[1ج/ رقم (520)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
شارك: أحمد بن علي وطارق أبو تيسير ، ومحمد البلوشي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (520)]: يزيد
مسند طارق بن عبد الله الْمُحَارِبِيِّ رضي الله عنه
٥٢٠ – قال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في «صحيحه» (ج ١ ص ٨٢): نا أَبُو عَمَّارٍ، نا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ يزيد (١) بْنِ زِيَادٍ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا»، وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيَهُ بِالْحِجَارَةِ قَدْ أَدْمَى كَعْبَيْهِ وَعُرْقُوبَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: غُلَامُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ؟ قَالُوا: هَذَا عَبْدُ الْعُزَّى أَبُو لَهَبٍ.
هذا حديث صحيحٌ.
وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة (ج ١٤ ص ٣٠٠) فقال رحمه الله: حدثنا عبد الله بن نمير … وذكر الحديث مثل حديث ابن خزيمة.
وأخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص ٦٣) فقال رحمه الله: حدثنا علي بن محمد بن بشر، ثنا يزيد بن أبي الجعد، به.
* وأخرجه الدارقطني في «السنن» (ج ٣ ص ٤٤) فقال رحمه الله: حدثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل نا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان نا ابن نمير عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد نا أبو صخرة جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرتين مرة بسوق ذي المجاز وأنا في تباعة لي هكذا قال أبيعها فمر وعليه حلة حمراء وهو ينادي بأعلى صوته «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» ورجل يتبعه بالحجارة وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه وهو يقول يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب قلت من هذا فقالوا هذا غلام بني عبد المطلب قلت من هذا الذي يتبعه يرميه قالوا هذا عمه عبد العزى وهو أبو لهب فلما ظهر الإسلام وقدم المدينة أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة حتى نزلنا قريبًا من المدينة ومعنا ظعينة لنا قال فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه فقال «من أين أقبل القوم؟» قلنا من الربذة وجنوب الربذة قال ومعنا جمل أحمر قال «تبيعوني جملكم؟» قلنا نعم قال «بكم؟» قلنا بكذا وكذا صاعًا من تمر قال فما استوضعنا شيئًا وقال «قد أخذته» ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة فتوارى عنا فتلاومنا بيننا وقلنا أعطيتم جملكم من لا تعرفونه فقالت الظعينة لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه فلما كان العشاء أتانا رجل فقال السلام عليكم أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليكم وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا قال فأكلنا حتى شبعنا واكتلنا حتى استوفينا فلما كان من الغد دخلنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائم على المنبر يخطب الناس وهو يقول «يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك أدناك» فقام رجل من الأنصار فقال يا رسول الله هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانًا في الجاهلية فخذ لنا بثأرنا فرفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه فقال «ألا لا يجني والد على ولده».
والحديث بهذا السند صحيحٌ.
وقد تكلمنا عليه في تخريج «الإلزامات» الطبعة الثالثة (برقم ٤٣).
وأخرجه ابن حبان رحمه الله هكذا مطولًا كما في «الموارد» (ص ٤٠٦) فقال: أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد به.
والحديث من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلمًا أن يخرجاها.
——-
وفي حاشية المسند:
(١) في الأصل: عن زيد. والصواب ما أثبتناه.
===================
ولتوضيح الحديث، يمكن تقسيم الكلام عليه من موجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث الحافظ ابن خزيمة رحمه الله في صحيحه، كتاب الوضوء «مختصر المختصر من المسند الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولا إليه صلى الله عليه وسلم من غير قطع في أثناء الإسناد ولا جرح في ناقلي الأخبار التي نذكرها بمشيئة الله تعالى»، باب: ذكر الدليل على أن الكعبين اللذين أمر المتوضئ بغسل الرجلين إليهما العظمان الناتئان في جانبي القدم «لا العظم الصغير الناتئ على ظهر القدم، على ما يتوهمه من يتحذلق ممن لا يفهم العلم، ولا لغة العرب»، (١٥٩). فذكر حديث طارق المحاربي رضي الله عنه
وقال في نهاية الحديث: ” قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «وَفِي هَذَا الْخَبَرِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكَعْبَ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فِي جَانِبَيِ الْقَدَمِ إِذِ الرَّمْيَةُ إِذَا جَاءَتْ مِنْ وَرَاءِ الْمَاشِي لَا تَكَادُ تُصِيبُ الْقَدَمَ إِذِ السَّاقُ مَانِعٌ أَنْ تُصِيبَ الرَّمْيَةُ ظَهَرَ الْقَدَمِ»”. انتهى.
