1060 التعليق على الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي، وكديم.
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان رحمه الله ووالديهم ووالدينا)
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
========
الصحيح المسند (2 / رقم 1060):
قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله: حَدَّثَنَا العَبَّاسُ ابن محمد قَالَ: أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، أخبرنا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حدثني أَبُو هَانِئٍ الخَوْلَانِيُّ، أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ الجَنْبِيَّ، أَخْبَرَهُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الخَصَاصَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ، حَتَّى تَقُولَ الْأَعْرَابُ: هَؤُلَاءِ مَجَانِينُ أَوْ مَجَانُونَ، فَإِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ لَأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً» قَالَ فَضَالَةُ: «وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».
قال الوادعي رحمه الله: هو حديث صحيح.
========
أولاً: تخريج الحديث:
قال الألباني في ” السلسلة الصحيحة ” 5/ 202:
أخرجه الترمذي (2369) وابن حبان (2538) وأحمد (6/ 18 – 19) وأبو نعيم في ” الحلية ” (2/ 17) عن حيوة بن شريح: أخبرني أبو هاناء عن عمرو بن مالك أنه سمع فضالة بن عبيد يقول: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالناس خر رجال من قامتهم في الصلاة، لما بهم من الخصاصة و هم من أصحاب الصفة حتى يقول الأعراب: إن هؤلاء مجانين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة انصرف إليهم، فقال: ” فذكره، و قال الترمذي: ” حديث حسن صحيح “.
قلت: وإسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي هاناء، و هو ثقة. انتهى.
أورده الترمذي في جامعه، أبواب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله، رقم (2542).
وأورده ابن حبان رحمه الله في صحيحه، في كتاب الرقائق، باب ذكر الإخبار بأنّ على المرء عند العدم النظرَ إلى ما ادخر له من الأجر دون التلهف على ما فاته من بغيته، رقم (724). قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
ثانياً: شرح الحديث:
قال المباركفوري رحمه الله في (تحفة الأحوذي): قوله: “يخر رجال من قامتهم في الصلاة” أي قيامهم فيها، قال في القاموس: قام قوماً وقومة وقياماً وقامة انتصب “من الخصاصة” بالفتح، أي الجوع والضعف، وأصلها الفقر والحاجة “وهم أصحاب الصفة” بضم الصاد وتشديد الفاء، هم زهاد من الصحابة، فقراء غرباء، وكانوا سبعين، ويقلون حيناً ويكثرون حيناً، يسكنون صفة المسجد لا مسكن لهم ولا مال ولا ولد، وكانوا متوكلين ينتظرون من يتصدق عليهم بشيء يأكلونه ويلبسونه.
قلت سيف بن دورة: سيأتي بيان أنهم تفرغوا للجهاد. ولطلب العلم مع قلة الأعمال في المدينة.
قال ابوهريرة رضي الله عنه كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملأ بطني وكان اخواني الأنصار شغلتهم أموالهم وكان اخواني المهاجرين شغلهم الصفق بالأسواق …..
وكذلك القراء الذين قتلهم الكفار غدرا كانوا يتحاملون لأجل الصدقة. ….
فانظر إلى هذه الهمة العالية.
“هؤلاء مجانين أو مجانون” الشك من الراوي، والأول جمع تكسير لمجنون، والثاني شاذ كقراءة تتلو الشياطون، كذا في المجمع”. انتهى.
قال محمد بن علان الصديقي في [دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين]، في شرحه للحديث: (مجانين) وذلك أنهم توهموا أن ذلك الخرور صادر عنهم اختياراً لا عن سبب يقتضيه، ((لو تعلمون ما لكم عند الله) أي ما أعده لكم مما لم تسمعه أذن ولم يره بصر، وفيه شهادة لهم بمكانتهم عند المولى سبحانه لصدق إيمانهم، وحسن مجاهدتهم وكمال وجهتهم. انتهى.
قال الصنعاني رحمه الله في [التنوير شرح الجامع الصغير، (9/ 148)، رقم (7423)]: ” (لو تعلمون ما لكم عند الله) من الأجر على الفاقة (لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة)، قاله لأهل الصفة لما كان يراه عليهم من الحاجة.
