[1ج/ رقم (510)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالله كديم، ومحمد البلوشي وأحمد بن علي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وعدنان البلوشي وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (510)]:
٥١٠ – قال الإمام النسائي رحمه الله (ج ٣ ص ٥): أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَكِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ ابْنِ أَسْلَمَ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ قُبَاءَ لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رِجَالٌ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُ صُهَيْبًا وَكَانَ مَعَهُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ قَالَ: كَانَ يُشِيرُ بِيَدِهِ.
هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح، إلا محمد بن منصور المكي، وقد وثَّقه النسائي ومَسْلَمَةُ، كما في «تهذيب التهذيب».
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج ١ ص ٣٢٥) فقال: حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِيُّ، قال: ثنا سفيان بن عيينة به.
وأخرجه ابن أبي شيبة رحمه الله (ج ٢ ص ٧٤) فقال: حدثنا سفيان بن عيينة به.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث الحافظ النسائي رحمه الله في السنن الكبرى، كتاب المساجد، رد السلام بالإشارة في الصلاة، (١١١١).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
٤ – كتاب الصلاة، ١٢٧ – رد المصلي السلام بالإشارة، (١٠٠٩).
١٦ – كتاب الفضائل، ٩٥ – ذكر مسجد قباء، (٢٦٢٩).
والثاني: شرح وبيان الحديث
شرح الحديث.
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: فإن قلت: يعارض هذا ما وقع في رواية أبي داود من أن الذي سأله ابن عمر هو بلال، ولفظه من طريق جعفر بن عون، عن هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله ﷺ يرد عليهم. . .».
قلت: لا تنافي بين الروايتين، لاحتمال أن يكون ابن عمر سأل كلّا من صُهيب، وبلال رضي الله عنهم للتأكد.
ولذا قال الترمذي رحمه الله في «جامعه» بعد أن أخرج حديث صهيب: ما نصّه: وحديث صهيب حسن، لا نعرفه إلا من حديث الليث، عن بُكير، وقد روي عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: قلت لبلال: «كيف كان النبي ﷺ يرد عليهم حيث كانوا يسلمون عليه في مسجد بني عمرو بن عوف؟ قال: كان يرد عليهم إشارة». وكلا الحديثين عندي صحيح، لأن قصة حديث صهيب غير قصة حديث بلال، وإن كان ابن عمر روى عنهما، فاحتمل أن يكون سمع منهما جميعا. انتهى كلام الترمذي رحمه الله تعالى [«جامع الترمذي» ج ٢ ص ٣٦٥. بنسخة الشرح «تحفة الأحوذي»].
(كيف كان النبي ﷺ يصنع) «كيف» استفهامية مفعول مطلق لـ«يصنع»، أي أَيَّ صنع يصنع، والجملة مفعول «سأل» مُعَلَّق عنها العامل. وفي رواية ابن ماجه: «كيف كان رسول الله ﷺ يرد عليهم؟» (إذا سُلم عليه) ببناء الفعل للمفعول، والظرف متعلق بـ«يصنع» (قال) أي صُهَيب (كان) ﷺ (يشير بيده) وأشار في «الهندية» إلى أنه وقع في بعض النسخ «بيديه» بالتثنية، والظاهر أن هذه النسخة غير صحيحة؛ لأن الثابت أنه ﷺ كان يشير بيد واحدة، لا باليدين، كما يدل عليه أحاديث الباب وغيرها. والله تعالى أعلم. [ذخيرة العقبى، (14/ 167 )].
[تنبيه]: وقع في رواية الحميدي رقم ١٤٨ – وأحمد ج ٢ ص ١٠ – من رواية سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم: ما نصه: قال سفيان: قلت لرجل: سل زيدا أسمعته من عبد الله، وهبت أن أسأله، فقال: يا أبا أسامة: سمعته من عبد الله بن عمر؟، قال: أمّا أنا فقد رأيته، فكلمته. انتهى.
ولفظ الحميدى: «فقال: أما أنا، فقد كلمته، وكلمني، ولم يقل: سمعته».
لكن وقع التصريح بسماعه عند ابن خزيمة جـ ٢ ص ٤٩ – من رواية عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، ولفظه:
نا عبد الجبار بن العلاء، ثنا سفيان، نا زيد بن أسلم، قال: سمعت عبد الله بن عمر (ح) وثنا علي بن خشرم، وأبو عمار، قال أبو عمار: ثنا سفيان، وقال علي: أخبرنا ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، قال: قال ابن عمر:
«دخل رسول الله ﷺ مسجد قباء، ودخل عليه رجال من الأنصار، يسلمون عليه، فسألت صهيبا، كيف كان يصنع النبي ﷺ إذا كان يسلم عليه، وهو يصلي؟ قال: كان يشير بيده».
قال أبو بكر: هذا حديث أبي عمار، وزاد عبد الجبار، قال سفيان، قلت لزيد: سمعت هذا من ابن عمر؟ قال: نعم. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: لا تنافي بين القصتين، لإمكان الجمع بينهما يكون سفيان أوّلًا هاب أن يسأل زيدا، فأمر رجلًا أن يسأل له، فسأله؟ فأجابه بما ليس صريحا في السماع، ثم سأله ابن عيينة بنفسه ليتبين السماع، فأجابه بسماعه صريحا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان. [ذخيرة العقبى، (14/ 168)].
