104 فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مشاركة أبي عيسى عبدالله البلوشي وعبدالله المشجري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
الصحيح المسند
104 – قال أبو داود رحمه الله (ج 9 ص 320): حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أخبرَنَا عَفَّانُ أخبرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَقَتَادَةُ وَحُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللهِ غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ».
قال الشيخ مقبل الوادعي: هذا حديث صحيحٌ على شرط مسلم.
الحديث أخرجه الترمذي (ج 4 ص 543) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجه (ج 2 ص 741).
ـــــــــــــــــــ
أولًا: دراسة الحديث رواية:
1- الحكم على حديث الباب:
* أخرجه الترمذي في سننه 1314 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
* قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (5/ 423): روي من وجوه صحيحة لا بأس بها.
* قال ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (ص113)، صحيح.
* قال الحافظ في ” التلخيص ” ( 3 / 14 ): ” إسناده على شرط مسلم “.
* الحديث للمختارة للمقدسي (5/29).
* صححه الألباني في سنن أبي داود 3453.
* وصحح إسناده محققو سنن أبي داود.
* قال حسين سليم أسد في مسند أبي يعلى (6/ 444): إسناده صحيح
* قال محققو مسند أحمد ط الرسالة (21/ 445): ” إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم.
وأخرجه الضياء في “المختارة” (1631) من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، بهذا الإسناد.
وأخرجه أبو داود (3451) ، والبيهقي 6/29، والضياء في “المختارة” (1630) من طريق عفان بن مسلم، به.
وأخرجه الدارمي (2545) ، وابن ماجه (2200) ، والترمذي (1314) ، وأبو يعلى (2861) ، والطبري في “التفسير” 2/594، وابن حبان (4935) ، والبيهقي في “السنن ” 6/29، وفي “الأسماء والصفات ” ص 65، والضياء (1630) من طرق عن حماد بن سلمة، به- ولم يذكر الضياء قتادةَ وحميداَ.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وأخرجه بنحوه الطبراني في “الكبير” (761) من طريق عبد الله بن لهيعة، عن سليمان بن موسى الدمشقي، عن ثابت البناني، عن أنس.
وأخرجه أبو يعلى (2774) من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن البصري، عن أنس”.
ثانيًا: دراسة الحديث دراية:
1- تبويبات الأئمة على حديث الباب وما في معناه:
* بوب أبو داود على الحديث باب في التسعير، وأورد تحته:
- حديث الباب.
- حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ. فَقَالَ « بَلْ أَدْعُو ». ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ فَقَالَ « بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِى مَظْلَمَةٌ ». [ صححه الألباني ومحققو سنن أبي داود وهو في الصحيح المسند 1359].
* بوب الترمذي في سننه باب ما جاء في التسعير، وأورد تحته حديث الباب فقط.
* بوب ابن ماجه في سننه بَابُ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُسَعِّرَ، وأورد تحته:
حديث الباب.
حديث أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: لَوْ قَوَّمْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُفَارِقَكُمْ وَلَا يَطْلُبَنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِمَظْلِمَةٍ ظَلَمْتُهُ» [ صححه الألباني ومحققو سنن ابن ماجه]
2- شرح الحديث:
* ينظر شرح الصحيح المسند 1359 عن أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ. فَقَالَ « بَلْ أَدْعُو ». ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ فَقَالَ « بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِى مَظْلَمَةٌ ».
* قال ابن عبد البر في “الاستذكار” (29320): وقال الليث بن سعد، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد: لا بأس بالتسعير على البائعين للطعام إذا خيف منهم أن يُفسدوا أسواق المسلمين، ويُغلوا أصعارهم، وحقٌ على الوالي أن ينظر للمسلمن فيما يُصلحهم، ويعُمُّهم نفعه.
* وقال ابن العربي: الحق جواز التسعير، وضبط الأمر على قانون ليس فيه مَظلَمَةٌ لأحدٍ من الطائفتين، وما قاله المصطفى – صلى الله عليه وسلم – حق، وما فعله حُكمٌ، لكن على قومٍ صحت نياتهم وديانتهم، أما قوم قصدوا أكل مال الناس، والتضييق عليهم، فباب الله أوسع، وحكمه أمضى.
* قال ابن العربي في القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 837): ” فإذا احتكر ونزلت بالناس فاقة فاحتبس عن البيع إلا بما يريد فهي مسألة التسعير وبيانها أنه صح عن النبى – صلى الله عليه وسلم – أن نفرا من أصحابه سألوه التسعير في السوق (فقال إن الله هو المسعر القابض الباسط وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد منكم بمظلمة عنده).
ومحمل الحديث على وجهين:
أحدهما: إذا لم يكن الزائد متفاوتا.
والثاني: إذا لم يكن في ذلك ضرر بأن يترقى منه إلى غيره فإن خرج عن هذين الوجهين لم يجز التسعير أيضا ولكن يقال للذي تولى الزيادة أخرج عن سوقنا كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة هذا إذا كان من أهل السوق.
وأما إن كان الجالب للبيع من غير أهل البلد فذلك الذي يبيع كيف شاء لا يمنع منه ولا يحجر عليه كما قال عمر ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده الحديث.
وهذا مبنى على قاعدة المصلحة فإن الجالب لو قيل له كما يقال للرجل من أهل السوق: إما أن تبيع بسعرنا وإما أن تقوم عن سوقنا لانقطع الجلب واستضر الناس وعلى هذا انبنت مسألة التسعير في أن كل من جلب من المعاهدين إلى بلاد الإسلام أخذ منه العشر إلا أن يجلب إلى مكة فإنه يؤخذ منه نصف العشر مصلحة سببها التحريض والتحضيض على جلب الأقوات إليها وفائدته كثرته فيها ولما لحظ ابن حبيب من أصحابنا هذه المصلحة وفهم المقصود قال إن الجالب للطعام لا يمكن أن يبيع إلا بسعر الناس ما خلا القمح والشعير فإنه يكون فيه بحكم نفسه للحاجة ولتمام المصلحة بهما.
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” 28/ 76 – 77: من هنا يتبين أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلمَ الناس وإكراهَهم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعَهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب.
فأما الأول: فمثل ما روى أنس … [فذكر حديث أنس الآتي عند المصنف بعد هذا الحديث] فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حقٍّ.
وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به.
وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع، إما ظلماً لوظيفة تؤخذ من البائع أو غير ظلم، لما في ذلك من الفساد. فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا ييعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا كان قد مُنع غيرُهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه: فلو سوّغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلماً للخلق من وجهين: ظلماً للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال، وظلماً للمشترين منهم، والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم أن لا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل.
* قال الطيبي في شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2169): ” قوله: ((غلا السعر)) ((قض)): السعر القيمة التي يشيع البيع بها في الأسواق، قيل: سميت بذلك؛ لأنها ترتفع والتركيب لما له ارتفاع، والتسعير تقديرها. وقوله: ((إني لأرجو)) إلي آخره، إشارة إلي أن المانع له من التسعير مخافة أن يظلم في أموالهم؛ فإن التسعير تصرف فيها بغير إذن أهلها فيكون ظلما. ومن مفاسد التسعير تحريك الرغبات، والحمل علي الامتناع من البيع، وكثيرا ما يؤدي إلي القحط.
أقول: قوله: ((إن الله هو المسعر)) جواب علي سبيل التعليل للامتناع عن التسعير، جيء بـ ((إن)) وضمير الفصل بين اسم ((إن)) والخبر معرفا باللام؛ ليدل علي التوكيد والتخصيص، ثم رتب هذا الحكم علي الأخبار الثلاثة المتوالية ترتب الحكم علي الوصف المناسب. وكونه قابضا علة لغلاء السعر، وكونه باسطا لرخصه، وكونه رازقا يقتر الرزق علي العباد ويوسعه، فمن حاول التسعير فقد عارض الله ونازعه فيما يريده، ومنع العباد حقهم مما أولاهم الله تعالي في الغلاء والرخص، وإلي المعنى الأخير أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإني لأرجو)) إلي آخره.
قوله: ((بمظلمة)) الجوهري: الظلامة والظليمة والمظلمة ما يطلبه عند المظالم، وهو اسم ما
أخذ منك. وفي المغرب: المظلمة الظلم، وقول محمد: في هذا مظلمة للمسلمين اسم للمأخوذ، في قولهم: عند فلان مظلمتي وظلامتي أي حقي الذي أخذ مني ظلما- انتهي كلامه.
عطف قوله: ((ولا مال)) وجيء بـ ((لا)) النافية للتوكيد من غير تكرير؛ لأن المعطوف عليه في سياق النفي، المراد بالمال هذا التسعير؛ لأنه غير مأخوذ من المظلوم، وهو كأرش جنابة، وإنما أتى بمظلمة توطئة له”.
* قال الصنعاني في سبل السلام (2/ 33): ” والحديث دليل على أن التسعير مظلمة وإذا كان مظلمة فهو محرم. وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وروي عن مالك أنه يجوز التسعير ولو في القوتين، والحديث دال على تحريم التسعير لكل متاع وإن كان سياقه في خاص “.