قال بعضهم: ينبغي للعبد أن يحمد الله على ما زوي عنه من الدنيا كما يحمده على ما أعطاه، وأين يقع ما أعطاه والحساب باقٍ عليه إلى ما عافاه منه، وبه، ولم يشغل قلبه بنيله، ويتعب جوارحه في طلبه، ويكثر فيه همه. انتهى
قال بنفس الكلام عبد الرؤوف المناوي رحمه الله في (فيض القدير شرح الجامع الصغير): إلا أنه زاد، فقال: ” وفيه: تفضيل الفقر على الغنى قالوا: بشر الفقراء الصابرين بما لم يبشر به الأغنياء المؤمنين وكفى به فضلا “.انتهى.
قلت سيف بن دورة: والمسألة تحتاج لبسط فلعل الله ييسر في مكان آخر.
ثالثاً: فما يتعلق بالحديث من المسائل:
أولا: قال الصنعاني رحمه الله في [التنوير شرح الجامع الصغير، (9/ 148)، رقم (7422)]، عند قوله صلى الله عليه وسلم” ((لو تعلمون ما ادخر لكم ما حزنتم على ما زوي عنكم. (حم) عن العرباض (صح)، قال رحمه الله:
” (لو تعلمون ما أدخر لكم) من الخيرات والمغانم كما يرشد إليه تمام الحديث بلفظ: “وليفتحن عليكم فارس والروم” وما كان للمصنف حذفه وهو تفسير لما طوي (ما حزنتم) الآن (على ما زوي عنكم) من النعم والحديث بشرى للمؤمنين وهو من أعلام النبوة (حم (2) عن عرباض بن سارية) قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخرج إلينا في الصفة وعلينا الحوبكية ويقول لنا ذلك، قال الهيثمي: رجاله وثقوا انتهى.
والمصنف رمز لصحته”. انتهى كلام الصنعاني رحمه الله.
قال المناوي رحمه الله في (فيض القدير شرح الجامع الصغير): معلقا تحت الحديث: ” تمامه عند مخرجه أحمد ((ولتفتحن عليكم فارس والروم))؛ وذلك لأنه تعالى خلق الخلق لبقاء لا فناء معه، وعز لا ذل معه، وأمن لا خوف معه، وغناء لا فقر معه، ولذة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه، وامتحنه في هذه الدار ببقاء يسرع إليه الفناء، وعز يقارنه ذل، وأمن معه خوف، وغنى ولذة وفرحة ونعيم مشوب بضده، وهو سريع الزوال.
فغلط أكثر الناس في هذا المقام إذ طلبوا البقاء وما معه في غير محله ففاتهم في محله، وأكثرهم لمن يظفر بما طلبه، والظافر إنما ظفر بمتاع قليل زواله قريب، فكيف يحزن العاقل على الفائت منه؟! “. انتهى.
قال الألباني رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: صحيح، (حم) عن العرباض، الصحيحة (2168): حل. انتهى.
ثانياً: ” التنافس على الدنيا:
أ – خطورة الحرص على الدنيا، والتنافس فيها بدون ضوابط:
1 – حديث عمرو بن عوف الأنصاري، وكان شهد بدرًا: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين ليأتي بجزيتها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو صالح أهل البحرين، وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم، وقال: أظنكم قد سمعتكم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ قالوا: أجل يا رسول الله، قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم. وهذا الحديث قد أخرجه الإمام البخاري-رحمه الله تعالى- في كتاب الجزية من صحيحه، وكذلك في كتاب الرقاق، وأخرجه الإمام مسلم-رحمه الله-، فهو حديث صحيح [رواه البخاري: 3158، 4015، 6425، ومسلم: 7614].
2 – عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدينارَ والدرهمَ أهلكا مَن كان قبلَكم، وما أراهما إلا مُهلِكاكم)). [أخرجه الطبري في الأوسط (1/ 111)، وعزاه الهيثمي في المعجم (10/ 245) إلى الكبير أيضاً، وقال: إسناده حسن].
فمن هذين النصين دليل واضح على أن التنافس على الدنيا والحرص على الدينار والدرهم بدون الضوابط الشرعية حتماً سيؤدي إلى الهلاك.
التنافس من المنافسة وهى الرغبة في الشيء ومحبة الأنفراد والمغالبة عليه وأصلها من الشيء نفسه في نوعه , قال النووي: ” قال العلماء: التنافس إلى الشيء المسابقة إليه، وكراهة أخذ غيرك إياه، وهو أول درجات الحسد”.
