(1) بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف الشيخ د. سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
تنبيه: أحيانًا سيكون النقل عن بعض المفسرين الذين وقعوا في التأويل في باب الصفات؛ لأنهم ذكروا بعض المعاني التي نحتاج إليها في بحثنا. لكن ننصح بالقراءة للمفسرين الذين خلت تفاسيرهم من التأويلات الباطلة وكانوا على منهج السلف كالطبري وابن كثير والسعدي وغيرهم من أئمة السنة
قال تعالى:
{وسارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن ربكم}
لَقَدْ دَعاكُمْ إلى البِدارِ مَوْلاكُمْ، وفَتَحَ بابَ الإجابَةِ ثُمَّ اسْتَدْعاكُمْ، ودَلَّكُمْ عَلى مَنافِعِكُمْ وهُداكُمْ، فالتَفِتُوا عَنِ الهَوى فَقَدْ آذاكُمْ، وحُثُّوا حَزْمَ جَزْمِكُمْ، وصُبُّوا ذُنُوبَ الحُزْنِ عَلى ذَنْبِكُمْ، وسارِعُوا إلى مغفرة من ربكم.
بابُهُ مَفْتُوحٌ لِلطّالِبِينَ، وجَنابُهُ مَبْذُولٌ لِلرّاغِبِينَ؛ وفَضْلُهُ يُنادِي: يا غافِلِينَ، وإحْسانُهُ يُنادِي الجاهِلِينَ، فاخْرُجُوا مِن دائِرَةِ المُذْنِبِينَ، وبادِرُوا مُبادَرَةَ التّائِبِينَ، وتَعَرَّضُوا لِنَسَماتِ الرَّحْمَةِ تَخَلَّصُوا مِن كَرْبِكُمْ، وسارِعُوا إلى مغفرة من ربكم.
[التبصرة لابن الجوزي رحمه الله ((50))].
قال الله تعالى: {أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى:
“هذه الأمور الثلاثة الخوف والرجاء والمحبة التي وصف الله بها هؤلاء المقربين عنده هي الأصل والمادة في كل خير.
فمن تمت له تمت له أموره، وإذا خلا القلب منها ترحلت عنه الخيرات وأحاطت به الشرور.
وعلامة المحبة ما ذكره الله أن يجتهد العبد في كل عمل يقربه إلى الله، وينافس في قربه بإخلاص الأعمال كلها لله، والنصح فيها، وإيقاعها على أكمل الوجوه المقدور عليها، فمن زعم أنه يحب الله بغير ذلك فهو كاذب”.
[تفسير السعدي]
قال ابن تيمية:
يَجْعَلُوا الرَّغْبَةَ لِلَّهِ وحْدَهُ كَما قالَ تَعالى: {فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ} {وإلى رَبِّكَ فارْغَبْ} وهَذا لِأنَّ المَخْلُوقَ لا يَمْلِكُ لِلْمَخْلُوقِ نَفْعًا ولا ضَرًّا. وهَذا عامٌّ فِي أهْلِ السَّمَواتِ وأهْلِ الأرْضِ قالَ تَعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إنّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا}. قالَ طائِفَةٌ مِن السَّلَفِ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: هَذِهِ الآيَةُ فِي الَّذِينَ عَبَدُوا المَلائِكَةَ والأنْبِياءَ كالمَسِيحِ وعُزَيْرَ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كانَ قَوْمٌ مِن الإنْسِ يَعْبُدُونَ قَوْمًا مِن الجِنِّ فَأسْلَمَ الجِنُّ وبَقِيَ أُولَئِكَ عَلى عِبادَتِهِمْ. فالآيَةُ تَتَناوَلُ كُلَّ مَن دَعا مِن دُونِ اللَّهِ مَن هُوَ صالِحٌ عِنْدَ اللَّهِ مِن المَلائِكَةِ والإنْسِ والجِنِّ قالَ تَعالى: هَؤُلاءِ الَّذِينَ دَعَوْتُمُوهُمْ {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولا تَحْوِيلًا} {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إنّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا} قالَ أبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الحَقِّ بْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ: أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ هَؤُلاءِ المَعْبُودِينَ يَطْلُبُونَ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ والتَّزَلُّفَ إلَيْهِ وأنَّ هَذِهِ حَقِيقَةُ حالِهِمْ. والضَّمِيرُ فِي (رَبِّهِمْ لِلْمُبْتَغِينَ أوْ لِلْجَمِيعِ. و (الوَسِيلَةُ هِيَ القُرْبَةُ وسَبَبُ الوُصُولِ إلى البُغْيَةِ وتَوَسَّلَ الرَّجُلُ إذا طَلَبَ الدُّنُوَّ والنَّيْلَ لِأمْرِ ما.
مجموع الفتاوى (27) / (430) — ابن تيمية
___
وإذا أمعن المسلم في آيات القرآن فإنه يرى جميع آيات الدعاء، لابد أن يسبقها توسل إلى الله تعالى إما بذات الله أو بأسمائه الحسنى أو بالأعمال الصالحة أو أن يتوسل إليه بدعاء إخوانه المؤمنين له أو بدعائه لهم.
مختصر تفسير ابن كثير ص 15
ففي كل آيات القرآن المتضمنة للدعاء أنواع من التوسلات فمن ذلك:
الإعتراف بالربوبية … وكل المطالب التي يطلبونها أخروية أو وسيلة لها والقرب من الله ونيل رضاه.
ومن ذلك الإعتراف بالذنب فطلبوا العفو والاعتراف أن القلوب بيده يهدي من يشاء ويزيغ من يشاء، والتوسل بالإيمان واتباع الرسول، والدعاء مع ما يقومون به من الجهاد. والدعاء مع بناء بيت الله وسؤال الله الذرية الطيبة التي تعبده. وسؤال الله الهجرة من الأرض الظالم أهلها. والتوسل بالإيمان باليوم الآخر فاكتبنا مع الشاهدين. والتوسل بسعة علم الله فهو يعلم حاجتنا اليه سبحانه والاعتراف بأنه نعم الوكيل والتوسل بأنه لا يخلف الميعاد. والتوسل بأنه هو حسبنا وأنه ذو الفضل العظيم، وكثير من آيات الأدعية تختم بأسمائه وصفاته سبحانه فهذا توسل بأسماء الله وصفاته ….. وغير ذلك مما سيأتي بيانه أو هو ظاهر في الآيات التي فيها دعاء.
وفي سنن أبي داود:
(1481) – حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنا حَيْوَةُ، أخْبَرَنِي أبُو هانِئٍ حُمَيْدُ بْنُ هانِئٍ، أنَّ أبا عَلِيٍّ عَمْرَو بْنَ مالِكٍ، حَدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ فَضالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، صاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ?، يَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ? رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعالى، ولَمْ يُصَلِّ عَلى النَّبِيِّ ?، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «عَجِلَ هَذا»، ثُمَّ دَعاهُ فَقالَ لَهُ: – أوْ لِغَيْرِهِ – «إذا صَلّى أحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَا بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وعَزَّ، والثَّناءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلى النَّبِيِّ ?، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِما شاءَ» وهو في الصحيح المسند (1064)
قال صاحب العون (عجل هذا) أي حين ترك الترتيب في الدعاء وعرض السؤال قبل الوسيلة.
ثم المؤمن على يقين من قوله تعالى:
(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّو ءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَا ءَ الْأَرْضِ أَءِلَاه? مَّعَ اللَّهِ قَلِيل?ا مَّا تَذَكَّرُونَ)
[سورة النمل 62]
وإليك هذا المبحث قبل ذكر الوسيلة في أدعية القرآن وهو:
الضوابط الشرعية الواجبة في صيغ الدعاء:
– خلو الصيغة من أي جملة أو عبارة تتضمن معنى الشرك بالله تبارك وتعالى، كنداء الأصنام، والأموات أو التوسل بهم.
