليس ذلك رغما عنه وإنما من القناعة في نفسه حيث قال (وكان عيشه كفافا وقنع) أي رضي بما قسم الله عز وجل له كما جاء في الحديث الصحيح (وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) ومثل هذا الحديث الحديث الآتي بعده لكن الحديث الأول رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح والحاكم
[متفرقات للألباني-265].
ثالثاً: فما يتعلق بالحديث من المسائل:
الحديث يتعلق بفضل الإسلام، والقناعة في العيش.
[القناعة .. مفهومها .. منافعها .. الطريق إليها]
يزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رُزقوا إذا قلّت فيهم القناعة، وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم؛ حيث يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم.
ولا تُبصر من هم تحتهم، فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد؛ فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبدًا.
ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبدًا؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال.
1 – مفهوم القناعة:
توجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرَّف بعض أهل اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي [لسان العرب، مادة (قنع) (11/ 321)].
قال ابن فارس: “قنع قناعة: إذا رضي، وسميت قناعة؛ لأنه يُقبل على الشيء الذي له راضيًا” [معجم مقاييس اللغة مادة (قنع) (5/ 33)].
وأما الزهد فهو ضد الرغبة والحرص على الدنيا. والزهادة في الأشياء ضد الرغبة، وذكر ابن فارس أن مادة (زهد) أصل يدل على قلة الشيء قال: والزهيد: الشيء القليل [لسان العرب، مادة (زهد (6/ 97)، معجم مقاييس اللغة مادة (زهد) (3/ 30)].
وعرَّف شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – الزهد بقوله: ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله – عز وجل -[مجموع الفتاوى (11/ 27) وانظر مكارم الأخلاق عند ابن تيمية (259).]
ونحا فريق من أهل الاصطلاح إلى تقسيم القناعة، وجعل أعلى مراتبها الزهد كما هو صنيع الماوردي؛ حيث قال: “والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يقتنع بالبُلغة من دنياه ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه؛ وهذا أعلى منازل أهل القناعة، ثم ذكر قول مالك بن دينار: أزهد الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بُلغته.
الوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة، وهذا أوسط حال المقتنع، وذكر فيه قول بعضهم: من رضي بالمقدور قنع بالميسور.
الوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سُنح، فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرًا، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيرًا، وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة، فأما الرغبة: فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت، وأما الرهبة: فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت”ا. هـ. [مختصرا من أدب الدنيا والدين (328 – 329)].
وبناءً على تقسيم الماوردي فإن المنزلة الأولى هي أعلى منازل القناعة وهي الزهد أيضًا، والمنزلة الثالثة هي التي عليها أكثر الذين عرّفوا القناعة وهي مقصود مقالتنا تلك.
وعلى هذا المعنى فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب، وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن يُنافَق المسؤول من أجل منصبه وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميّع مبدأه رغبة في مال أو جاه.
وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يُذِلَّ المرء نفسه لغير الله – تعالى – لحصول مرغوب.
وليس القانع ذاك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رتب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى.
وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين، ولكن القناعة تأبى أن تلج هذه الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه، حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض من أجلها، ويرتكب المحرمات من ربًا ورشوة وكسب خبيث حفاظًا عليها أو تنمية لها.
وكم من مستور يجد كفافًا ملأ الطمع قلبه حتى لم يُرضه ما قسم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهمًا ولا فلسًا.
2 – فوائد القناعة:
إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة ومن تلك الفوائد:
1 – امتلاء القلب بالإيمان بالله – سبحانه وتعالى – والثقة به، والرضى بما قدر وقسم، وقوة اليقين بما عنده – سبحانه وتعالى -؛ ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله – تعالى – قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم، حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئًا.
يقول ابن مسعود – رضي الله عنه -: إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق. وقال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى -: أسرُّ أيامي إليَّ يوم أُصبح وليس عندي شيء. وقال الفضيل ابن عياض – رحمه الله تعالى -: أصل الزهد الرضى من الله – عز وجل -. وقال أيضًا: القُنوع هو الزهد وهو الغنى، وقال الحسن – رحمه الله تعالى -: إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله – عز وجل -. [انظر هذه الآثار في جامع العلوم والحكم (2/ 147) شرح حديث رقم (31)].