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
١ – كتاب العلم، ٣٠ – الصبر على تبليغ العلم، (٥٧).
و١٤ – كتاب الشمائل المحمدية، ٣٢ – صبره صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى الله، (٢٢١٢).
و٣٤ – كتاب التوحيد، ١ – الدعوة إلى التوحيد، (٤٤٢٦).
وقال الأعظمي رحمه الله: إسناده صحيح.
والثاني: شرح وبيان الحديث:
(“وقد أدْمى كَعبَيهِ، وعُرقوبَيهِ”)، وأسالَ الدَّمَ من مُؤخِّرةِ قَدَميهِ، (“أقبَلْنا في رَكبِ من الرَّبَذةِ وجَنوبِ الرَّبَذةِ)”، وهي قَرْيةٌ بالباديةِ تقَعُ إلى الجَنوبِ الشَّرقيِّ من المدينةِ النَّبويَّةِ بحوالَيْ 200 كيلو مترٍ، (“حتَّى نَزَلْنا قريبًا من المدينةِ ومَعَنا ظَعينةٌ لنا”)، وهي امرَأةٌ مُسافِرةٌ، والصَّاعُ: أربعةُ أمْدادٍ، والمُدُّ مِقدارُ ما يَملَأُ الكَفَّينِ، وتَقْديرُهُ المُعاصِرُ الشَّائِعُ 2751 جرامًا، (“قالَ: فما استَوضَعْنا شَيئًا”)، ولم يَطلُبْ تَقْليلَ السِّعرِ وتَخْفيضَهُ، (” لِيَحقِرَكُم”)، ليس من صِفَتِهِ أنَّه يَخدَعُكم ويأخُذُ أمْوالَكُم، ، (” يَدُ المُعْطي العُلْيا”)، يَدُ المُنفِقِ هي الأعْلَى قدْرًا ومَقامًا، وأكْثرُ أجرًا من يَدِ الآخِذِ، ثمَّ رتَّبَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوْلوياتِ النَّفَقةِ؛ فقالَ: (“وابْدَأْ بمَنْ تَعولُ”)، وابدَأْ في الإنفاقِ بمَن يَلزَمُك النَّفَقةُ عليهم، فاكْفِهِم ما يَحتاجونَهُ من قُوتٍ وكِسوةٍ، وهذا يَشمَلُ نَفَقةَ نفْسِهِ وعِيالِهِ؛ لأنَّها مُنحصِرةٌ فيهم (“أُمَّكَ وأباكَ، وأُختَكَ وأخاكَ، وأدْناكَ أدْناكَ”)، أي: الأقرَبَ فالأقربَ رَحِمًا.
وقد وردَتِ الآثارُ الصَّحيحةُ في فَضْلِ الصَّدقاتِ والنَّفقاتِ، وفي تَرتيبِ الأيادي المُعطيةِ والآخِذةِ، ومُحصِّلةُ ذلك: أنَّ أعْلى الأيدي هي: المُنفِقةُ، ثمَّ المُتعفِّفةُ عن الأخْذِ، ثمَّ الآخِذةُ بغَيرِ سُؤالٍ، وأسفَلُ الأيادي: السَّائِلةُ، والمانِعةُ.