* قال الشيخ عبدالمحسن العباد في شرح سنن أبي داود (18/ 58): ” أورد أبو داود باب التسعير، والتسعير: هو تحديد السعر، بحيث يقال: لا يباع بأكثر من كذا، ويلزم أن يكون البيع بهذا السعر، هذا هو التسعير، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو حرام، ولما طلب منه ذلك قال: (بل أدعو) يعني: بأن تحصل الأرزاق وتكثر ولا يحتاج الناس إلى تسعير، فلما روجع قال: (إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)، وهذا يفيد بأن التسعير من الظلم، فقد يكون صاحب البضاعة اشتراها بثمن غال ثم يلزم بأن يبيعها بسعر رخيص، فيكون في ذلك ظلم عليه؛ لأنه اشترى بثمن غال ثم ألزم بأن يبيع بسعر رخيص، ولكن إذا تواطأ التجار على رفع الأسعار فإنهم لا يمكنون من ذلك؛ لأن هذا تعاون على الإثم والعدوان وتعاون على الظلم، فحينئذٍ تتدخل الدولة فتسعر دفعاً للظلم. قوله: [ (أن رجلاً جاء فقال: يارسول الله! سعِّر، فقال: بل أدعو) ]. يعني: يدعو الله أن يبسط لهم الرزق ويكثر الخير. قوله: (ثم جاءه رجل، فقال: يارسول الله! سعر، فقال: بل الله يخفض ويرفع) ]. يعني: يحصل منه بسط الرزق ويحصل منه تضييق الرزق، يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر على من يشاء، بمعنى: يضيق، فالتقدير هو التضييق والتقليل.
* وقال العباد في شرح حديث أنس: ” فيه أن هذا إلى الله عز وجل، فهو الذي يخفض ويرفع ويبسط ويضيق، وهذه من أفعال الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى، وهو الذي يأتي بالخير ويأتي بالنعم، وإذا شاء أن تقل فكل ذلك يرجع إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى. ولو ألزم التجار بسعر معين، فقد تكون السلع دخلت عليهم بأثمان غالية، فإذا ألزم التاجر أن يبيع بأقل مما اشترى فهذا يعني أنه ألزم بالخسارة، وفي ذلك ظلم له. قوله: [ (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق) ]. هذه من أفعال الله عز وجل، والقابض الباسط متقابلان، أي: تضييق الرزق وتوسيعه. والمسعر يعني أن الله هو الذي بيده كل شيء، وهو الذي يحصل منه كثرة الرزق بأيدي الناس ولا يحتاجون إلى طلب تسعير، وقد يحصل خلاف ذلك فيحتاج الناس إلى التسعير، لكن التسعير فيه ظلم للناس كما عرفنا، لكن لا يقال: إن من أسماء الله المسعر؛ لأن هذا من أفعال الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله بهذه الأشياء، ولا يقال: إن هذا من أسماء الله. والقابض الباسط متقابلان، قال الله: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الشورى:12]، فكل منهما مرتبط بالآخر. والله هو النافع الضار لكن لا يقال: من أسماء الله النافع الضار، فالله عز وجل يوصف بأنه نافع وضار، أعني: يخبر عنه بأنه نافع ضار، لكن لا يقال: إن من أسمائه النافع الضار. والرزاق جاء في القرآن في قوله تعالى: إن الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، وأما الرازق فجاء في هذا الحديث، وهو إخبار عن أفعال الله سبحانه وتعالى، لكن لا أدري هل جاء اسم الرازق في غير هذا الحديث؟”
3- مسائل أخرى:
* ينظر سلسلة التسهيل لأسماء الله الحسنى (20) في مجموعة السلام شرح اسم الله الرزاق.
* جاء في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1574 ـ التسعير منه ما هو ظلم، ومنه ما هو عدل واجب) (وتسعير أجور العقار)
الحمد لله وحده وبعد:
فقد جرى بيننا وبين بعض إخواننا طلبة العلم بحث في ” مسألة التسعير” وحكمه، ورغب إلي الكتابة، فاستعنت فيه الله تعالى وأمليت فيها ما يأتي:
الحمد لله وحده. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فغير خاف أن التسعير من المسائل التي اختلف في حكمها العلماء. فذهب جمهورهم إلى منعه مطلقاً، مستدلين على ذلك بما روى أبو داود وغيره، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قال: ” جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يارسول الله سعر لنا فقال: بل ادعو الله. ثم جاء رجل فقال: يارسول الله سعر لنا فقال: بل الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة ” وبما روى أبو داود والترمذي وصححه، عن أنس قال: ” غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يارسول الله لو سعرت فقال إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة “.
وهذا قول الشافعي، وهو قول أصحاب الإمام أحمد: كأبي حفص العكبري، وا لقاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وغيرهم، قال في ” الشرح الكبير” وليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، وهذا مذهب الشافعي، وكان مالك يقول: يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كما يبيع الناس، وإلا فاخرج عنا. احتج بما روى الشافعي وسعيد بن منصور، عن داود بن صالح، عن القاسم بن محمد، عن عمر، أنه مر بحاطب في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين بكل درهم فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت. لأن في ذلك إضراراً بالناس إذا زاد، وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه: ” أنه غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يارسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ” قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وعن أبي سعيد مثله.
فوجه الدلالة من وجهين: “أحدهما” أنه لم يسعر وقد سألوه ذلك، ولو جاز لأجابهم إليه. ” الثاني”: أنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام إلى آخر ما ذكره.
وأجابوا على منع عمر رضي الله عنه حاطب بن أبي بلتعة ـ أن يبيع زبيبة بأقل من سعر السوق ـ بأن في الأثر أن عمر لما رجع حاسب نفسه، ثم أتى حاطباً في داره، فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع.
وقالوا بعد ذلك في توجه المنع: بأن الناس مسلطون على أموالهم فإجبارهم على بيع لا يجب، أو منعهم مما يباح شرعاً ظلم لهم، والظلم حرام، فالتسعير بمثابة الحجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة من المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن. وإذا تقابل الأمران وجب تمكن الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم” (1) .
وذهب بعضهم إلى جواز التسعير إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع بأغلا من ذلك أو بأنقص، واحتجوا بما رواه مالك في موطئه، عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيباً له بالسوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا.
قال مالك: لو أن رجلاً أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس لرأيت أن يقال إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت. وأما أن يقول للناس كلهم يعني لا تبيعوا إلا بسعر كذا فليس ذلك بالصواب.
كما ذهب بعضهم إلى أن للإمام أن يحد لأهل السوق حداً لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، روى أشهب عن مالك: في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا ولحم الإبل بكذا وإلا أخرجوا من السوق. قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به. ولكن لا يأمرهم أن يقوموا من السوق.
واحتجوا على جواز ذلك بأن فيه مصلحة للناس بالمنع من غلاء السعر عليهم، ولا يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري.
وردوا على المانعين منه مطلقاً: أن الاستدلال بقوله صلى الله عليهوسلم: ” إن الله هو المسعر القابض الباسط” إلى آخره قضية معينة، وليست لفظاً عاماً، وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع مالناس يحتاجون إليه، بل جاء في حديث أنس التصريح بداعي طلب التسعير وهو ارتفاع السعر في ذلك، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك فقال: ” من أعتق شركاً له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ” قال ابن القيم رحمه الله في كتابه ” الطرق الحكمية”: فلم يمكن المالك أن يساوم المعتق بالذي يريد، فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل، ويعطيه قسطه من القيمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند الجمهور. وصار هذا الحديث أصلاً في أن ما لا يمكن قسمة عينه فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك إجماعاً. وصار ذلك أصلاً في أن وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل لا بما يزيد عن الثمن. وصار أصلاً في جواز إخراج الشيء عن ملك صاحبه قهراً بثمنه للمصلحة الراجحة كما في الشفعة. وصار أصلاً في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن.
والمقصود أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه يعوض المثل لمصلحة تكميل العتق ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم وهم إليها أضر مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره. وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع قيمة المثل هو حقيقة التسعير.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في معرض كلامه على التسعير في ” الجزء الثامن والعشرين ” من فتاواه الكبرى: والمقصود هنا أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر إما بثمن المثل وإما بالثمن الذي اشتراه به لم يحرم مطلقاً تقدير الثمن. ثم إن ما قدر به النبي صلى الله عليه وسلم في شراء نصيب المعتق هو لأجل تكميل الحرية وذلك حق الله وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله.
إلى أن قال: وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة، وليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية إلى أن قال: وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة، ولهم فيه وجهان. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعدياً فاحشاً وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وإذا تعدى أحد بعدما فعل ذلك أجبره القاضي أهـ كلامه رحمه الله.
والذي يظهر لنا وتطمئن إليه نفوسنا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: من التسعير ما هو ظلم، ومنه ماهو عدل جائز فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضون، أو منعهم ما أباحه الله لهم فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم ما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب. فما قدره النبي صلى الله عليه وسلم من الثمن سراية العتق هو لأجل تكميل الحرية وهو حق لله، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله، فحاجة المسلمين إلى الطعام والشراب واللباس ونحو هذه الأمور مصلحة عامة ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية.
فالتسعير جائز بشرطين:
” أحدهما “: أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس.
“والثاني”: ألا يكون سبب الغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب. فمتى تحقق فيه ” الشرطان ” كان عدلاً وضرباً من ضروب الرعاية العامة للأمر كتسعير اللحوم والأخباز والأدوية ونحو هذه الأمور مما هي مجال للتلاعب بأسعاره أو ظلم الناس في بيعها.