والثالث: ملحقات:
المطلب الأول:
(المسألة الأولى): مضامين الحديث:
يمكن تلخيصها فيما يلي:
1) زيارة النبي ﷺ لمسجد قباء للصلاة:
يبيّن الحديث أن النبي ﷺ كان يزور مسجد قباء للصلاة فيه، وهو دلالة على عناية النبي ﷺ بالمساجد، وخصوصًا مسجد قباء الذي له مكانة عظيمة كأول مسجد أُسس على التقوى.
2) أدب النبي ﷺ عند السلام عليه:
يوضّح الحديث كيفية تعامل النبي ﷺ مع من يسلم عليه، حيث كان يشير بيده عند رد السلام، وهو تعليم لأمته بأدب التعامل مع الناس، خاصة أثناء الانشغال بالعبادة.
3) اهتمام الصحابة بدراسة هدي النبي ﷺ وسؤاله عنه:
سؤال ابن عمر لصهيب رضي الله عنهم عن فعل النبي ﷺ عند السلام، يظهر حرص الصحابة على معرفة تفاصيل أفعال النبي ﷺ والاقتداء به.
4) حكم الإشارة باليد عند رد السلام:
الحديث يسلط الضوء على مشروعية الإشارة باليد عند رد السلام في ظروف معينة، كأن يكون الإنسان مشغولاً بالصلاة، وهذا من مرونة الشريعة.
المطلب الثاني: حكم السلام على المصلي ورده:
(المسألة الأولى):
في صحيح مسلم جاء قوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه: («إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ) أي: ما يجري في مخاطباتهم ومحاوراتهم.
أجمعوا على أن الكلام في الصلاة، من عالم بالتحريم عامد لغير مصلحتها أو إنقاذ مسلم مبطل للصلاة.
وأما الكلام لمصلحتها فقال الشافعيّ، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والجمهور: يبطل الصلاة، وجَوَّزه الأوزاعيّ، وبعض أصحاب مالك، وطائفة قليلة، وكلام الناسي لا يبطلها عند الجمهور ما لم يَطُل، وقال أبو حنيفة والكوفيون: يُبطلها
راجع شرح النووي على صحيح مسلم وشرح ابن حجر على صحيح البخاري
[فائدة]: قال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: الفرق بين قليل الفعل للعامد، فلا يُبطل، وبين قليل الكلام، أن الفعل لا تخلو منه الصلاة غالبًا لمصلحتها، وتخلو من الكلام الأجنبي غالبًا مُطّرِدًا، واللَّه تعالى أعلم [«الفتح» ٣/ ٩١].
(المسألة الثانية):
قال الشوكانيّ رحمه الله: قوله: «إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» هذا الحصر يدلّ بمفهومه على منع التكلم في الصلاة بغير الثلاثة، وقد تمسكت به الطائفة القائلة بمنع الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن من الحنفية، والهادوية.
ويجاب عنهم بأن الأحاديث المثبتة لأدعية، وأذكار مخصوصة في الصلاة، مُخَصِّصة لعموم هذا المفهوم، وبناء العام على الخاص متعين، لا سيما بعدما تقرر أن تحريم الكلام كان بمكة، كما قدمنا، وأكثر الأدعية والأذكار في الصلاة كانت بالمدينة، وقد خصصوا هذا المفهوم بالتشهد، فما وجه امتناعهم من التخصيص بغيره؟ وهذا واضح، لا يلتبس على من له أدنى نظر في العلم، ولكن المتعصِّب أعمى، وكم من حديث صحيح، وسنة صريحة قد نصبوا هذا المفهوم العام في مقابلتها، وجعلوه معارضًا لها، وردّوها به، وغَفَلُوا عن بطلان معارضة العام بالخاص، وعن رجحان المنطوق على المفهوم، إن سَلِمَ التعارض. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله.
(المسألة الثالثة): النصوص الواردة في الجامع الصحيح في رد المصلي السلام بالإشارة
أورد الوادعي رحمه الله تعالى الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين (2/ 151):
“١٢٧ – رد المصلي السلام بالإشارة
١٠٠٩ – قال الإمام النسائي رحمه الله (ج ٣ ص ٥): أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَكِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ ابْنِ أَسْلَمَ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ قُبَاءَ لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رِجَالٌ يُسَلِّمُونَ …
١٠١٠ – قال الإمام النسائي رحمه الله (ج ٣ ص ٦): أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبٌ يَعْنِي ابْنَ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَرَدَّ عَلَيْهِ.
هذا حديث صحيحٌ على شرط مسلم. وهو محمول على الرد بالإشارة، وإلا فهو منسوخ، والله أعلم”. انتهى.
وأورد الوادعي رحمه الله أيضًا في ٤ – كتاب: الصلاة، ١٢٦ – ما يعفى عنه في الصلاة لحاجة، حديث:
١٠٠٦ – قال أبو داود رحمه الله (ج ٣ ص ٢٢١): حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَبُّوَيْهِ الْمَرْوَزِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ قَالَا أخبرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنبأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُشِيرُ فِي الصَّلَاةِ.
هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخين.
(المسألة الرابعة): كيفية الرد بالإشارة
لم يقع في هذه الرواية كيفية الرد بالإشارة، ووقع في رواية أبي داود المذكورة، ولفظه: قال: «يقول: هكذا، وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق».