ثُمَّ قالَ طارِقٌ المُحارِبيُّ: (“فقامَ رَجُلٌ من الأنْصارِ، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، هؤلاء بَنو ثَعْلبةَ بنِ يَرْبوعٍ الَّذينَ قَتَلوا فُلانًا في الجاهِلِيَّةِ”) مِن أحَدِ أقاربِه (“فخُذْ لنا بثَأْرِنا”)، يُطالِبُ الرَّجُلُ بالقِصاصِ لدَمِ قَتيلِهِ الَّذي قَتَلوهُ قَبلَ أنْ يُسلِموا (“فرفَعَ يَدَيهِ حتَّى رَأَيْنا بَياضَ إبْطَيهِ “)، وهذا بيانٌ لِمُبالغَتِهِ الشَّديدةِ في الرَّفعِ، (“فقالَ: ألَا لا يَجْني والِدٌ على وَلَدِهِ”) لا تتَعدَّى جِنايةُ الأبِ إلى ولَدِهِ، بل كُلٌّ يُجازَى بجِنايَتِهِ لا يَحمِلُها عنه غَيرُهُ؛ لأنَّه لا تَزِرُ وازرةٌ وِرزَ أُخرى.
وفي الحَديثِ: إشْعارٌ بالتَّرفُّعِ والتَّعفُّفِ عن أخْذِ الصَّدَقاتِ من النَّاسِ دُونَ داعٍ.
وفيهِ: بَيانُ فضْلِ الصَّدقةِ عن ظَهْرِ غِنًى، وبما فَضَلَ من المالِ، وبعدَ استيفاءِ النَّفَقاتِ الواجبةِ.
وفيهِ: بَيانُ بَعضِ شَمائِلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه كان جَميلَ الوَجهِ مِثلَ القَمَرِ. [الدرر].
والثالث: فقه الحديث (أحكام – مسائل – ملحقات):
1) أحكام الدعوة، وفيه مسائل كالتالي:
(المسألة الأولى): الدعوة إلى التوحيد أولا.
إن البدء في الدعوة إلى الله تعالى بالأهم قبل المهم والتدرج في الدعوة حسب الأوليات لهو من أهم الضروريات التي يجب على الداعية إلى الله تعالى معرفتها والعمل على تحقيقها.
وقد دلَّ على ثبوت هذا المبدأ الكتاب والسنة وعمل سلف هذه الأمة الصالح رضوان الله عليهم.
إذ قص الله تعالى علينا في كتابه الكريم قصص الأنبياء وأخبارهم مع أقوامهم، فكان كل واحد منهم يبدأ بدعوة قومه إلى توحيد الله تعالى واخلاص العبادة له وحده ونبذ الشرك وأهله.
قال تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ .
وقال سبحانه عن هود عليه السلام: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ .
وقال جلَّ ذكره عن صالح عليه السلام: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ .
[وهكذا ورد عن باقي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام]
وهذا المنهج هو الذي سار عليه خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا، فقد بدأ صلى الله عليه وسلم بما بدأ به كل الأنبياء، وانطلق من حيث انطلقوا بدعوتهم من عقيدة التوحيد والدعوة إلى إخلاص العبادة لله وحده.
وقد أمره ربه عزوجل أن يدعو الناس جميعًا إلى التوحيد، فقال تعالى: ﴿قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ .
وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ .
وقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة لا يكلُّ ولا يَمَلُّ صابرًا على كل ألوان الأذى، وهو يدعو الناس إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك قبل أن يا مرهم بالصلاة، والزكاة، والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الربا، والزنا، والسرقة، وقتل النفوس بغير حق [انظر مقدمة فضيلة الدكتور صالح الفوزان على كتاب منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، للدكتور ربيع المدخلي، ص٥].
اللهم إلاّ ماكان يأمر به قومه من معالي الأخلاق كصلة الرحم، والصدق، والعفاف، وأداء الأمانة، وحسن الجوار ونحو ذلك، ولكن الموضوع الأساسي، ومحور الدعوة إنما هو عن التوحيد وتحقيقه.
وبعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام إلى المدينة، وقامت دولة الإسلام على أساس التوحيد ظل الاهتمام بهذا الأمر على أشده والآيات القرآنية تنزل به، والتوجيهات النبوية تدور حوله.
ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا بل كان يبايع على عقيدة التوحيد عظماء الصحابة فضلًا عن غيرهم بين الفينة والفينة، كلما تسنح له فرصة للبيعة عليها.
قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يا تِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
وهذه الآية وإن كانت في بيعة النساء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع على مضمونها الرجال [انظر منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، للدكتور ربيع المدخلي، ٥٧-٥٨].