قال الحافظ بن حجر: ” قوله (فوالله ما الفقر أخشى عليكم) وهذه الخشية يحتمل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستفتح عليهم ويحصل لهم الغنى بالمال وقد ذكر ذلك في أعلام النبوة مما أخبر – صلى الله عليه وسلم – بوقوعه قبل أن يقع وفيه أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى ; لأن مضرة الفقر دنيوية غالبا ومضرة الغنى دينية غالبا.
قوله (فتهلككم) أي لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك قال ابن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس غيره فيها ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبا والفقير آمن من ذلك “.
ب – حقيقة الدنيا:
قال أبو الفرج الجوزي: ” ليس في الدنيا على الحقيقة لذة إن ما فيها هو راحة من مؤلم “.
وقال أيضاً: ” من تلمح أحوال الدنيا علم أن مراد الحق سبحانه اجتنابها. فمن مال إلى مباحها ليلتذ وجد مع كل فرحة ترحة، وإلى جانب كل راحة تعباً، وآخر كل لذة نقصاً يزيد عليها. وما رفع شيء من الدنيا إلا ووضع , فيعلم العاقل أن مراد الحق بهذا التكدير التنفير عن الدنيا، فيبقى أخذ البلغة منها ضرورة، وترك الشواغل، فيجتمع الهم في خدمة الحق , ومن عدل عن ذلك ندم على الفوات “.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم زهد العبد في الدنيا سببا لمحبة الله له ومحبة الناس.
وعن سهل بن سعد قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ” يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ازهد في الدنيا يحبك اللهوازهد فيما في أيدي الناس يحبوك ” تم بحمد الله”. انتهى مقال الشيخ عادل الشوربجي، بتصرف يسير.
ثالثاً: تعليق الشيخ عبيد الجابري على حديث فيه فوائد متعلقة بالباب: قال الإمام البخاريُّ – رحمه الله- في صحيحه في “كتاب الرِّقاق – باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها”
وذكر عمرو بن عوف …..
(أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)
الشيخ: هذا حديثٌ عظيمٌ، كبيرُ القدر، يحوي فوائد جمَّة.
الفائدة الأولى: أن أهل البحرين – وكانت تُطلَقُ على الأحساء وما يُعرف اليوم بالبحرين وغيرها- لم تكن من أهل الإسلام، بل كانوا من النَّصارى وفيها من اليهود من فيها، فَصالحهم رَسُول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الجِزية.
ثانيًا: يجوزُ لذوي الحاجات، من فُقراء ومَسَاكين، أَن يَطلبوا من بيتِ مالِ المُسلمين عن طريق حاكمهم، والحاكم القائِم يُعطي مِمَّا هو في سَعَتِهِ، ولاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، فإِذَا أعطاهم الإمام قَبِلوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَهم لم يَسْخَطُوا، وقد ذمَّ رَسُولُ اللهِ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتوّعد بوعدِ الله من كان مُبايعتُهُ للحاكم الإمام المُسلم من أجل الدُّنيا، إن أعطاهُ منها رضي، وإن لم يُعطهِ منها سَخِط، وذكرهُ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ” ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ , وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَلا يُزَكِّيهِمْ, وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” وأُسُّ الخوارج، وذو الخويصرة، الذي ثار في وجهِ أكرم الخلق – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثارَ في وجهِ محمدٍ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثارَ من أجل عرض الدُنيا، قال “اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ” هكذا قال، “والله إنها قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ” فقال رَسُولَ الله – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “وَيْحَكَ” أو قالَ ” وَيْلَك، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ “.
أما الْأَنْصَارُ – رَّضِيَ اللّه عَنْهُم- وقُرَيْش، أعني الْأَنْصَارُ والمهاجِرينَ من قُريش، لما قَسَم النَبِي – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القسمةَ وأعطى بعض صَنَادِيدَ العرب، فقال النَبِيُّ – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- “إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ” فَسَكنوا – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَ- لِعِلمِهِم أن رَسُولُ الله – صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمِل بأمرِ الله، وعمل لمصلحةِ الإسلامِ وأهلهِ، ومن هنا تعلمون – بارك اللهُ فيكم- أنَّ أهل الثورات الذين تسمعون بهم، ما بين الفَيْنةِ والفَيْنة، لا يثورون من أجلِ شرعِ الله ….