ففيه أن الإشارة تكون بجعل ظهر الكف إلى فوقُ وبطنها إلى أسفل.
وقد تقدم في حديث صُهيب رضي الله عنه أنه أشار بإصبعه، وعند البيهقي ج ٢ ص ٢٦٠ – من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أنه ﷺ أومأ برأسه.
ولا منافاة بين هذه الروايات؛ لأنه يحمل على أنه ﷺ فعل ذلك كله لبيان الجواز، فلا حرج على من فعل أيَّ إشارة منها. [انظر «المنهل العذب» ج ٦ ص ٢٧]. والله تعالى أعلم. ذكره الإتيوبي رحمه الله.
(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء في حكم السلام على المصلي، وحكم رده السلام على من سلم عليه:
قال الإمام أبو بكر ابن المنذر رحمه الله تعالى: اختلف أهل العلم في السلام على المصلي:
فكرهت طائفة ذلك:
وممن كره ذلك عطاء بن أبي رباح، وأبو مِجْلَز، وعامر الشعبي، وإسحاق بن راهويه، وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لو دخلتُ على قوم، وهم يصلون ما سلمتُ عليهم.
ورخصت طائفة في السلام على المصلي:
وممن ثبت عنه أنه سلم على المصلي ابنُ عمر، وقال ابن القاسم: لم يكن مالك يكره السلام على المصلي، وحَكَى عنه ابنُ وهب أنه لم يكن يعجبه أن يسلم الرجل على المصلي، وكان أحمد بن حنبل لا يرى به بأسا، وقال الأثرم: رأيت أبا عبد الله دخل مسجده، وليس فيه إلا مصل، فسلم.
* واختلف أهل العلم في رد المصلي السلام إذا سُلِّم عليه:
فرخصت طائفة في ذلك:
وممن كان لا يرى به بأسا سعيدُ بنُ المسيّب، والحسن البصري، وقتادة، وقال إسحاق: إن ردّ السلام متأوِّلا يرى أن ذلك جائز، فصلاته مجزية، وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: إذا سُلِّمَ عليك، وأنت في الصلاة فردّ. وعن جابر رضي الله عنه، قال: لو سلم عليّ، وأنا أصلي لرددت.
وكرهت طائفة رَدَّ المصلي السلامَ:
وممن كان لا يرى ذلك ابنُ عمر، وابنُ عباس، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق.
وفيه قول ثالث:
وهو أن يرده عليه إذا فرغ من صلاته، روي هذا القول عن أبي ذرّ، وعطاء، والنخعي، وقال النخعي، وسفيان الثوري: إذا انصرفت، فإن كان قريبا، فاردد عليه، وإلا فأتبعه السلام، وكره الأوزاعي المصافحة في الصلاة.
وقد روينا عن النخعي قولا رابعا:
وهو أن يردّ في نفسه
وقال النعمان -يعني أبا حنيفة -: لا يردّ السلام، ولا أحب أن يشير.
فاستحب خلافَ ما سنه رسول الله ﷺ لأمته؛ لأنه ﷺ سَنَّ للمصلي أن يرد السلام بإشارة، وقد سن النبي ﷺ الإشارة في الصلاة في غير موضع، من ذلك إشارته إلى الذين صلوا خلفه قياما أن اجلسوا، وأومأ إلى أبي بكر يوم خرج إلى بني عمرو بن عوف أن امضهْ. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله تعالى باختصار [«الأوسط» ج ٣ ص ٢٤٩ – ٢٥٣]. [ذخيرة العقبى، (14/ 166)].
وأما سبب ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله، أنه لا يرد السلام، ولا يحب أن يشير؛ استُدِلَّ بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من أشار بالصلاة إشارة تفهم عنه؛ فلْيُعِدِ الصلاة»، رواه أبو داود (٩٤٤).
وهو حديث ضعيفٌ، فيه: ابن إسحاق، مدلسٌ، وقد عنعن.
وقال أبو داود: هذا الحديث وهَمٌ.
وقال أحمد: لا يثبت إسناده، ليس بشيء.
والحديث في «الصحيحين» بلفظ: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» بدون الزيادة المذكورة؛ فهي زيادة منكرة، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور.
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما عند عبد الرزاق (٢/ ٣٣٧)، وابن أبي شيبة (٢/ ٧٤)، أنه سلم عليه موسى بن جميل، وهو يصلي؛ فقبض ابن عباس بيده.
وأخرج ابن أبي شيبة (٢/ ٧٤) فقال: حدثنا حفص، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: ما كنت لأسلم على رجل وهو يصلي، زاد أبو معاوية: ولو سلم علي لرددت عليه.
وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وأخرجه ابن المنذر (٣/ ٢٥١).
وهذا محمول على أنه قصد الرد بالإشارة؛ فقد ثبت عنه عند ابن المنذر (٣/ ٢٥٢) أنه قال: لا ترد عليه حتى تنقضي صلاتك.
وقد روى أيضًا جابر رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه سلم عليه وهو يصلي؛ فرد عليه النبي ﷺ بالإشارة. أخرجه مسلم (١٢٣٤).
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور.
- وقد ذهب النخعي إلى أنه يرد بنفسه.
