[1ج/ رقم (505)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي
و أحمد بن علي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (505)]:
مسند صفوان بن عَسَّالٍ رضي الله عنه
قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج ٩ ص ٥١٧): حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: «أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ أَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا زِرُّ؟ فَقُلْتُ: ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ،
فَقُلْتُ: إِنَّهُ حَكَّ فِي صَدْرِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَكُنْتَ امْرَأً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَجِئْتُ أَسْأَلُكَ هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ. كَانَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَوْ مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ، فَقُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ فِي الْهَوَى شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ.
كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى نَحْوٍ مِنْ صَوْتِهِ: هَاؤُمُ. وَقُلْنَا لَهُ: وَيْحَكَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَغْضُضُ، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: الْمَرْءُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.
فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى ذَكَرَ بَابًا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ مَسِيرَةُ عَرْضِهِ، أَوْ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي عَرْضِهِ أَرْبَعِينَ، أَوْ سَبْعِينَ عَامًا. قَالَ سُفْيَانُ: قِبَلَ الشَّامِ خَلَقَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مَفْتُوحًا – يَعْنِي لِلتَّوْبَةِ – لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ.
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قال أبو عبد الرحمن: هو حديث حسنٌ.
الحديث أخرج النسائي (ج ١ ص ٨٣) ما يتعلق بالمسح بالخفين.
وابن ماجه (ج ٢ ص ١٣٥٣) ما يتعلق بالتوبة.
* وقال الإمام الترمذي رحمه الله (ج ١ ص ٣١٧): حدثنا هناد حدثنا أبو الأحوص عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث حسنٌ.
الحديث أخرجه النسائي (ج ١ ص ٩٨)، وأخرجه الترمذي مطولًا وقد كتبناه، وأخرجه ابن ماجه (ج ١ ص ١٦١).
* وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ٢٤١): حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي، فقال: ما جاء بك فقلت ابتغاء العلم، فقال لقد بلغني أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يفعل … – فذكر الحديث -. فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «المرء مع من أحب». قال فما برح يحدثني حتى حدثني أن الله عز وجل جعل بالمغرب بابًا مسيرة عرضه سبعون عامًا للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله وذلك قول الله عز وجل: ﴿يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها﴾ (١).
هذا حديث حسنٌ.
* وقال الترمذي رحمه الله (ج ٧ ص ٦٢): حدثنا محمود بن غيلان أخبرنا يحيى بن آدم أخبرنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال قال: جاء أعرابي جهوري الصوت، فقال: يا محمد الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «المرء مع من أحب».
هذا حديث صحيح.
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي أخبرنا حماد بن زيد عن عاصم عن زر عن صفوان بن عسال عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم … نحو حديث محمود.
قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث حسنٌ.
* وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ٢٣٩): حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال: غدوت على صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك قلت ابتغاء العلم. قال: ألا أبشرك ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب …» فذكر الحديث.
* وقال (ص ٢٤٠): حدثنا يونس حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن عاصم عن زر عن صفوان بن عسال: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما طلب».
هذا حديث حسنٌ.
* وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج ٤ ص ٢٣٩): حدثنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فسألته عن المسح على الخفين، فقال: كنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم.
وجاء أعرابي جهوري الصوت، فقال: يا محمد، الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «المرء مع من أحب».
هذا حديث حسنٌ.
—————–
(١) سورة الأنعام، الآية: ١٥٨.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث الحافظ أبو عيسى الترمذي في السنن، ٤٥ – أبواب الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار، وما ذكر من رحمة الله بعباده، (٣٥٣٥).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
١ – كتاب العلم، ١ – فضل أهل العلم، (٥).
٣ – كتاب الطهارة، ٤٩ – التوقيت في المسح، (٧٧٣).
٣٢ – كتاب الأدب، ١٦٠ – التوبة، (٣٨٣٧).
٣٣ – كتاب التفسير، سورة الزخرف، ٣١٦ – قوله تعالى: ﴿الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين﴾ [سورة الزخرف، الآية: ٦٧].