قلت سيف بن دورة: وليس هذا من الإمام أحمد سؤال الله الفقر لأننا قررنا أنه لا يجوز ولم يثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل الفقر … . إنما هذا من الإمام أحمد إخبار عن حاله الخاشعة الملتجأه إلى ربها في حال قدر عليه عدم وجود شيء في البيت.
2 – الحياة الطيبة: قال – تعالى -: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]، فَسَّر الحياةَ الطيبة عليٌّ وابن عباس والحسن – رضي الله عنهم – فقالوا: الحياة الطيبة هي القناعة، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي – رحمه الله تعالى -: من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه. [أخرجه عن علي والحسن الطبري في تفسيره (14/ 17) عند تفسير الآية (97) من سورة النحل، وأخرجه الحاكم عن ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي (2/ 356)، وقول ابن الجوزي في نزهة الفضلاء: ترتيب سير أعلام النبلاء (1504)].
3 – تحقيق شكر المنعم – سبحانه وتعالى -؛ ذلك أن من قنع برزقه شكر الله – تعالى – عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط – والعياذ بالله – ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس” [أخرجه ابن ماجة (4217) والبيهقي في الزهد الكبير (818) وأبو نعيم في الحلية (10/ 365) وحسنة البوصيري في الزوائد (3/ 300)].
4 – الفلاح والبُشْرى لمن قنع؛ فعن فضالة بن عبيد – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا، وقنع)) [ت، حم]، وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قد أفلح من أسلم ورُزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه)) [م، ت].
5 – الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات: كالحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالبًا ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها، فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.
قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحدًا على رزق الله، ولا تَلُمْ أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله – تبارك وتعالى – بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. [أخرجه ابن أبي الدنيا في اليقين (118) الروح: الاستراحة]
وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غمًا الحسود، وأهنأهم عيشًا القنوع. [القناعة لابن السني (58) عن موسوعة نضرة النعيم (3173)]
6 – حقيقة الغنى في القناعة؛ ولذا رزقها الله – تعالى – نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وامتن عليه بها فقال – تعالى -: {ووجدك عائلا فأغنى} [الضحى:8]، نزّلها بعض العلماء على غنى النفس؛ لأن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تُفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال [فتح الباري لابن حجر العسقلاني (11/ 277)].
وذهب بعض المفسرين إلى أن الله – تعالى – جمع له الغنائيْن: غنى القلب، وغنى المال بما يسر له من تجارة خديجة.
وقد بيّن – عليه الصلاة والسلام – أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال – عليه الصلاة والسلام -: ((ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس)) [أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051)].
وعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ ” قلت: نعم! يا رسول الله، قال: “فترى قلة المال هو الفقر؟ ” قلت: نعم! يا رسول الله. قال: ((إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب)). الحديث [أخرجه ابن حبان في صحيحه (685)].
وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غده! فالعلة في القلوب: رضيً وجزعًا، واتساعًا وضيقًا، وليست في الفقر والغنى.
ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خطيبًا في الناس على المنبر يقول: “إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه”. [أخرجه أحمد في الزهد (117) وأبو نعيم في الحلية (1/ 50)]، وسئل أبو حازم فقيل له: ما مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس. [الحلية لأبي نعيم (3/ 231)]، وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك. [إحياء علوم الدين (4/ 212) عن نضرة النعيم (3174)].
7 – العز في القناعة، والذل في الطمع؛ ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزًا بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعًا: “شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس” [أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 253) والقضاعي في مسند الشهاب (151) والحاكم وصححه (4/ 324)].
وكان محمد بن واسع – رحمه الله تعالى – يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد [إحياء علوم الدين (3/ 293)].
وقال الحسن – رحمه الله تعالى -: لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم؛ فإذا فعلت ذلك استخفُّوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك [الحلية (3/ 20)].
وقال الحافظ ابن رجب – رحمه الله تعالى -: وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس، والاستغناء عنهم؛ فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك. [جامع العلوم والحكم (2/ 168)].