- وذهب قومٌ إلى أنه يرد بعد الصلاة، منهم: عطاء، والنخعي، والثوري، وهذا القول لا بأس به، والأفضل ما ذهب إليه الجمهور من أنه يرد بالإشارة. [وانظر: «المغني» (٢/ ٤٦٠)، «الأوسط» (٣/ ٢٥٢ – ٢٥٣)، «غاية المرام» (٥/ ١٢٨)] بواسطة فتح العلام.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى:
والأحاديث المذكورة تدل على أنه لا بأس أن يسلم غير المصلي على المصلي لتقريره ﷺ مَن سلم عليه على ذلك، وجواز تكليم المصلي بالغرض الذي يعرض لذلك، وجواز الردّ بالإشارة.
وقد استدل القائلون بالاستحباب بالأحاديث المذكورة في هذا الباب، واستدل المانعون بحديث ابن مسعود رضي الله عنه: “كنا نسلم على النبي ﷺ، وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة، فترد علينا؟ فقال: «إن في الصلاة لشغلا»، متفق عليه.
ولكنه ينبغي أن يحمل الردّ المنفي ها هنا على الردّ بالكلام، لا الرد بالإشارة؛ لأن ابن مسعود نفسه قد رَوَى عن رسول الله ﷺ أنه ردّ عليه بالإشارة، ولو لم تَرِدْ عنه هذه الرواية لكان الواجب هو ذلك، جمعا بين الأحاديث.
واستدلوا أيضا بما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «لا غِرَار في صلاةٍ، ولا تسليمٍ».
والغرار -بكسر الغين المعجمة، وتخفيف الراء-: هو في الأصل النقص. قال أحمد بن حنبل رحمه الله: يعني -فيما أُرَى- أن لا تسلم، ولا يسلم عليك، ويُغَرِّرُ الرجلُ بصلاته، فينصرف، وهو فيها شاكّ.
واستدلوا أيضا بما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، من أشار في صلاته إشارة تُفْهَم عنه، فليُعدْ لها». يعني الصلاة. ورواه البزار، والدارقطني.
ويجاب عن الحديث الأول: بأنه لا يدل على المطلوب من عدم جواز ردّ السلام بالإشارة؛ لأنه ظاهر في التسليم على المصلي، لا في الردّ منه، ولو سلم شموله للإشارة لكان غايته المنع من التسليم على المصلي باللفظ والإشارة، وليس فيه تعرّض للرّدّ، ولو سلم شموله للردّ لكان الواجب حمل ذلك على الردّ باللفظ، جمعا بين الأحاديث.
وأما الحديث الثاني:
فقال أبو داود: إنه وَهَم اهـ. وفي إسناده أبو غطفان، قال ابن أبي داود: هو رجل مجهول، قال: وآخر الحديث زيادة، والصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يشير في الصلاة.
قال العراقي: قلت: وليس بمجهول، فقد روى عنه جماعة، ووثقه النسائي، وابن حبّان، وهو أبو غطفان المرّي، قيل: اسمه سعيد. انتهى.
وفيه محمَّد بن إسحاق، فقد عنعنه، وهو مدلس، فالحديث ضعيف.
وعلى فرض صحته ينبغي أن تحمل الإشارة المذكورة في الحديث على الإشارة لغير ردّ السلام والحاجة، جمعًا بين الأدلة. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى بتصرف [«نيل الأوطار» ج ٢ ص ٣٨٣ – ٣٨٤].
وفي مسائل حرب :
باب: رَدُّ السَّلام في الصَّلاة
- وسُئل أحمَد عن رَدِّ السلام إشارَةً في الصَّلاة؟ فقال: «لا بأس».
- وسمعت إسحاق يقول: «إذا سُلِّم عَلَيك وأنت تُصَلِّي؛ فلا تَرُدّ عَلَيه حتى تُسَلِّم، فإن كان قَريبًا؛ فرُدَّ عَلَيه؛ وإن كان ذَهَب؛ فأتبِعه السلام».
- وقال إسحاق -أيضًا-: «إن لم تَرُدَّ بالإشارَة حتى سَلَّمت؛ فأتبِعه السلام». قال: «وإن رَدَّ إشارَةً -كما فَعَلَ النبي ﷺ؛ جاز».
- وقال إسحاق: «إن سَلَّم عَلَيك رَجلٌ وأنت تُصَلِّي؛ فرَدَدت عَلَيه؛ فاستَقبِل الصَّلاة؛ فإن ذلك كَلام».
باب: السلام عَلَى المصَلِّي
- قيل لأحمد: الرجل يَدخُل المسجِد، ومِنهُم المصَلِّي والجالِس؛ أيُسَلِّم؟ قال: «نَعم؛ يُسَلِّم على الجلوس».
- وسمعت إسحاق يقول: «إذا انتَهَيت إلى المسجِد والقَوم يُصَلّون؛ فلا تُسَلِّم عَلَيهم، إلا أن يكون فيهم أحَدٌ لا يُصَلِّي، فسَلِّم عَلَيهم جَميعًا، فإن رَدَّ غَيرُ المصَلِّي؛ جاز عن المصَلِّي».
١٠٤٢ – حدثنا محمد بن الوَزير، قال: ثنا مَروان بن محمد، قال: ثنا ابن لَهيعَة، قال: ثنا أبو الزُّبَير، قال: سمعت جابِر بن عبد الله يقول: «أكرَه أن يُسَلِّم الرجل على القَوم وهم يُصَلُّون».
قال مَروان: «هذا الفِقه».