وبوب على ملحق الرويات في مواضع أخرى:
بوب على الرواية الأولى للإمام أحمد ( (ج ٤ ص ٢٤١): حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال: ..) الحديث. جعله في مواضع:
٢ – كتاب الإيمان، ٤٠ – الإيمان بطلوع الشمس من مغربها، (٥٤٣).
و٣٢ – كتاب الأدب، ٥٤ – رسول الرجل إلى الرجل إذنه، (٣٥٦٨).
و٣٣ – كتاب التفسير، سورة الأنعام، ١٥٦ – قوله تعالى: ﴿يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها﴾، (٤٠٦٥).
وقال عند رواية: ( (ج ٤ ص ٢٣٩): حدثنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال: … ) الحديث.
١٩ – كتاب اللباس، ٢٢ – لبس النعال والخفاف، (٢٨٢٠).
وقال عن (ج ٤ ص ٢٣٩): حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش … ). الحديث.
(٣٣ – كتاب التفسير، سورة فاطر،٢٩١ – قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾، (٤٢٦٢). ).
بوب عليه ابن حبان
ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِنَّمَا أُبِيحَ عَنِ الأَحْدَاثِ دُونَ الْجَنَابَةِ.
صحيح ابن حبان: التقاسيم والأنواع ٦/٥٦٨
والثاني: شرح وبيان الحديث
“كان التَّابعونَ رَضيَ اللهُ عنهم يَحرِصونَ كُلَّ الحِرْصِ على تَعلُّمِ أمورِ الدِّينِ وسُنَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم، فكانوا يأتونهم فيَسألونَهم ويَسْتفتونَهم فيُفتونَهم ويُعلِّمونَهم.
وفي هذا الحديثِ يقولُ التَّابِعيُّ الجليلُ زِرُّ بنُ حُبيشٍ: “أَتيتُ صَفوانَ بنَ عسَّالٍ المُراديَّ، أَسْألُهُ عَنِ المَسْحِ على الخُفَّينِ”، أي: ذَهْبتُ إلى الصحابيِّ الجليلِ صَفوانَ بنِ عسَّالٍ لكي أَسْألَه عن حُكْمِ المَسْحِ على الخُفَّينِ …. [الحديثية].
والثالث: ملحقات:
لفهم الحديث بصورة واضحة، يمكن ضبط محاوره الرئيسية في النقاط التالية:
المطلب الأول: الاهتمام بطلب العلم:
ويمكن إجمال المسائل التي توضح هذا المطلب، كالتالي:
(المسألة الأولى): الشباب والنية الصالحة:
“هكذا طالب العلم الصالح، يؤسس نية صالحة أنه يعمل بعد تخرجه وإدراكه العلم في توجيه الناس إلى الخير؛ في أمرهم بالمعروف، . [دروس للشيخ عبد العزيز بن باز ١٦/٦ ، ابن باز (ت ١٤٢٠)، لقاء الخير، نصائح وتوجيهات للشباب، الشباب والنية الصالحة].
(المسألة الثانية):
قد سئلت اللجنة الدائمة: هل يجوز الدراسة الدينية من أجل الشهادة ؟
فأجابت: لا بأس أن يدرس لأخذ الشهادة ، وعليه أن يجاهد نفسه في إصلاح النية حتى تكون الدراسة لله وحده ، وأن يكون أخذ الشهادة ليستعين بها على طاعة الله ورسوله ، وخدمة المسلمين”. انتهى من “فتاوى اللجنة الدائمة” (12/103).
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: يتحرج بعض طلبة العلم الشرعي عند قصدهم العلم والشهادة فكيف يتخلص طالب العلم من هذا الحرج ؟
فأجاب : ” يجاب على ذلك بأمور:
أحدها : أن لا يقصدوا بذلك الشهادة لذاتها ، بل يتخذون هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق ؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات ، والناس غالبا لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة وبذلك تكون النية سليمة .
الثاني : أن من أراد العلم قد لا يجده إلا في هذه الكليات فيدخل فيها بنية طلب العلم ولا يؤثر عليه ما يحصل له من الشهادة فيما بعد .