والإمامة في الدين والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغنى عن الناس، واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ. قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم. [جامع العلوم والحكم (2/ 169)].
3 – صور من قناعة النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيمانًا ويقينًا، وأقواهم ثقة بالله – تعالى – وأصلحهم قلبًا، وأكثرهم قناعة ورضيً بالقليل، وأنداهم يدًا وأسخاهم نفسًا، حتى كان – عليه الصلاة والسلام – يفرِّق المال العظيم: الوادي والواديين من الإبل والغنم ثم يبيت طاويًا.
وكان الرجل يُسْلم من أجل عطائه صلى الله عليه وسلم ثم يحسن إسلامه. قال أنس – رضي الله عنه -: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا؛ فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. [لطائف المعارف (307)].
وقال صفوان بن أمية – رضي الله عنه -: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لمن أبغض الناس إليَّ؛ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ. قال الزهري: أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة [مغازي الواقدي (2/ 854)]، وقال الواقدي: أعطاه يومئذ واديًا مملوءًا إبلًا ونعمًا حتى قال صفوان – رضي الله عنه -: أشهد: ما طابت بهذا إلا نفس نبي [أخرجه مسلم في الفضائل (2312)].
وقال أنس – رضي الله عنه -: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة. [أخره البخاري (6459) ومسلم (2973)].
أما تلك الصورة الرائعة من بذله – عليه الصلاة والسلام – التي جعلت أقوامًا وسادة وعتاة من أهل الجاهلية تلين قلوبهم للإسلام وتخضع للحق، فأمامها صور عجيبة لا تقل في جمالها عنها من قناعته – عليه الصلاة والسلام – ورضاه بالقليل وتقديم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل وترك الدنيا لأهل الدنيا، ومن ذلكم:
أولًا: قناعته صلى الله عليه وسلم في أكله:
أ – روت عائشة رضي الله عنها – تخاطب عروة بن الزبير – رضي الله عنهما – فقالت: “ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقِدَت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه”. [أخرجه مسلم (2974)].
ب – وعنها – رضي الله عنها – قالت: “لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين”. [أخرجه البخاري في الرقاق (6457)].
ج – وعن قتادة – رضي الله عنه – قال: كنا نأتي أنس بن مالك وخبّازه قائم، وقال: كلوا؛ فما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفًا مُرقَّقًا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطًا بعينه قط”. [أخرجه أحمد (1/ 391) والترمذي وقال حسن صحيح (2378) وابن ماجه (419) والحاكم (4/ 310)].
ثانيًا: قناعته صلى الله عليه وسلم في فراشه:
أ – عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف”.
ب – وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: “نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً؛ فقال: ما لي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها”. [أخرجه ابن حبان (704) ونحوه من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قصة إيلائه من نسائه عند أحمد (1/ 33) والبخاري (2468) ومسلم (1479)].
ج – وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سرير مشبك بالبردي عليه كساء أسود قد حشوناه بالبردي، فدخل أبو بكر وعمر عليه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم نائم عليه، فلما رآهما استوى جالسًا فنظر، فإذا أثر السرير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وعمر – وبكيا -: يا رسول الله! ما يؤذيك خشونة ما نرى من سريرك وفراشك، وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج؟ فقال: لا تقولا هذا؛ فإن فراش كسرى وقيصر في النار، وإن فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنة”. [أخرجه البخاري (6455) ومسلم (2971)].
ثالثًا: تربيته صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة:
لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه والصبر على القلة والزهد في الدنيا حينما خبرهن بين الإمساك على ذلك أو الفراق والتمتع بالدنيا كما قال الله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيما)) [الأحزاب: 28،29].
فاخترن – رضي الله عنهن – الآخرة، وصبرن على لأواء الدنيا، وضعف الحال، وقلة المال طمعًا في الأجر الجزيل من الله – تعالى – ومن صور تلك القلة والزهد إضافة إلى ما سبق:
أ- ما روت عائشة – رضي الله عنها – قالت: ” ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر”. [أخرجه مسلم (2970)].
ب – وعنها – رضي الله عنها – قالت: ” ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم”. [أخرجه البخاري (6454) ومسلم (2970)].
ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم في تربيته تلك على نسائه بل حتى أولاده رباهم على القناعة فقد أتاه سبي مرة، فشكت إليه فاطمة – رضي الله عنها – ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال:”لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع”. [جزء من حديث أخرجه أحمد (1/ 97 – 106 – 153) والبخاري في الفضائل وفي فرض الخمس وفي النفقات وفي الدعوات (7/ 71)].
ولم يكن هذا المسلك من القناعة إلا اختيارا منه صلى الله عليه وسلم وزهدًا في الدنيا، وإيثارًا للآخرة.
نعم إنه رفض الدنيا بعد أن عرضت عليه، وأباها بعد أن منحها، وما أعطاه الله من المال سلطه على هلكته في الحق، وعصب على بطنه الحجارة من الجوع صلى الله عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام: ((عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب؛ ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك” [أخرجه أحمد (5/ 452) والترمذي وحسنه (2348) وأبو نعيم في الحلية (8/ 331) وفي سنده علي بن يزيد يضعف]. [القناعة .. مفهومها .. منافعها .. الطريق إليها – الحقيل]، بتصرف يسير.
مراجع حديث باب: المسند الصحيح (صحيح مسلم) , تأليف: مسلم بن حجاج النيسابوري.
والجامع الكبير (سنن الترمذي) , تأليف: محمد بن عيسى الترمذي.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي, تأليف: أبو العلا محمد عبدالرحمن المباركفوري.
وفيض القدير شرح الجامع الصغير, تأليف: زين الدين محمد المناوي القاهري.
———-‘———-‘———–‘
قال ابن عثيمين:
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات.
وعن أبي محمد فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً، وقنع)
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة -وهم أصحاب الصفة- حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح وعن أبي كريمة المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
هذه الأحاديث ذكرها الإمام النووي رحمه الله الحديث الأول هو مثل الحديث الذي جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، يعني: أن الفضل من الله سبحانه وتعالى، وهذا الإنسان أفلح بفضل الله سبحانه؛ لأن الله هو الذي هداه للإسلام، وهو الذي رزقه سبحانه، وهو الذي سخر له هذا الرزق، بحيث جعله على قدر حاجته، لا زيادة فيه ولا نقصان؛ حتى لا يُفتن هذا الإنسان، والله هو الذي من عليه بأن رزقه القناعة، والله هو الذي من عليه بالفلاح سبحانه وتعالى.
إن الإنسان المؤمن إذا أعطاه الله سبحانه شكر الله على ما أعطاه، وإذا منعه الله سبحانه صبر على ما منعه، فهو في كل أحواله راض عن الله سبحانه، قانع بما آتاه الله سبحانه وتعالى.
وليس معنى ذلك أن يقعد الإنسان في بيته ولا يطلب الرزق، ويقول: إنني راض بهذا الشيء، بل يمشي في الأرض، كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، فأنت تتعب نفسك حتى تحصَّل قوتك وقوت أهلك خوفاً من الإثم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).
فالإنسان المؤمن يبحث عن رزقه ويقنع بما أعطاه الله سبحانه، فإذا لم يقنع يستقل هذه النعم، ويظل يراقب غيره الذي أنعم الله عز وجل عليه وأعطاه أكثر مما أعطاه، أما المؤمن فيرضى بما آتاه الله، ويعلم أن الله يدخر له في الجنة خيراً من ذلك بكثير، فهو راضٍ برزق الله عز وجل حتى وإن كان كفافاً؛ لأنه يرجو رحمة ربه، فيكون قد أفلح، وهنا جاء في الحديث: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع).
وقد يهدي الله الإنسان إلى الإسلام ويكون عيشه كفافاً ولكنه لا يقنع، بل يتسخط، فلا يزال يشكو ربه ليل نهار، ويقول: ربنا يعطي الناس ولا يعطيني، فيسخط الله عز وجل عليه.
وقد يهدي الله عز وجل الإنسان إلى الإسلام، ويعطيه رزقاً واسعاً، ويشكر هذه النعم العظيمة ويؤدي الحقوق فيها فهذا أيضاً له الجنة.