مسائل حرب الكرماني كتاب الطهارة والصلاة – ت السريع ١/٤٨٧ — حرب الكرماني
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: قد تبين مما تقدم أن المذهب الراجح هو القول بجواز السلام على المصلي، وجواز رده السلام بالإشارة، لا بالكلام، فلو رد بالكلام بطلت صلاته، وبهذا تجمع الأدلة من دون تعارض.
وأما الذين قالوا بجواز الرد باللفظ في الصلاة فيعتذر عنهم بأنهم لم يبلغهم نسخ جواز الكلام في الصلاة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. [ذخيرة العقبى، (14/ 166)].
ربما من كره السلام على المصلين حيث يشغلهم خاصة صلاة الجمعة فكثير من الناس يصلون . والدخول للمسجد كثير لا ينقطع . فلو اقتصر الداخل بالسلام على من كان قريب منه .
أما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فهو منفرد صلى الله عليه وسلم ولا يشغله ذلك عن صلاته
تنبيه : حديث :
روى أبو داود (928) والحاكم (927) والبيهقي (3411) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ ) .
وصححه الألباني في “الصحيحة” (318) .
قال أبو داود عقبه : ” قَالَ أَحْمَدُ : يَعْنِي فِيمَا أَرَى أَنْ لَا تُسَلِّمَ وَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْكَ ، وَيُغَرِّرُ الرَّجُلُ بِصَلَاتِهِ فَيَنْصَرِفُ وَهُوَ فِيهَا شَاكٌّ ” .
وروى الإمام أحمد (9622) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا إِغْرَارَ فِي الصَّلَاةِ ) فَقَالَ : ” إِنَّمَا هُوَ لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ ، وَمَعْنَى غِرَارٍ يَقُولُ : لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْيَقِينِ وَالْكَمَالِ ”
وقال الماوردي رحمه الله :
” معناه : لا نقصان فيها ، وهو إذا بنى على اليقين فقد أزال النقصان منها ” انتهى من “الحاوى” (2 /488) .
وقال الخطابي رحمه الله :
” أصل الغرار نقصان لبن الناقة ، يقال غارت الناقة غراراً ، فهي مُغارّ : إذا نقص لبنها، فمعنى قوله : لا غرار ، أي : لا نقصان في التسليم ، ومعناه : أن ترد كما يسلم عليك وافيا لا نقص فيه ، مثل أن يقال السلام عليكم ورحمة الله ، فيقول عليكم السلام ورحمة الله ، ولا يقتصر على أن يقول السلام عليكم ، أو عليكم حسب .
وأما الغرار في الصلاة فهو على وجهين : أحدهما أن لا يتم ركوعه وسجوده ، والآخر ، أن يشك هل صلى ثلاثا أو أربعا ، فيأخذ بالأكثر ويترك اليقين وينصرف بالشك ، وقد جاءت السنة في رواية أبي سعيد الخدري أنه يطرح الشك ويبني على اليقين ويصلي ركعة رابعة حتى يعلم أنه قد أكملها أربعا ” انتهى من “معالم السنن” (1/219- 220) .
وقال النووي رحمه الله :
” وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ : لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ ، بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى تَفْسِيرِ أَحْمَدَ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ لَا غِرَارَ فِي تَسْلِيمٍ وَلَا صَلَاةٍ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ الْخَطَّابِيِّ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَالْأَخْبَارُ السَّابِقَةُ تُبِيحُ السَّلَامَ عَلَى الْمُصَلِّي وَالرَّدَّ بِالْإِشَارَةِ وَهِيَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ ” انتهى من “المجموع شرح المهذب” (4/ 104) .
وقال ابن الأثير رحمه الله :
” الغِرَارُ : النُّقصان ، وغِرَار النَّوم : قِلَّتُه .، ويُريد بغِرَار الصَّلاة : نُقْصانَ هَيْآتها وأركانِها . وغرَارُ التَّسليم : أن يقول المُجِيبُ : وعَلَيْك ، ولا يقول : السَّلام . وقيل : أراد بالغرار : النَّوْم ؛ أي ليْسَ في الصلاة نوم ، و” التسليم ” يُرْوَى بالنَّصْب والجِرّ فَمَنْ جَرَّه كان معطُوفا على الصلاة كما تقدم ، ومن نصب كان معطوفا على الغِرَار ويكون المعنى : لا نَقْصَ ولا تَسْليمَ في صلاة ، لأن الكلام في الصلاة بَغْير كلامها لا يجوز ” انتهى من “النهاية” (3 /661) .
فيتلخص لنا من كلام أهل العلم المتقدم أن قوله صلى الله عليه وسلم ( لا غرار في صلاة ) معناه : لا يخرج منها وهو شاك فيها ، بل يخرج وهو متيقن من تمامها ، فإن شك في النقصان ، بنى على الأقل حتى يستيقن أنه لا نقص في صلاته ، وقد روى مسلم (571) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ ) .
ومن الغرار فيها أن ينقص من ركوعها وسجودها وطمأنينتها ؛ لأن ذلك نقص فيها ، فعليه أن يطمئن فيها ويتم ركوعها وسجودها .
وبالجملة : عليه أن يأتي بصلاته على التمام بدون نقص بأي وجه من الوجوه .