– خلوها من أي جملة تتضمن التكبر والاستغناء عن الله تبارك وتعالى، أو السب والاعتداء على الله سبحانه وتعالى، كجملة “اللهم اغفر لي إن شئت”، وقول “اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” الأنفال 32.
– خلوها من أي عبارة يفهم منها اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، أو الجزع من قضائه وقدره، كعبارة “دعوت، فلم يستجب لي”.
– خلوها من أي جملة أو لفظة فيها إلحاق نقص بالله سبحانه وتعالى، كوصفه تبارك وتعالى بالفقر، وبأنه السبب في غواية إبليس.
– خلوها من طلب الأمور المحرمة في الشرع، كطلب التيسير للسرقة، وشرب الخمر ونحوها.
– خلوها من طلب الأمور التي قضى الله تبارك وتعالى باطرادها في الكون، وعدم خُلفها، كعدم المغفرة لمن مات على الشرك.
– خلوها من طلب الأمور التي هي من خصوصيات الأنبياء، كطلب رؤية الرب سبحانه وتعالى في الدنيا بعين البصر، وهبة ملك سليمان عليه السلام.
– خلوها من طلب الأمور المستحيلة، كطلب إرجاع الزمن، وتغيير قِيَم الأعداد.
– خلوها من التوسلات التي هي مخالفة للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
– خلوها عند الصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإفراط والتفريط فيه، فتُعطَى له -صلى الله عليه وسلم- مكانته التي أعطاه الله سبحانه وتعالى إياها.
الضوابط المستحبة التي ينبغي مراعاتها في صيغ الدعاء:
– البدء بنداء الرب -سبحانه وتعالى- ب (ربنا)، أو (ربِّ)، أو (اللهم)، والأفضل حذف أداة النداء (يا)، وكذا يستحب النداء بأسماء الله -سبحانه وتعالى- وأوصافه مثل: “مالك المُلك”، “فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة”.
– ثم بعد ذلك تتوسل، إما:
بالثناء على الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى، مثل (اللهم مالك الملك) أو بالأعمال الصالحة.
– وبعد ذلك تذكر المطلب والغرض.
– الصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند الافتتاح والاختتام.
– اختتام الدعاء بالتوسل مرة أخرى.
– مراعاة الترتيب المذكور آنفاً، فيُبدأ بالنداء، ويُثنى بتوسلٍ وصلاةٍ على الرسول، ويُثلّث بذكر الغرض، ويختتم بتوسل مرة أخرى.
– التدرج في الطلب، وتقديم الأهم قبل المهم.
– تقديم التَّخلية على التحلية، كتقديم طلب المغفرة على طلب الرحمة.
– التلطف في عرض الحاجة أو الطلب.
– اختيار جوامع الألفاظ.
– تقديم ضمير الجمع على غيرها في المطالب العامة، وتقديم ضمير المفرد في المطالب الخاصة.
– خلوها من السجع المتكلف.
الاستغفار من أسباب استجابة الدعاء:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري:
أشار المصنف بإيراد هذين البابين وهما الاستغفار ثم التوبة في أوائل كتاب الدعاء
إلى أن الإجابة تسرع إلى من لم يكن متلبسا بالمعصية
فإذا قدم التوبة والاستغفار قبل الدعاء
كان أمكن لإجابته
وما ألطف قول ابن الجوزي إذ سئل أأسبح أو أستغفر فقال:
الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور.
ذيل طبقات الحنابلة
——‘—–‘—-
والآن نذكر الآيات التي ورد فيها الدعاء. وما هو نوع التوسل الوارد فيها مرتبة بحسب سور القرآن:
====
——
سورة الفاتحة:
(اهْدِنَا الصِّرَ ا?طَ الْمُسْتَقِيمَ ? صِرَ ا?طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّا لِّينَ) [سورة الفاتحة 6 – 7]
قال ابن جزي:
قدم الحمد والثناء على الدعاء لأنّ تلك السنة في الدعاء وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح، وذلك أقرب للإجابة. وكذلك قدّم الرحمن على ملك يوم الدين لأن رحمة الله سبقت غضبه، وكذلك قدّم إياك نعبد على إياك نستعين لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة.
*تفسير ابن جزي*
—
قال القرطبي رحمه الله تعالى
روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول:” قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال” الحمد لله رب العالمين” قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال العبد” الرحمن الرحيم” قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال العبد” مالك يوم الدين” قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلى عبدي فإذا قال” إياك نعبد وإياك نستعين” قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال” اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين” قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل”. فقوله سبحانه:” قسمت الصلاة” يريد الفاتحة، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه، واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده، لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى
.. اهدنا دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب، والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. قال بعض العلماء: فجعل الله جل وعز عظم الدعاء وجملته موضوعا في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به [الداعي] لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به، وفي الحديث: (ليس شي أكرم على الله من الدعاء). وقيل المعنى: أرشدنا باستعمال السنن في أداء فرائضك
وقال القرطبي
…. حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حسدتكم اليهود على شي ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما حسدنا أهل الكتاب لأن أولها حمد لله وثناء عليه ثم خضوع له واستكانة، ثم دعاء لنا بالهداية إلى الصراط المستقيم، ثم الدعاء عليهم مع قولنا آمين
—
قال ابن القيم:
فصل
ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب: علم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه، وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسل إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء، ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه، والإمام أحمد والترمذي.
أحدهما: حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو، ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى» قال الترمذي: حديث صحيح.
فهذا توسل إلى الله بتوحيده، وشهادة الداعي له بالوحدانية، وثبوت صفاته المدلول عليها باسم الصمد وهو كما قال ابن عباس: ” العالم الذي كمل علمه، القادر الذي كملت قدرته “، وفي رواية عنه: ” هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد “، وقال أبو وائل: ” هو السيد الذي انتهى سؤدده “، وقال سعيد بن جبير: هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله، وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله ” {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] ” وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة، والتوسل بالإيمان بذلك، والشهادة به هو الاسم الأعظم.
والثاني: حديث أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم» فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما التوسل بالحمد، والثناء عليه وتمجيده، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده، ثم جاء سؤال أهم المطالب، وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين، فالداعي به حقيق بالإجابة.
ونظير هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل، رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس «اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، ولك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت» فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له، ثم سأله المغفرة.
ابن القيم مدارج السالكين (1/ 47)
وقال ابن القيم رحمه الله في الصلاة وأحكام تاركها ص 144:
” فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين}
ففيها سر الخلق وا?مر والدنيا وا?خرة وهـي متضمنة ?جل الغايات وأفضل الوسائل, فأجل الغايات عبوديته وأفضل الوسائل إعانته ف? معبود يستحق العبادة إ? هـو و? معين على عبادته غيره, فعبادته أعلى الغايات وإعانته أجل الوسائل, وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مئة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في أربعة: وهـي التوراة وا?نجيل والقرآن والزبور, وجمع معانيها في القرآن وجمع معانيه في المفصل وجمع معانيه في الفاتحة وجمع معانيها في: {إياك نعبد وإياك نستعين}
وقد اشتملت هـذه الكلمة على نوعي التوحيد: وهـما توحيد الربوبية وتوحيد ا?لهية, *وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله فهو يعبد بألوهـيته ويستعان بربوبيته ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته فكان أول السورة ذكر اسمه: الله والرب والرحمن تطابقا ?جل الطالب من عبادته وإعانته وهـدايته*.
وهـو المنفرد بإعطاء ذلك كله. ? يعين على عبادته سواه و? يهدي سواه.
ثم يشهد الداعي بقوله: {اهـدنا الصراط المستقيم}.