وإن تخلفنا أو أحدهما كان ذلك ظلماً وداخلاً فيما نص عليه حديثا أنس وأبي هريرة المتقدمان، وهو عين ما نهى عنه عمر بن عبد العزيز عامله على الابله حين حط سعرهم لمنع البحر، فكتب إليه: خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله.
والخلاصة أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير فعلى ولي الأمر أن يسعر عليهم فيما تحقق فيه الشرطان المتقدمان تسعير عدل لا وكس ولا شطط. فإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
بقيت الإشارة إلى حكم التسعير في أجور العقار. وهل هو داخل في حكم الممنوع، أم الجائز.
تقدم فيما سبق أن التسعير لا يجوز إلا بتحقق شرطين: (أحدهما) أن يكون فيها حاجة عامة لجميع الناس.
(الثاني) ألا يكون سبب الغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب.
والمساكن المعدة للكراء ليست فيها حاجة عامة لجميع الأمة بل الغالب من الناس يسكنون في مساكن يملكونها، وإذا كان هناك غلاء في أجرة المساكن المعدة للكراء في مدن المملكة فليست نتيجة اتفاق أصحابها على رفع أجار سكناها، ولا الامتناع من تأجيرها، وإنما سببه في الغالب قلة العقار المعد للكراء، أو الكثرة الكاثرة من طالبي الاستئجار، أو هما جميعاً. فتسعير أجار العقار بهذا ضرب من الظلم والعدوان، فضلاً عن أنه يحد من نشاط الحركة العمرانية في البلاد , وذلك لا يتفق مع مصلحة البلاد وما تتطلبه عوامل نموها وتطورها. وبالله التوفيق. قال ذلك وأملاه الفقير إلى ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف مصلياً علىمحمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(ص ـ ف 2851 في 13/7/87هـ)
* سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فتاوى نور على الدرب السؤال التالي:
س: عبد الصمد عبد الله يقول ما هو المقدار الجائز شرعاً في الربح عندما يتاجر شخص بنوع من السلع هل هو نصف رأس المال أو الربع أو الثلث أو أكثر؟
فأجاب رحمه الله تعالى: الربح في البيع والشراء ليس له تقديرٌ شرعاً فقد يربح الإنسان أكثر من رأس المال مرات عديدة حسب نشاط السوق وارتفاع الأسعار فكم من أناس اشتروا الشيء بثمن ثم باعوه بأضعافه وقد يربحون دون ذلك وقد لا يربحون شيئاً وقد يخسرون ، الأمر في هذا راجع إلى قوة العرض والطلب والأسعار بيد الله عز وجل فهو المسعر القابض الباسط الرازق لكن المحظور هو أن يرفع الإنسان السعر عما جرى فيه العرف أو عما كانت عليه السلعة في السوق ويخدع بها الجاهل كما لو كان الناس يبيعون هذه السلعة بعشرة فباعها بخمسة عشر أو أكثر على إنسانٍ جاهل فإن هذا لا يجوز لما فيه من الخديعة والغش وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام (من غش فليس منا) وإذا كان الإنسان لا يرضى أن أحداً يعامله بهذه المعاملة فكيف يرضى أن يعامل غيره بها أما لو كان السوق قد ارتفع مثل أن يشتري هذه السلعة بعشرة ثم تزداد السلعة حتى تصل إلى ثلاثين أو أربعين فلا حرج أن يبيع بهذا السعر لأنه سعر الناس وأما (حديث عروة بن الجعد بن البارقي رضي الله عنه فقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً يشتري به أضحية فاشترى شاتين بالدينار ثم باع إحداهما بدينار ثم أتى بأضحيةٍ ودينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة في بيعه فكان لو اشترى تراباً لربح فيه) وهذا لا يدل على ما ذكره السائل لأنه من الجائز أن يكون من باع الشاتين للبارقي بدينارٍ واحد عرف أن هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل من السعر وأيضا قد يكون عجلاً يريد أن يذهب إلى أهله فباعها برخص وقد يكون السعر زاد في هذه الساعة التي وقع فيها الشراء ثم البيع بعد ذلك على كل حال فيه احتمالات ولكن القاعدة الأصيلة أنه لا يجوز للإنسان أن يغلب غيره غلبةً لا يقتضيها ارتفاع السعر هذا هو الظاهر.
* يوجد بحث بعنوان ” التسعير في نظر الشريعة ” منشور في مجلة البحوث الإسلامية – مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الفصل الأول: معنى التسعير وحكمه:
المبحث الأول: تعريف التسعير
المعنى اللغوي للتسعير
هو: الذي يقوم عليه الثمن، وجمعه: أسعار.
يقال: ” أسعروا وسعروا ” إذا اتفقوا على سعر معين.
ويقال: ” ساعره مساعرة ” إذا ساومه على سعر بعينه.
ويقال: ” له سعر “: إذا زادت قيمته و ” وليس له سعر “: إذا أفرط رخصه.
والسعر المحدود: هو الذي لا يقبل المساومة.
وسعر السوق: هو الحالة التي يمكن أن تشترى بها الوحدة أو ما شابهها في وقت ما.
وسعر الصرف: هو سعر السوق بالنسبة لنقود الأمم.
المعنى الاصطلاحي للتسعير
هو إلزام ولي الأمر – أو من يقوم مقامه – الناس بثمن معين لا يتبايعون إلا به فيمنعون من الزيادة عليه أو النقص عنه عند الضرورة في الطعام وغيره مما يحتاج الناس إليه بحيث يراعي حق الطرفين بالعدل للمصلحة العامة.
فالتسعير في حاضرنا اليوم يعني تدخل الدولة ممثلة في وزارة التجارة أو الغرفة التجارية أو أي هيئة أخرى مختصة في وضع أسعار محددة لسلع معينة أو لكل السلع تكون ملزمة للتجار ليس لهم تجاوزها، وإلا كانوا عرضة للعقاب.
المبحث الثاني: حكم التسعير
للعلماء في حكم التسعير عدة آراء منها:
القول بالمنع مطلقا، وإلى هذا ذهب بعض الشافعية والحنابلة ورواية عن الإمام مالك.
القول بجواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي والبهيمة وإليه ذهب متأخرو الزيدية.
القول بجواز التسعير عند إغلاء التجار الأسعار، وإليه ذهب الحنفية ورواية أخرى عن مالك، وفيما يلي بيان هذه المذاهب بشيء من التفصيل وأدلة أصحاب كل مذهب ومناقشتها.
الرأي الأول: عدم جواز التسعير مطلقا
وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي على أدلة بعضها من الكتاب والسنة وبعضها من العقل والمنطق.
أولا: دليلهم من الكتاب:
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1).
ووجه الدلالة من هذه الآية أنها تفيد إطلاق الحرية للبائع، والتسعير حجر عليه وإلزام له بصفة معينة في البيع؛ إذ قد لا يكون راضيا به فيكون كالأكل بالباطل الذي نهت الآية الكريمة عنه.
المناقشة:
نوقش هذا الدليل بأن التسعير لا يخالف هذه الآية الكريمة؛ لأن التسعير ما هو إلا إلزام للتجار ببيع السلعة بسعر المثل الذي يراعى عند تحديده مصلحة البائع والمشتري، وعلى هذا فلا يكون فيه أكل لأموال الناس بالباطل، بل على العكس من ذلك نجد أن ترك الحرية المطلقة للتجار ليبيعوا بأزيد من القيمة الحقيقية للسلعة مستغلين في ذلك حاجة الناس لها هو بعينه أكل أموال الناس بالباطل.
فالتسعير العادل الذي أذنت فيه الشريعة ليس فيه أكل المشتري مال التاجر بغير حق؛ لأن السعر يراعى فيه القيمة الحقيقية للسلعة مع إضافة كسب معقول للتاجر.
ويعتبر إجبار التاجر على البيع في هذه الحالة إكراها بحق، ويكون من جنس إكراه المدين على بيع ماله لوفاء دينه.
فإن قيل: وما وجه الحق في إجبار البائع على البيع بسعر محدد؟
قلنا: إن إرخاء الأسعار للمسلمين عامة ومنع الإجحاف بهم واستغلالهم من أهم الحقوق.
ثانيا: دليلهم من السنة
1 – ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (1)» رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي.
2 – ما روي عن أبي هريرة عند أحمد وأبي داود قال: «جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر. فقال: ” بل أدعو الله “. ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله سعر. فقال: ” بل الله يخفض ويرفع (2)».
ووجه الدلالة من هذين الحديثين: أنهما يدلان على تحريم التسعير، ويتضح ذلك من وجهين:
أولهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع عن التسعير مع أن الصحابة طلبوا منه ذلك وتكرر الطلب منهم ومع ذلك لم يسعر، فلو كان التسعير جائزا لأجابهم إلى طلبهم. وعلى هذا يكون التسعير غير جائز.
ثانيهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل امتناعه عن التسعير بأنه ظلم، والظلم حرام. وعلى هذا يكون التسعير حراما.