ومن فوائد هذا الحديث: أنَّ الإمام إذا تَعَرَّض له من يتَعَرَّض، أو يأتيهِ من يأتي للنيل مِما عنده أن يُبشرِهُم بالخير
أقول: ما يُؤتاه الناس من متاع الدنيا قسمان، وأعني به الدراهم والدنانير، قسمان:
– قسم: في الجيب، ينفق منه أهله في وجوه الخير، سلطّهم الله عليها فَأَهلَكُوها في الحق، فهؤلاء لا تضرهم الدُّنيا.
– القسم الثاني: من تَغلغَلت الدُّنيا في قُلوبِهم، واستحوذت عليهم، وشغلتهم عن الآخرة، فلم يَعودوا يعرفون معروفًا، ولم يعودوا ينكرون منكرًا إلا ما أوتوه من الدُّنيا، واسمعوا؛ قال رَسُول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَنَاءَ النَّهَار وَيَعْرِفُ للهِ فِيهِ حَقَّه، ويَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ كان لِي مِثْلَ مَالِ فُلَان لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، أو قال: لَوْ كَانَ لِي مَال لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، قَال: فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ”.
فالأول: غَنيٌّ شاكِر يُنفِقُ مِمَّا آتاه الله، يَعْرِف في ماله حقّ الله، وحقّ عباده فرفعه ذلك إلى أعلى المنازل.
والثاني: فقير صابر، نيته صادقه فبَلَّغه الله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مبلغ ذاك بنيته الصادقة,
وكَوْن العبد يسعى في تحصيل ما طاب له من المطاعم و المشارب و المناكِح على الوجه الصحيح, وإعفاف نفسه وأهل بيته فلا ضير عليه، و لا حَرَج عليه؛ ليكسب من الدُّنيا ما شاء من وجه حِلّه وإنفاقه في محابِّ الله ومراضيه من النفقة الواجبة وصِلة الرَّحم والبِرّ وجميع أوجه الخير.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثالثاُ: عقد النووي رحمه الله باباً في (رياض الصالحين)، فقال: باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس، وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات
قال الله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (59) (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم:59،60].
وقال تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (79) (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً) [القصص:79،80].
وقال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر:8) وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (الاسراء:18). والآيات في الباب كثيرة معلومة.
1/ 491 – وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض” متفق عليه.
وفي رواية: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض.
2/ 492 – وعن عُروة عن عائشة رضى الله عنها، أنها كانت تقولُ: ((والله يا ابن أختي إن كنا لننظرُ إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثم: ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. قلتُ: يا خالة، فما كان يعيشكم: قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنهُ قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائحُ وكانوا يرسلون إلى رسول الله من ألبانها فيسقينا)) متفق عليه.
3/ 493 – وعن أبي سعيد المقبري عن أبي هُريرة رضي الله عنه، أنه مرَّ بقومٍ بين أيديهم شاة مصلية، فدعوهُ فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير. رواه البخاري. وغيرهما مما أورده النووي رحمه الله.
قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرحه: ” هذا الباب ذكره المؤلف رحمه الله بعد باب الزهد في الدنيا، يبين فيه أنه ينبغي للإنسان ألا يكثر من الشهوات في أمور الدنيا، وأن يقتصر على قدر الحاجة فقط، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وذكر آيات فيها بيان عاقبة الذين يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات، فقال: وقول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} (59) (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (مريم:59،60).قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) أي من بعد الأنبياء الذين ذكروا قبل هذه الآية، خلف من بعدهم خلف لم يتبعوا طريقتهم وإنما {خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}.
وإضاعة الصلاة تعني التفريط فيها:
وقوله: (وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ): يعني ليس لهم همٌّ إلا الشهوات؛ ما تشتهيه بطونهم وفروجهم، فهم ينعمون أبدانهم ويتبعون ما تنعم به الأبدان، ويضيعون الصلاة والعياذ بالله.
ثم ذكر المؤلف حديث عائشة رضي الله عنها في بيان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ما شبع من خبز الشعير ليلتين تباعاً، مع أنه صلى الله عليه وسلم لو شاء لصارت الجبال معه ذهباً، ولكنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتصر على الدنيا بما يسوي الدنيا من الحاجة فقط، والله الموفق.”. انتهى كلامه رحمه الله.
======
======
——–‘——-‘——–
قاعدة (أنه لا يثبت في تمنى الفقر حديث وأحسنها حالا حديث اللهم أحيني مسكينا … و هو ضعيف وإن صح فمعناه التذلل والخضوع).