—
قال ابن كثير:
لما تقدم الثناء على المسؤول تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَاسَبَ أَنْ يُعَقَّبَ بِالسُّؤَالِ كَمَا قَالَ: «فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ السَّائِلِ أَنْ يَمْدَحَ مسؤوله ثُمَّ يَسْأَلُ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ لِأَنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ وَأَنْجَعُ لِلْإِجَابَةِ، وَلِهَذَا أَرْشَدَ الله إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ، وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ السَّائِلِ وَاحْتِيَاجِهِ كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [الْقَصَصِ: 24] وَقَدْ يَتَقَدَّمُهُ مَعَ ذلك وصف المسؤول كَقَوْلِ ذِي النُّونِ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول
—
التحرير والتنوير (1/ 187) فيها معنى الوسيلة.
[6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
تَهَيَّأَ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْمُنَاجَاةِ أَنْ يَسْعَوْا إِلَى طَلَبِ حُظُوظِهِمُ الشَّرِيفَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ بَعْدَ أَنْ حَمِدُوا اللَّهَ وَوَصَفُوهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالَةِ ثُمَّ أَتْبَعُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الَّذِي هُوَ وَاسِطَةٌ جَامِعٌ بَيْنَ تَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ إِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ وَهِيَ حَظُّ الْعَبْدِ بِأَنَّهُ عَابِدٌ وَمُسْتَعِينٌ وَأَنَّهُ قَاصِرٌ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ وَاسِطَةً بَيْنَ الثَّنَاءِ وَبَيْنَ الطَّلَبِ، حَتَّى إِذَا ظَنُّوا بِرَبِّهِمُ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِمْ وَرَجَوْا مِنْ فَضْلِهِ، أفضوا إِلَى سُؤال حَظِّهِمْ فَقَالُوا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فَهُوَ حَظُّ الطَّالِبِينَ خَاصَّةً لِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، فَهَذَا هُوَ التَّوْجِيهُ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِ الْفَاتِحَةِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ لِلْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ هُدًى لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً فَتَتَنَزَّلُ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ مِمَّا قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْمَقْصِدِ مِنَ الدِّيبَاجَةِ، أَوِ الْمَوْضُوعِ مِنَ الْخُطْبَةِ، أَوِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْقَصِيدَةِ، وَلِاخْتِلَافِ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَهَا بِالْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ فُصِلَتْ هَذِهِ عَنْهُنَّ، وَهَذَا أَوْلَى فِي التَّوْجِيهِ مِنْ جَعْلِهَا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ».
===
===
===
2 – قال تعالى:
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَ ا?هِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّة? مُّسْلِمَة? لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُول?ا مِّنْهُمْ يَتْلُوا? عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
[سورة البقرة 127 – 129]
قال ابن عطية:
{وَإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إنَّكَ أنْتَ السَمِيعُ العَلِيمُ}.
وخصّا هاتين الصِفَتَيْنِ لِتَناسُبِهِما مَعَ حالِهِما، أيْ السَمِيعُ لِدُعائِنا والعَلِيمُ بِنِيّاتِنا.
المحرر الوجيز
ومثل هذا المعنى ذكره البغوي
قال ابن عاشور:
جُمْلَةُ (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ التَّقَبُّلِ مِنْهُمَا، وَتَعْرِيفُ جُزْءَيْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ يُفِيدُ قَصْرَيْنِ لِلْمُبَالِغَةِ فِي كَمَالِ الْوَصْفَيْنِ لَهُ تَعَالَى بِتَنْزِيلِ سَمْعِ غَيْرِهِ وَعِلْمِ غَيْرِهِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْرًا حَقِيقِيًّا بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقٍ خَاصٍّ أَيِ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لِدُعَائِنَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُكَ، وَهَذَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ مُقَيَّدٌ وَهُوَ نَوْعٌ مُغَايِرٌ لِلْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ عُلَمَاء الْمعَانِي.
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
فَائِدَةُ تَكْرِيرِ النِّدَاءِ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا إِظْهَارُ الضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِظْهَارُ أَنَّ كُلَّ دَعْوَى مِنْ هَاتِهِ الدَّعَوَاتِ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُكَرِّرِ النِّدَاءَ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ دَعْوَةٍ إِلَى أُخْرَى فَإِنَّ الدَّعْوَةَ الْأُولَى لِطَلَبِ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ وَالثَّانِيَةَ لِطَلَبِ الِاهْتِدَاءِ فَجُمْلَةُ النِّدَاءِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ هُنَا وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [الْبَقَرَة:129].
التحرير والتنوير (1/ 719)
قال الشيخ الهرري رحمه الله:
يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} وقد أظهر عبد الله (يقولان) في قراءته؛ أي: يرفعانها حالة كونهما قائلين {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} الدعاء، وغيره من القرب، والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من البناء؛ أي: حالة كونهما قائلين: ربّنا واقبل منّا ما عملنا لك! وطاعتنا إياك، وعبادتنا لك، وبناءَنا بيتك، وفُرِّق بين القبول والتقبُّل: بأنَّ التَّقبُّل لكونه على بناء التكلُّف، إنّما يطلق حيث يكون العمل ناقصًا لا يستحق أن يقبل إلا على طريق التفضُّل، والكرم، ولفظ القبول لا دلالة فيه على هذا المعنى، فاختيار لفظ التقبُّل اعتراف منهما بالعجز، والانكسار، والقصور في العمل {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ} لجميع المسموعات التي من جملتها دعاؤُنا، وتضرُّعنا إليك {الْعَلِيمُ} بكل المعلومات التي من زُمْرَتها نياتنا في جميع أعمالنا، ودلَّ هذا القول، على أنّه لم يقع منهما تَقْصِير بوجه في إتيان المأمور به، بل بذلا في ذلك غاية ما في وسعهما، فإنَّ المقصِّر المتساهل كيف يتجاسر على أن يقول بأطلق لسانٍ، وأرقِّ جنانٍ {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؟! ودلت الآية أيضًا على أنَّ الواجب على كُلِّ مأمور بعبادةٍ وقربةٍ إذا فرغ منها، وأدَّاها كما أمر بها، وبذل في ذلك ما في وسعه أن يتضرَّع إلى الله سبحانه، ويبتهل ليتقبَّل منه، ولا يردَّ عليه، فيضيع سعيه، وأن لا يقطع القول بأنَّ من أدَّى عبادةً وطاعةً تقبل منه لا محالةٍ، إذ لو كان هكذا لما كان لدعائهما بطريق التضرع ليقبل منهما معنًى، فالقبول والردُّ إليه تعالى، ولا يجب عليه شي
حدائق الروح والريحان (2/ 290).
قال السعدي: واذكر إبراهيم وإسماعيل في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس، واستمرارهما على هذا العمل العظيم وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما حتى يحصل فيه النفع العميم.
ودعوا لأنفسهما وذريتهما بالإسلام الذي حقيقته خضوع القلب، وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح.
وأرنا مناسكنا: يحتمل أعمال الحج كلها كما يدل عليه السياق والمقام. ويحتمل أن يكون المراد: ما هو أعم من ذلك، وهو الدين كله، والعبادات كلها، كما يدل عليه عموم اللفظ لأن النسك التعبد، ولكن غلب على متعبدات الحج تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما يرجع إلى التوفيق للعلم النافع، والعمل الصالح.
ولما كان العبد مهما كان لابد أن يعتريه التقصير ويحتاج إلى التوبة قالا (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).
تفسير السعدي
====
====
الوسيلة في قوله تعالى:
3 – [{الَّذِينَ إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ، أُو?لَا ى?ِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَ ا?ت? مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَة? وَأُو?لَا ى?ِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
[سورة البقرة 156، 157]
تضمنت هذه الآيات الدعاء والتوسل:
فأقر المؤمنون بأنهم عبيد لله وأنهم راجعون إليه، وحالهم يقول: نسأله سبحانه وتعالى، أن يجبر مصابنا ويعظم ثوابنا؛ لذلك جاء بعدها الاستجابة.