الثالث : أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حسنى الدنيا ، وحسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك ؛ لأن الله يقول : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) الطلاق/2 -3 ، وهذا ترغيب في التقوي بأمر دنيوي .
لكنه بإرادة هذا الأمر المادي نقص إخلاصه فصار معه نوع من الشرك وصارت منزلته دون منزلة من أراد الآخرة إرادة محضة .
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية ؛ فمثلا يقولون في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب ، وفي الصيام فائدة لإزالة الفضلات وترتيب الوجبات ، والمفروض ألا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل ؛ لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة ، ولذلك بين الله تعالى في كتابه حكمة الصوم – مثلا أنه سبب للتقوى ، فالفوائد الدينية هي الأصل ، والدنيوية ثانوية ، وعندما نتكلم عند عامة الناس فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية ، وعندما نتكلم عند ممن لا يقتنع إلا بشيء مادي فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ولكل مقام مقال ” انتهى من كتاب “العلم” للشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
(المسألة الثالثة): فضل طلب العلم الشرعي على الأعمال الصالحة الأخرى:
” لا شك أن طلب العلم الشرعي من أفضل الأعمال الصالحة، بل هو معادلٌ للجهاد في سبيل الله، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة:١٢٢] فبين الله عزوجل أن المؤمنين لا يمكن أن ينفروا جميعًا للجهاد في سبيل الله؛ لأن ذلك يؤدي إلى تعطل المنافع الأخرى التي لا بد للإسلام من القيام بها، وبهذا نعرف أن الجهاد لا يمكن أن يكون فرض عين على كل واحدٍ من المسلمين، كما ادعاه بعض المعاصرين الذين يقولون: إن الجهاد فرض عين على كل مسلم، وهذا خطأ مخالفٌ للقرآن؛ لأن الله قال: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة:١٢٢] أي: لا يمكن هذا، ثم أرشد أن ينفر بعضهم ويقعد بعضهم ليتفقه القاعدون في دين الله وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لكن الجهاد يكون فرض عين في مسائل معينة خاصة.
فطلب العلم الشرعي لا شك أنه معادل للجهاد في سبيل الله.
واختلف العلماء أيهما أفضل: العلم أو الجهاد؟ ولا شك أن منفعة العلم أعم من منفعة الجهاد؛ ….
أيهما أفضل؟ يختلف هذا باختلاف الناس، فبعض الناس نقول له: الجهاد في حقك أفضل، وبعض الناس نقول له: العلم في حقك أفضل، حسب ما يقتضيه الحال”. قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. [لقاء الباب المفتوح ١٦٤/١ — ابن عثيمين (ت ١٤٢١)].
[انظر: ما يتعلق بأخذ العلم وأنواع العلم وقبضه في فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند (473)].
المطلب الثاني: أحكام المسح على الخفين:
ويمكن إجمال المسائل التي توضح هذا المطلب، كالتالي:
(المسألة الأولى): تعريف الخف:
الخف لغة: ما يلبس في الرجل من جلد رقيق، جمعه خفاف.
وشرعًا: هو الساتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه.
والمقصود بالجوارب: ما يلبس على الرجل من قطن ونحوه، وهو ما يعرف بالشراب. [الشيخ ابن عثيمين].
(المسألة الثانية): أجمع مَن يُعْتَدّ به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والخضر:
قال النوويّ رحمه اللهُ في «شرحه»: أجمع مَن يُعْتَدّ به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والخضر، سواء كان لحاجة أو لغيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها، والزَّمِنِ الذي لا يمشي، وإنما أنكرته الشيعة، والخوارج، ولا يُعْتَدّ بخلافهم.
وقد رُوِيَ عن مالك رحمه الله روايات فيه، والمشهور من مذهبه كمذهب الجماهير.