وأما قوله : ( ولا تسليم ) فيُرْوَى بالنَّصْب والجِرّ ، فَمَنْ جَرَّه كان معطُوفا على الصلاة ، ويكون المعنى : لا نقص في السلام ؛ بل يوفي التحية حقها في الرد ، فإذا سلم عليه أخوه المسلم رد بأحسن مما سلم أو بمثله .
ومن نصبه كان معطوفا على الغِرَار ، ويكون المعنى : لا نَقْصَ ولا تَسْليمَ في صلاة ، فلا يسلم المصلى على أحد ولا يسلم عليه أحد ؛ لئلا يشغله في صلاته ، فإن سلم عليه أحد رد بالإشارة ، ولعل الوجه الأول أولى .
——
(المسألة السادسة): “الرَّدُّ على السَّلام كلامًا.
- ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ الردَّ على السلام كلامًا يبطل الصلاة، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم.
واستدلوا على ذلك بحديث جابر في «صحيح مسلم» (٥٤٠)، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حاجة، فرجعت وهو يصلي على راحلته، ووجهه إلى غير القبلة، فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ، فلما انصرف قال: «إنه لم يمنعني أنْ أردَّ عليك إلا أني كنت أصلي».
وبحديث ابن مسعود في «الصحيحين» [أخرجه البخاري برقم (١١٩٩)، ومسلم (٥٣٨)]، أنه قال: يا رسول الله، كُنَّا نسلم عليك في الصلاة، فترد علينا، فقال: «إنَّ في الصلاةَ لشُغْلًا».
- وكان سعيد بن المسيب، وقتادة، والحسن، لا يرون بذلك بأسًا، وكأنهم لم تبلغهم الأدلة، والله أعلم.
والراجح قول الجمهور. [انظر: «المغني» (٢/ ٤٦٠) «شرح مسلم» (٥٤٠)، «الأوسط» (٣/ ٢٥١)، «شرح المهذب» (٤/ ١٠٤)] بواسطة فتح العلام.
(المسألة السابعة): هل يكره السلامُ على المصلي؟
- ذهب عطاء، وأبو مجلز، والشعبي، وإسحاق إلى كراهته؛ لأنه ربما غلط المصلي، فرد كلامًا. وتقدم آنفًا الأثر عن جابر رضي الله عنه في اختياره لترك ذلك.
- بينما ذهب أحمد، والشافعي، وأصحابهما، ومالك، وغيرهم إلى عدم الكراهة.
وهذا القول هو الصحيح.
قال النووي رحمه الله: وهو الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة.
وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما بإسنادٍ صحيحٍ عند ابن المنذر (٣/ ٢٥١) أنه مر برجل قائم يصلي، فسلم عليه ثم قعد، فرد عليه المصلي السلام، ورجع الدار فقال: إن المصلي لا يتكلم؛ فإذا سلم عليك أحد وأنت تصلي؛ فأشر بيدك ولا تتكلم. وهو عند عبد الرزاق (٢/ ٣٣٦)، وابن أبي شيبة (٢/ ٧٤) بنحوه. [وانظر: «المغني» (٢/ ٤٦١)، «شرح المهذب» (٤/ ١٠٥)].
(المسألة الثامنة):
استحباب ردّ السلام باللفظ بعد الصلاة، وإن ردّ فيها بالإشارة؛ لأنه ﷺ ردّ على ابن مسعود في الصلاة بالإشارة، وبعدها باللفظ، ففي رواية أبي داود من طريق عاصم، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، قال: كنا نسلم في الصلاة، . . . الحديث، وفي آخره: «فردَّ عليّ السلام». قاله الإتيوبي رحمه الله [البحر المحيط الثجاج، (12/ 258)].
(المسألة التاسعة): الإشارة في الصلاة بغير السلام.
قال ابن المنذر رحمه الله في «الأوسط» (٣/ ٢٥٣): وقد سنَّ النبي ﷺ الإشارة في الصلاة في غير موضعٍ، من ذلك إشارته إلى الذين صلوا خلفه قيامًا أنِ اجلسوا، وأومأ إلى أبي بكر يوم خرج إلى بني عمرو بن عوف أنِ امضه. اهــ
وفي «الصحيحين»[أخرجه البخاري (١٢٣٣)، ومسلم (٨٣٤)] من حديث أم سلمة أنَّ جاريتها سألت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن الركعتين بعد العصر، فأشار بيده، فاستأخرت.
وأخرج ابن المنذر بإسنادٍ صحيحٍ عن ثابت، عن أبي رافع قال: كان يجيء الرجلان إلى الرجل من أصحاب رسول الله ﷺ وهو في الصلاة، فيشهدانه على الشهادة، فيصغي لهما بسمعه، فإذا فرغا يومئ برأسه أي نعم.
ولذلك فقد ذهب الجمهور إلى جواز الإشارة للحاجة، وخالف أبو حنيفة، واستدل بالحديث السابق، وقد تقدم أنه ضعيفٌ. [وانظر: «نيل الأوطار» (٢/ ٣٣٢)] بواسطة فتح العلام.
المسألة العاشرة :
جاء النهي عن السلام بالإشارة في حديث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف .أخرجه الترمذي وضعفه.
وفي السنن الكبرى عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى، فإن تسليمهم بالأكف والرؤوس والإشارة. وقال الإمام أحمد -كما في العلل لابنه عبدالله-: حديث منكر أنكره جدا.
وقد حسن الألباني هذين الحديثين .