و ربما غفل بعضنا عن هذه الآية واستعملها عند مصيبة الموت فقط … والنصوص تدل على العموم فكل ما آذى المؤمن فهو مصيبة.
قال ابن عثيمين:
أي قالوا: بقلوبهم، وألسنتهم إنا ملك لله يفعل بنا ما يشاء،
قوله تعالى: {وإنَّآ إلَيْهِ راجِعُونَ} [البقرة (156)]، أي:» وإنا إليه صائرون فنرجو ثوابه «.
تفسير ابن عثيمين: (2) / (179). [بتصرف بسيط].
قال الزجاج:” أي نحن وأموالنا لله ونحن عبيده يصنع بنا ما شاء، وفي ذلك صلاح لنا وخير”
و نحن مصدقون بأنا نبعث ونعطي الثواب على تصديقنا، والصبر على ما ابتلانا به”
معاني القرآن: (1) / (231).
قال أبو حيان:” معناه الإقرار بالملك والعبودية لله، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور”.
قال أهل العلم:” إن إسناد الإصابة إلى المصيبة، لا إلى الله تعالى، ليعم ما كان من الله، وما كان من غيره. فما كان من الله فهو داخل تحت قوله: {إنَّا لِلَّهِ}، لأن في الإقرار بالعبودية تفويضًا للأمور إليه، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه، ولا يتعدى”
(إليه راجعون) إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصير له «.
ولِلْمُفَسِّرِينَ في هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ المَقُولَتَيْنِ أقْوالٌ: أحَدُها: أنَّ نُفُوسَنا وأمْوالَنا وأهْلِينا لِلَّهِ لا يَظْلِمُنا فِيما يَصْنَعُهُ بِنا. الثّانِي: أسْلَمْنا الأمْرَ لِلَّهِ ورَضِينا بِقَضائِهِ، {وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ} يَعْنِي: لِلْبَعْثِ لِثَوابِ المُحْسِنِ ومُعاقَبَةِ المُسِيءِ. الثّالِثُ: راجِعُونَ إلَيْهِ في جَبْرِ المُصابِ وإجْزالِ الثَّوابِ
البحر المحيط: (1) / (451) – (452).
قال الثعلبي: أي» {وإنا إليه راجعون} في الآخرة «.
تفسير الثعلبي: (2) / (23).
قال ابن كثير:” أي: تسلَّوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنّهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثْقال ذرَّة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة”.
تفسير ابن كثير: (1) / (467) – (468).
قال البيضاوي:» وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل به وبالقلب بأن يتصور ما خلق لأجله، وأنه راجع إلى ربه، ويتذكر نعم الله عليه ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون على نفسه، ويستسلم له “.
تفسير البيضاوي: (1) / (115).
قال ابن عطية:
[{الَّذِينَ إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ}
ثُمَّ وصَفَ تَعالى الصابِرِينَ الَّذِينَ بَشَّرَهم بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ} الآيَةُ، وجَعَلَ هَذِهِ الكَلِماتِ مَلْجَأً لِذَوِي المَصائِبِ، وعِصْمَةً لِلْمُمْتَحِنِينَ، لِما جَمَعَتْ مِنَ المَعانِي المُبارَكَةِ وذَلِكَ: تَوْحِيدُ اللهِ، والإقْرارُ لَهُ بِالعُبُودِيَّةِ، والبَعْثُ مِنَ القُبُورِ.
وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمْ يُعْطَ هَذِهِ الكَلِماتِ نَبِيٌّ قَبْلَ نَبِيِّنا، ولَوْ عَرَفَها يَعْقُوبُ لَما قالَ: يا أسَفا عَلى يُوسُفَ. انتهى
المحرر الوجيز: (1) / (228)
قال القرطبي بعد أن ذكر مثل كلام ابن عطية:
الخامسة- قال أبو سنان: دفنت ابني سنانا، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أراد الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال: ألا أبشرك يا أبا سنان، حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي
فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد (. وروى مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:) ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها (. فهذا تنبيه على قوله تعالى:” وبشر الصابرين” إما بالخلف كما أخلف الله لأم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها. وإما بالثواب الجزيل، كما في حديث أبي موسى، وقد يكون بهما. السادسة- قوله تعالى:” أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة” هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين. وصلاة الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن. ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى ……..
وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة. وفي البخاري وقال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة:” الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”. أراد بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة الاهتداء. قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر، وقيل: إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.
قال العلامة الأثيوبي:
قوله تعالى {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة?}؛ أي: نائبة وشدة مما ذكر، وحلت بهم؛ أي: بشر الصابرين الذين إذا نزل بهم كرب أو بلاءً أو مكروه {قَالُوا} باللسان والقلب جمعًا، لا باللسان فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع قبح وسخط للقضاء، وذلك بأن يتصور بقلبه ما خلق لأجله، وأنه راجع إلى ربه، ويتذكر نعم الله تعالى عليه؛ ليرى أن ما أبقى الله تعالى عليه أضعاف ما استرده منه، فهون عليه، ويستسلم {إِنَّا لِلَّهِ} ملكًا وخلقًا وعبدًا؛ أي: نحن عبد الله وأموالنا له، يفعل فينا ما يشاء، لا يسئل عما يفعل {وَإِنَّا إِلَيْهِ}؛ أي: إلى لقائه {رَاجِعُونَ} بالبعث والنشور بعد الموت، وإن لم نرض بقضائه لا يرضى منا أعمالنا.
قال أبو بكر الوراق {إنَّا لله} إقرارٌ منا بالملك له تعالى {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إقرار على أنفسنا بالهلاك …. [الروح والريحان (3) / (48)]
=====
=====
=====
4 – (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا? اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَا ءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْر?ا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاق? ? وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة? وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَة? وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
[سورة البقرة 200 – 201]
ذكر معنى الوسيلة الألوسي وابن عاشور:
قال الألوسي:
وقرن سبحانه الذكر بالدعاء؛ للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر، وتوجه باطن؛ كما هو حال الداعي حين طلب حاجة، لا مجرد التفوه والنطق به، … وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة، ثم بين -جل شأنه- أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا؛ فلا يدعو إلا بها، ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة. [تفسير الألوسي: (2) / (90)]
قال ابن عاشور: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُشِيرٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) لِلتَّنْبِيهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ شَيْءٌ اسْتَحَقُّوهُ بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِمَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ فِي ضَلَالٍ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِحُصُولِ الْإِجَابَةِ، وَزِيَادَةُ تَبْشِيرٍ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، لِأَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ فِيهِ سَرِيعَةُ الْحُصُولِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحِسَابَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْعَمَلِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
وَالْحِسَابُ فِي الْأَصْلِ الْعَدُّ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى عَدِّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرَادُ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا أَوْ قَضَاؤُهَا، فَصَارَ الْحِسَابُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْحَقِّ يُقَالُ حَاسَبَهُ أَيْ كَافَأَهُ أَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: 113] وَقَالَ جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [النبأ: 36] أَيْ وِفَاقًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَهَاهُنَا أَيْضًا أُرِيدَ بِهِ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَإِيصَالُ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَاسْتِفَادَةُ التَّبْشِيرِ بِسُرْعَةِ حُصُولِ مَطْلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ لِأَنَّ إِجَابَتَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى مَا وَعَدَهُمْ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومُ.
التحرير والتنوير (2/ 249)
بيان القرطبي أن هذه الآية من جوامع الدعاء:
قال القرطبي:
هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة. قيل لأنس: ادع الله لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا. قال: ما تريدون! قد سألت الدنيا والآخرة!. وفي الصحيحين عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). قال: فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها.