يروي فيه حديث ضعفه ابن كثير وابن تيمية وابن حجر
ونقل الحافظ ابن حجر في “التلخيص” (3/ 109) عن البيهقي أنه قال عن هذا الحديث:
” وَوَجْهُهُ عِنْدِي أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ الْمَسْكَنَةَ الَّتِي يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى الْقِلَّةِ , وَإِنَّمَا سَأَلَ الْمَسْكَنَةَ الَّتِي يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى الإِخْبَاتِ وَالتَّوَاضُعِ ” انتهى
ومثل هذا التوجيه قاله ابن تيمية
هذا يُرْوَى، لكنه ضعيف لا يثبت، ومعناه: أحيني خاشعا متواضعا، لكن اللفظ لم يثبت ” انتهى. “مجموع الفتاوى” (18/ 357).
وراجع أيضاً (18/ 326):
قال ابن بطال في شرح البخاري:
وقال (صلى الله عليه وسلم): (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف عليكم أن تفتح الدنيا عليكم. .) الحديث. وكان (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من فتنة الفقر، وفتنة الغنى، هذا كله أن ما فوق الكفاف محنة، لا يسلم منها إلا من عصمه الله، وقد قال (صلى الله عليه وسلم): (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى). وقال عمر بن الخطاب لما أوتى بأموال كسرى: (ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم وقطعوا أرحامهم. وقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم إنك منعت هذا رسولك إكراما منك له، وفتحته علي لتبتلينى به، اللهم سلطنى على هلكته فى الحق واعصمنى من فتنته). فهذا كله يدل على فضل الكفاف، لا فضل الفقر كما خيل لهم، بل الفقر والغنى بليتان كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ من فتنتهما …… فأما ما روى عنه أنه كان يقول: (اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا، واحشرنى فى زمرة المساكين). فإن ثبت فى النقل فمعناه ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة إلى الله، ويدل على صحة هذا التأويل أنه ترك أموال بنى النضير وسهمه من فدك وخيبر، فغير جائز أن يظن به أن يدعو إلى الله ألا يكون بيده شاء، وهو يقدر على إزالته من يده بإنفاقه. وما روى عنه أنه قال: (اللهم من آمن بى وصدق ما جئت به، فأقلل له من المال والولد). فلا يصح فى النقل ولا فى الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك فى المال وحده لكان محتملا أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه بقلة الولد فكيف يدعو أن يقل المسلمون، وما يدفعه العيان مدفوع عنه (صلى الله عليه وسلم)، وأحاديثه لا تتناقض. كيف يذم معاوية، ويأمر أبا لبابة وسعدا أن يبقيا ما ذكر من المال ويقول: إنه خير، ثم يخالف ذلك، وقد ثبت أنه دعا لأنس بن مالك وقال: (اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته).
قال أنس: فلقد أحصت ابنتى أنى قدمت من ولد صلبى مقدم الحجاج البصرة مائة وبضعة وعشرين نسمة بدعوة رسول الله، وعاش بعد ذلك سنين وولد له). فلم يدع له بكثرة المال إلا وقد أتبع ذلك بقوله: (وبارك له فيما أعطيته)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما في [مجموع الفتاوى ((148) / (20))]: ((الْمَحْمُودُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ إرَادَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَالْمَذْمُومُ إنَّمَا هُوَ مَنْ تَرَكَ إرَادَةَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَاشْتَغَلَ بِإِرَادَةِ الدُّنْيَا عَنْهَا.
فَأَمَّا مُجَرَّدُ مَدْحِ تَرْكِ الدُّنْيَا فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ.
وَلَا تَنْظُرْ إلَى كَثْرَةِ ذَمِّ النَّاسِ الدُّنْيَا ذَمًّا غَيْرَ دِينِيٍّ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعَامَّةِ إنَّمَا يَذُمُّونَهَا لِعَدَمِ حُصُولِ أَغْرَاضِهِمْ مِنْهَا! … )
:وفي الحديث ((اللهم ارزق آلَ محمدٍ قوتاً)). رواه البخاري ح (6460)، ومسلم ح (1055).
فليس فيه الدعاء بالفقر:
قال القرطبي: “معنى الحديث أنه طلب الكفاف , فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة, وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغِنى والفقر جميعاً”.) نقله عنه ابن حجر في فتح الباري ح (11/ 299).