المناقشة:
نوقش هذان الدليلان بأنهما لا يدلان على تحريم التسعير مطلقا؛ لأن امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسعير محمول على حالة خاصة وهي أن التجار في ذلك الوقت كانوا أهل تقوى وصلاح، وكانوا يبيعون بأسعار مناسبة، والغلاء في ذلك الوقت لم يكن يرجع إلى جشع التجار وإنما كان ناتجا عن قلة السلع المعروضة وكثرة الطلب عليها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن التسعير صراحة فلم يقل: لا يجوز التسعير أو التسعير حرام أو نحوا من ذلك، ولكن كل ما جاء في الحديثين أنه لم يسعر لأنه لم تكن هناك حاجة إليه.
وعلى هذا فليس في الحديثين ما يدل على عدم جواز التسعير في حالة جشع التجار وتجاوزهم الحد المعقول بالبيع بأكثر من قيمة المثل.
وفي الرد على من استدل بهذين الحديثين قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ” ومن منع التسعير مطلقا محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعر القابض الباسط (1)» الحديث، فقد غلط فإن هذه قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل. ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه. فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم. . . ”
ورد الإمام ابن القيم – رحمه الله – على من استدل بهذين الحديثين في منع التسعير، بمثل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.
ثالثا: حادثة عمر مع حاطب
فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما.
فقال له: مدان لكل درهم.
فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يغترون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك في بيتك فتبيعه كيف شئت.
فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال له: إن الذي قلت لك ليس بعزمة مني ولا قضاء وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع.
ووجه الدلالة من هذه القصة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجع عن التسعير والإلزام به بعد ما رأى أنه أخطأ، واعترف بأنه ما قاله لحاطب بالسوق إنما كان اجتهادا منه. فدل ذلك على أن التسعير غير جائز.
المناقشة
نوقش هذا الدليل بأن هذه القصة رويت عن صحابي، وقول الصحابي لا يستقيم للحجية إلا إذا كان مستندا على نص من كتاب أو سنة أما إذا اعتمد على الرأي المجرد فلا يكون حجة، وإذا افترضنا أنه حجة فقد جاء للخليفة في هذه القصة رأيان:
الأول: الأخذ بالتسعير، والثاني: الرجوع عنه، وهو ما أخذ به أصحاب هذا المذهب واستندوا إليه في القول بعدم جواز التسعير.
ونقول لهم بأن هذه القصة جاءت في قضية خاصة وهي البيع بأقل من سعر السوق، والراجح أنه لا يجوز التسعير في هذه الحالة لما فيه من المصلحة لعامة الناس بالبيع بسعر رخيص.
على أن المحتجين بقضية حاطب لم يأخذوا بما صح عن عمر رضي الله عنه في قضايا كثيرة حيث خالفوه في إجبار بني العم على النفقة على ابن عمهم، وعتق كل ذي رحم محرم إذا ملك، وغير ذلك.
على أن هذا الأثر لا يصح عن عمر من رواية سعيد بن المسيب؛ لأنه لم يسمع من عمر إلا نعيه النعمان بن مقرن فقط.
وإنما الذي روى عن عمر -على فرض صحته – هو بخلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن عمر أراد بقوله: ” إما تزيد في السعر ” أي أن تبيع من المكاييل أكثر مما تبيع بهذا الثمن، حيث جاء من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب.
قال: ” وجد عمر حاطب بن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة.
فقال: كيف تبيع يا حاطب؟
قال: مدين.
فقال عمر: تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا، وتقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعا وإلا فلا تبع في أسواقنا، وإلا ف
سيبوا في الأرض ثم أجلبوا ثم بيعوا كيف شئتم “.
فهذا هو أثر عمر مع حاطب في الزبيب كما يجب أن يظن بعمر.
فإن قالوا: إن في هذا ضررا على أهل السوق.
قلنا: هذا باطل. بل في قولكم أنتم الضرر على أهل البلد كلهم، وعلى المساكين، وعلى هذا المحسن إلى الناس، ولا ضرر في ذلك على أهل السوق؛ لأنهم إن شاءوا أن يرخصوا كما فعل هذا فليفعلوا، وإلا فهم أملك بأموالهم كما هذا أملك بماله.
وخلاصة القول: أنه ليس في قصة عمر بن الخطاب مع حاطب بن أبي بلتعة دليل على منع التسعير.
رابعا: الأدلة العقلية
وقد أراد أصحاب هذا المذهب تأييد ما ذهبوا إليه – من القول بمنع التسعير – بأدلة من العقل والمنطق منها:
1 – قالوا إن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن.
نقول: إن الإمام ليس معنيا برعاية مصلحة فريق من الناس وهم التجار، ولكنه معني برعاية مصالح كل الأمة، فليس من العدل والإنصاف أن يترك الإمام الفرصة للتجار في الاحتكار واستغلال الناس بحجة عدم الحجر عليهم في التصرف في أموالهم، بل من مصلحة المسلمين إجبار التجار على البيع بسعر المثل، وليس في إلزامهم بالبيع بسعر المثل ظلم أو إجحاف بهم، حيث إن على الإمام مراعاة مصلحة التجار بتحديد سعر يتضمن ربحا معقولا لهم.
2 – قالوا: إن التسعير يمنع الجالبين عن القدوم بسلعهم إلى البلد حتى لا يجبروا على البيع بغير ما يريدون وكذلك أهل السوق يمتنعون من بيع ما لديهم من السلع فيخفونها ليبيعوها بالثمن الذي يرضيهم فينشأ عن ذلك ما يعرف بالسوق السوداء.
المناقشة
نقول: إن ولي الأمر يملك من الوسائل ما يحمل به الجالبين على القدوم لبيع ما بأيديهم من السلع، ولديه القدرة على استخراج السلع من مخابئها، كما يمكنه أن يقوم هو بالجلب وبيع السلع بسعر التكلفة فيحمل بذلك التجار على بيع ما لديهم من البضائع، فيقضي بذلك على الاحتكار والاستغلال.
الخلاصة
أن الرأي القائل بمنع التسعير رأي مرجوح لأنه أمكن مناقشة ما استدل به أصحابه من أدلة وتفنيد ما أوردوه من حجج.
وعليه يظهر لنا أنه ليس في الإسلام ما يمنع من التسعير طالما روعي فيه مصلحة جميع الأطراف من بائعين ومشترين.
الرأي الثاني القول بجواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي وعلف البهائم
وقد اعتمد أصحاب هذا الرأي على ما يلي:
أولا: حديث أنس رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أن يسعر قال: «إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر (1)». . . الحديث.
وحديث أبي هريرة وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بل الله يخفض ويرفع (2)» الحديث.
ووجه الاستدلال من هذين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما امتنع عن التسعير في أقوات الآدميين وأعلاف البهائم؛ لأنها أغلب السلع المتداولة في ذلك الوقت؛ فيحمل المنع من التسعير عليها فقط.
المناقشة
نقول: إنه ليس في الحديثين ما يدل من قريب ولا من بعيد على قصر منع التسعير على قوت الآدمي وعلف البهائم، ولم يرد أن هاتين السلعتين يغلب وجودهما في السوق. وحمل الحديثين على هذا المعنى فيه تكلف وتحميل للألفاظ بمعان لا تحتملها.
هذا وقد سبق مناقشة هذين الحديثين بما يغني عن إعادته هنا.
ثانيا: قالوا إن تسعير الأقوات قد يدفع التجار إلى إخفاء السلع مما يؤدي إلى حدوث مجاعات ومفاسد أكبر مما ينتج عن عدم التسعير ولذلك لا يجوز تسعير الأقوات وعلف البهائم، ويجب ترك الحرية للتجار يبيعونها كيفما شاءوا.
المناقشة
يناقش هذا الدليل بأن التسعير لا يعني وضع أسعار ثابتة للسلع يتعين الأخذ بها في كل زمان ومكان، وإنما المراد بالتسعير هو وضع سعر لكل سلعة بعد معرفة قيمتها الحقيقية مع إضافة كلفة وصولها إلى أرض المشتري ثم إضافة نسبة معقولة من الربح للتاجر، وبهذا ينتفي لحوق الضرر بالتجار.
على أن لولي الأمر السلطة التامة في إلزام التجار بالبيع بالسعر الذي حدده لهم، ومنعهم من إخفاء السلع عن الناس.
الخلاصة
إن القول بجواز التسعير فيما عدا قوت الآدمي وعلف البهائم قول مردود؛ إذ أنه استند على حجج واهية أمكن الرد عليها.
وعلى هذا فليس هناك ما يمنع من تسعير الأقوات عند الأخذ بالتسعير، بل على العكس فإنه كلما كانت الحاجة إلى السلعة عامة كان التسعير واجبا، وليس هناك حاجة أشد من حاجة الناس إلى الأقوات.
الرأي الثالث القول بجواز التسعير عند إغلاء التجار الأسعار وتواطئهم على رفع السعر بقصد ضرر المستهلكين، فهنا يجب تدخل ولي الأمر لرفع الضرر بالعدل الذي هو من متطلبات وحقوق الرعية على الراعي؛ فإن التسعير في هذه الحالة مصلحة عامة.
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما يلي:
أولا: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ».