شمولية الآية لخيري الدنيا والآخرة:
قال ابن كثير:
(وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
فقال: (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام.
وقال القاسم بن عبد الرحمن: من أعطي قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وجسدا صابرا، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار.
ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” اللهم ربنا، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار “.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول]: ” اللهم ربنا، آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار “.
[وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد السلام بن شداد يعني أبا طالوت قال: كنت عند أنس بن مالك، فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم. فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام، قال: يا أبا حمزة، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم فقال: تريدون أن أشقق لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله.
وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن حميد، [وعبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حميد] عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ ” قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” سبحان الله! لا تطيقه، أو لا تستطيعه، فهلا قلت: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)
وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن حميد، [وعبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حميد] عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ ” قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” سبحان الله! لا تطيقه، أو لا تستطيعه، فهلا قلت: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) “. قال: فدعا الله، فشفاه.
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه من حديث ابن أبي عدي به.
وقال الإمام الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم القداح، عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد مولى السائب عن أبيه، عن عبد الله بن السائب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك.
وروى ابن ماجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو ذلك. وفي سنده ضعف والله أعلم.
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور، حدثنا سعيد بن سليمان، عن إبراهيم بن سليمان، عن عبد الله بن هرمز، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكا يقول: آمين. فإذا مررتم عليه فقولوا: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) انتهى
_____
الاستغفار والشكر:
قال السعدي:
{ثُمَّ أَفِيضُوا? مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا? اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُور? رَّحِيم?} [البقرة (199)]
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس، من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف، والسعي، والمبيت بـ ” منى ” ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك. ولما كانت [هذه] الإفاضة، يقصد بها ما ذكر، والمذكورات آخر المناسك، أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد، في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة. وهكذا ينبغي للعبد، كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومن بها على ربه، وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر. انتهى
والتوفيق لأعمال أخرى هنا الدعاء الذي جاء بعدها ورجاء القبول.
=====
=====
=====
5 – قال تعالى:
(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَر? فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا? مِنْهُ إِلَّا قَلِيل?ا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا? مَعَهُ قَالُوا? لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا? اللَّهِ كَم مِّن فِئَة? قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَة? كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ? وَلَمَّا بَرَزُوا? لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا? رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْر?ا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَا ءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْض? لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)
[سورة البقرة 249 – 251]
بيان الوسيلة التي قدمها المؤمنون في هذه الآية:
توسلوا إلى الله تعالى بيقينهم بأن الله تعالى مع الصابرين وأنهم يقاتلون لإعلاء كلمة الله عزوجل وهؤلاء أعداء الله. ويقين لقياهم لربهم قالوه قبل رؤية العدو ودعوا الله تعالى بذلك بعد رؤية العدو فنصرهم الله تعالى على الرغم من قلة عددهم وعدتهم.
مع المسكنة والتذلل وطلب الثبات لقلوبهم وجوارحهم.
قال السعدي:
{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} أي: يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، {والله مع الصابرين} بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فأعظم جالب لمعونة الله: صبر العبد لله. [السعدي: (108)]
—
قال أبو حيان:
{قالُوا رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا} الصَّبْرُ هُنا: حَبْسُ النَّفْسِ لِلْقِتالِ، فَزِعُوا إلى الدُّعاءِ لِلَّهِ تَعالى فَنادَوْا بِلَفْظِ الرَّبِّ الدّالِّ عَلى الإصْلاحِ وعَلى المُلْكِ، فَفي ذَلِكَ إشْعارٌ بِالعُبُودِيَّةِ. وقَوْلُهم: {أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا} سُؤالٌ بِأنْ يَصُبَّ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ حَتّى يَكُونَ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ، ويَكُونَ لَهم كالظَّرْفِ وهم كالمَظْرُوفِينَ فِيهِ.
{وثَبِّتْ أقْدامَنا} فَلا تَزَلُّ عَنْ مَداحِضِ القِتالِ، وهو كِنايَةٌ عَنْ تَشْجِيعِ قُلُوبِهِمْ وتَقْوِيَتِها، ولَمّا سَألُوا ما يَكُونُ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّبْرِ سَألُوا تَثْبِيتَ أقْدامِهِمْ وإرْساخَها.
{وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ} أيْ: أعِنّا عَلَيْهِمْ، وجاءُوا بِالوَصْفِ المُقْتَضِي لِخُذْلانِ أعْدائِهِمْ، وهو الكُفْرُ، وكانُوا يَعْبُدُونَ الأصْنامَ، وفي قَوْلِهِمْ: (رَبَّنا) إقْرارٌ لِلَّهِ تَعالى بِالوَحْدانِيَّةِ، وإقْرارٌ لَهُ بِالعُبُودِيَّةِ.
قال أبو السعود في تفسيره:
قوله تعالى {وَلَمّا بَرَزُوا}: أيْ: ظَهَرَ طالُوتُ؛ ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ؛ وصارُوا إلى بِرازٍ مِنَ الأرْضِ؛ في مَوْطِنِ الحَرْبَ؛ {لِجالُوتَ وجُنُودِهِ}؛ وشاهَدُوا ما هم عَلَيْهِ مِنَ العَدَدِ؛ والعُدَدِ؛ وأيْقَنُوا أنَّهم غَيْرُ مُطِيقِينَ بِهِمْ عادَةً؛ قالُوا؛ أيْ: جَمِيعًا عِنْدَ تَقَوِّي قُلُوبِ الفَرِيقُ الأوَّلِ مِنهم بِقَوْلِ الفَرِيقِ الثّانِي؛ مُتَضَرِّعِينَ إلى اللَّهِ (تَعالى)؛ مُسْتَعِينِينَ بِهِ: {رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا}؛ عَلى مُقاساةِ شَدائِدِ الحَرْبِ؛ واقْتِحامِ مَوارِدِها الصَّعْبَةِ؛ الضَّيِّقَةِ؛ وفي التَّوَسُّلِ بِوَصْفِ الربوبية المُنْبِئَةِ عَنِ التَّبْلِيغِ إلى الكَمالِ؛ وإيثارِ الإفْراغِ؛ المُعْرِبِ عَنِ الكَثْرَةِ؛ وتَنْكِيرِ الصَّبْرِ؛ المُفْصِحِ عَنِ التَّفْخِيمِ؛ مِنَ الجَزالَةِ ما لا يَخْفى؛ {وَثَبِّتْ أقْدامَنا}؛ في مَداحِضِ القِتالِ؛ ومَزالِّ النِّزالِ. وثَباتُ القَدَمِ عِبارَةٌ عَنْ كَمالِ القُوَّةِ؛ والرُّسُوخِ؛ عِنْدَ المُقارَعَةِ؛ وعَدَمِ التَّزَلْزُلِ وقْتَ المُقاوَمَةِ؛ لا مُجَرَّدِ التَّقَرُّرِ في حَيِّزٍ واحِدٍ؛ {وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ}؛ بِقَهْرِهِمْ؛ وهَزِمِهِمْ. ووَضْعُ “الكافِرِينَ” في مَوْضِعِ الضَّمِيرِ العائِدِ إلى “جالُوتَ وجُنُودِهِ”؛ لِلْإشْعارِ بِعِلَّةِ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ؛ ولَقَدْ راعَوْا في الدُّعاءِ تَرْتِيبًا بَدِيعًا؛ حَيْثُ قَدَّمُوا سُؤالَ إفْراغِ الصَّبْرِ؛ الَّذِي هو مِلاكُ الأمْرِ؛ ثُمَّ سُؤالَ تَثْبِيتِ القَدَمِ؛ المُتَفَرِّعِ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ سُؤالَ النَّصْرِ؛ الَّذِي هو الغايَةُ القُصْوى. انتهى
قوله تعالى {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ}
على العاقل المعتقد جهله بالعواقب وشمول قدرة ربه أن لا يثق بنفسه في شيء من الأشياء, ولا يزال يصفها بالعجز وإن ادعت خلاف ذلك, ويتبرأ من حوله وقوته إلى حول مولاه وقوته؛ ولا ينفك يسأله العفو والعافية. [البقاعي: (1) / (483)]
—
قال أبو عبد الله القرطبي (ت 671 ه) في تفسيره
قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل بدر:” كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”. …. فقال بعضهم: كيف نطيق العدو مع كثرتهم! فقال أولو العزم منهم:” كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”. قال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا- وفي رواية: وثلاثة عشر رجلا- وما جاز معه إلا مؤمن ….. قوله تعالى: (قال الذين يظنون) والظن هنا بمعنى اليقين ……. ،
وفي قولهم رضي الله عنهم:” كم من فئة قليلة” الآية، تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه. قلت: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفى البخاري: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم”. فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة! قال الله تعالى:” اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله ” وقال:” وعلى الله فتوكلوا ” وقال:” إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ” وقال:” ولينصرن الله من ينصره ” وقال:” إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون “. فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم! ……. ولما رأى المؤمنون كثرة عدوهم تضرعوا إلى ربهم، وهذا كقوله:” وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير” إلى قوله:” وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ” الآية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو يقول في القتال:” اللهم بك أصول وأجول” وكان صلى الله عليه وسلم ي ظظ … قول إذا لقي العدو:” اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم” ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه يستنجز الله وعده.