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: »تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم«، والآية التي أخذت على النساء ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ﴾ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه». [صحيح البخاري مع الفتح، ١/٦٤، كتاب الإيمان، باب ١١، حديث ١٨، وصحيح مسلم ٣/١٣٣٣، كتاب الحدود، باب الحدود والكفارات لأهلها، حديث ١٧٠٩، والنسائي، ٧/١٤٢، كتاب البيعة على الجهاد].
أما السنة ففيها الشيء الكثير الدال على أن رسول الله ﷺ كان يفتتح دعوته بالتوحيد ويختتمها بذلك، واستمراره على ذلك طيلة حياته صلى الله عليه وسلم بلا كلل أو ملل.
١- عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه، قال: »كنت وأنا في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا جُرءَاءُ عليه قومه فتلطفت، حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ فقال: «أنا نبي» فقلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني الله» فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحدوا الله لا يُشْرَكُ به شيء» فقلت: ومن معك على هذا؟ قال: «حر وعبد»، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به …«الحديث [صحيح مسلم، ١/٥٦٩، كتاب صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة، رقم ٢٩٤، وأحمد في المسند، ٤/١١٢].
٢-قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، للنجاشي ملك الحبشة: »أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ماكنّا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة، والأوثان … ” الحديث [انظر الإمام أحمد في المسند، ١/٢٠٢، والسير والمغازي، لابن إسحاق، ٢١٣-٢١٧، وسيرة ابن هشام، ١/٢٨٩-٢٩٣، بإسناد حسن إلى أم سلمة رضي الله عنها، وانظر السيرة النبوية، لابن كثير ٢/١١، وفتح الباري، لابن حجر، ٧/١٨٩].
٣- وفي أسئلة هرقل لأبي سفيان في مدة صلح الحديبية عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي سفيان: ماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان قلت: يقول: «اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمر بالصلاة، والصدق والعفاف، والصلة». [صحيح البخاري مع الفتح، ١/٣٢، كتاب بدء الوحي، حديث ٦].
فهذه الأحاديث الشريفة تبين لنا أن الدعوة إلى التوحيد هي أول ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر به رسله إذا بعثهم للقيام بالدعوة.
٤-وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: »إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم…” الحديث[صحيح البخاري مع الفتح، ٣/٣٥٧، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، حديث ١٤٩٦، ومسلم ١/٥٠، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث ١٩].
وإذا أراد الداعية إلى الله تعالى دعوة الناس، فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد، الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، إذ لا تصح الأعمال إلا به، فهو أصلها الذي تبنى عليه، ومتى لم يوجد لم ينفع العمل، بل هو حابط، إذ لا تصح العبادة مع الشرك، كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ ، ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد، فكان أول ما يُبدأ به في الدعوة [تيسير العزيز الحميد، ١٢٣].
قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: «وقد عُلم بالاضطرار من دين الرسول، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، والعدو وليًا … وفيه البداءة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم». [تيسير العزيز الحميد، ١٢٧].
(المسألة الثانية): الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله
تتلخص الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى – كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة فيما يلي[انظر مقدمة الدكتور صالح الفوزان على منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، ص٣]:
أولًا: العلم:
قال تعالى مخاطبًا نبيه محمدا ًصلى الله عليه وسلم: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ .
وبوّب الإمام البخاري رحمه الله لهذه الآية بقوله: «باب العلم قبل القول والعمل». [انظر صحيح البخاري مع الفتح، ١/١٥٩، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل].
قال الإمام ابن حجر رحمه الله في الفتح: قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: (إن العلم لا ينفع إلا بالعمل) تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه [انظر فتح الباري لابن حجر، ١/١٦٠، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل].
والعلم الحقيقي هو معرفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ .
ولا شك أنه لا ينهى عن العلم إلا قطاع الطريق، ونواب إبليس وشُرَطُه [انظر مدارج السالكين، لابن القيم، ٢/٤٨٣].
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ .
هاتان صفتان لا تباع محمد صلى الله عليه وسلم:
١- القيام بواجب الدعوة.
٢- أن يكسبوا البصيرة قبل أن يشرعوا في الدعوة.