وهذا النهي للكراهة التنزيهية عند جمع من الأئمة؛ كما بوب عليه النسائي، فقال: كراهية التسليم بالأكف والرؤوس والإشارة، والنووي في الأذكار، ونص بعض الفقهاء الشافعية على أنه خلاف الأولى.
بينما حمله بعض المعاصرين -كابن باز وابن عثيمين- على التحريم، على ما يأتي من النقل عنهما في ذلك.
ومحل هذا النهي هو عند الاقتصار على التسليم بالإشارة دون التلفظ بالسلام، وأما الجمع بين اللفظ والإشارة فليس منهيا عنه، بل فضله بعض الفقهاء على السلام باللفظ المجرد عن الإشارة، وهو أيضا واجب عند الرد على الأصم -إن لم يفهم التسليم باللفظ من حركة شفاه المسلم-.
وكذلك إذا كانت هناك حاجة للإشارة بالسلام دون التلفظ فلا نهي حينئذ، كرد المصلي السلام إشارة على من يسلم عليه؛ لثبوت رد النبي صلى الله عيله وسلم السلام بالإشارة وهو يصلي. وكتسليم الأخرس ورده.
قال النووي في الأذكار: (باب ما جاء في كراهة الإشارة بالسلام باليد ونحوها بلا لفظ) وذكر حديث عمر بن شعيب ثم قال: وأما الحديث الذي رويناه في كتاب الترمذي عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوما، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم. قال الترمذي: حديث حسن، فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين اللفظ والإشارة، يدل على هذا أن أبا داود روى هذا الحديث، وقال في روايته: فسلم علينا. اهـ.
وفي أسنى المطالب في شرح روض الطالب: (ويجب الجمع بين اللفظ والإشارة على من رد) السلام (على أصم) ليحصل به الإفهام ويسقط عنه فرض الجواب (ومن سلم عليه) أي الأصم (جمع بينهما) أيضا ليحصل به الإفهام ويستحق الجواب، وقضية التعليل أنه إن علم أنه فهم ذلك بقرينة الحال والنظر إلى فمه لم تجب الإشارة وهو ما بحثه الأذرعي. (وتجزئ إشارة الأخرس ابتداء وردا) ؛ لأن إشارته به قائمة مقام العبارة.
وفيه: (والإشارة به) بيد أو نحوها بلا لفظ (خلاف الأولى) للنهي عنه في خبر الترمذي ولا يجب لها رد. (والجمع بينها وبين اللفظ أفضل) من الاقتصار على اللفظ، وعليه يحمل خبر أنه – صلى الله عليه وسلم – ألوى بيده بالتسليم رواه الترمذي وحسنه، ويدل له أن أبا داود رواه وقال في رواية: فسلم علينا. اهـ.
وقال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام، وإذا سلم عليه أحد، رد عليه مثل تحيته أو أفضل منها على الفور من غير تأخير، إلا لعذر مثل حالة الصلاة، وحالة قضاء الحاجة. وكان يسمع المسلم رده عليه، ولم يكن يرد بيده ولا رأسه ولا أصبعه إلا في الصلاة، فإنه كان يرد على من سلم عليه إشارة، ثبت ذلك عنه في عدة أحاديث، وقال جابر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة ثم أدركته وهو يصلي، فسلمت عليه فأشار إلي . ذكره مسلم في صحيحه. وقال أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير في الصلاة، ذكره الإمام أحمد رحمه الله. وقال صهيب: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه فرد إشارة. قال الراوي: لا أعلمه قال: إلا إشارة بأصبعه، وهو في ” السنن ” و ” المسند “. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو في الصلاة، فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق ، وهو في ” السنن ” و ” المسند ” وصححه الترمذي، ولفظه: كان يشير بيده. ولم يجيء عنه ما يعارضها إلا بشيء باطل لا يصح عنه، كحديث يرويه أبو غطفان رجل مجهول، عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد صلاته قال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا رجل مجهول. اهـ. بتصرف. من زاد المعاد.
وقال ابن باز: لا يجوز السلام بالإشارة، وإنما السنة السلام بالكلام بدءا وردا. أما السلام بالإشارة فلا يجوز؛ لأنه تشبه ببعض الكفرة في ذلك؛ ولأنه خلاف ما شرعه الله، لكن لو أشار بيده إلى المسلم عليه ليفهمه السلام لبعده مع تكلمه بالسلام فلا حرج في ذلك؛ لأنه قد ورد ما يدل عليه، وهكذا لو كان المسلم عليه مشغولا بالصلاة فإنه يرد بالإشارة، كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. مجموع فتاواه.
وقال ابن عثيمين: لا يجوز أن يقتصر الإنسان على الإشارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولكن إذا كان الإنسان بعيدا أو كان أصم فاجمع بين الإشارة والعبارة، وأما أن تقتصر على الإشارة فلا، فهنا ثلاث حالات:
الأولى: أن تقتصر على الإشارة فقط، فهذا لا يجوز.
الثانية: العبارة فقط، وهذا جائز وهو الأصل.
الثالث: أن تجمع بين الإشارة والعبارة وهذا إذا كان هناك سبب، ككون الإنسان بعيدا، أو كونه لا يسمع الجمع بين الإشارة والعبارة. اهـ. لقاء الباب المفتوح.
فالخلاصة: أن المشروع لمن أراد أن يسلم على البعيد -كمن يقود السيارة ونحوها- هو أن يجمع بين التسليم بالإشارة واللفظ، وأما التسليم بالإشارة دون التلفظ فهو مكروه تنزيها، إلا للأخرس، أو المصلي.