ووجه الاستدلال من الحديث أن الشارع لم يعط المالك الحق بأخذ زيادة على القيمة حيث أوجب إخراج الشيء من ملكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق، فكيف إذا كانت حاجة الناس إلى تملك الطعام والشراب واللباس وغيره؟
فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع بقيمة المثل إنما هو التسعير في الحقيقة حيث إنه من جنس سلطة الشريك في انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشتري بثمنه الذي ابتاعه به لا بزيادة عليه لأجل مصلحة التكميل لواحد فكيف بما هو أعظم؟
فحاجة المسلمين إلى الطعام والشراب واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة ليس الحق فيها لواحد بعينه، وتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية الذي وجب على الشريك المعتق، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء.
فإن عموم الناس بحاجة لشراء الطعام واللباس، فلو أعطي أرباب السلع الحرية في البيع بما يشاءون لكان ما يلحق الناس من الضرر أعظم وأفحش.
ثانيا: إن القول بالتسعير عند تجاوز التجار ثمن المثل في البيع يحقق مصلحة الأمة بإرخاء الأسعار للناس وحمايتهم من جشع التجار واستغلالهم.
ثالثا: إن القول بالتسعير فيه سد للذرائع ومن الثابت أن سد الذرائع من الأدلة المعتبرة في الفقه الإسلامي وأصل من أصوله المعتمدة.
وسد الذرائع هو المنع من بعض المباحات لإفضائها مفسدة، ومن المسلم به أن ما يؤدي إلى الحرام يكون حراما، فترك الحرية للناس في البيع والشراء بأي ثمن دون تسعير هو أمر مباح في الأصل، ولكنه قد يؤدي إلى الاستغلال والجشع والتحكم في ضروريات الناس، فيقضي هذا الأصل الشرعي بسد هذا الباب بتقييد التعامل بأسعار محددة.
فإن قيل إن التسعير فيه تقييد لحرية التجار في البيع وهذا ضرر بهم والضرر منهي عنه شرعا.
نقول: إن الضرر الحاصل من منع التسعير أعظم بكثير من الضرر الناتج من إجبار التجار على البيع بسعر، ولا شك أن الضرر الأكبر يدفع بالضرر الأصغر.
وهكذا يتضح من كلام العلماء الذين أجازوا التسعير أنهم لم يجيزوه لذاته بل لأنه إجراء وقائي لصد ظلم الظالمين واحتكار المحتكرين.
الخلاصة
إن القول بالتسعير وإلزام التجار بالبيع بثمن المثل عند تجاوزهم الأسعار – التي تحقق لهم ربحا معقولا – وظهور بوادر الجشع والاستغلال، لهو الرأي المختار الذي يجب العمل به والمصير إليه، وذلك لقوة أدلته وسلامتها من الرد، ولما فيه من تحقيق مصالح الأمة ودفع الضرر عن الناس.
المبحث الثالث: رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في حكم التسعير
قال رضي الله عنه: ” السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب.
فأما الأول: فمثل ما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال» رواه أبو داود وصححه.
فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها – مع ضرورة الناس إليها – إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به.
فشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه لا يرى الأخذ بالتسعير مطلقا وفي كل الأحوال، وإنما يفرق بين حالتين:
الأولى: حالة ما إذا كان الغلاء ناتجا عن قلة العرض وكثرة الطلب دون أن يكون للتجار دخل في ذلك، فهنا لا يرى الأخذ بالتسعير بل يراه ضربا من ضروب الظلم والعدوان.
الثانية: حالة ما إذا كان الغلاء ناتجا عن جشع التجار واستغلالهم للناس، فهنا يرى أن التسعير حلال بل واجب، ويتعين على ولي الأمر تحديد الأسعار – في هذه الحالة – حماية للناس من جشع التجار واستغلالهم.
وهذا ما يتفق مع سماحة الشريعة الإسلامية وعدالتها لما فيه من جلب المصالح ودفع المفاسد ورفع الظلم عن الناس.
الفصل الثاني: تسعير أجور الأشخاص والعقارات
ينقسم الكلام في هذا الموضوع إلى قسمين رئيسيين:
الأول: تسعير أجور الأشخاص
الثاني: تسعير أجور العقارات
ونخصص لكل منهما مبحثا مستقلا
المبحث الأول: تسعير أجور الأشخاص
إن الإسلام بقواعده الراسخة ومبادئه الثابتة التي أرست دعائم حياة الفرد المسلم وجاءت بهديه وقيادته إلى سبيل السعادة في الدنيا والآخرة، قد جعل العمل فرضا على كل مسلم وحث عليه ورغب فيه.
وكان الكثير من الأنبياء يكسب قوته من عمل يده، وكان منهم النجار والحداد والطبيب وراعي الأغنام، ولذا فقد قال نبي الرحمة -عليه الصلاة والسلام-: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده». وقال صلى الله عليه وسلم: «من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له» «وسئل – صلوات الله وسلامه عليه- عن أفضل الكسب، فقال: بيع مبرور وعمل الرجل بيده ».
ولما كان العمل بهذه المثابة فقد أمر الدين الحنيف بإكرام العامل ومراعاة حقوقه، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ». وجاء في الحديث القدسي عن رب العزة: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته». . . ثم قال في الثالث: «ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره (2)».
وكما أمر الإسلام بالعمل وحث على حفظ حقوق العمال، فقد أوجب على العامل أن يؤدي عمله بأمانة وإخلاص وإتقان، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
تحديد أجور العمال
نشأت الدعوة إلى تحديد أجور العمال ووضع حد أدنى لها، عندما قامت بعض التكتلات في الأسواق الدولية تعمل لصالح أصحاب الإنتاج ضد العمال، فهي لم تترك للعمال حرية التعاقد بل فرضت عليهم الشروط التي تكون في صالحها دون مراعاة لمواهب العامل وقدراته الخاصة، أو مستوى المعيشة في البلد.
وكان العامل مكرها على قبول ما يحدده رب العمل من أجر – بدافع الفقر والعوز – وكانت عقود العمل التي تنشأ بذلك توصف بأنها عقود إذعان؛ لأن الطرف القوي فيها يفرض على الطرف الضعيف ما يشاء من شروط مجحفة.
وقام العمال وبعض الباحثين في الاقتصاد الحديث بالدعوة إلى تحديد أجور العمل، وقام بعض المفكرين بالمناداة بوضع حد لهذا الظلم، وظهرت من ذلك عدة نظريات نوجزها فيما يلي:
1 – نظرية حد الكفاف أو الأجر الحدي
تقوم هذه النظرية على أساس عرض العمال للأجور، ويكون تحديد الأجر بالحد الأدنى لحاجة العامل الضرورية لمعيشته هو وعائلته وإبقائهم على قيد الحياة.
على أن هذه النظرية لم تحل المشكلة لأن عرض العمال للأجور يؤدي إلى تنافسهم في عرض أجور أقل مما يؤدي بالتالي إلى انخفاض أجورهم إلى حد الكفاف.
وقد أخذ بهذه النظرية كثير من باحثي الاقتصاد في الغرب كآدم سميث وكسناي وتركو، وقد انتقد آخرون تلك النظرية كمالتس؛ حيث يعتقد بزيادة السكان إلى حد كبير وأن مستقبلهم تعس بسبب تزايدهم على العمل حيث يؤدي إلى انخفاض أجورهم وترديها.
2 – نظرية إنتاجية العمل
وتتحدد أجور العمال – بمقتضى هذه النظرية – بمقدار ما يتبقى من قيمة الإنتاج الصناعي بعد دفع حصة عناصر الإنتاج الأخرى من تكاليف وربح احتياطي، فإذا زاد الإنتاج زادت الأجور تبعا لذلك.
وهذه النظرية فيها ظلم للعامل؛ حيث إن أجره مرتبط بربح وخسارة المنشأة وارتفاع وانخفاض الأسعار، كما أنها لم تراع ظاهرة العرض والطلب وهي ذات أثر كبير في مسألة تحديد الأجور.
وفوق ذلك فإن هذه النظرية مخالفة لما يجب أن يكون عليه العقد من أن الأجور تحدد مسبقا قبل البدء بالعمل، أما جهالة الأجر فلا تجوز، وأمثال تلك الصور ظلم وأكل للمال بالباطل فلا تصح. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره (1)».
3 – نظرية المساومة
وتقضي هذه النظرية بأن تحديد الأجور يتم بالمساومة بين أرباب العمل والعمال، ويتدخل في تحديد الأجور الطلب على العمل وعرضه، فعندما تكون الأحوال الاقتصادية حسنة والطلب على العمال كبيرا لا يستطيع أصحاب العمل تجاهل طلبات العمال برفع الأجور، وعلى العكس من ذلك ففي حالة سوء الأحوال الاقتصادية وقلة الطلب على العمال، يضطر العمال إلى التنازل عن موقفهم وقبول أجور أقل.
وبهذا فإن نظرية المساومة لا تقول بفرض أجر معين، بل تقول إن واقع الحال يجب أن يكون هو الحكم، وأن هناك نظاما واسعا في الأجور، وأن تحديد الأجور يتم بالمساومة، ويختلف باختلاف الزمان والمكان ومهارة العامل ودرايته وقدرته.
بيان حكم ذلك في الشريعة الإسلامية
إن الأعمال والمهن التي يحتاج إليها المجتمع ينظر إليها الفقهاء المسلمون – انطلاقا من المفهوم الإسلامي المستمد من القرآن والسنة – نظرة اجتماعية وأخلاقية لا نظرة اقتصادية فحسب، فهم يرون أن العمل واجب اجتماعي وفرض على الكفاية لا تتم مصلحة الناس إلا به، فإذا لم يقم أحد بهذا الواجب لحق المجتمع كله إثم على هذا التقصير فيكون الوجوب قائما ما دام المجتمع محتاجا وينتهي بقيام من يكفي المجتمع مئونة ذلك العمل. وهذا المفهوم الإسلامي مبني على فكرة وحدة المجتمع وتضامنه وتكافله.