البصيرة هي: العلم الذي مصدره الوحي، والفقه الدقيق، الذي يستفيد منه الداعية الحكمة، وحسن الأسلوب، وكسب القلوب، والتحبب إلى الناس.
وهذه الجماعات أشبهها بالأحزاب السياسية المتنافسة لمصالحها الشخصية وأغراضها الذاتية، وهي ذاتها محنة من المحن ومشكلة من المشكلات للدعوة والدعاة معًا، إذا بقيت على وضعها ولم تعد النظر في سلوكها ومنهج عملها وبرامجها، وأساليب دعوتها وسياستها، فخطرها على الدعوة يفوق كل خطر يهدد الدعوة من خارجها.
فعلى هذه الجماعات أن تدرس تاريخ الدعاة الأولين من الصحابة والتابعين الذين نطق بهم القرآن، مع ملاحظة الأساليب المناسبة في العصر الحديث، والملابسات والظروف وأحوال الناس، وإن لم يسلكوا هذا المسلك فسوف لا يكتب للدعوة أي نجاح أو أي تقدم لأنه عمل لم يستوف الشروط، وهو عمل غير صالح. [أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام، ٢١٨-٢١٩].
ثانيًا: الإخلاص:
إن من أهم ما يجب على الداعية إلى الله تعالى أن يكون مخلصًا لله في دعوته، وأمره ونهيه، بحيث لا يرجو إلا الجزاء من الله تعالى وحده، فلا يكون هدفه طمعًا ماديًا أو غرضًا دنيويًا، ولا يكون هدفه من ذلك الرياء أو السمعة وطلب الشهرة أو شيء من حطام الدنيا، أو أن يظهر فضله في دينه أو علمه أو عمله أو عقله على من يدعوه أو يا مره وينهاه، مما يزينه الشيطان، ويكيد به الإنسان ليبطل عمله ويفسد سعيه.
وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بإخلاص نياتهم وأعمالهم وعباداتهم لله تعالى وحده، قال تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآمرًا له أن يخاطب أمته بذلك: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ .
ونصوص القرآن والسنة كثيرة فب ذلك
وقد وردت بعض الآثار عن بعض السلف تبين أهمية النية ودورها في قبول العمل منها ماورد عن مطرف بن عبد الله قال: «صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية»[ انظر جامع العلوم والحكم، ١٠/٧١].
وعن ابن المبارك قال: «رُبَّ عمل صغير تُعظمه النية، ورُب عمل كبير تصغره النية»[المرجع السابق].
وعن أبي سليمان: «طوبى لمن صحت له خطوة لا يريد بها إلا الله تعالى» [انظر مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، ٣٧٠-٣٧١].
قال تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، وهكذا بقية الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – لا يريدون من دعوتهم إلا مرضاة الله تعالى.
ثالثًا: المتابعة:
لما كانت الدعوة إلى الله تعالى من أجل العبادات فإنه لا بد فيها من توفر الشرطين الأساسيين لصحتها وهما: الإخلاص، والمتابعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: «وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يُراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب والعمل الصالح، في الأمور العلمية، والأمور العملية العبادية». [انظر الاستقامة، ١/٢٩٧، ٢/٢٩٧].
فالمتابعة شرط في قبول الأعمال، ومنها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ .
والعمل الصالح هو العمل الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كان أئمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الأصلين – أي: الإخلاص والمتابعة – كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، قال: أخلصه وأصوبه، فقيل له: يا أبا عليّ ما أخلَصُه وأصوبه؟ فقال: إنَّ العمل إذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص: أن يكون لله والصواب: أن يكون على السُّنة[الاستقامة، لابن تيمية، ٢/٣٠٨-٣٠٩].
وقد روى ابن شاهين واللالكائي، عن سعيد بن جبير قال: «لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يُقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يُقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة»[المرجع السابق، ٢/٣٠٩].
رابعًا: الحكمة:
إن الحكمة من أهم الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة
إلى الله تعالى، ومن أهم مقومات الداعية الناجح، ومن نظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجد أنه كان ملازمًا للحكمة في أموره كلها، وخاصة في دعوته إلى الله جلَّ وعلا، وقد أمره ربه عزوجل بالدعوة إلى الله بالحكمة في قوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.