====
====
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَا ى?ِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد? مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا? سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}
[سُورَةُ البَقَرَةِ: (285)]
قال الآلوسي:
{وقالُوا} عَطْفٌ عَلى (آمَنَ) والجَمْعُ بِاعْتِبارِ المَعْنى وهو حِكايَةٌ لِامْتِثالِهِمُ الأوامِرَ والنَّواهِيَ إثْرَ حِكايَةِ إيمانِهِمْ {سَمِعْنا} أيْ أجَبْنا وهو المَعْنى العُرْفِيُّ لِلسَّمْعِ {وأطَعْنا} وقَبِلْنا عَنْ طَوْعِ ما دَعَوْتَنا إلَيْهِ في الأوامِرِ والنَّواهِي، وقِيلَ: (سَمِعْنا) ما جاءَنا مِنَ الحَقِّ وتَيَقَّنّا بِصِحَّتِهِ، و (أطَعْنا) ما فِيهِ مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ {غُفْرانَكَ رَبَّنا} أيِ اِغْفِرْ غُفْرانَكَ ما يُنْقِصُ حُظُوظَنا لَدَيْكَ، أوْ نَسْألُكَ غُفْرانَكَ ذَلِكَ، فَغُفْرانٌ مَصْدَرٌ إمّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أوْ مَفْعُولٌ بِهِ ولَعَلَّ الأوَّلَ أوْلى لِما في الثّانِي مِن تَقْدِيرِ الفِعْلِ الخاصِّ المَحُوجِ إلى اِعْتِبارِ القَرِينَةِ، وتَقْدِيمُ ذِكْرِ السَّمْعِ عَلى الطّاعَةِ لِتَقَدُّمِ العامِّ عَلى الخاصِّ، أوْ لِأنَّ التَّكْلِيفَ طَرِيقُهُ السَّمْعُ والطّاعَةُ بَعْدَهُ، وتَقْدِيمُ ذِكْرِهِما عَلى طَلَبِ الغُفْرانِ لِما أنَّ تَقَدُّمَ الوَسِيلَةِ عَلى المَسْؤُولِ أقْرَبُ إلى الإجابَةِ والقَبُولِ، والتَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ قَدْ تَقَدَّمَ سِرُّهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
{وإلَيْكَ المَصِيرُ} [285] أيِ الرُّجُوعُ بِالمَوْتِ والبَعْثِ وهو مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، والجُمْلَةُ قِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلى مُقَدَّرٍ أيْ فَمِنكَ المَبْدَأُ وإلَيْكَ المَصِيرُ وهي تَذْيِيلٌ لِما قَبْلَهُ مُقَرِّرٌ لِلْحاجَةِ إلى المَغْفِرَةِ وفِيها إقْرارٌ بِالمَعادِ الَّذِي لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ قَبْلُ.
====
====
6 – قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَات? مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات? فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغ? فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَا ءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَا ءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّ ا?سِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلّ? مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُو?لُوا? الْأَلْبَابِ ? رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ? رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْم? لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
[سورة آل عمران 7 – 9]
توسل بالربوبية والإيمان، وأن الهداية من الله عزوجل. وكان سآلهم التثبيت.
وتوسلوا باسم الله الوهاب. وإيمانه بجمع الناس ليوم لا ريب فيه.
من تفسير الطبري:
القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ((8))}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا:”ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا”، يعني أنهم يقولون = رغبةً منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله =: يا ربنا، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك “لا تزغ قلوبنا”، لا تملها فتصرفها عن هُدَاك بعد إذ هديتنا له، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه “وهب لنا” يا ربنا “من لدنك رحمة”، يعني: من عندك رحمة، يعني بذلك: هب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه من
الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه “إنك أنتَ الوهاب”، يعني: إنك أنت المعطي عبادك التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك
قال أبو جعفر: وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية: ((105)) أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها، جَوْرٌ. لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان الذين قالوا:”ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ هدَيتنا”، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنما سألوا ربَّهم بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم ((106)) أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة فصلت: (46)]. ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها. وفي فساد ما قالوا من ذلك، الدليلُ الواضح على أن عدلا من
الله عز وجل: إزاغةُ من أزاغَ قلبه من عباده عن طاعته، فلذلك استحقّ المدحَ مَنْ رغب إليه في أن لا يزيغه، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها، ووضعه مسألته موضعها، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله ? برغبته إلى ربه في ذلك، مع محله منه وكرامته عليه.
قال السمعاني:
“لا تزغ قلوبنا” أَي: لَا تمل قُلُوبنَا {بعد إِذْ هديتنا} وَهَذَا دُعَاء للتثبيت والإدامة عَلَيْهِ، وَقد رَوَت أم سَلمَة عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول: ” يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي على دينك ” {وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة} نصْرَة ومعونة {إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب}.
تفسير السمعاني سورة آل عمران آية 8
قال القرطبي:
قوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8)
سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنه، نحو” ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ……. أي ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا. …….. وفي الموطأ عن أبي عبد الله الصنابحي أنه قال: قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية” ربنا لا تزغ قلوبنا” الآية. قال العلماء: قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة.
… قوله تعالى: (وهب لنا من لدنك رحمة) أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل. وفي هذا استسلام وتطارح.
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (9)
أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم، وفي هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة. قال الزجاج: هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون وأقروا به
تفسير القرطبي
====
قال ابن الجوزي مبينا التوسل بإسم الوهاب:
قَوْلُهُ تَعالى: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا} أيْ يَقُولُونَ: (رَبَّنا لا تُمِلْ قُلُوبَنا عَنِ الهُدى بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا) وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وابْنُ يَعْمُرَ، والجَحْدَرِيُّ “لا تُزِغْ” بِفَتْحِ التّاءِ “قُلُوبَنا” بِرَفْعِ الباءِ. ولَدْنَكَ: بِمَعْنى عِنْدَكَ. والوَهّابُ: الَّذِي يَجُودُ بِالعَطاءِ مِن غَيْرِ اسْتِثابَةٍ، والمَخْلُوقُونَ لا يَمْلِكُونَ أنْ يَهَبُوا شِفاءً لِسَقِيمٍ، ولا ولَدًا لِعَقِيمٍ، واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يَهَبَ جَمِيعَ الأشْياءِ. انتهى من زاد المسير
قال الثعالبي:
ومِنْ لَدُنْكَ: معناه: من عِنْدِكَ تَفَضُّلاً، لا عن سَبَبٍ منَّا، ولاَ عَمَلٍ، وفي هذا استسلامٌ وتطارُحٌ، والمرادُ: هَبْ لنا نعيماً صادراً عن الرحمة.
وقوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ: إِقرار بالبَعْثِ ليومِ القيامة، والرَّيْبُ: الشكُّ، والمعنى أنه في نفْسِه حقٌّ لا رَيْبَ فيه.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ، يحتمل: أنْ يكون إِخباراً منه سبحانه لمحمّد ?، وأمته، ويحتملُ: أنْ يكون حكايةً مِنْ قول/ الداعين، ففي ذلك إِقرارٌ بصفة ذاتِ اللَّه تعالى، والميعادُ: من الوَعْد. انتهى (الجواهر الحسان)
قال البقاعي:
ولَمّا عُلِمَ بِذَلِكَ أنَّ الرّاسِخِينَ أيْقَنُوا أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ المُسْتَلْزِمِ لِأنَّهُ لا عِوَجَ فِيهِ أخْبَرَ أنَّهم أقْبَلُوا عَلى التَّضَرُّعِ إلَيْهِ في أنْ يُثَبِّتَهم بَعْدَ هِدايَتِهِ ثُمَّ أنْ يَرْحَمَهم بِبَيانِ ما أشْكَلَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ حاكِيًا عَنْهم وهو في الحَقِيقَةِ تَلْقِينٌ مِنهُ لَهم لُطْفًا بِهِمْ مُقَدِّمًا ما يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ مِنَ السُّؤالِ في تَطْهِيرِ القَلْبِ عَمّا لا يَنْبَغِي عَلى طَلَبِ تَنْوِيرِهِ بِما يَنْبَغِي لِأنَّ إزالَةَ المانِعِ قَبْلَ إيجادِ المُقْتَضِي عَيْنُ الحِكْمَةِ: {رَبَّنا} أيِ المُحْسِنَ إلَيْنا {لا تُزِغْ قُلُوبَنا} أيْ عَنِ الحَقِّ.
ولَمّا كانَ صَلاحُ القَلْبِ [صَلاحَ الجُمْلَةِ] و [فَسادُهُ] فَسادَها وكانَ ثَباتُ الإنْسانِ عَلى سُنَنِ الِاسْتِقامَةِ مِن غَيْرِ عِوَجٍ أصْلًا مِمّا لَمْ يُجْرِ بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عادَتَهُ لِغَيْرِ المَعْصُومِينَ قالَ نازِعًا الجارَّ مُسْنِدًا الفِعْلَ إلى ضَمِيرِ الجُمْلَةِ: {بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا} إلَيْهِ. وقالَ الحَرالِّيُّ: فَفي إلاحَةِ مَعْناهُ أنَّ هَذا الِابْتِهالَ واقِعٌ مِن أُولِي الألْبابِ لِيَتَرَقَّوْا مِن مَحَلِّهِمْ مِنَ التَّذَكُّرِ إلى ما هو أعْلى وأبْطَنُ انْتَهى. فَلِذَلِكَ
قالُوا: {وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ} أيْ أمْرِكَ الخاصِّ بِحَضْرَتِكَ القُدْسِيَّةِ، الباطِنِ عَنْ غَيْرِ خَواصِّكَ {رَحْمَةً} أيْ فَضْلًا ومِنحَةً مِنكَ ابْتِداءً مِن غَيْرِ سَبَبٍ مِنّا، ونَكَّرَها تَعْظِيمًا بِأنَّ أيْسَرَ شَيْءٍ مِنها يَكْفِي المَوْهُوبَ. ولَمّا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ أصْلًا فَكانَ كُلُّ عَطاءٍ مِن فَضْلِهِ قالُوا وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ الأمْرُ اللَّدُنِيُّ لَيْسَ مِمّا في فِطَرِ الخَلْقِ وجِبِلّاتِهِمْ وإقامَةِ حِكْمَتِهِمْ، وإنَّما هو مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِحَسَبِ العِنايَةِ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: {إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ} وهي صِيغَةُ مُبالَغَةٍ مِنَ الوَهْبِ والهِبَةِ، وهي العَطِيَّةُ سَماحًا مِن غَيْرِ قَصْدٍ مِنَ المَوْهُوبِ انْتَهى.
.. {رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ} قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الجَمْعِ، وهو ضَمُّ ما شَانُهُ الِافْتِراقُ والتَّنافُرُ لُطْفًا أوْ قَهْرًا انْتَهى.
{النّاسِ} أيْ كُلِّهِمْ {لِيَوْمٍ} أيْ يُدانُونَ فِيهِ {لا رَيْبَ فِيهِ} ثُمَّ عَلَّلُوا نَفْيَ الرَّيْبِ بِقَوْلِهِمْ عادِلِينَ عَنِ الخِطابِ آتِينَ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ لِأنَّ المَقامَ لِلْجَلالِ: {إنَّ اللَّهَ} أيِ المُحِيطَ بِصِفاتِ الكَمالِ {لا يُخْلِفُ} ولَمّا كانَ نَفْيُ الخُلْفِ في زَمَنِ الوَعْدِ ومَكانِهِ أبْلَغَ مِن نَفْيِ خِلافِهِ نَفْسِهِ عَبَّرَ بِالمِفْعالِ فَقالَ: {المِيعادَ} وقالَ الحَرالِّيُّ: هو مِفْعالٌ مِنَ الوَعْدِ، وصِيغَ لِمَعْنى تَكَرُّرِهِ ودَوامِهِ، والوَعْدُ العَهْدُ في الخَيْرِ انْتَهى (نظم الدرر)
قال ابن عاشور:
وقَوْلُهُ: {بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا} تَحْقِيقٌ لِلدَّعْوَةِ عَلى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ؛ إذْ أسْنَدُوا الهُدى إلى اللَّهِ تَعالى، فَكانَ ذَلِكَ كَرَمًا مِنهُ، ولا يَرْجِعُ الكَرِيمُ في عَطِيَّتِهِ، وقَدِ اسْتَعاذَ النَّبِيءُ ? مِنَ السَّلْبِ بَعْدَ العَطاءِ …..
وقَوْلُهُ: {وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً} طَلَبُوا أثَرَ الدَّوامِ عَلى الهُدى وهو الرَّحْمَةُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَنعَ دَواعِي الزَّيْغِ والشَّرِّ. وجُعِلَتِ الرَّحْمَةُ مِن عِنْدِ اللَّهِ؛ لِأنَّ تَيْسِيرَ أسْبابِها وتَكْوِينَ مُهَيِّئاتِها بِتَقْدِيرِ اللَّهِ؛ إذْ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَكانَ الإنْسانُ مُعَرَّضًا لِنُزُولِ المَصائِبِ والشُّرُورِ في كُلِّ لَمْحَةٍ …. والقَصْرُ في قَوْلِهِ إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ لِلْمُبالَغَةِ، لِأجْلِ كَمالِ الصِّفَةِ فِيهِ تَعالى؛ لِأنَّ هِباتِ النّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِما أفاضَ اللَّهُ مِنَ الخَيْراتِ شَيْءٌ لا يُعْبَأُ بِهِ. وفي هَذِهِ الجُمْلَةِ تَاكِيدٌ بِـ ”إنَّ“ وبِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وبِطَرِيقِ القَصْرِ.