وعلى هذا.
فلا يجوز للعامل أن يفرض أجرا مرتفعا مستغلا في ذلك حاجة الناس إلى عمله.
كما ينبغي على الناس أن يعطوا العامل حقه دون نقص.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ” فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم. . . والمقصود هنا أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما يحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب. . . “.
وخلاصة القول أن تحديد أجور العمال يكون واجبا في حالة الضرورة، وهي:
إما تكتل أصحاب الأعمال ضد العمال ليفرضوا عليهم شروطهم.
وإما تكتل الأعمال وتواطؤهم على فرض أجور مرتفعة مستغلين في ذلك حاجة الناس إليهم وإلى صناعاتهم، فهنا يجب تحديد الأجور منعا للجشع والاستغلال، وحفظا لمصالح العمال وأصحاب الأعمال.
طريقة تحديد الأجور في الشريعة الإسلامية
عندما يضطر ولي الأمر إلى وضع مستوى معين للأجور فإنه ينبغي أن يتم ذلك عن طريق هيئة تمثل العمال وأرباب العمل، تقوم بتقدير الأجر المناسب لكل مهنة أو حرفة، وتراعي في تحديد الأجور مهارة العامل وإمكانياته وقدراته، مع مراعاة مستوى المعيشة في كل عصر ومصر.
فعند القيام بوضع جدول للأجور لكل مهنة يجب الإشارة إلى الفوارق الطبيعية في الذكاء والاستعداد الفطري والقدرة على التحمل، فلا يكون أجر العامل الكسول الذي يقوم بعمل تافه مساويا لأجر العامل المجد النشيط الذي يؤدي عملا على جانب كبير من الأهمية.
وبهذا يأخذ كل ذي حق حقه، مما يؤدي إلى تحسين العمل كيفا وزيادته كما، وتزول الضغائن والأحقاد التي كثيرا ما تقوم بين العمال وأرباب العمل، وتحل محلها المحبة والوئام. وبهذا تتحقق مصلحة المجتمع ويعم الرخاء.
والإسلام في هذا قد سبق المنظمات العمالية والهيئات الدولية التي تزعم أنها تحمي حقوق الإنسان والتي أشارت في المادة الثالثة والعشرين من وثيقة إعلان حقوق الإنسان الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة على ” ضرورة جعل الأجور عادلة تكفي معيشة العامل وعائلته بصورة كريمة لائقة بالإنسان “.
فالإسلام قد سبقها إلى ذلك في صورة لم يعرف لها العصر الحديث مثيلا حيث قدر أن للعامل جميع متطلبات الحياة الإنسانية الأساسية، فقد قال المستورد بن شداد بن عمرو: سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كان لنا عامل فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا (1)».
وعلى ضوء هذا الحديث يمكن أن نقدر أجور العمال في إطار مطالب الحياة الرئيسية.
فأين هذا من تلك النظريات الاقتصادية التي تنادي بجعل الأجور على حد الكفاف، أو تربطها بالإنتاج الذي يؤدي إلى الجهالة والغرر، ويفضي إلى الشقاق بين العامل ورب العمل.
فصلى الله على محمد ما أرحمه بأمته وأرأفه بهم! وصدق الله تعالى حيث يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2).
المبحث الثاني: تسعير أجور العقارات
كما أن الناس بحاجة إلى الغذاء والكساء فهم بحاجة إلى المسكن الذي يأويهم ويقيهم القر والحر. وكما يوجد فئة من الناس تحتكر الأقوات وتتحكم فيها نجد فئة أخرى تقوم ببناء المساكن وتتحكم في تأجيرها بفرض أجور باهظة لا يقوى على دفعها الكثير من الناس.
ففي هذه الحالة يجب تحديد أجور العقارات منعا من الاستغلال والاحتكار والتعسف في استعمال حق التملك.
ويقصد بتحديد أجور العقار تقييم منافعها فقد تكون الحاجة إلى منافع العقارات لا إلى أعيانها، فإذا كانت هناك حاجة عامة لهذه المنافع التي يملكها بعض الناس فعليهم بذلها بأجرة عادلة لا غبن فيها ولا إجحاف بأي طرف من الأطراف.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية: ” ونظير هؤلاء صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك، وهو إنما ضمنها ليتجر فيها، فإذا امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء، وهم محتاجون لم يمكن من ذلك وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل، كما يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها. . . . “.
فيجب تحديد الإيجارات إذا كان ارتفاعها نتيجة لاحتكار أرباب العقار للمساكن وتواطئهم على رفع أجورها.
أما في حالة ما إذا كان ارتفاع الإيجارات ناتجا عن قلة المساكن وكثرة الطلب عليها فإن تحديد الإيجارات هنا يكون ضربا من ضروب الظلم والعدوان فضلا عن أنه يحد من نشاط الحركة العمرانية في البلاد، كما هو الحال في بلادنا فإن ارتفاع إيجارات المساكن ليس نتيجة لاتفاق أصحابها على رفعها، وإنما سببه في الغالب قلة العقار المعد للإيجار والكثرة الهائلة من طالبي الاستئجار.
طريقة تحديد الإيجارات
رأينا أنه في حالة ما إذا كان ارتفاع الإيجارات ناتجا عن جشع أصحاب العقارات وتواطئهم على رفعها، تعين على ولي الأمر تحديد هذه الإيجارات منعا من الاستغلال.
وعند تحديد الإيجارات يجب على ولي الأمر أن يجمع أصحاب الشأن – من مؤجرين ومستأجرين – وأهل الخبرة المختصين بالإسكان ويناقشهم في الأمر، ويعرف منهم أسباب ارتفاع الإيجارات، وما ينفقه أصحاب العقارات على تشييدها من مواد البناء وسعر الأرض، مع مراعاة ما يتمتع به كل عقار من مميزات من حيث الموقع ونوع البناء والمرافق وما إلى ذلك، حتى يتوصل إلى تحديد أسعار للإيجارات ترضي الجميع، فلا يكون فيها ظلم للمستأجر ولا إجحاف بالمؤجر.
ولا بد أن يكون جميع من وكل إليهم النظر في هذا الأمر من أهل التقوى والصلاح حتى يؤمن عليهم من محاباة طرف دون طرف.
ولكن هل يكون الإيجار الذي حدده ولي الأمر لازما ما دام العقار قائما بغض النظر عما يحدث من تغير الظروف وتبدل الأحوال؟
فيما يبدو لنا أنه يجوز رفع قيمة الإيجار إذا تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال، كأن ارتفعت أسعار السلع ارتفاعا كبيرا، وزادت الدخول والمرتبات زيادة ملحوظة، وارتفع مستوى المعيشة مما جعل الإيجار المتفق عليه شيئا ضئيلا لا يتناسب مع مستوى الأسعار العام، مما يجعل المالك يشعر بالظلم والغبن الفاحش.
وهذا بلا شك يتفق مع العدالة الإسلامية والقاعدة الشرعية التي أرساها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا ضرر ولا ضرار (1)».
الفصل الثالث: إلزام ولي الأمر بسعر السوق وعدم النقص عنه
رأينا فيما سبق أن لولي الأمر – في حالة إغلاء التجار الأسعار – أن يلزم التجار بالبيع بسعر معين لا يتجاوزونه وإلا تعرضوا للعقاب.
ولكن ما الرأي فيما إذا باع أحد التجار بضاعته بسعر أقل من السعر الذي تباع به في السوق؟
ذهب الفقهاء في ذلك إلى رأيين:
الأول: أن لولي الأمر أن يتدخل فيمنع التجار من البيع بأنقص من سعر السوق وهذا مذهب بعض المالكية وحكى ابن قدامة أنه مذهب مالك.
الثاني: ليس لولي الأمر أن يتدخل في هذه الحالة ليلزم التجار بالبيع بسعر السوق وهو مذهب جمهور الفقهاء.
وفيما يلي نتناول هذين الرأيين بشيء من التفصيل مع بيان أدلة كل رأي ومناقشتها:
الرأي الأول:
استدل أصحاب هذا الرأي إلى أدلة أهمها:
أولا: ما رواه مالك بن أنس عن يونس بن سيف عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق فقال له عمر: ” إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا “.
ووجه الاستدلال من هذه القصة أن عمر بن الخطاب أمر حاطبا بالبيع بسعر السوق أو القيام منه، مما يدل على مشروعية الإلزام بالبيع بسعر السوق وعدم النقص عنه.
ويجاب عن ذلك بأن هذه القصة جاءت في رواية أخرى عن الشافعي أن عمر بن الخطاب بعدما أمر حاطبا بالرفع من السوق ذهب إليه في داره، وقال له: ” إن الذي قلت لك ليس بعزمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع “.
ومن هذا يتبين لنا أن عمر رضي الله عنه عندما أمر حاطبا بالبيع بسعر السوق وعدم النقص عنه إنما كان اجتهادا منه، ثم تراجع عن موقفه عندما تبين له خطؤه.