وقال تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾.
إن الحكمة إتقان الأمور وإحكامها، بأن تُنزل الأمور منازلها، وتوضع في مواضعها.
وليس من الحكمة التعجل في الدعوة إلى الله تعالى، وأن ينقلب الناس عن حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فهو سفيه في عقله، بعيد عن الحكمة، لأن حكمة الله عزوجل تأبى أن يكون هذا الأمر. ويدلل لهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي ينزل عليه الكتاب – نزل عليه الشرع متدرجًا حتى استقر في النفوس وكمل.
فالدعوة إلى الله تعالى تكون على أربع مراتب:
١- بالحكمة.
٢-ثم بالموعظة الحسنة.
٣- ثم بالجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم.
٤- ثم بالفعل الرادع للظلم. [انظر الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات، للشيخ محمد بن عثيمين، ٣٥].
ومن الأمثلة التي ضربها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس بالحكمة موقفه مع الأعرابي الذي بال في المسجد.
«[صحيح مسلم، ١/٢٣٧، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، رقم ٢٨٦، ومعنى شنه عليه: أي صبه عليه].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: »قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: «لقد حجرت واسعا» يريد: رحمة الله[صحيح البخاري مع الفتح، ١٠/٤٣٨، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم ٦٠١٠].
وفي رواية أخرى قال: «يقول الأعرابي بعد أن فقه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ بأبي وأمي فلم يسب ولم يؤنب ولم يضرب»[هذه الرواية عند أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر، برقم ١٠٥٤٠، ٢٠/١٣٤].
ومن الأدلة كذلك ما جاء عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكْلَ أمَّياه ! ماشأنكم تنظرون إلىَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فو الله ماكهرني، ولا ضربني ولا شتمني، قال: »إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم … “الحديث [صحيح مسلم، ١/٣٨١، كتب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، رقم ٥٣٧].
إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل الناس في دعوته بالحكمة واللين، لذلك فإنه لا بد للداعية إلى الله تعالى أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وفي أمره ونهيه، وفي تعامله مع الناس، ولابد له من الصبر وطول النفس، والتدرج مع المدعو شيئًا فشيئًا حتى يمكن إعادته للحق والصواب.
خامسا: الرفق والحلم:
إنَّ من الواجب على الداعية إلى الله تعالى أن يكون رفيقًا رحيمًا، حليمًا لينًا، مشفقًا على الناس، فإنَّ ذلك مدعاة لقبول الناس منه، وانتفاعهم بدعوته، وهذا هو خلق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس، ولهذا امتن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لا نْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ ١.
وامتن الله عزوجل على عباده المؤمنين ببعثة رسوله الكريم إليهم، وبما هو عليه من الخلق العظيم، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .
ولقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم حياته بمكة والمدينة وغيرهما، يدعو ويذكر وينذر في غاية من اللطف واللين، ويقصد نواديهم، يدعوهم إلى الهدى، ويتحمل منهم ألوان الأذى، ويزيد على ذلك فيقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» [صحيح البخاري مع الفتح، ١٢/٢٨٢، كتاب استتابة المرتدين، باب إذا عرض الذمي أو غيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصرح، رقم ٦٩٢٩، وصحيح مسلم، ٣/١٤١٧، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، رقم ١٧٩٢، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه].
فهذا دَيْدنُهُ صلى الله عليه وسلم في دعوته، وأمره ونهيه، يا خذ بالرفق واللين، ولم يستعمل الغلظة والشدة، إلا حين لم يجد ذلك مع المخاطبين – مع تحقيق القدرة وانتفاء المفسدة – كما هو واضح من سيرته، وقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ ٤.
فمن قرأ سيرته صلى الله عليه وسلم ولزم طريقته في دعوة أمته، كان أكمل الناس في متابعته، وأولاهم بوراثته، وأسعدهم بشفاعته، وأنصحهم لأمته، ولهذا لما كان صاحبه أبو بكر الصديق في ذلك كذلك أسلم على يديه من لا يحصون، وانتفع به من الخلق كثيرون [انظر تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله القصّير، ٣١-٣٤].