وكذلك قوله لأهل الصفة إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال: (لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجةً) رواه الترمذي وابن حبان وصححه الألباني. وهو في الصحيح المسند 1060 الخصاصة: الفاقة والجوع.
وهذا ليس فيه الدعاء عليهم بالفقر لكن حث لهم على الصبر
——–
في شرح رياض الصالحين لابن عثيمين:
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في شرح رياض الصالحين لحديثين
514 – وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: “كَانَ رسولُ اللَّه ? يَبِيتُ اللَّيَالِيَ المُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا وَأَهْلُهُ، لا يَجِدُونَ عَشاءً، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْز الشَّعِيرِ” رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.
515 – وعن فضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ: أَن رسولَ اللَّه ? كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ في الصَّلاةِ مِنَ الخَصَاصةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ، حَتَّى يَقُولَ الأَعْرَابُ: هؤُلاءِ مَجَانِينُ، فَإِذَا صلَّى رسولُ اللَّه ? انْصَرف إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى لأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً رواه الترمذي وقال: حديثٌ صحيحٌ.
26/ 516 – وعن أَبي كَريمَةَ المِقْدامِ بن مَعْدِيكَرِب قالَ: سمِعتُ رَسُولَ اللَّه ? يقولُ: مَا ملأَ آدمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإِنْ كَانَ لا مَحالَةَ فَثلُثٌ لطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لِشرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.
قال ابن عثيمين: وعلى كل حال، لا يفهم من هذه الأحاديث أن الإنسان يوجد عنده ما يأكله، ويترك ذلك ويبقى على الجوع، لا يفهم منه هذا، ليس هذا هو المطلوب، ولا يفهم من هذه الأحاديث أن الإسلام يدعو إلى ترك العمل، والقعود والإخلاد إلى الأرض، والكسل، فإن هذا مذموم شرعًا، والله -عز وجل- لما ذكر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وصفهم بأنهم (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) الفرقان: 20،يعني: يتّجرون، يبيعون، يشترون، يكتسبون، الإسلام يدعو إلى عمارة الدنيا وإقامتها على شرع الله -عز وجل-، وألا يكون ذلك على حساب الدين، وطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الإنسان تابعًا لشهواته سواء كانت من قبيل الشهوات المحرمة أو المباحة، فيتوسع فيها جدًّا، فهذا هو المذموم، أن يتطلع إلى ما في أيدي الناس، أن يكون مقياسه هو سعة العطاء، أن تكون الغبطة عنده يغبط الناس على ما عندهم من هذه الدنيا، فهذا خطأ،
وأصحاب الصفة كانوا يسقطون من الجوع، هؤلاء تفرغوا ليس عندهم أي عمل إلا الجهاد في سبيل الله، كما جاء وصفهم بأحاديث أخرى انتهى
قال ابن باز:
فهذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحثِّ على الصبر على ما يُصيب الإنسانَ من الفاقة والحاجة، وأن الله جلَّ وعلا يَأجُره على ذلك خيرًا كثيرًا، وأنَّ له سلفًا صالحًا، فقد أصاب ذلك سيدَ الخلق عليه الصلاة والسلام، وأصاب الصحابةَ من المهاجرين والأنصار ما أصابهم من الفاقة والحاجة.
وقد سبق قول عائشة رضي الله عنها: “لقد هلَّ هلالٌ، ثم هلالٌ، ثم هلالٌ ما أُوقد في أبيات النبي نارٌ”، قيل لها: ما كان يُعيشكم؟ قالت: “الأسودان: التمر والماء”.
فالله جلَّ وعلا يأجُر الصابرين على ما يُصيبهم من المحن والفاقة والمشقة، لكن ليس معنى هذا أن يُعطِّل الإنسانُ الأسباب، لا، عليه أن يأخذ بالأسباب: فيعمل ويطلب الرزق، لكن إذا أصابته فاقةٌ يصبر ولا يجزع، ويتحمّل كما تحمّل الصحابة.
والشِّبَع لا بأس به، والرِّيُّ لا بأس به، لكن إذا ترك بعضَ الشِّبَع وبعضَ الري ليتنفَّس وليُعطي بطنَه الراحة، فهذا لا بأس به.
وقد سبق أن النبي ? دعا أهل الصفة، وأعطى أبا هريرة قدحًا فيه لبن ليسقيهم، فسقاهم جميعًا، ثم بقي أبو هريرة والنبي ?، فقال له النبيُّ ?: اشرب، فشرب، ثم قال: اشرب، فشرب، ثم قال: اشرب، فشرب، ثم قال: اشرب، فقال: والذي بعثك بالحقِّ، لا أجد له مسلكًا، يعني: قد رويتُ جدًّا، فلا بأس أن يروى الإنسان ويشبع، لكن كونه يُعالج نفسه، ويُبقي شيئًا للنَّفَس في أكله وشربه، ولا يشبع كثيرًا، ولا يروى كثيرًا؛ يكون أصلح لحاله، وأصلح لجسمه، وأسلم من العواقب.
فعلى المسلم أن يأخذ بالأسباب؛ حتى يستغني هو ومَن تحت يده، وحتى يجد ما يسدّ حاجته؛ لقوله ?: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، وقوله ?: اليد العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى، وقوله ? لما سُئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقوله ?: لأن يأخذ أحدُكم حبله فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكفّ بها وجهه؛ خيرٌ له من سؤال الناس: أعطوه، أو منعوه، فالأسباب مطلوبة: بيع، أو شراء، أو غِراسة، أو غير ذلك من أسباب الرزق.
وفَّق الله الجميع. انتهى
ورد ما يدل على التعوذ من الجوع
عن أبي هـريرة، قال: كان رسول صلى عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة.
رواه أبو داود 1547
وحسنه الألباني
وفي المسند وسنن ابن ماجه عن زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة).
وهو في الصحيح المسند 351
قال الحسن: من أحب الدنيا وسرته، خرج حُب الآخرة من قلبه.
وقال عون بن عبدالله: الدنيا والآخرة في القلب ككفّتي الميزان بقدر ما ترجح إحداهما تخفُّ الأخرى.
وقال وهب: إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان: إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى.
وقال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صوماً وصلاة وجهاداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب منكم في الآخرة.
——
النظر بمنظار الشرع واجب يقي المرء الحيف
و لا نتمنى المرض ولا الفقر، ونسأل الله العافية والغنى عن الناس، لكن لو أصابنا شيء من ذلك هل هو دليل على أن الله يكرهنا ويبغضنا؟ لا.
بل هو دليل على: (إذا أحب الله عبداً ابتلاه).
إذاً ننظر بمنظار الشرع، والفقر مع أنه مكروه لنا، لكن فيه أجر عظيم لمن تلقاه بالصبر.
الرجل المقام عليه الحد كثير من الناس ينظر إليه باحتقار واشمئزاز؛ لأنه فعل هذه الجريمة، لكن هو إذا تاب وأقيم عليه الحد، ولذلك لما رُجم ماعز كان ممن رماه خالد بلحي جمل فتنضح الدم على وجه خالد فسبه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مه يا خالد -نهره- لقد تاب توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم)
——
للإستزادة:
وراجع شروحنا:
1415 الصحيح المسند؛
قال الإمام أبو داود رحمه الله: حدثنا موسى بن إسمعيل حدثنا حماد أخبرنا إسحق بن عبد الله عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم.
الصحيح المسند 1011
أخرج أحمد 4/ 204 عن عمرو بن العاص قال: لقد أصبحتم ترغبون في الدنيا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم. يزهد فيها، والله ما أتت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من دهره إلا كان الذي عليه أكثر مما له، قال: فقال له بعض أصحاب رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم: قد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسلف
الصحيح المسند
1476 عن مطرف بن عبد الله بن الشخير يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان بالكوفة أمير قال: فخطب يوما فقال: إن في إعطاء هذا للمال فتنة، وفي إمساكه فتنة، وبذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. في خطبته حتى فرغ، ثم نزل.
هذا حديث صحيح
الصحيح المسند
1349 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أخشى عليكم الفقر، ولكن أخشى عليكم التكاثر، وما أخشى عليكم الخطأ، ولكن أخشى عليكم العمد) وفي العلل لابن أبي حاتم رجح ابوحاتم انه موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه 1898
ولو صح فليس فيه تمني الفقر فقد قال بعضهم: أشار بهذا إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى؛ ?ن ضرر الفقر دنيوي وضرر الغنى ديني غالبا.
———