ثانيا: أن بيع أحد التجار بسعر يقل عن سعر السوق ربما يؤدي إلى الخصومة والمنازعة بينه وبين أهل السوق من التجار.
ويجاب عن ذلك بأن وقوع الخصومة والمنازعة بسبب البيع بسعر أقل من سعر السوق؛ إنما هو مجرد احتمال ولو حدث فإن لولي الأمر سلطة القضاء على الخصومات والمنازعات.
ثالثا: أن التجار قد يضطرون إلى مجاراة البائع الذي يبيع بأقل من سعر السوق فيؤدي ذلك إلى خسارتهم.
ويجاب عن ذلك بأن التاجر الذي يبيع بأقل من سعر السوق إذا كان يبيع بأقل من ثمن المثل فسوف يزول من السوق بسبب خسارته، أما إذا كان يبيع بزيادة قليلة على ثمن المثل (أي أنه يقنع بربح قليل) فإن التجار إذا جاروه في ذلك يكون فيه مصلحة لعامة الناس.
الرأي الثاني
يرى أصحاب هذا الرأي أن البيع بأقل من سعر السوق فيه مصلحة لعامة الشعب من المستهلكين؛ لأنه يضطر بقية التجار إلى خفض أسعارهم مما يؤدي إلى رخص الأسعار بصفة عامة فيعم الرخاء وهذه مصلحة كبرى، والإلزام بالبيع بسعر السوق قضاء على هذه المصلحة فلا يجوز.
وقد يقال إن الذي يبيع بأقل من سعر السوق يقصد الإضرار بأهل السوق من التجار وذلك بإفلاسهم.
ويجاب عن ذلك بأن فردا واحدا أو بضعة أفراد لا يتمكنون من إفلاس جميع التجار، ولو فرض تحقق ذلك وظهر هذا القصد وجب على ولي الأمر التدخل والإلزام بسعر السوق.
وقد يقال أيضا بأن البيع بأقل من سعر السوق ربما يمنع الجالبين عن الجلب؛ لأنهم إذا علموا بمن يبيع برخص امتنعوا عن جلب بضائعهم.
ويجاب عن ذلك بأن هذا مجرد فرض ممن لا يعرف حال الأسواق والتجار، ومع ذلك لو فرض تحقق ذلك فإن ولي الأمر يستطيع – بما لديه من إمكانيات – جلب البضائع وطرحها في الأسواق وبيعها بسعر التكلفة فيعم بذلك الرخاء بين الناس.
الرأي الراجح
مما سبق يتضح لنا أن الرأي الراجح هو رأي جمهور الفقهاء القائل بعدم تدخل ولي الأمر في حالة البيع بسعر أقل من سعر السوق لما في ذلك من مصلحة عامة للناس.
كما تبين لنا عدم صحة الرأي الأول نظرا لضعف أدلته حيث سبق أن أجبنا عن كل دليل منها. والله ولي التوفيق
الفصل الرابع: تنظيم التسعير
يتضمن هذا الفصل ثلاثة مباحث
الأول: الحالات التي يجب فيها التسعير
الثاني: ضرورة الاستعانة بأهل الخبرة في التسعير
الثالث: مراقبة الأسعار من قبل ولي الأمر
المبحث الأول: الحالات التي يجب فيها التسعير
لا يتحتم التسعير في كل الأوقات والأحوال وإنما يتعين الأخذ به في حالات معينة تتحقق فيها حكمة إيجابه وتحصل منها نتيجة تشريعه.
وسبب تحديد هذه الحالات التي يجب الأخذ فيها بسياسة التسعير أن الضرورة تقدر بقدرها، والتسعير كقيد يوضع على حرية التعامل إنما يأتي للضرورة ودفعا للحرج، ومن ثم يجب أن يكون بقدر الضرورة التي تستوجبه.
وأهم الحالات التي يجب فيها التسعير عند القائلين به هي:
1 – عند حاجة الناس إلى السلعة.
2 – في حالة الاحتكار.
3 – في حالة حصر البيع في أناس مخصوصين.
4 – في حالة تواطؤ البائعين وتآمرهم على المشترين أو العكس.
وفيما يلي نتناول هذه الحالات بشيء من الإيضاح:
1 – حاجة الناس إلى السلعة
عندما يكون الناس في حاجة ماسة إلى سلعة معينة يجب على ولي الأمر تسعيرها خشية استغلال التجار هذه الحاجة إلى السلعة فيرفعون سعرها، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس بحاجة ماسة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل، ولهذا قال الفقهاء: من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع عن بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره “.
وإنما يجب التسعير في مثل هذه الحالة لأنه علاج لحاجة عامة، ولذلك يقول ابن تيمية: ” ما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب ألا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة، وإن ما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله “.
ويقصد بحقوق الله في الفقه الإسلامي ما نعنيه اليوم بالحقوق العامة، ولا شك أن ضمان الحقوق العامة تهون في سبيله المنافع الشخصية والأطماع الفردية.
وبعبارة أخرى فإن كفالة حق المجتمع في الحصول على حاجياته الأساسية التي يشترك في الاحتياج إليها جميع أفراده أو أكثرهم كالخبز والغذاء بصفة عامة، تستوجب تسعير هذه الأشياء طالما ظلت حاجة الناس إليها عامة، وذلك مخافة استغلال الباعة هذه الحاجة.
2 – حالة الاحتكار
ويراد بالاحتكار حبس الشيء عن البيع والتداول بقصد إغلاء سعره.
والاحتكار محرم بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ (1)». وقوله: «من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله (1)»، وقوله أيضا: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله منه (2)».
ولا شك أن القرآن الكريم جاء صريحا في النهي عن كنز الذهب والفضة، وجاء صريحا في الأمر بتداول المال ومنع الاستغلال.
وفضلا عن تلك النصوص الصريحة القاطعة في النهي عن الاحتكار فإن القواعد العامة للشريعة الإسلامية القاضية بالعدل والتيسير على الناس بنفي الحرج والمشقة ودفع الضرر عنهم تفيد النهي عن الاحتكار لما فيه من الإضرار بالناس.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ” ومثل ذلك – أي من حيث كونه منكرا يمنع- الاحتكار لما يحتاج إليه الناس، لما روى مسلم في صحيحه «لا يحتكر إلا خاطئ (3)» فإن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم، وهو ظلم للخلق المشترين، ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل “.
فالإكراه على البيع بقيمة المثل هو التسعير، وفي حالة الاحتكار مع حاجة الناس إلى المادة المحتكرة تشتد الحاجة إلى التسعير.
3 – حالة الحصر
قد تلجأ بعض الدول والمجتمعات إلى حصر البيع في أناس مخصوصين بالنسبة لبعض المواد أو في بعض الظروف والأحوال، بصرف النظر عن حصول ذلك بحق لفائدة المستهلكين أو حصوله استبدادا وتحكما واستغلالا.
ومثل هذه الحالة قد تمكن البائعين الذين قصر عليهم البيع من رقاب المشترين، وقد عالج ابن تيمية – رحمه الله – مثل هذه الحالة بقوله: “. . . وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا ألا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع – فهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل. . . فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع. . . “.
وإيجاب التسعير في هذه الحالة يعلل بأنه اتخاذ ما يلزم شرعا لتفادي الظلم ودفعه، وهي حالة تشبه الاحتكار إلا أن الفارق هو جواز ترخيص الدولة لجهة معينة أو لفرد معين بالاستئثار بإنتاج أو توزيع مادة أو سلعة معينة، فيتعين على الدولة في مثل هذه الحالة أن تقرن مثل هذا الترخيص بتسعير جبري لهذه المادة أو السلعة دفعا لاحتمالات الاستبداد بالمستهلكين من جانب صاحب الامتياز أو المرخص له.
4 – حالة التواطؤ
وهذه حالة مزدوجة تتمثل في تواطؤ البائعين وتآمرهم على المشترين بالبيع بسعر معين يتحقق لهم فيه ربح فاحش، أو على العكس قد يتواطأ المشترون على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا حق البائعين.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” وقد منع غير واحد من الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه القسام الذين يقتسمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا؛ فإنهم إذا اشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين الذين تواطئوا على ألا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى “.
وقال ابن القيم – رحمه الله -: ” ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي ومن النجش ” وهي من المعاملات المنهي عنها نهيا صريحا في الإسلام.
ونحن نعتقد أن حالة تواطؤ البائعين تنطوي تحت حالة الاحتكار بمعنى الامتناع عن البيع إلا بسعر فاحش، وإن كانت تزيد عليها بأنها لا تكون حالات فردية وإنما تأخذ صورة تآمر وتوافق على السعر الباهظ إعناتا للمشترين، الأمر الذي يوجب فرض التسعير من جانب الدولة.
وكذلك في الصورة العكسية وهو تواطؤ المشترين إضرارا بأرباب السلع، ويجب فرض التسعير عليهم دفعا للضرر، فالدولة الإسلامية لا تترك أحدا يجحف بحق أحد.
والقاعدة العامة في الحالات التي يجب فيها التسعير أنه كلما استولى على التجار الجشع وتمكن من نفوسهم الطمع، وسيطرت عليهم الأنانية، وعمدوا إلى الاحتكار والاستغلال، تعين على ولي الأمر التدخل بتحديد الأسعار.