ولما أرسل الله عزوجل موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام إلى فرعون – طاغية مصر وجبارها – أمرهما أن يخاطباه باللين واللطف:
قال تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾.
قال الإمام ابن كثير رحمة الله عليه !: «هذه الآية فيها عبرة عظيمة وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه، إذ ذاك ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين». [تفسير ابن كثير، ٣/١٦٣].
وقد ورد في هذا المعنى استدلال المأمون عندما وعظه رجل وعنّف له في القول، فقال: يا رجل ارفُقْ فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق، قال تعالى: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ [انظر إحياء علوم الدين، للغزالي، ٢/٣٣٤].
ومن الأحاديث النبوية التي تبين فضل الرفق واللين وتحثُّ عليه مايلي:
١- عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» [صحيح مسلم، ٤/٢٠٠٤، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم ٢٥٩٤].
٢- وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يحرم الرفق، يحرم الخير» [صحيح مسلم، ٤/٢٠٠٣، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم ٢٥٩٢].
٣- وقال صلى الله عليه وسلم لا شج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناه» [صحيح مسلم، ١/٤٨، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه …، رقم ١٨].
لذا فإنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتقي الله في عباد الله، وأن يلزم الرفق بهم واللين معهم والحلم والعفو عنهم، فيما يدعوهم إليه، ويأمرهم به، وينهاهم عنه، حتى لا يصدهم عن الهدى أو يوردهم الردى.
ولا ينبغي للداعية إلى الله تعالى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسم بالشدة، ويأخذ بالغلظة، ما وجد مندوحة عن ذلك، فإذا اشتبه عليه الأمر، فعليه بمراجعة نصوص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، وكلام أهل العلم المعتبرين، إن كانت لديه الأهلية لذلك، لمعرفة الراجح بالدليل، وإلا فعليه بما وجه الله تعالى إليه أمثاله بقوله سبحانه: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [انظر تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله القصير، ٣٦].
سادسًا: الصبر:
إن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الواردة في الصبر لا تكاد تُحصى لكثرتها.
وقد أخبر الله تعالى عن لقمان الحكيم بأنه أوصى ابنه بقوله: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر، وما ذلك إلا لأن القيام بهذا يتطلب الكثير من المجاهدة، ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحليًا بالصبر.
ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – وهم أئمة الدعوة إلى الله تعالى بالصبر، كما قال تعالى لخاتمهم صلى الله عليه وسلم : ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾.
وقال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
ومن الأدلة من السنة التي ترغب في الصبر وتحث عليه مايلي:
١-ماورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفِّفَ عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة» [أخرجه الترمذي، ٤/٦٠١، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم ٢٣٩٨، وقال هذا حديث حسن صحيح، وسن ابن ماجه، ٢/١٣٣٤، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم ٤٠٢٣، والإمام أحمد في المسند، ١ /١٧٢،١٧٤،١٨٠،١٨٥، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم ١٤٣].
٢-وعن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: «إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط»[أخرجه الترمذي، ٤/٦٠١، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم ٢٣٩٦، وقال حسن غريب، وسنن ابن ماجه، ٢/١٣٣٤، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم ٤٠٢٣، وحسنه الشيخ الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم ١٤٦].
٣-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نَفِدَ ما عنده قال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى الله أحدًا عطاءً هو خير وأوسع من الصبر». [صحيح البخاري مع الفتح، ٣/٣٣٥، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، رقم ١٤٦٩، وصحيح مسلم، ٢/٧٢٩، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، رقم ١٠٥٣]
ومما تقدم من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية وغيرها التي تدل على فضل الصبر وتحث عليه، يتبين أن المؤمن معرض للابتلاء، ولكن على حسب قوة إيمانه أو ضعفه، وإذا صبر المؤمن واحتسب أجره عند الله كفر الله من ذنوبه وسيئاته، وعظم له الأجر، وإذا كان عامة الناس معرضين لهذا الابتلاء والامتحان، فإنَّ أشدهم بلاء الدعاة إلى الله، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهم أَوْلَى بالصبر والاحتساب، وخاصة ما يصيبهم بسبب دعوتهم من الأذى.