——
المطلب الثالث: مسجد قباء
(المسألة الأولى): استحباب زيارة مسجد قباء
“فصل: في استحباب زيارة مسجد قباء والبقيع، ويستحب لزائر المدينة أن يزور مسجد قباء ويصلي فيه؛
لما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: «كان النبي ﷺ يزور مسجد قباء راكبا وماشيا ويصلي فيه ركعتين» وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة». قاله الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى [التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب، لابن باز (ت ١٤٢٠)، ص (105)].
(المسألة الثانية): تنبيه لمن أراد زيارة مسجد قباء:
“من السنة المأثورة عن رسول الله ﷺ زيارة مسجد قباء لمن قصد المدينة أو كان من أهلها والمجاورين بها دون شد الرحل إليه؛ فهو مسجد فاضل ذكره الله في كتابه مشيدا به وشرف أهله بالثناء عليهم، بقوله: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: ١٠٨]
وقد كان الرسول ﷺ يزور مسجد قباء في الفينة بعد الأخرى راكبا وماشيا، ودرج على سنته اقتداء به أصحابه، وقال ﷺ في فضل زيارته: «من تطهر وأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان له كأجر عمرة»”. [ما يجب أن يعرفه المسلم عن دينه، عبد الله الخياط (ت ١٤١٥) رحمه الله].
وقال ابن باز رحمه الله: «وأما شد الرحال لزيارة القبور فلا يجوز، وإنما يشرع لزيارة المساجد الثلاث خاصة، لقوله ﷺ: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى”. متفق على صحته.
وإذا زار المسلم مسجد النَّبِيّ ﷺ دخل في ذلك على سبيل التبعية زيارة قبره ﷺ وقبر صاحبيه، وقبور الشهداء وأهل البقيع وزيارة مسجد قباء من دون شد الرحل، فلا يسافر لأجل الزيارة، ولكن إذا كان في المدينة شرع له زيارة قبر النَّبِيّ ﷺ وقبر صاحبيه، وزيارة البقيع والشهداء ومسجد قباء.
أما شد الرحال من بعيد لأجل الزيارة فقط فهذا لا يجوز علي الصحيح من قولي العلماء». [مجموع الفتاوى ٧٥٤ – ٧٥٥].
والرابع: فوائد الحديث
1 – (منها): جواز السلام على من يُصلي؛ لأنه ﷺ لم ينكر على من سلّم عليه، وهو في الصلاة، وإنما ترك الردّ عليه.
2 – (ومنها): “جواز الإشارة برد السلام في الصلاة، وهو مذهب الجمهور.
3 – (ومنها): أن المصلي لا يرد السلام بالقول، فلو رد عمدا بطلت صلاته”. [ذخيرة العقبى، (14/ 164)].
4 – (ومنها): “أن ردّ السلام بالقول يعتبر كلاما، فلو رد عالمًا متعمدا بطلت صلاته.
5 – (ومنها): استحباب الاعتذار لمن سلم في الصلاة، وإن رد عليه بالإشارة، لاحتمال عدم علمه بذلك، فيتغير خاطره بعدم الردّ عليه. والله أعلم”. [، (14/ 171)].
6 – (ومنها): “أن الإشارة بالسلام لا تُبطل الصلاة؛ خلافًا لأبي حنيفة، والحديث يردّ عليه.
7 – (ومنها): استحباب ردّ السلام باللفظ بعد الصلاة، وإن ردّ فيها بالإشارة؛ لأنه ﷺ ردّ على ابن مسعود في الصلاة بالإشارة، وبعدها باللفظ، ففي رواية أبي داود من طريق عاصم، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، قال: كنا نسلم في الصلاة،. . . الحديث، وفي آخره: «فردَّ عليّ السلام».
8 – (ومنها): بيان أن الواجب في الصلاة اشتغال المصلي بقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، ولا يشتغل بما ينافيها، من السلام على الناس، وردّ سلامهم، وتشميت العاطس، ونحو ذلك. [البحر المحيط الثجاج، (12/ 258)].
9 – (ومنها): حرص الصحابة على التعلم الدقيق لأفعال النبي ﷺ والاقتداء به.
10 – (ومنها): بيان مرونة الإسلام في التعامل مع المواقف المختلفة.
11 – (ومنها): استحباب زيارة المساجد التي لها فضل خاص مثل مسجد قباء.
12 – (ومنها): “وجوبُ رد السلام؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: ٨٦]، والإشارة من المصلِّي هي أحسنُ ما يَقْدِرُ عليه في رد السلام.
13 – (ومنها): استحبابُ زيارة مسجد قباء، والصلاةِ فيه لِمَنْ في المدينة، فهو المسجد الذي قال تعالى فيه: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: ١٠٨].
14 – (ومنها): حِرْصُ ابن عمر رضي الله عنهما على سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وتتَبُّعِ آثاره، فما فاته من سنته يسألُ عنه من حضره؛ كبلالٍ، وأختِهِ، حفصة، وغيرهما؛ ولذا فإنَّه رضي الله عنه جمع بين الرواية والدراية؛ فهو قدوة حسنة لشباب المسلمين في تلمُّسِ العلمَ النافع”. [توضيح الأحكام من بلوغ المرام].