إن الفقير الصابر له أجر عظيم، والغني الشاكر أيضاً له أجر عظيم، ولكن أيهما أفضل؟ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فلو كان الغنى وإعطاء الكثير من الدنيا شيئاً أحسن للإنسان وأفضل له، فإن الله كان سيعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله يجوع صلى الله عليه وسلم ويبيت طاوياً، وليس المعنى أن يتمنى الإنسان الشر والفقر، بل يسأل الله عز وجل من رزقه ومن فضله، فما آتاه الله عز وجل حمده وشكره عليه سواء أعطاه كفافاً أو أعطاه زائداً عن حاجته، بل مهما أعطاه شكر ربه على نعمه وعلى عطيته.
——–
——
– الصابر يتحصل على الصلوات، والرحمة، والهداية من الله ـ تعالى ـ للعبد الصابر؛ قال الله عز وجل: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
طلب الهداية أولا ثم الرزق:
قال تعالى: في محاجة إبراهيم لقومه:
(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)
[سورة الشعراء 79 – 83]
فقدم نعمة الهداية وختمها بالمغفرة ثم طلب اللحوق بالصالحين
والهداية من الله: ففي الصحيح المسند:
1041 – قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي حدثنا خالد بن صبيح المري قاضي البلقاء حدثنا إسماعيل بن عبيد الله أنه سمع أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فرغ الله إلى كل عبد من خمس من أجله ورزقه وأثره وشقي أم سعيد.
أنواع الهدايات من الله عزوجل:
سؤال الله الهداية لما اختلف من الحق:
ففي دعاء استفتاح الليل. سأل الله أن:
يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإن حياة القلب بالهداية،
وفي الفاتحة دعاء الله الهداية للإسلام:
قال الشوكاني:
فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ” (مسلم 395) {اهدنا الصراط المستقيم} قرأه الجمهور بالصاد، وقرأ السراط بالسين، والزراط بالزاي؛ والهداية قد يتعدى فعلها بنفسه كما هنا، وكقوله: {وهديناه النجدين} وقد يتعدى بإلى كقوله: {اجتباه وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ}، وقد يتعدّى باللام كقوله {الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا}. انتهى. وهي الإرشاد، أو التوفيق، أو الإلهام، أو الدلالة. وطلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى {والذين اهتدوا زادهم هدى} {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} والصراط: الطريق، قال ابن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وهو كذلك في لغة جميع العرب. وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي عن النوّاس بن سمعان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” ضرب اللهُ مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مُفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاةٌ، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تفرّقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تَلجه، فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق: واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم. (صححه الألباني صحيح الجامع 3887)
{صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين} انتصب {صراط} على أنه بدل من الأوّل، وفائدته التوكيد لما فيه من التثنية، والتكرير، ويجوز أن يكون عطف بيان، وفائدته الإيضاح، والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذلك الفضل مِنَ الله وكفى بالله عَلِيماً} وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام
هدايات أخرى:
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- سؤال الله الهداية لأحسن الأخلاق؛ كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن علي بن أبي طالب عن رسول الله أنه كان إذا قام من الليل، وفيه: ( … واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) ..
قد تكون الهداية بعد ابتلاء:
قال ابن القيم – رحمه الله – في مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 299 – 301): وإذا تأمَّلْتَ حكمتَه سبحانه فيما ابتلى به عبادَه وصفوته بما ساقهم به إلى أجَلِّ الغايات، وأكمل النهايات، التي لم يكونوا يعبُرون إليها إلا على جسرٍ من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسرُ لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عُبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاءُ والامتحانُ عينَ المِنَح في حقهم والكرامة، فصورتُه صورةُ ابتلاء وامتحان، وباطنُه فيه الرحمة والنعمة والمنة، فكم لله من نعمةٍ جسيمةٍ، ومِنَّةٌ عظيمة، تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان! فتأمَّلْ حال أبينا آدم، وما آلتْ إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء، والتوبة والهداية ورفعة المنزلة، ولولا تلك المحنةُ التي جرتْ عليه، وهي إخراجه من الجنة، وتوابع ذلك؛ لما وصل إلى ما وصل إليه، فكم بين حالته الأولى وحالته الثانية في نهايته!
– المجاهدة للوصول للهداية (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
وكقصة إسلام سلمان الفارسي.