وفي صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين أمثلة رائعة يجدر بالدعاة إلى الله تعالى أن يقفوا عندها ويتأملوها، ليتأسَّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ومن هذه الأمثلة:
١- ما كان مشركو مكة يلقون على عتبته صلى الله عليه وسلم من الأنتان والأقذار، ومع ذلك كان يصبر ويحتسب، ويقول: «أي جوار هذا»[انظر سيرة ابن هشام، ١/٤١٦ وتاريخ الطبري، ٢/٣٤٣]؟ .
٢- بعد أن اشتد أذى قريش للنبي ﷺ عقب وفاة عمه أبي طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، للدعوة وطلب النصرة من ثقيف، ولكنها لم تستجب له، وأمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يصطفوا على الطريق صفين، وأن يرجموه بالحجارة، فرجموه صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى أدموا عقبه[انظر سيرة ابن هشام، ١/٤١٩-٤٢٠، والطبقات الكبرى، لابن سعد، ١/٢١٢، والدلائل للبيهقي، ٢/٤١٤، ومختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ٨٣، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، ٢٢٧].
فهذه الأمثلة وغيرها كثير تبين لنا شدة صبر النبي صلى الله عليه وسلم واحتسابه على مالاقاه أثناء دعوته من أذى المشركين، فعلى الداعية إلى الله أن يتحلى بالصبر، ويتحمل المشاق في سبيل الدعوة إلى الله.
سابعًا: التحلي بالأخلاق الفاضلة:
إن من الأمور المهمة في حياة الداعية إلى الله تعالى أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون متمسكًا بأخلاق الداعية، بحيث يظهر عليه أثر العلم في معتقده وفي عباداته من صلاة وصيام وتلاوة قرآن وفي هيئته وجميع مسلكه مبتعدًا عن الأخلاق الذميمة؛ حتى يُمثّل دور الداعية إلى الله تعالى.
وقد شنّع الله تعالى على الذين يدعون الناس إلى الصلاح وينسون أنفسهم بقوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾.
وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾
وإن كان القول الراجح من أقوال العلماء رحمه الله أن للإنسان أن يأمر بالمعروف ولو لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن كان يفعله.
إلاَّ أنَّ هناك أمرًا مهمًا يجب التنبه إليه، ألا وهو قبول دعوة الداعي أو أمر الآمر بالمعروف ونهي الناهي عن المنكر، وتأثير ذلك في الناس.
لذلك فإن الداعي إلى الله تعالى أو الآمر الناهي إذا كان قدوة صالحة في عقيدته وفي عباداته ومنهج حياته فحريٌ أن يُقبَلَ قوله، وتسمع كلمته، ويكون له تأثير طيب على المجتمع.
وقد مثلت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أعمالًا كثيرة متنوعة، بحيث تكون فيها الأسوة الصالحة، والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية في جميع أطوارها؛ لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة، والعواطف النبيلة المعتدلة …، وقد كان صلى الله عليه وسلم ، معلمًا مخلصًا، وواعظًا ناصحًا، ومرشدًا أمينًا، وكان مبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
وكان صلى الله عليه وسلم عابدًا شاكرًا لربه، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورا» [صحيح البخاري، ٣/١٤، كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل، رقم ١١٣٠، وصحيح مسلم، ٤/٢١٧٢، كتاب صفات المنافقين، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، رقم ٢٨٢٠].
لذا فإنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يلتزم بأوامر الإسلام ويتخذها زادًا يستعين به في دعوته وأمره ونهيه، وأن يتخذ من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسيرته القدوة الحسنة؛ قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ .
إلى غير ذلك من الدعائم والمقومات التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى كالصدق، والعدل، والتواضع، والجود، والكرم، والتثبت وعدم العجلة وغيرها مما هي من لوازم الداعية الناجح. [المنهج الصحيح وأثره في الدعوة إلى الله تعالى].
قال شيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، رضي الله عنه وأثابه الجنة، وغفر لنا وله بمنه وكرمه آمين:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم.
ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين،
الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن الضالين. [الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ت صبري ص55].
[تنبيه]: سبق ذكر ما يتعلق بمسائل هذا الباب في فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند (1/ 333). من الدعوة إلى التوحيد أولا، وصور صبر النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل ذلك.