وقَوْلُهُ: {رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} اسْتَحْضَرُوا عِنْدَ طَلَبِ الرَّحْمَةِ أحْوَجَ ما يَكُونُونَ إلَيْها، وهو يَوْمُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ سَبَبًا لِلْفَوْزِ الأبَدِيِّ، فَأعْقَبُوا بِذِكْرِ هَذا اليَوْمِ دُعاءَهم عَلى سَبِيلِ الإيجازِ، كَأنَّهم قالُوا: {وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً}، وخاصَّةً يَوْمَ تَجَمُّعِ النّاسِ انتهى
قال أبو حيان:
{وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً} سَألُوا بِلَفْظِ الهِبَةِ المُشْعِرَةِ بِالتَّفَضُّلِ والإحْسانِ إلَيْهِمْ مِن غَيْرِ سَبَبٍ ولا عَمَلٍ ولا مُعاوَضَةٍ؛ لِأنَّ الهِبَةَ كَذَلِكَ تَكُونُ، وخَصُّوها بِأنَّها مِن عِنْدِهِ. انتهى (البحر المحيط)
قال أبو السعود:
{إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ} تَعْلِيلٌ لِلسُّؤالِ أوْ لِإعْطاءِ المَسْؤُولِ، و “أنْتَ” إمّا مُبْتَدَأٌ أوْ فَصْلٌ أوْ تَاكِيدٌ لِاسْمِ إنَّ، و إطْلاقُ الوَهّابِ لِيَتَناوَلَ كُلَّ مَوْهُوبٍ، وفِيهِ دِلالَةٌ عَلى أنَّ الهُدى والضَّلالَ مِن قِبَلِهِ تَعالى، وأنَّهُ مُتَفَضِّلٌ بِما يُنْعِمُ بِهِ عَلى عِبادِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
تقاة.
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْم? لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران (9)]
{رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ} أيِ: الحِسابِ يَوْمَ أوِ الجَزاءِ يَوْمَ، حُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ مَقامَهُ المُضافُ إلَيْهِ تَهْوِيلًَا لَهُ وتَفْظِيعًَا لِما يَقَعُ فِيهِ.
{لا رَيْبَ فِيهِ} أيْ: في وُقُوعِهِ ووُقُوعِ ما فِيهِ مِنَ الحَشْرِ والحِسابِ والجَزاءِ، ومَقْصُودُهم بِهَذا عَرْضُ كَمالِ افْتِقارِهِمْ إلى الرَّحْمَةِ، وأنَّها المَقْصِدُ الأسْنى عِنْدَهُمْ، و التَّاكِيدُ لِإظْهارِ ما هم عَلَيْهِ مِن كَمالِ الطُّمَانِينَةِ وقُوَّةِ اليَقِينِ بِأحْوالِ الآخِرَةِ.
{إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ} تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ المُؤَكَّدَةِ، أوْ لِانْتِفاءِ الرَّيْبِ والتَّاكِيدِ لِما مَرَّ، و إظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ مَعَ الِالتِفاتِ لِإبْرازِ كَمالِ التَّعْظِيمِ والإجْلالِ النّاشِئِ مِن ذِكْرِ اليَوْمِ المَهِيبِ الهائِلِ، بِخِلافِ ما في آخِرِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ فَإنَّهُ مَقامُ طَلَبِ الإنْعامِ كَما سَيَاتِي و لِلْإشْعارِ بِعِلَّةِ الحُكْمِ، فَإنَّ الأُلُوهِيَّةَ مُنافِيَةٌ لِلْإخْلافِ. انتهى (تفسير أبي السعود)
قال القاسمي:
{رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ} وهَذا مِن تَتِمَّةِ كَلامِ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَصُونَهم عَنْ الزَّيْغِ، وأنْ يَخُصَّهم بِالهِدايَةِ والرَّحْمَةِ، فَكَأنَّهم قالُوا: لَيْسَ الغَرَضُ مِن هَذا السُّؤالِ ما يَتَعَلَّقُ بِمَصالِحَ الدُّنْيا، فَإنَّها مُنْقَضِيَةٌ مُنْقَرِضَةٌ. وإنَّما الغَرَضُ الأعْظَمُ مِنهُ: ما يَتَعَلَّقُ بِالآخِرَةِ فَإنَّها القَصْدُ والمَآلُ. فَإنّا نَعْلَمُ أنَّكَ يا إلَهَنا جامِعُ النّاسِ لِلْجَزاءِ في يَوْمِ القِيامَةِ، ونَعْلَمُ أنَّ وعْدَكَ لا يَكُونُ خُلْفًا، فَمَن زاغَ قَلْبُهُ بَقِيَ هُناكَ في العَذابِ أبَدًا، ومَن مَنَحْتَهُ الرَّحْمَةَ والهِدايَةَ بَقِيَ هُناكَ في السَّعادَةِ والكَرامَةِ أبَدًا. فالغَرَضُ الأعْظَمُ مِن ذَلِكَ الدُّعاءِ؛ ما يَتَعَلَّقُ بِالآخِرَةِ. (محاسن التأويل)
قال السعدي:
ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} أي: لا تملها عن الحق جهلا وعنادا منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، فثبتنا على هدايتك وعافنا مما ابتليت به الزائغين {وهب لنا من لدنك رحمة} أي: عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات {إنك أنت الوهاب} أي: واسع العطايا والهبات، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات.
{ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنك لا تخلف الميعاد} فمجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها، وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالما محققا، وعارفا مدققا، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علما وحالا وعملا، الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، بقوله {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب
السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل انتهى تفسير السعدي
قال ابن عثيمين:
ويقولون أيضًا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} والدعاء يصدر غالبًا بالرب؛ لأن الدعاء يستلزم يعني يتطلب الإجابة، والإجابة من الأفعال، والأفعال علاقتها بالربوبية أكثر من علاقتها بالألوهية، ولهذا غالب الأدعية يأتي مصدرًا بالرب، ربنا.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} {لَا تُزِغْ} هذه جملة دعائية وإن كانت بصيغة النهي
وقوله: {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} سُلط الفعل على القلب؛ لأن القلب عليه مدار العمل
وقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} هذه الجملة لا يُراد بها الافتخار، وإنما يُراد بها التوسل بالنعم السابقة إلى النعم اللاحقة، فكأنهم يقولون: ربنا إنك مَنَنْت علينا بالهداية أولًا فنسألك أن تمن علينا بثبوت هذه الهداية فلا تزغها، فيكون في هذا الدعاء ثناء على الله عز وجل بماذا؟ بالهداية السابقة، هم لو قالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} كفى، لكن قالوا: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ليتوسلوا بنِعم الله السابقة إلى نعمه اللاحقة، وليثنوا على الله عز وجل بنعمه السابقة، وأنه عز وجل أهل للفضل والإنعام. {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} هداية دلالة ولَّا توفيق؟
{وَهَبْ لَنَا} يعني: أعطنا {مِنْ لَدُنْكَ} أي: من عندك، وأضافوا هذه الهبة إلى الله لئلا يكون لأحد عليهم مِنة سواه، هذا من وجه؛ ولأنها إذا كانت من عند الله -وهو أكرم الأكرمين- صارت هبة عظيمة
{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران (8)] الجملة هنا استئنافية للتعليل والتوسل، يعني أننا إنما طلبنا منك الهبة هبة رحمة؛ لأنك أنت الوهاب انتهى من تفسير ابن عثيمين
كلام بديع لابن تيمية يبين أقسام الرحمة:
(7) – {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}
فلله رحمة قد عمت الخلق؛ برهم، وفاجرهم، سعيدهم، وشقيهم، ثم له رحمة خص بها المؤمنين خاصة؛ وهي رحمة الإيمان، ثم له رحمة خص بها المتقين؛ وهي رحمة الطاعة لله تعالى، ولله رحمة خص بها الأولياء نالوا بها الولاية، وله رحمة خص بها الأنبياء نالوا بها النبوة، وقال الراسخون في العلم: {وهب لنا من لدنك رحمة}. [المجموع من تفسير ابن تيمية: (2) / (34)]
—–
—–