المبحث الثاني: الاستعانة بأهل الخبرة في التسعير
حتى يتمكن ولي الأمر من تحديد سعر مناسب لا يكون فيه ظلم لأحد الطرفين – البائع والمشتري – لا بد أن يستعين في ذلك بأهل السوق من التجار، وبأهل الخبرة في هذا الشأن كرجال الاقتصاد.
فليس لولي الأمر أن يفرض على التجار سعرا لا يرضونه، كأن يأمرهم بالبيع بأقل مما اشتروا به أو بمثله، وكذلك ليس من حقه أن يعطي التجار أرباحا هائلة على حساب المشترين، بل عليه أن يجمع التجار ويعرف مقدار ما يشترون به، ويستعين بأهل الخبرة في تقدير الربح المناسب للتجار والمشترين.
وفي هذا الشأن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “. . . وأما صفة ذلك عند من جوزه فقال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء – المراد تسعيره – ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم فيسألهم:
كيف يشترون؟
وكيف يبيعون؟
فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا، ولا يجبرون على التسعير ولكن عن رضا. ونقل عن أبي قوله: ووجه ذلك أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس “.
وليس المقصود بالرضا من جانب البائعين أن يكون السعر موافقا لهواهم محققا لمصلحتهم الشخصية، ولكن المقصود هو أن يكون السعر عادلا وغير مجحف بالبائعين، أي يتحقق لهم فيه ربح معقول.
واشتراط أن يكون السعر عادلا في التسعير الإسلامي أمر لا بد منه؛ لأن التسعير ما جعل إلا رفعا للظلم فلا يسوغ أن يكون هو في ذاته ظلما.
وانتفاء صفة العدل عن التسعير يدعو إلى التهرب منه ومخالفته، وقد يؤدي إلى توقف التجار عن الاتجار في السلعة التي لا يتحقق لهم في سعرها ربح معقول. وهذا ما توقعه أشهب فيما رواه عن الإمام مالك في صاحب السوق يسعر على الجزارين. . . لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا وإلا خرجوا من السوق، قال: ” وإذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس بهم، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق “.
فكل سعر يحدد جزافا بدون مناقشة أصحاب السلعة للوقوف على كيفية شرائها وتكاليف نقلها إلى غير ذلك، يؤدي إلى تنفير البائعين من التجارة وإشعارهم بالظلم، والإسلام دين عدل ومساواة لا يهضم حق أحد ولا يرضى بأن يهضم أحد.
المبحث الثالث: مراقبة الأسعار
إن التسعير كضرورة تقتضيها المصلحة العامة لا يحقق الهدف المنشود منه، وهو رعاية مصالح الناس ومنع الاستغلال والاحتكار، إلا إذا صاحبه مراقبة دقيقة من قبل ولي الأمر لمنع التجار من التلاعب بالأسعار.
فمهمة ولي الأمر لا تقف عند تحديد الأسعار، بل تتعداه إلى مراقبة الأسعار وتفقد الأسواق بصفة دائمة حتى يطمئن إلى أن البيع والشراء يتم وفقا لما حدده لهم.
والذي يمثل ولي الأمر في القيام بمهمة مراقبة الأسواق إنما هو المحتسب المختص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن مخالفة التسعير والغلو في الأسعار من المنكرات التي يناط بالمحتسب إنكارها والنهي عنها والعقاب عليها.
ورقابة الأسعار والإشراف على الأسواق من أهم واجبات المحتسب، فهو ينظر في مراعاة أحكام الشرع. ويشرف على نظام السوق، ويكشف على الموازين والمكاييل منعا للغش والتطفيف.
ومما لا شك فيه أن النفوس البشرية مجبولة على الطمع والجشع في كل زمان ومكان، فإذا ترك لها الزمام دون رقابة أو تفتيش لم تقم وزنا للأنظمة والقوانين.
ولهذا فقد اهتمت حكومتنا الرشيدة بهذا الأمر وأولته ما يستحق من عناية فأصدرت بشأنه القرارات التي تنظمه، ونخص بالذكر منها قرار مجلس الوزراء رقم 680 الصادر في 15/ 5 / 1397هـ والذي ينص على ما يأتي:
” يعهد إلى كل من سمو وزير الداخلية ومعالي وزير التجارة باتخاذ الإجراءات المشددة لمراقبة الأسعار في الأسواق والحيلولة دون حدوث أي زيادة في الأسعار والضرب على أيدي العابثين بها بشدة رادعة “.
الفصل الخامس: عقوبة مخالفة التسعير
لما كان ولي الأمر معنيا برعاية مصالح الناس والنظر فيما تستقيم به شئون حياتهم من تحديد أسعار ومراقبة الأسواق، وكان عليه أيضا تقرير عقوبة رادعة للمخالف الذي لا يمتثل للأوامر؛ إذ إن طاعة ولي الأمر واجبة فقد قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) ومخالفة ولي الأمر تعتبر معصية تستوجب العقوبة.
والمعاصي تنقسم بالنسبة للعقوبات إلى قسمين:
ا – قسم فيه عقوبة محددة كالحدود والقصاص والديات والكفارات.
ب – قسم ليس فيه عقوبة محددة، بل متروك شأنها لأولياء الأمر والقضاة يفرضون منها في كل حالة ما يناسبها من عقوبات تسمى بالتعزيرات.
وهذا القسم يدخل تحته عقوبة مخالف التسعير.
وأنواع العقوبات التعزيرية كثيرة أهمها: الزجر والجلد والنفي والحبس والعزل والتشهير والعقوبة بالمال.
فلولي الأمر أن يختار من هذه العقوبات ما يراه ملائما لردع مخالف التسعير؛ لأن الناس يتفاوتون فمنهم من يكفي لردعه الزجر والتوبيخ، ومنهم من لا يردعه إلا الحبس والجلد، كما أن اختلاف الزمان له تأثير في اختلاف العقوبة، فما كان رادعا في الزمن الماضي قد لا يكفي لردع الناس في زمننا الحاضر.
وقد روي عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا. فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟
قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس. من غشنا فليس منا (1)».
وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب بالدرة من رآه يأتي منكرا مما يستوجب التعزير.
ولهذا قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ” إن عقوبات التعزير تختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها، وبحسب حال المذنب في قلته وكثرته “.
وقال ابن القيم – رحمه الله -: ” يتغير التعزير بحسب اقتضاء المصلحة زمانا أو مكانا أو حالا، ويختلف تقدير العقوبة فيه حسب خطر الجريمة وتأصلها في نفس المجرم “.
والعبرة – بصفة عامة – في التعزير، بكل ما فيه من إيلام الإنسان من قول أو فعل.
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن وكل تقدير عقوبة التعزير عموما إلى الحاكم ليراعي ظروف مرتكب الجريمة وزمانه، لهذا تجد أن الشريعة الإسلامية فيها من السعة والعموم والشمول والمرونة ما يسمح بتطبيقها في كل زمان ومكان، ويكفي أنها شريعة من عند الله الرحمن الرحيم الذي يعلم السر وأخفى.
عقوبة مخالفة التسعير في المملكة العربية السعودية
لقد كانت – ولا زالت – حكومة جلالة الملك – حفظه الله – تعمل كل ما في وسعها لتحقيق مصالح الناس وحمايتهم من الاستغلال والجشع، لذلك فقد خولت الوزارء المختصين (وهم وزراء الداخلية والتجارة والزراعة والصحة والصناعة والكهرباء) بوضع الأسعار المناسبة للسلع، واعتبرت مخالفة هذه الأسعار جريمة تستوجب العقاب.
وقد جاء في الفقرة (ثانيا) من قرار مجلس الوزراء رقم 855 الصادر في 26/ 5 / 1396 هـ ما نصه:
” يعاقب بغرامة من خمسة آلاف إلى خمسين ألف ريال، ومصادرة فرق السعر، مع إغلاق المحل بالشمع الأحمر من ثلاثة أيام إلى شهر أو إيقاف المخالف من ثلاثة أيام إلى شهر أو جميعها مع مصادرة السلع المضبوطة ونشر القرار على نفقته في إحدى الجرائد المحلية:
أ- كل من باع مادة من المواد التموينية بأكثر من السعر المحدد لها في قرار وزير التجارة أو قام بإنقاص وزنها المحدد.
ب – كل من باع إحدى المواد المحدد لها نسبة ربح للتاجر بقرار من وزير التجارة إذا تم البيع بما يجاوز هذه النسبة.
ج – كل من قام بتخزين سلعة أو أكثر أو منعها عن السوق بقصد رفع السعر.
د – كل من امتنع عن بيع سلعة من السلع أو فرض أي قيد على بيعها.
هـ – كل مصنع محلي أو معمل بلك أو منجرة باع أو عرض للبيع منتجاته بأكثر من السعر الذي تحدده وزارة الصناعة والكهرباء.
وكل من باع أو عرض للبيع المنتجات الزراعية المحلية من الخضراوات وكذلك منتجات مزارع الدواجن والألبان ومنتجاتها بأكثر من السعر الذي تحدده وزارة الزراعة “.
وهذه من العقوبات التعزيرية التي تقرها الشريعة الإسلامية، والأمر متروك للحاكم في مضاعفة العقوبة أو التخفيف منها حسب ما تقتضيه المصلحة، فلا يتحتم الوقوف عند العقوبات الواردة في هذا النص.
والله ولي التوفيق
* وهناك رسالة بعنوان حكم التسعير لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية