106 فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مشاركة أبي عيسى عبدالله البلوشي وعبدالله المشجري وعبدالملك
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
106 – قال أبو داود رحمه الله (ج 10 ص 102): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلَامِ يَعْنِي ابْنَ مُطَهَّرٍ أَبُو ظَفَرٍ أخبرَنَا مُوسَى بْنُ خَلَفٍ الْعَمِّيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً».
هذا حديث حسنٌ.
رجاله رجال الصحيح، إلا موسى بن خلف وهو حسن الحديث.
———-
أولًا: دراسة الحديث رواية:
1- الحكم على حديث الباب:
* الحديث في المختارة للمقدسي 2418.
* نقل الشيخ الإتيوبي في شرح النسائي (16/13) عن الحافظ العراقي أنه قال: إسناده حسن.
* قال الحافظ: هذا أصح من حديث أبي ظلال: نتائج الأفكار (2/ 302).
* حسنه الألباني في سنن أبي داود 3669، وانظر السلسلة الصحيحة 2916.
* قال محققو سنن أبي داود (5/508): ” إسناده حسن من أجل موسى بن خلف العمي، فهو صدوق حسن الحديث. ”
2- روايات الحديث:
* جاءت رواية عند أبي يعلى برقم 3392: ” لأن أقعد مع أقوام يذكرون الله من بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشمس أحب إلى من أن أعتق أربعة من بنى إسماعيل دية كل رجل منهم اثنا عشر ألفا ولأن أقعد مع أقوام يذكرون الله من بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلى من أن أعتق أربعة من بنى إسماعيل دية كل رجل منهم اثنا عشر ألفا “، قال الهيثمي: ” فيه محتسب أبو عائذ ، وثقه ابن حبان ، وضعفه غيره ، وبقية رجاله ثقات . وأخرجه أيضًا : ابن عدى (6/466 ، ترجمة 1948 محتسب بن عبد الرحمن) وقال : يروى عن ثابت أحاديث ليست بمحفوظة ثم ذكر الحديث ”
* جاء في السلسلة الضعيفة للعلامة الألباني 2298- لأن أذكر الله مع قوم بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها ، ولأن أذكر الله مع قوم بعد صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من الدنيا وما فيها.
وبين الشيخ ضعف هذه الرواية ثم قال في آخر التخريج: ” وقد رواه قتادة عن أنس نحوه ، لكن بلفظ : أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل.
أخرجه أبو داود (3667) ، والطبراني في “الدعاء” (2/1638/1878) وغيرهما ، وهو مخرج في “الصحيحة ” برقم (2916) . ”
* بعض المحققين أورد شاهدًا لحديث أنس وهو حديث أبي أمامة – رضي الله عنه – به: أخرجه أحمد (5/ 254)، والطبراني في “المعجم الكبير” (8/ رقم 8028)، و”الدعاء” (3 رقم 1882)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (2/ 284) بسند ضعيف، فيه علي بن زيد بن جُدعان وهو ضعيف؛ لكن لا بأس به في الشواهد.ا.ه
ولفظه عند أحمد في مسنده برقم 22185 عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَأَنْ أَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ أُكَبِّرُ وَأُهَلِّلُ وَأُسَبِّحُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعًا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَأَنْ أَذْكُرَ اللهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ” [ قال محققو المسند (36/522): حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد -وهو ابن جدعان-، وأما أبو طالب الضبعي فهكذا وقع في نسخنا الخطية، وذكره المزي في شيوخ ابن جدعان، لكن أورده ابن كثير في “جامع المسانيد” وابن حجر في “أطراف المسند” في ترجمة أبي غالب عن أبي أمامة! قلنا: وأبو غالب هذا ضعيف يعتبر به، وأما أبو طالب فإن كان هو الذي يروي عن ابن عباس ويروي عنه قتادة فثقة، وثقه قتادة ووكيع وأبو زرعة الرازي كما في “الجرح والتعديل” 9/397، والله أعلم.].
ثانيًا: دراسة الحديث دراية:
1- تبويبات الأئمة على حديث الباب وما في معناه:
* بوب أبو داود على هذا الحديث في سننه 3669 باب فِى الْقَصَصِ، ومما أورده في هذا الباب غير حديث الباب:
- عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ يَقُصُّ إِلاَّ أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ أَوْ مُخْتَالٌ » [قال الألباني حسن صحيح]
- عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ جَلَسْتُ فِى عِصَابَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنَ الْعُرْىِ وَقَارِئٌ يَقْرَأُ عَلَيْنَا إِذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ عَلَيْنَا فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَكَتَ الْقَارِئُ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ « مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ قَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا فَكُنَّا نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى جَعَلَ مِنْ أُمَّتِى مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِى مَعَهُمْ ». قَالَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَطَنَا لِيَعْدِلَ بِنَفْسِهِ فِينَا ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَتَحَلَّقُوا وَبَرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لَهُ – قَالَ – فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَرَفَ مِنْهُمْ أَحَدًا غَيْرِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَاكَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ » [ضعفه الألباني]
- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اقْرَأْ عَلَىَّ سُورَةَ النِّسَاءِ ». قَالَ قُلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ « إِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِى ». قَالَ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا انْتَهَيْتُ إِلَى قَوْلِهِ ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) الآيَةَ فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَإِذَا عَيْنَاهُ تَهْمِلاَنِ.
* أورد هذا الحديث ابن الأثير في فصل فضل الدعاء والذكر، وذكر تحته خمسة عشر حديثًا غير حديث الباب.
* عقد البيهقي في شعب الإيمان (2/50) فصلًا بعنوان: فَصْلٌ فِي إِدَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ” فَأَمَّا إِدَامَةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى جَدُّهُ الَّتِي ذَكَرْنَا أنهَا من أَمَارَاتِ الْمَحَبَّةِ، فَقَدْ جَاءَ فِيهَا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42]، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، قَالَ: وَجَاءَتْ فِيهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ الذِّكْرُ فِيهَا، وَفِي فَضِيلَتِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا أَخْبَارٌ مِنْهَا مَا جَاءَ عَنِ الْحَثِّ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ ”
* بوب المنذري على هذا الحديث باب الترغيب في المحافظة على الصبح والعصر.
2- شرح الحديث:
* قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (10/49): ” باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقضي بين أهل العلم فيما اختلفوا فيه من تزويج العربي الأمة لغيره بإذن مولاها الذي هو عربي أو غير عربي، فتلد منه هل يكون ولدها رقيقا لمولاها أم لا؟ قال أبو جعفر: لا نعلم أحدا من أهل العلم الذين تدور عليهم الفتيا في جميع أمصار الإسلام من الحجاز ومن العراق ومن سواها من أمصار أهل الإسلام يختلفون في الأمة التي يتزوجها عربي، فيولدها ولدا أنه يكون مملوكا لمولاه كما هي مملوكة لمولاها غير عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، فإنه كان يقول: لا يملكه مولاها، ولكنه يكون حرا، ويكون على أبيه قيمته لمولى أمه، فنظرنا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدخل في هذا المعنى ” ثم أورد الأحاديث التي فيها ذكر عتق الرقاب من ولد إسماعيل ثم قال رحمه الله: ” ففيما روينا من هذه الآثار تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع الملك على العرب، كما يقع على من سواهم ممن ليس من العرب، وفي ذلك ما قد دل على صحة أقوال الجماعة فيما ذكرنا، وعلى فساد ما قاله الأوزاعي فيه، والقياس يوجب ذلك؛ لأنه لا يخلو ولد العربي من الأمة لغيره أن يكون مملوكا لمولاها كما يملك ولد غير العربي، أو لا يكون مملوكا له لعربيته، فيكون كسائر الأحرار سواه، ويستحيل مع ذلك أن تجب له قيمة ما لا يملك على أحد، وفي إيجابه له القيمة على أبيه ما قد دل على وقوع ما له عليه، وفي وقوع ملكه عليه ما قد دل أن ملكه لا يزول عنه إلا بما تزول به الأملاك عمن سواها ممن المملوكين، والله نسأله التوفيق “.
* قال الطيبي في الكاشف شرح المشكاة (3/1061): ” قوله: ((أن أعتق رقبة)) ((تو)): معرفة وجه تخصيص الأربعة يقيناً لا يؤخذ تلقيه إلا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلينا التسليم عرفنا ذلك أو لم نعرف، ويحتمل أن يكون وجه التخصيص إنما وقع علي الأربعة لانقسام العمل الموعود عليه علي أربعة: ذكر الله تعالي، والقعود له، والاجتماع عليه، وحبس النفس حين يصلي إلي أن تطلع الشمس، أو تغرب.
وأما تخصيص ولد إسماعيل بالذكر فلكونهم أفضل أصناف الأمم، فإن العرب أفضل الأمم قدراً ووجاهة، ووفاءاً وسماحة، وحسباً وشجاعة، وفهما وفصاحة، وعفة ونزاهة. ثم أولاد إسماعيل أفضل العرب بمكان النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما نكر ((أربعة)) وأعادها؛ ليدل علي أن الثاني غير الأول، فلو عرف لاتحدا، نحو قوله تعالي: {غدوها شهر ورواحها شهر}. ”
* قال علي ملا القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/ 769): ” (وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لأن أقعد “) ، أي: لقعودي واللام للابتداء، وجعله ابن حجر للقسم، (” مع قوم يذكرون الله “) : وهو يعم الدعاء والتلاوة ومذاكرة العلم وذكر الصالحين (” من صلاة الغداة “) ، أي: الصبح (” حتى تطلع الشمس، أحب “) ، أي: أفضل: (” إلي “) ، أي: عندي (” من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل “) : بفتح الواو واللام وبضم الأول وسكون الثاني، خصص بني إسماعيل لشرفهم وإنافتهم على غيرهم من العرب، والعرب أفضل الأمم، ولقربهم منه عليه السلام ومزيد اهتمامه بهم، (” «ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة» “) : قال ابن الملك: إطلاق الأرقا والعتق عليهم على الفرض والتقدير، يعني فلا يصلح كونه دليلا للشافعي على أنه يجوز ضرب الرق على العرب ; إذ لو امتنع رقهم لم يقل عليه السلام إن هذا أحب إليه من عتقهم، وأغرب ابن حجر وقال: فيه أوضح دليل للشافعي مع أنه غير واضح فضلا عن أن يكون أوضح، قال الطيبي: وتخصيص الأربعة لا يعلم إلا منه عليه السلام ويجب علينا التسليم، ويحتمل أن يكون ذلك لانقسام العمل الموعود عليه أربعة، وقيل في بيانه، ولعل ذكر أربعة لأن المفضل مجموع أربعة أشياء: ذكر الله، والقعود له، والاجتماع عليه، والاستمرار به إلى الطلوع أو الغروب، وقال ابن الملك: الأربعة هي القعود أي لذكر الله، وكونه مع قوم يذكرون الله، وكون ذلك من الغدوة أو العصر واستمراره إلى الطلوع أو الغروب اهـ.
والظاهر أن المراد بالقعود معهم استمراره معهم فلا ينافي قيامه تعظيما لبعضهم حيا أو لجنازتهم ميتا، وقال ابن حجر في قوله: أربعة أولا معرفة وفي الثاني نكرة ; لتفيد أن الأربعة هنا غير الأربعة ثمة بناء على أن الأشهر أن إعادة النكرة بعينها تقتضي المغايرة بخلاف المعرفة اهـ، وهو غريب منه مبنى ومعنى مع أنهما جملتان مستقلتان، (رواه أبو داود) .
قال ميرك: وسكت عليه أبو داود، ورواه أبو يعلى أيضا، وقال في الموضعين: ” أربعة من ولد إسماعيل دية كل رجل منهم اثنا عشر ألفا، فاندفع ترديد ابن حجر لعدم اطلاعه حيث قال: ولم يقل هنا من ولد إسماعيل فيحتمل أنه مراد، وحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، ويحتمل أنه غير مراد، والفرق أن أوائل النهار أحق بأن تستغرق بالذكر ; لأن النشاط فيها أكثر ويؤيده أنه صح فيه أن إحياءه بالذكر كأجر حجة وعمرة، ولم يرد نظير ذلك فيما بعد العصر اهـ، وقد يقال آخر النهار أولى بأن يستغرق بالذكر تداركا لما فاته أو وقع منه تقصير، ولم يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه كما هو مقرر.
* قال الصنعاني في التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 15): ” (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله) وأشرف الذكر تلاوة كتابه (من صلاة الغداة) من بعدها ويشمل من صلاها ولو في أثناء وقتها (حتى تطلع الشمس أحب إليَّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل) قال البيضاوي: خص الأربعة لأن المفضل عليه مجموع أربعة أشياء: ذكر الله والقعود له والاجتماع عليه والاستمرار به إلى الطلوع أو الغروب وخص بني إسماعيل لشرفهم وإنافتهم على غيرهم ولقربهم منه ومزيد اهتمامه بحالهم وزاد أبو يعلى في روايته “دية كل رجل منهم إثنا عشر ألفاً” فالمراد إعتاقهم من القتل لا التحرير وفيه فضيلة القعود ذاكر مع قوم في ذلك الوقت فلو ذكر وحده هل يحرز هذا الأجر؟ (ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله) يحتمل أن المراد أقعد ذاكراً حذف لدلالة ما بعده عليه إذ ليس الفضيلة لمجرد القعود ويحتمل أن المراد مستمعا لذكرهم أو مترقباً لما ينزل عليهم من الرحمة وعليه حديث: “هم القوم لا يشقى بهم جليسهم” (من بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلى من أن أعتق أربعة) أي من (ولد إسماعيل) قال الشارح بعد أن صدر كلام المصنف برمته: إن الذي وقف عليه أربعة في أصول صحيحة المصابيح وغيرها.
قلت: وهو كذلك فيما رأيناه من نسخ الجامع أيضاً فلعل ما شرح عليه نسخة غير مقابلة على أصل صحيح”
* وقال الصنعاني أيضًا في التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 18): ” قوله: “في حديث أنس: مع قوم يذكرون الله” كأنه خرج على الأغلب، وإلا فلو قعد وحده من بعد صلاة الغداة – أي صلاة الفجر – وهذا هو الذكر بالغدو، كما أن قوله: “من بعد صلاة العصر” هو الذكر بالآصال.
قوله: “أحب إليَّ” أي: في نيل الأجر.
“من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل” كأن المراد: من أشرف الأوادم، وإلا فإن ولد إسماعيل هم العرب، ولا يجري عليهم الرِّق إلا عند من يرى جواز سبيهم [392 ب]. وللعلماء (2) فيهم قولان، أحدهما: أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف فلا يسترقون. والثاني: أنهم يسترقون كغيرهم.
وفيه فضيلة الذكر في هذين الوقتين بعد هاتين الصلاتين؛ لأنه يفتتح يومه بالطاعة ويختمه بها، وذكر الله يشمل كل طاعة، فمن قعد في قراءة الحديث وإملائه، وتعلم العلم النافع وتعليمه، وغير ذلك من الطاعات يصدق عليه أنه ذاكر لله”.
* قال المباركفوري في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/ 327): ” قوله: (لأن أقعد) بفتح الهمزة أي لقعودي، واللام للابتداء، وقيل: للقسم. (مع قوم يذكرون الله) لم يقل ذاكراً معهم لإفادة أن ذلك لا يتوقف على ما إذا ذكر معهم، بل الاستماع يقوم مقام الذكر، فما بالك بما إذا ذكر معهم؛ لأنهم القوم لا يشقى جليسهم، والذكر يعم الدعاء، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويلحق به ما في معناه، كدرس العلوم الشرعية. (من صلاة الغداة) أي الصبح. (من أن أعتق) بضم الهمزة وكسر التاء. (أربعة) أنفس. (من ولد إسماعيل) خص بني إسماعيل لشرفهم على غيرهم من العرب، والعرب أفضل الأمم، ولقربهم منه عليه الصلاة والسلام، لكونه – صلى الله عليه وسلم – من أولاد إسماعيل. وفي الحديث أوضح دليل لما ذهب إليه الشافعي من أنه يجوز ضرب الرق على العرب، إذ لو امتنع رقهم لم يقل – صلى الله عليه وسلم – أن هذا أحب إليه من عتقهم. وتأويل الحنفية هذا الحديث بأن إطلاق الأرقاء والعتق عليهم على الفرض والتقدير، وبأنه يمكن أن يسبى بالاشتباه، وأن المراد بالعتق إنقاذهم من الشدائد والمهالك، بعيد خلاف الظاهر، فلا يلتفت إليه. قال التوربشتي: معرفة وجه التخصيص في الرقاب على الأربعة يقيناً لا يوجد تلقينه إلا من قبل الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وعلينا التسليم، عرفنا ذلك أو لم نعرف، ويحتمل أن يكون ذلك؛ لانقسام العمل الموعود عليه على أربعة أقسام: ذكر الله تعالى، والقعود له، والاجتماع عليه، وحبس النفس من حين يصلي إلى أن تطلع الشمس. وقال ابن الملك: الأربعة هي القعود أي لذكر الله، وكونه مع قوم يذكرون الله، وكون ذلك من الغدوة أو العصر، واستمراره إلى الطلوع أو الغروب، وقيل: خص الأربعة؛ لأن فيه ذكر القعود، والذكر، والاستمرار إلى طلوع الشمس وصلاة ركعتين أو أربع كما في رواية. (من صلاة العصر) أي من بعد صلاة العصر. (من أن أعتق أربعة) أي من ولد إسماعيل، فإن الحديث رواه أبويعلى أيضاً، وزاد في الموضعين ” أربعة من ولد إسماعيل، دية كل رجل منهم اثنا عشر ألفاً”. والحديث دليل على أن الذكر أفضل من العتق والصدقة.
* قال الشيخ عبدالمحسن العباد في شرح سنن أبي داود(19/308): ” وهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وأن شأنه عظيم عند الله عز وجل، وأنه بهذا الوصف وبهذه المنزلة وبهذه الدرجة التي بينها رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ”
*وهناك أحاديث فيها أذكار واستعمل معها صيغة التفصيل
ففي صحيح مسلم
2695 ( 32 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَأَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لَأَنْ أَقُولَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ “.
صحيح مسلم
وفي مسند أحمد:
21529 حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، أَخْبَرَنَا الْجُرَيْرِيُّ أَبُو مَسْعُودٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَنَزِيِّ ، عَنِ ابْنِ الصَّامِتِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْكَلَامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ : ” مَا اصْطَفَاهُ لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، ثَلَاثًا تَقُولُهَا “.
3- مسائل أخرى:
* للدكتور محمد بن عبدالرحمن الخميّس بحثًا منشورًا في مجلة جامعة أم القرى بعنوان ” الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع ” فإليك ملخص البحث المذكور ، وأسأل الله المغفرة والقبول ، والحمد لله رب العالمين .
البحث هو بيان مدى مشروعية الذكر الجماعي ، هل يجوز أم لا ؟ وقد جمعت أقوال المانعين منه وأدلتهم ، والمجيزين له وأدلتهم ، في محاولة لاستيعاب هذا الموضوع، والوقوف على مدى مشروعية هذا الفعل . وأسميت هذا البحث (( الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع )) .
خطة البحث :
اشتمل البحث على : خطبة الحاجة ، ومقدمة ، وتمهيد ، وستة مباحث ، وخاتمة .
فأما المقدمة : فهي في أسباب اختيار الموضوع ، مع بيان خطة البحث . وكذلك التنبيه على اعتقاد بعض العامة في بعض البلدان وجوب الذكر الجماعي بعد الصلاة وغيرها، وذلك كمدخل للبحث .
وأما التمهيد : فهو حول بيان منزلة الذكر كعبادة عظيمة ، وتوضيح أن العبادات توقيفية لا مجال فيها للرأي ولا للاستحسان .
وأما المبحث الأول : فهو في تعريف الذكر الجماعي .
والمبحث الثاني : حول نشأة بدعة الذكر الجماعي .
والمبحث الثالث : حجج المجوزين للذكر الجماعي وأدلتهم .
والمبحث الرابع : حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم .
والمبحث الخامس : في حكم الذكر الجماعي .
والمبحث السادس : حول مفاسد الذكر الجماعي .
والخاتمة : في بيان خلاصة البحث ونتائجه .
والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص والتوفيق ، والسداد ، وأن يجنبنا الخطأ والزلل والزيغ، وأن يتقبل منا هذا العمل .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تمهيد : مشروعية الذكر ووجوب الاتباع في العبادة
من المعلوم أن الذكر من أفضل العبادات ، وهو مأمور به شرعاً كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً . وسبحوه بكرةً وأصيلاً } [ الأحزاب : 41 ، 42 ] .
فالمسلم مطالب بذكر الله تعالى في كل وقت ، بقلبه ، وبلسانه ، وبجوارحه ، وهذا الذكر من أعظم مظاهر وبراهين التعلق بالله تعالى ، ولاسيما أذكار ما بعد الصلاة ، وطرفي النهار ، والأذكار عند العوارض والأسباب ، فإن الذكر عبادة ترفع درجات صاحبها عند الله ، وينال بها الأجر العظيم دون مشقة أو تعب وجهد .
لكن ينبغي للمسلم أن يكون في ذكره لله تعالى ملتزماً بحدود الشريعة ونصوصها ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحابته وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، وذلك لأن الاتباع شرط لصحة العمل ، وقبوله عند الله تعالى ، كما قال صلّى الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) أي باطل مردود على صاحبه .
ومما هو معلوم أن العبادات – ومنها الذكر – كلها توقيفية ، أي : لا مجال فيها للاجتهاد ، بل لابد من لزوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته فيها ، لأنها شرع من عند الله تعالى ، فلا يجوز التقرب إلى الله بتشريع شيء لم يشرعه الله تعالى ، وإلا كان هذا اعتداءً على حق الله تعالى في التشريع ، ومنازعة لله تعالى في حكمه ، وقد قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] .
قال السعدي في تفسير هذه الآية : (( .. { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } من الشرك والبدع وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، ونحو ذلك ، مما اقتضته أهواؤهم مع أن الدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى ، ليدين به العباد ويتقربوا به إليه . فالأصل : الحجر على كل أحد أن يشرع شيئاً ما جاء عن الله ولا عن رسوله … )) أهـ .
المبحث الأول : تعريف الذكر الجماعي وذكر ان المقصود ما يفعله الناس بعد الصلوات
المبحث الثاني : نشأة الذكر الجماعي
كان مبتدأ نشأة الذكر الجماعي وظهوره في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي ذلك مفصلاً في المبحث الرابع إن شاء الله وقد أنكر الصحابة هذه البدعة لما ظهرت وقد قل انتشار هذه الظاهرة ، وخبت بسبب إنكار السلف لها . ثم لما كان زمن المأمون ، أمر بنشر تلك الظاهرة . فقد كتب إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير بعد الصلوات الخمس . فقد ذكر الطبري في تاريخه في أحداث عام 216 هـ
ما نصه : (( وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا ، فبدؤوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة ، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان ، من هذه السنة )) وجاء في تاريخ ابن كثير : (( وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد ، يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقب الصلوات الخمس )) . فكان هذا مبتدأ عودة ظاهرة الذكر الجماعي
واستمرت هذه الظاهرة منتشرةً بين الرافضة والصوفية ومن تأثر بهم .
هذا وقد جمعوا بين أمرين ، هما : الذكر الجماعي ، والذكر بالاسم المفرد .
وقد اختلف في جواز الذكر بالاسم المفرد ، فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لابد من الذكر في جملة لأنها هي المفيدة ولا يصح الاسم المفرد ، مظهراً أو مضمراً ، لأنه ليس بكلام تام ولا جملة مفيدة . ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف .
ومن صور هذا الذكر كذلك أن يزيدوا ياءً في ( لا إله إلا الله ) بعد همزة لا إله . ويزيدون ألفاً بعد الهاء في كلمـــة ( إله ) فتصبح ( لا إيلاها ) . ويزيدون ياءً بعد همزة إلا وبعد ( إلا ) يزيدون ألفاً فتصبح ( إيلا الله ) وكل ذلك حرام بالإجماع في جميع الأوقات .
وكذلك يلحن بعضهم في ( لا إله إلا الله ) . فيمد الألف زيادة على قدر الحاجة ، ويختلس كسرة الهمزة المقصورة بعدها ولا يحققها أصلاً ، ويفتح هاء له فتحة خفيفة كالاختلاس ، ولا يفصل بين الهاء وبين إلا الله .
وكذلك من صوره أنهم يذكرون بالحَلْقِ ، أي يحاولون إخراج الحروف من الحلق ، وهذا يلزمهم بفتح أشداقهم ، والتقعر في الكلام ، والتكلف في النطق ، ومعلوم أن مورد الذكر اللسان والحلق والشفتان لأنها هي التي تجمع مخارج الحروف.
وقد تعددت صور ذلك . فمنهم من يجتمعون في بيت من البيوت ، أو مسجد من المساجد فيذكرون الله بذكر معين وبصوت واحد : كأن يقولوا : لا إله إلا الله . مائة مرة . قال الشقيري : (( والاستغفار جماعة على صوت واحد بعد التسليم من الصلاة بدعة . والسنة استغفار كل واحد في نفسه ثلاثاً ، وقولهم بعد الاستغفار : يا أرحم الراحمين – جماعةً – بدعة ، وليس هذا محل هذا الذكر )) .
ومن صور الذكر الجماعي مما هو موجود عند جماعات من الناس :
1 – الاستغفار عقب الصلاة ، والاتيان بالأوراد الواردة أو غيرها بصوت واحد مرتفع . قال الأذرعي : (( حمل الشافعي رضي الله عنه أحاديث الجهر على من يريد التعليم )) .
2 – أو أن يدعو الإمام دبر الصلاة جهراً رافعاً يديه ، ويؤمن المأمومون على دعائه وبصوت واحد .
3 – ومنه أن يجتمع الناس في مكان – مسجد أو غيره – ويدعون الله ، وبصوت واحد إلى غروب الشمس ويجعلون الاجتماع لهذا الذكر شرطاً للطريقة .
وقد قال التيجاني : (( من الأوراد اللازمة للطريقة ذكر الهيللة بعد صلاة العصر يوم الجمعة مع الجماعة ، وإن كان له إخوان في البلد فلابد من جمعهم وذكرهم جماعة . وهذا شرط في الطريقة )) . وقال الرباطي : (( وترك الاجتماع من غير عذر شرعي يعرض في الوقت ممنوع عندنا في الطريقة ، ويعد تهاوناً ، ولا يخفى وخامة مرتع التهاون )) .
وقد أفتى العلماء ببطلان الذكر الجماعي ، فقد جاء في بعض الأسئلة الواردة إلى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ما نصه :
قال الســــائل : لنا جماعة هم أصحاب الطريقة التيجانية يجتمعون كل يوم جمعة ويوم الاثنين ويذكرون الله بهذا الذكر ( لا إله إلا الله ) ، ويقولون في النهاية ( الله الله … ) بصوت عال . فما حكم فعلهم هذا ؟
الجواب : ( بعد بيان ضلال هذه الطريقة ) . والاجتماع على الذكر بصوت جماعي
لا أصل له في الشرع ، وهكذا الاجتماع بقول : ( الله الله … ) أو : ( هو هو … ) والاجتماع بصوت واحد هذا لا أصل له ، بل هو من البدع المحدثة .
4 – ومن صور الذكر الجماعي الموجودة أن يجتمع الناس في مسجد وقد وقع البلاء في بلد فيدعون الله بصوت واحد لرفعه .
5 – ومن هذه الصور كذلك ما يحصل عند بعض الناس في أعمال الحج من الطواف والسعي وغيرها ، حيث إن بعضهم يؤجرون من يدعو لهم ، ويرددون وراءه أدعية معينة لكل شوط ، بدون أن يكون لكل أحد الفرصة للدعاء فيما يتعلق بحاجته الخاصة التي يريدها . وقد يكون بعض هؤلاء المرددين لصوت الداعي لا يعرفون معنى ما يدعو به الداعي : إما لكونهم لا يعرفون اللغة العربية . أو للأخطاء التي تحصل من الداعي ، وتحريفه للكلام . ومع هذا يحاكونه في دعائه ، وهذه الأدعية إنما صارت بدعة من وجهين :
الأول : تخصيص كل شوط بدعاء خاص ، مع عدم ورود ذلك . قال الشيخ
عبد العزيز بن باز – رحمه الله – : (( وأما ما أحدثه بعض الناس : من تخصيص كل شوط من الطواف أو السعي بأذكار مخصوصة ، أو أدعية مخصوصة فلا أصله له ، بل مهما تيسر من الذكر والدعاء كافي )).
الثاني : الهيئة الجماعية ، مع رفع الصوت ، وحكاية ألفاظ بدون تدبر واستحضار معنى .
6 – ومن صور الذكر الجماعي كذلك ما يقع عند الزيارة للقبر النبوي ، أو قبور الشهداء ، أو البقيع ، أو غير ذلك من ترديد الزائرين صوت المزورين ، قال الشيخ الألباني – رحمه الله – عند تعداده لبدع الزيارة في المدينة المنورة : (( تلقين من يعرفون بالمزورين جماعات الحجاج بعض الأذكار والأوراد عند الحجرة ، أو بعيداً عنها بالأصوات المرتفعة ، وإعادة هؤلاء ما لقنوا بأصوات أشد منها )) .
7 – ومن هذه الصور كذلك اجتماع الناس في المساجد وأماكن الصلوات – ولاسيما في العيدين – ليرددوا التكبير جماعة خلف من يتولى التكبير في مكبر الصوت ، ويرددون وراءه جماعة بصوت واحدٍ ، فهذا كذلك من البدع .
المبحث الثالث : حجج المجوزين للذكر الجماعي وأدلتهم
احتج المجيزون للذكر الجماعي بحجج ، نوجزها فيما يلي :
أولاً : النصوص الشرعية الواردة في الثناء على أهل الذكر بصيغة الجمع بما يدل على استحباب الاجتماع على ذكر الله منها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن لله تعالى ملائكة سيارة ، فضلاً يتبعون مجالس الذكر ، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر ، قعدوا معهم ، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم ، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا ، فإذا تفرقوا عرجوا ، وصعدوا إلى السماء . قال : فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم : من أين جئتم ؟ فيقولون : جئنا من عند عبادك في الأرض ، يسبحونك ، ويكبرونك ، ويهللونك ، ويحمدونك ، ويسألونك … )) وفي نهاية الحديث يقول الله : (( … قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا ، وأجرتهم مما استجاروا … )).
فيرى المجيزون للذكر الجماعي أن هذا الحديث يدل على فضل الاجتماع للذكر ، والجهر به من أهل الذكر جميعاً ، لأنه قال : (( يذكرونك ، يسبحونك ، ويكبرونك ، ويمجدونك )) بصيغة الجمع ، ثم استدلوا بقول الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري حيث قال : (( المراد بمجالس الذكر هي المجالس التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرها ، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى ، وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة ، وفي دخول الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس نظر … والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوها والتلاوة فحسب ، وإن كانت قراءة الحديث ومدارسته ، والمناظرة فيه ، من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى )) . ومن هذه الأحاديث كذلك ما أخرجه أحمد من طريق : إسماعيل بن عياش ، عن راشد بن داود عن يعلى بن شداد ، قال : حدثني أبي شداد بن أوس ، وعبادة بن الصامت حاضر يصدِّقه ، قال : كنا عند النبي r فقــال : (( هل فيكم غريب ؟ )) يعني أهل الكتاب ، فقلنا : لا يا رسول الله ، فأمر بغلق الباب ، وقال : (( ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله )) فرفعنا أيدينا ساعة ، ثم وضع رسول الله r يده ، ثم قال : (( الحمد لله ، بعثتني بهذه الكلمة ، وأمرتني بها ، ووعدتني عليها الجنة ، وإنك لا تخلف الميعاد ، ثم قال : أبشروا فإن الله عز وجل قد غفر لكم )) .
قلت : الحديث ضعيف . فيه إسماعيل بن عياش . وهو مدلس . ولم يصرح بالسماع ، ومدار هذا الحديث على راشد بن داود ، قال ابن معين : (( ليس به بأس ، ثقة )) ، وقال دحيم : (( هو ثقة عندي )) ، بينما ضعَّفه الإمام البخاري – رحمه الله – فقال : (( فيه نظر ))، وهذا جرح شديد عنده ، بمعنى أنه متهم أو غير ثقة . كما أشار إلى ذلك الحافظ الذهبي ، وقال الدارقطني : (( ضعيف لا يعتبر به )) ، فاتفق مع البخاري في تضعيفه ، وهو الظاهر من حاله ، فإن في الحكم بالجرح زيادة علم عن الحكم بالتعديل ، فإذا صدر من إمام عالم متمكن غير متشدد كان مقبولاً من غير شك ، هذا من جهة .
ومن ناحية أخرى ، فلو فرضنا جدلاً صحة هذا الحديث فليس فيه دلالة على جواز الذكر الجماعي ، فهو صريح الدلالة على أن ذلك كان للبيعة – أو لتجديد البيعة – وليس لمجرد الذكر ، لاسيما وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم برفع الأيدي ، فهذا للمبايعة ، ولا يشترط – بل ولا يستحب – في الذكر .
ثانياً : الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل مجالس الذكر ، والتي منها :
1 – ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يقول تعالى : أنا عند ظن عبدي بي . وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم … ) الحديث . والشاهد في قوله : (( وإن ذكرني في ملأ )) فدل على جواز الذكر الجماعي .
2 – ما جاء في صحيح مسلم عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال : (( ما أجلسكم ؟ )) قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا . فقال : (( الله ما أجلسكم إلا هذا ؟ )) قالوا : الله ما أجلســــنا إلا ذلك . فقال : (( أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة )) .
3 – ما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس – أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل ، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس – أحب إلي من أن أعتق أربعة )) وغير ذلك من الأحاديث التي ورد فيها فضل مجالس الذكر وفضل الاجتماع عليه
واستدلوا كذلك ببعض الأحاديث التي ورد فيها ذكر الدعاء الجماعي ، وهي أقرب ما يمكن أن يُستدل به في هذا الموضوع ؛ لو سلمت من الطعن ، وها هي بين يديك ، مع ما قاله الأئمة المعتمدون في علم الجرح والتعديل في رواتها وأسانيدها .
الحديث الأول : عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه بعدما سلم وهو مستقبل القبلة ، فقال : (( اللهم خلِّص الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، من أيدي الكفار )) . أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ، وابن جرير في تفسيره . وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ، قال ابن حجر في التقريب : ضعيف ، ونقل الذهبي في السير تضعيفه عن أحمد بن حنبل والبخاري والفلاس والعجلي ، وغيرهم … انتهى.
ومع الضعف الذي في علي بن زيد ، فليس فيه دليل على الدعاء الجماعي ، وهذه الرواية مخالفة لما جاء في الصحيحين ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول : (( اللهم أنج عياش … )) الحديث . أي يقول هذا الدعاء في قنوت الفجر ، قبل الخروج من الصلاة .
الحديث الثاني : عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي قال : رأيت عبد الله بن الزبير ورأى رجلاً رافعاً يديه بدعوات قبل أن يفرغ من صلاته ، فلما فرغ منها قال : إن رسول الله صلى الله عليه لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته . رواه الطبراني في الكبير وسنده ضعيف لضعف فضيل بن سليمان . فقد قال عنه ابن معين : ليس بثقة . وفي رواية : ليس هو بشيء ولا يكتب حديثه . وقال صالح جزرة : منكر الحديث . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ليس بالقوي . وقال النسائي : ليس بالقوي . وذكر أبو داود أنه استعار كتاباً من موسى بن عقبة فلم يرده . وكان عبد الصمد بن مهدي لا يحدث عنه . وقال أبو زرعة : لين الحديث ، روى عنه علي بن المديني وكان من المتشددين ومع ضعف فضيل ، ففي القلب شيء من رواية محمد بن أبي يحيى عن ابن الزبير ، فلا أظنه أدركه ، لأن وفاة ابن الزبير كانت سنة ( 73 هـ ) ووفاة محمد كانت سنــة ( 144 هـ ) . ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يرفع يديه حتى يفرغ من الصلاة وهو غير رافع يديه للدعاء ، أو أنه كان يرفع بعد الفراغ من الصلاة للدعاء ؛ ولكن ليس فيه أنه كان يجهر بالدعاء ويجهر المأمون بالتأمين . وعليه ، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي ، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً .
الحديث الثالث : عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ما من عبد يبسط كفّيه في دبر كل صلاة ثم يقول : اللهم إلهي وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإله جبريل وميكائيل وإسرافيل ، أسألك أن تستجيب دعوتي فإني مضطر وتعصمني في ديني فإني مبتلى ، وتنالني برحمتك فإني مذنب ، وتنفي عني الفقر فإني متمسكن . إلا كان حقاً على الله عــز وجل ألا يرد يديه خائبتين )) . رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة ؛ والحديث فيه عبد العزيز بن عبد الرحمن وخصيف . أما عبد العزيز فقد ضعفه جمع من الأئمة ، وأما خصيف فقد قال الحافظ ابن حجر فيه : صدوق سيء الحفظ خلط بأخرة ، ورُمِي بالإرجاء . انتهى . وإضافة إلى هذا الضعف الذي في هذا الحديث ، فليس فيه دلالة على المطلوب ، بل هو كالحديثين السابقين .
الحديث الرابع : عن الأسود العامري ، عن أبيه قال : صلَّيت مع رسول الله الفجر ، فلما سلم ، انحرف ورفع يديه ودعا قال العلامة المباركفوري : الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، كذا ذكر بعض الأعلام هذا الحديث بغير سند ، وعزاه إلى المصنف . ولم أقف على سنده . فالله تعالى أعلم . أهو صحيح أو ضعيف ؟ . انتهى من التحفة . والحديث أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن حزم في المحلى . وليس فيه : (( ورفع يديه ودعا )) ، وإنما هو هكذا : حدثنا هُشيم قال : نا يعلى بن عطاء ، عن جابر بن يزيد الأسود العامري ، عن أبيه قال : صليت مع رسول الله الفجر ، فلما سلم انحرف . ولفظ ابن حزم: فلما صلى انحرف . فإذن ليس في الحديث : رفع يديه ودعا . ولو سلمنا بثبوت هذه الجملة فإنها لا تكفي للوفاء بالاستدلال المقصود ؛ لأنها ليس فيها الجهر بالدعاء من الإمام ، ولا تأمين المأمومين جهراً .
الحديث الخامس : عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( الصلاة مثنى مثنى ، تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ، ثم تُقْنِعُ يديك – يقول : ترفعهما إلى ربك مستقبلاً ببطونهما وجهك ، وتقول : يا رب يا رب – ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا )). رواه أحمد والترمذي . وفي رواية للترمذي : فهو خداج . قال الترمذي : سمعت محمد بن إسماعيل – يعني البخاري – يقول : روى شعبة هذا الحديث عن عبد ربه بن سعيد ، فأخطأ في مواضع . انتهى .
والحديث ضعيف . فيه عبد الله بن نافع بن العمياء ، وقال الحافظ في تقريب التهذيب: مجهول . وحتى ولو فرضنا صحة الحديث ، فليس فيه دليل للدعاء الجماعي، وإنما هو دليل للدعاء منفرداً كما هو واضح في سياقه وألفاظه .
ثالثاً : ومن أدلتهم أيضاً بعض الآثار التي جاءت عن بعض السلف ، فمنها :
1 – ما جاء عن عمر رضي الله عنه من أنه كان يكبر في قبته بمنى ، فيسمعه أهل المسجد ، فيكبرون ، ويكبر أهل الأسواق ، حتى ترتج منى تكبيراً .
2 – أن ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنها – كانت تكبر يوم النحر ، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد .
رابعاً : ومن أدلتهم أيضاً المصالح المترتبة على الذكر الجماعي لأن فيه – كما يرون – مصالح كثيرة ، منها :
1 – أن فيه تعاوناً على البر والتقوى ، وقد أمر الله بذلك في قوله : { وتعانوا على البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] .
2 – أن الاجتماع للذكر والدعاء أقرب إلى الإجابة .
3 – أن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي ، وربما لحنوا في دعائهم ،
خامساً : ومما يستدلون به أن هذا العمل عليه أكثر الناس
سادساً : أن الذكر على هذه الهيئة وسيلة ، والغاية منها عبادة الله
وأما جوابهم على أدلة المانعين من الذكر الجماعي ، فإنهم يرون أن الآثار الواردة عن الصحابة في المنع من الذكر الجماعي ، والإنكار على فاعليه ، يرون أنها آثار معارضة بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة ، وهذه الأحاديث مقدمة على تلك الآثار عند التعارض . قال السيوطي : هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده . ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم ؟ وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض.
المبحث الرابع : حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم
استدل المانعون من الذكر الجماعي بأدلة . منها :
أولاً : أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حث الناس عليه ، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام . وكذلك لم يُنقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه .
قال الشاطبي : (( الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعاً ، لا في الفجر ، ولا في العصر ، ولا في غيرهما من الصلوات ، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة )) .
ثانياً : فعل السلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ، فإنهم قد أنكروا على من فعل هذه البدعة ، كما سيأتي ذلك في النصوص الآتية عن عمر وابن مسعود وخباب رضي الله عنهم ، ولو لم يكونوا يعدون هذا العمل شيئاً مخالفاً للسنة ما أنكروا على فاعله ، ولا اشتدوا في الإنكار عليه ، فممَّن أنكر من الصحابة هذا العمل :
1 – عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فقد روى ابن وضاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال : (( كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه : أن ها هنا قوماً يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير . فكتب إليه عمر : أقبل وأقبل بهم معك فأقبل . فقال عمر ، للبواب : أعِدَّ سوطاً ، فلما دخلوا على عمر ، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط . فقلت: يا أمير المؤمنين إننا لسنا أولئك الذي يعني ، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق )).
2 – وممن أنكر من الصحابة كذلك الاجتماع للذكر : عبد اله بن مسعود رضي الله عنه وذلك في الكوفة . فعن أبي البختري قال : أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب ، فيهم رجل يقول : كبروا الله كذا ، وسبحوا الله كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا ، واحمدوه كذا وكذا . قال عبد الله : فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني ، فأخبرني بمجلسهم . فلما جلسوا، أتاه الرجل ، فأخبره . فجاء عبد الله بن مسعود، فقال : والذي لا إله إلا غيره ، لقد جئتم ببدعة ظلماً ، أو قد فضلتم أصحاب محمد علماً . فقال عمرو بن عتبة : نستغفر الله . فقال : (( عليكم الطريق فالزموه ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً )) .
3 – وممن أنكر عليهم من الصحابة : خباب بن الأرت ، فقد روى ابن وضاح بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي عن عبد الله بن الخباب قال : (( بينما نحن في المسجد ، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي . فأرسل إليَّ أبي . فوجدته قد احتجز معه هراوة له . فأقبل عليَّ . فقلت : يا أبت ! مالي مالي ؟! قال : ألم أرك جالساً مع العمالقة ؟ ثم قال : هذا قرن خارجٌ الآن ))، كما أنكر عامة التابعين رحمهم الله تعالى كذلك هذه البدع ومن جملة ذلك : كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من ليالي رمضان . وكراهيته الدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية
وقد نقل الشاطبي في فتاواه كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب ، وقوله : إنه شيء أُحدث ، وإن السلف كانوا أرغب للخير ، فلو كان خيراً لسبقونا إليه .
فهذه النقول ، التي أوردناها في هذا الباب ، كلها توضح أن السلف – رضي الله عنهم – كانوا لا يرون مشروعية الاجتماع للذكر بالصورة التي أحدثها الخلف . ولله در السلف ! ما كان خير إلا سبقوا إليه ، ولا كانت بدعة منكرة إلا كانوا أبعد الناس عنها ، محذرين منها . فما من إنسان يخالف هديهم إلا كان تاركاً لسبل الخير ، معرضاً عنها ، مقتحماً أبواب الضلال .
فلو كان الذكر الجماعي مشروعاً أو مستحباً لفعله السلف ، ولو فعلوه لنُقل عنهم ، ولَوَرَدَ إلينا . فلما لم يُنقل ذلك عنهم ، بل نُقل عنهم ما يخالف من الإنكار على فاعله ، كما حدث من ابن عمر ، وابن مسعود ، وغيرهما . دل ذلك على أن هذا العمل غير مشروع أصلاً .
ثالثاً : النصوص العامة التي فيها المنع من الابتداع في الدين ، كحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) .
رابعاً : أن في القول باستحباب الذكر الجماعي استدراكاً على الشريعة
خامساً : ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي : أن في هذا الذكر بصوت واحد تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد . هذا مع كثرة النصوص الشرعية التي وردت في النهي عن التشبه بأهل الكتاب ، والأمر بمخالفتهم .
سادساً : ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي : أن فيه مفاسد عديدة تقطع بعدم جوازه ، لاسيما وأنها تربو على ما له من منافع زعمها المجيزون له ، فمن هذه المفاسد :
1 – التشويش على المصلين والتالين للقرآن
2 – الخروج عن السمت والوقار الذين يجب على المسلم المحافظة عليهما .
3 – أن اعتياد الذكر الجماعي قد يدفع بعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجدوا من يجتمع معهم لترديد الذكر جماعة كما اعتادوا .
4 – أنه قد يحصل من بعض الذاكرين أحياناً تقطيع الآيات حتى يتمكن قصار النَفَس من الترديد مع طوال النَفَس . فهذه أظهر أدلة المانعين من الذكر الجماعي . وقد سقتها – على وجه التفصيل – في حدود ما وقفت عليه ، مع تحري الأمانة فيما نقلت .
وأما أدلة المجيزين للذكر الجماعي فقد أجاب المانعون عنها بما يلي :
أولاً : الجواب على الدليل الأول : وهو احتجاجهم بالنصوص الواردة في مدح الذاكرين بصيغة الجمع ، وادعاؤهم أن هذا يقتضي اجتماعهم على الذكر بشكل جماعي ، وللجواب على هؤلاء يقال :
إن الحث على الذكر بصيغة الجمع ومدح الذاكرين بصيغة الجمع لا يقتضي الدلالة على استحباب أو جواز الذكر الجماعي ولا يلزم منه ذلك . بل غاية ما في هذه النصوص الدلالة على استحباب الذكر لجميع المسلمين ، والحث عليه ، وسواء كان ذلك على وجه الانفراد ، أو الاجتماع ، ظاهراً ، أو خفياً .
ثانياً : الجواب على الدليل الثاني : وهو استدلالهم بعموم الأحاديث الدالة على فضل الاجتماع على ذكر الله ومجالس الذكر .
فالجواب على هذا الدليل من وجهين :
الوجه الأول : أن ذكر الله ليس مقصوراً على التسبيحات والدعوات ، وما يقال باللسان ،
بل إن ذكر الله سبحانه وتعالى يشمل كل قول وفعل يرضي الله تعالى ومنه مجالس العلم والفقه ، والقرآن ، ولذلك فإن ما ورد في فضل مجالس الذكر ليس المقصود منها فقط ما ذكروه ، بل وغير ذلك .
ويدل على ذلك ما ورد في كتاب الحلية لأبي نعيم الأصبهاني ، بسنده إلى أبي هزان قال : سمعت عطاء بن أبي رباح يقول : من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشرة مجالس من مجالس الباطل . قال أبو هزان : قلت لعطاء : ما مجلس الذكر ؟ قال : مجلس الحلال والحرام ، وكيف تصلي ، وكيف تصوم ، وكيف تنكح ، وكيف تطلق وتبيع وتشتري
وقال الحافظ ابن حجر : والمراد بالذكر : الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها ، مثل : الباقيات الصالحات وهي : (( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر )) ، ونحو ذلك . والدعاء بخيري الدنيا والآخرة . ويطلق ذكر الله أيضاً ، ويراد به : المواظبة على العمل بما أوجبه ، أو ندب إليه : كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة .
قال العلامة المباركفوري : (( المراد بالذكر – هنا – : الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات ، وهي: سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ، وما يلتحق بها من الحوقلة ، والبسملة ، والحسبلة ، والاستغفار، ونحو ذلك ، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة . ويُطلق ذكر الله أيضاً ويُراد به المواظبة على العمل بما أوجبه ، أو ندب إليه ، كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم ، والتنفل بالصلاة )) .
فإن قال قائل من هؤلاء : إن الذكر بالألفاظ الواردة نوع من أنواع الذكر اللساني يشمله أحاديث فضل مجالس الذكر فدل ذلك على استحباب الاجتماع لأجل هذا الذكر اللساني .
فالرد عليه بالوجه الثاني : أن هذه الأحاديث لم تدل على الذكر الجماعي واستحبابه ، وإنما هي دالة على استحباب الاجتماع على ذكر الله . وهناك فرق كبير بين هذا وذاك .
فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله ، ولكن على الوجه المشروع الذي فهمه الصحابة وعملوا به ، فقد كانوا يجتمعون للذكر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية : (( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم يقرأ ، والناس يستمعون . وكان عمر يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون لقراءته )) .
وقال الطرطوشي : (( هذه الآثار تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن الكريم على معنى الدرس له والتعلم والمذاكرة وذلك يكون بأن يقرأ المتعلم على المعلم ، أو يقرأ المعلم على المتعلم ، أو يتساويا في العلم ، فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة هكذا يكون التعليم والتعلم ، دون القراءة معاً .
وجملة الأمر أن هذه الآثار عامة في قراءة الجماعة معاً على مذهب الإدارة ، وفي قراءة الجماعة على المقرئ … ومعلوم من لسان العرب أنهم لو رأوا جماعة قد اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم . ورجل واحد يقرأ القرآن ، لجاز أن يقولوا : هؤلاء جماعة يدرسون العلم ، ويقرؤون العلم والحديث . وإن كان القارئ واحد .
ثالثاً : وأما الآثار التي استدلوا بها عن عمر رضي الله عنه ، وميمونة رضي الله عنها . فيجاب عنها من ثلاثة وجوه :
الأول : أنها غير صريحة في التكبير الجماعي بالشكل الذي يدعو إليه من يقولون بمشروعية الذكر الجماعي ، بل غاية ما فيها أن الناس تأسَّوا بعمر رضي الله عنه فكبروا مثله وبأصوات مرتفعة ، وبسبب تداخل واختلاط الأصوات مع كثرة الحجيج فقد ارتجت منى بالتكبير . ولا يفهم منه أن عمر رضي الله عنه كان يكبر ثم يسكت حتى يرددوا خلفه بصوت رجل واحد . وإلا فإن أئمة المذاهب المتبوعة لم ينقل عنهم الإقرار للذكر والتسبيح والتكبير بصوت واحد فلو فهموا منه ما فهمه دعاة الذكر الجماعي لقالوا به . ولكنهم فهموا هذه الآثار – والله أعلم – على ما سبق ذكره في أول هذا الوجه .
وأما أثر ميمونة فيقال فيه ما قيل في أثر عمر . وليس فيه إلا تكبير النسوة مع الرجال في المسجد .
الثاني : أن عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه أنه عاقب من اجتمعوا للدعاء والذكر وغيره كما في الأثر الذي رواه ابن وضاح . وقد سبق إيراده في بيان حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم .
الثالث : أن مثل هذا التكبير من عمر والترديد من الناس لم ينقل في غير أيام منى ، ووقت الحج . ولو جاز تعميم الحكم ، والقول بجواز الذكر الجماعي في المساجد والبيوت، وبعد الصلوات وفي الأوقات المختلفة ، لكان في هذا مخالفة واضحة للآثار السابقة عن عمر ، وابن مسعود ، وخباب ، وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً .
رابعاً : وأما الأمر الرابع الذي استدلوا به : وهو دعواهم أن للذكر الجماعي مصالح عديدة ، فيجاب عنه بما يأتي :
1 – قولهم إن فيه تعاوناً على البر والتقوى باطل ، ؛ لو كان هذا كله من باب التعاون على البر والتقوى لكان أول سابق إليه هو النبي عليه السلام
2 – وأما قولهم إن الذكر الجماعي أقرب للإجابة . فيجاب عليهم بأن هذه العلة كانت موجودة في زمانه عليه السلام ولكن رغم ذلك لم ينقل عنه أنه فعل ذلك .
3 – وأما قولهم إن الذكر الجماعي أبعد عن اللحن في الدعاء والذكر ولاسيما للعوام، فيجاب عليهم بما يلي :
أ – أنه ليس من شروط صحة الدعاء عدم اللحن فيه ، بل يشترط الإخلاص وصدق التوجه ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .
وقد كان الصحابة متوافرين بعد انتشار الفتوحات ، وظهور العجمة في الألسنة بعد أن كثر العجم الداخلون في الإسلام وشاع بين الناس اللحن في الكلام ، ومع ذلك لم ينقل عن الصحابة شيء من هذا الذكر الجماعي .
ب – أن هذا اللحن الذي زعموه ، والموجود في الدعاء ، يوجد أيضاً من هؤلاء العوام في قراءة القرآن ، وفي الصلاة وفي غيرها من شعائر الدين ، وكان الجدير بهؤلاء أن يعلموهم بعد الصلوات تلك الأحكام ، لأنها أمور واجب تعلمها على المسلم ، أما الدعاء فهو أمر مستحب .
رابعاً : قولهم : إن هذا عمل الناس ، وعليه الجماعة ، وقد اجتمع عليه أكثر الناس .
فيجاب عليهم بأن هذا احتجاج بالناس على الشرع ، وهذا باطل . بل يحتج بالشرع وبالدليل على الناس ، وعلى الرجال ، وأما اتباع عامة الناس وأغلبهم في أمور الدين فهذا باب ضلال ، وقد ذمه الله عز وجل في كتابه فقال : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } [ الأنعام : 116 ] .
وقد جاء عن أبي علي بن شاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري قال : (( كان عبد الله بن الحسن – يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يوماً . فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا ( أي أن عمل العوام يخالف ذلك ) . فقال عبد الله : أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام ، أفهم الحجة على السنة ؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء )) فبيَّن عبد الله ابن الحسن أن كثرة الجهال والمبتدعين ، وتسلطهم على الناس ، ونشرهم لبدعتهم ، ليس حجة على السنة وعلى الشرع ، ولا ينبغي ولا يجوز أن يعارض شرع الله، وسنة الرسول r بفعل أحد من الناس ، كائناً من كان .
خامساً : دعواهم أن الذكر الجماعي وسيلة لها حكم غايتها ، وغاية الذكر الجماعي عبادة الله .
فيجاب عليهم بما يلي :
1 – أن هذه القاعدة ليست قاعدة مطردة على الدوام ، بل إن لها موارد مقصورة عليها ، فهذه القاعدة مقصورة على ما ورد في الشرع سواء كان وسيلة أم غاية . ومما يدل على ذلك أن الشيء قد يكون مباحاً ، بل واجباً ، ومع ذلك تكون وسيلته مكروهة أو محرمة . كمن يتوصل إلى تحصيل ماء الوضوء عن طريق الغصب أو السرقة .
2 – يدلك على هذا كذلك فعل السلف الصالح ، فإنهم – رضي الله عنهم – كانوا يتحرون في أمور العبادات كلها تحرياً شديداً من غير التفات إلى الفرق بين ما يسمى
(( وسائل )) و(( غايات )).
سادساً : وأما قولهم : إن الآثار المانعة للذكر الجماعي تعارض الأحاديث الكثيرة التي تثـبت مشروعية الذكر الجماعي ( كذا زعموا ) ، فتُقدَّم الأحاديث عليها .
فيجاب عليهم بأنه لا تعارض بين هذه الآثار وتلك الأحاديث كما سبق ، بل إن تلك الأحاديث ينبغي أن تفهم وتفسر في ضوء فهم السلف الصالح لها ، وهذه الآثار الواردة عن السلف تفسر جانباً من هذه الأحاديث ، كما سبق وأن ذكرناه .
وأما ما رد به السيوطي أثر ابن مسعود بأنه لا يعرف له سند ، فمردود بأنه أثر صحيح بمجموع طرقه رواه الدارمي في سننه ، وابن وضاح في البدع . والعجب أن الإمام السيوطي – رحمه الله – ذكر هذا في كتابه (( الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع )) .
المبحث الخامس : حكم الذكر الجماعي
سبق ذكر موقف السلف من الذكر الجماعي ، وأنهم يعدونه محدثاً في الدين ، وقد تعددت النقول عنهم في ذلك ، وقد تقدم ذكر بعضها ، ودرج على منوالهم فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم، فمن ذلك :
1 – ذكر الإمام علاء الدين الكاساني الحنفي في كتابه ( بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع )(82) ، عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى : أن رفع الصوت بالتكبير بدعة في الأصل ، لأنه ذكر . والسنة في الأذكار المخافتة ؛ لقوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } [ الأعراف : 55 ] . ولقوله صلى الله عليه وسلم: (( خير الدعاء الخفي )) . ولذا فإنه أقرب إلى التضرع والأدب ، وابعد عن الرياء فلا يترك هذا الأصل إلا عند قيام الدليل المخصص . انتهى .
وقال العلامة المباركفوري في ( تحفة الأحوذي ): اعلم أن الحنفية في هذا الزمان ، يواظبون على رفع الأيدي في الدعاء بعد كل مكتوبة مواظبة الواجب ، فكأنهم يرونه واجباً، ولذلك ينكرون على من سلم من الصلاة المكتوبة وقال : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام . ثم قام ولم يدع ولم يرفع يديه . وصنيعهم هذا مخالف لقول إمامهم الإمام أبي حنيفة ، وأيضاً مخالف لما في كتبهم المعتمدة . انتهى .
2 – ومما يتعلق بمذهب مالك رحمه الله في الذكر الجماعي ما جاء في كتاب ( الدر الثمين ) للشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي: كره مالك وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقيب الصلوات المكتوبة جهراً للحاضرين .
3 – وأما مذهب الشافعي رحمه الله ، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في ( الأم ): وأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله بعد الانصراف من الصلاة ، ويخفيان الذكر إلا أن يكون إماماً يجب أن يُتعلم منه فيجهر حتى يرى أنه قد تُعُلِّم منه ثم يُسِرُّ ، فإن الله عز وجل يقول : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } [ الإسراء : 110 ] يعني – والله تعالى أعلم – الدعاء ، ولا تجهر : ترفع . ولا تخافت : حتى لا تسمع نفسك . انتهى .
وقال الإمام النووي في المجموع : اتفق الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى على أنه يُستحب ذكر الله تعالى بعد السلام ، ويُستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد والرجل والمرأة والمسافر وغيره … وأما ما اعتاده الناس أو كثير منهم من تخصيص دعاء الإمام بصلاتي الصبح والعصر ، فلا أصل له . انتهى . قلت : ولقائل أن يقول : نفيه للتخصيص في هذين الوقتين يدل على جواز الدعاء في جميع الصلوات ، ويبطل هذا الزعم قول النووي نفسه في ( التحقيق ): يندب الذكر والدعاء عقيب كل صلاة ويسر به ، فإذا كان إماماً يريد أن يعلمهم جهر ، فإذا تعلموا أسر . انتهى .
4 – وأما ما يتعلق بمذهب الحنابلة ، فقد قال ابن قدامة في ( المغني ) : ويُستحب ذكر الله تعالى والدعاء عقيب صلاته ، ويُستحب من ذلك ما ورد به الأثر ، وذكر جملة من الأحاديث ، فيها شيء من الأذكار التي كان صلى الله عليه وسلم يقولها في دبر كل صلاة مكتوبة . وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الدعاء بعد الصلاة ، فذكر بعض ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من الأذكار بعد المكتوبة ، ثم قال : وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى .
قلت : وفيما يختص بدعاء الإنسان منفرداً من غير جماعة فإنه إذا كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً فليس ثم مانع يمنعه من الدعاء إذا بدأ بالأذكار المسنونة والتسابيح المشروعة في أعقاب الصلوات ، وقد دل على ذلك كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح رضي الله عنهم . أما الدليل من الكتاب العزيز ، فقول الله تعالى : { فإذا فرغت فانصب . وإلى ربك فارغب } [ الشرح : 7 – 8 ] .
وقد ورد في الكلام على هاتين الآيتين ، في إحدى الروايتين : فإذا فرغت من صلاتك ، فانصب إلى ربك في الدعاء وسله حاجـتك . نقل هذا ابن جرير الطبري في تفسيره وابن أبي حاتم ، والسمعاني ، والقرطبي ، وابن الجوزي ، وابن كثير ، والشوكاني ، والسعدي ، وغيرهم من المفسرين .
قال السعدي رحمه الله في تفسير هاتين الآيتين : { فإذا فرغت فانصب } أي إذا تفرغت من أشغالك، ولم يبق في قلبك ما يعوقه فاجتهد في العبادة والدعاء . { وإلى ربك } وحده { فارغب } أي أعظم الرغبة في إجابة دعائك ، وقبول دعواتك ولا تكن ممن إذا فرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربهم وعن ذكره ، فتكون من الخاسرين . وقد قيل : إن معنى هذا : فإذا فرغت من الصلاة ، وأكملتها فانصب في الدعاء . { وإلى ربك فارغب } في سؤال مطالبك . واستدل من قال هذا القول على مشروعية الدعاء والذكر عقب الصلوات المكتوبات . والله أعلم . انتهى .
وأما من السنة ، فعن أبي أمامة قال : قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع ؟ قال (( جوف الليل الآخر ، ودبر الصلوات المكتوبات )) . رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن.
وقد جاءت بذلك فتاوى العلماء قديماً وحديثاً :
فمن القديم ما ذكره ابن مفلح قال : قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن الرجل يجلس إلى القوم ، فيدعو هذا ، ويدعو هذا ويقولون له : ادع أنت . فقال : لا أدري ما هذا ؟! أي : أنه استنكره .
وقال الفضل بن مهران : سألت يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قلت : إن عندنا قوماً يجتمعون ، فيدعون ، ويقرأون القرآن ، ويذكرون الله تعالى ، فما ترى فيهم ؟
قال : فأما يحيى بن معين فقال : يقرأ في مصحف ، ويدعو بعد الصلاة ، ويذكر الله في نفسه ، قلت : فأخ لي يفعل ذلك . قال : أنهه ، قلت : لا يقبل ، قال : عظه . قلت : لا يقبل . أهجره ؟ قال : نعم . ثم أتيت أحمد فحكيت له نحو هذا الكلام فقال لي أحمد أيضاً : يقرأ في المصحف ويذكر الله في نفسه ويطلب حديث رسول الله . قلت : فأنهاه ؟ قال : نعم . قلت : فإن لم يقبل ؟ قال : بلى إن شاء الله ، فإن هذا محدث ، الاجتماع والذي تصف .
وقال الإمام الشاطبي في بيان البدع الإضافية ما نصه : (( كالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان . فإن بينه وبين الذكر المشروع بوناً بعيداً إذ هما كالمتضادين عادة )) .
وقال ابن الحاج : (( ينبغي أن ينهى الذاكرون جماعة في المسجد قبل الصلاة، أو بعدها، أو في غيرهما من الأوقات . لأنه مما يشوش بها )) .
وقال الزركشي : (( السنة في سائر الأذكار الإسرار . إلا التلبية )) .
جاء في ( الدرر السنية ) : (( فأما دعاء الإمام والمأمومين ، ورفع أيديهم جميعاً بعد الصلاة ، فلم نر للفقهاء فيه كلاماً موثوقاً به . قال الشيخ تقي الدين : ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام . بل يذكرون الله كما جاء في الأحاديث )) .
وجاء في الفتاوى الإسلامية للشيخ ابن عثيمين : (( الدعاء الجماعي بعد سلام الإمام بصوت واحد لا نعلم له أصلاً على مشروعيته )).
وقال الشيخ صالح الفوزان : (( ذكر بعض البدع . وقال : ومنها الذكر الجماعي بعد الصلاة لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفرداً )).
فأصل الدعاء عقب الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة ، وإنما يباح منه ما كان لعارض ، قال الإمام الشــاطبي – رحمه الله – : (( لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات : للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزاً .. وإذا لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام ، ولا كونه سنة تقام في الجماعات ، ويعلن به في المساجد كما دعا رسول الله دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب )) .
وإنما كان هذا الدعاء بعد الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة ، مع ثبوت مشروعية الدعاء مطلقاً ، وورود بعض الأحاديث بمشروعية الدعاء بعد الصلوات خاصة ، وذلك لما قارنه من هذه الهيئة الجماعية ، ثم الالتزام بها في كل الصلوات حتى تصير شعيرة من شعائر الصلاة . فإن وقع أحياناً فيجوز إذا كان من غير تعمد مسبق، فقد روي عن الإمام أحمد – رحمه الله – أنه أجاز الدعاء للإخوان إذا اجتمعوا بدون تعمد مسبق ، وبدون الإكثار من ذلك حتى لا يصير عادة تتكرر ، وقال شيخ الإسلام : (( الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالاجتماعات المشروعة ولا اقترن به بدعة منكرة )) وقال : (( أما إذا كان دائماً بعد كل صلاة فهو بدعة ، لأنه لم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح ))
انتهى البحث والحمدلله رب العالمين