وقد رَوى المسح على الخفين خلائق لا يُحْصَون من الصحابة، قال الحسن البصريّ رحمه اللهُ: حَدَّثني سبعون من أصحاب رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ كان يمسح على الخفين. انتهى كلام النوويّ رحمه اللهُ. [«شرح النوويّ» ٣/ ١٦٤].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: قال في «الفتح»: وقد صرّح جمع من الحفّاظ بأن المسح على الخفّين متواتر، وجمع بعضهم رواته، فجازوا الثمانين، منهم العشرة، وقال الإمام أحمد: فيه أربعون حديثًا عن الصحابة مرفوعةٌ، وقال ابن أبي حاتم: فيه عن أحد وأربعين.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله في «الاستذكار»: روى عن النبيّ ﷺ المسح على الخفّين نحو أربعين من الصحابة، وذكر أبو القاسم ابن منده أسماء من رواه في «تذكرته»، فكانوا ثمانين صحابيًّا، وذكر الترمذيّ، والبيهقيّ في «سننهما» منهم جماعةً، قال ابن عبد البرّ: وما رُوي عن عائشة، وابن عبّاس، وأبي هريرة في إنكار المسح لا يَثْبُت.
(المسألة الثالثة): في كيفية المسح:
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: “واختلف الفقهاء في كيفية المسح على الخفين”.
وقال الإتيوبي عفا الله عنه: عندي أرجح المذاهب ما ذهب إليه الحنفيّة، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وجماعة أنه يمسح على ظاهر الخفّ؛ لصحّة حديث عليّ – رضي الله عنه – بذلك.
وقال ابن المنذر رحمه الله: وبهذا – يعني القول بالمسح على ظاهر الخف – نقول، ولا أعلم أحدًا يرى أن مسح أسفل الخفّ وحده يجزي من المسح، وكذلك لا أعلم أحدًا أوجب الإعادة على من اقتصر على مسح أعلى الخفّ. انتهى. [«الأوسط» ١/ ٤٥٤]، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): أن يكون المسح في الطهارة الصغرى دون الكبرى.
هذا الشرط الأول من شروط المسح على الخفين: أن يكون المسح في الطهارة الصغرى دون الكبرى.
قال ابن قدامة: ولا يجزئ المسح في جنابة ولا غسل واجب ولا مستحب لا نعلم في هذا خلافًا.
وقال الحافظ ابن حجر: المسح على الخفين خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه بإجماع.
قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع (1/ 241 – 242):
“فِي حَدَثٍ أَصْغَرَ، …………
قوله: «في حَدَثٍ أصغر»، الحَدَث: وصفٌ قائمٌ بالبَدَن يمنع من الصَّلاة ونحوها مما تُشترط له الطَّهارة.
وهو قسمان: ….
الأول: أكبر وهو ما أوجب الغسل.
الثاني: أصغر وهو ما أوجب الوُضُوء.
فالعِمامةُ، والخُفُّ، والخِمارُ، إِنما تمسحُ في الحَدَث الأصغر دون الأكبر، والدَّليل على ذلك حديث صفوان بن عَسَّال …؛ لأنَّ الحدث الأكبر ليس فيه شيء ممسوح، لا أصلي ولا فرعي، إلا الجبيرة كما يأتي.
[تنبيه]:
تَبيَّنَ مما سبق أن لهذه الممسوحات الثلاثة: الخُفّ والعِمامة والخِمار شروطًا تتفق فيها؛ وشروطًا تختصُّ بكل واحد. فالشُّروط المتفقة هي:
١ – أن تكون في الحدث الأصغر.
٢ – أن يكون الملبوس طاهرًا.
٣ – أن يكون مباحًا.
٤ – أن يكون لبسها على طهارة.
٥ – أن يكون المسح في المدَّة المحددة.
هذا ما ذكره المؤلِّفُ وقد عرفت الخلاف في بعضها.
وأما الشُّروط المختلفة فالخفُّ يُشتَرطُ أن يكون ساترًا للمفروض، ولا يُشتَرَطُ ذلك في العِمَامة والخِمَار، والعِمَامة يُشترَطُ أن تكونَ على رَجُلٍ، والخِمَار يُشترَط أن يكون على أنثى، والخُفُّ يجوزُ المسح عليه للذُّكور والإِناث”. انتهى.
(المسألة الخامسة): أن تكون في المدة المحددة شرعًا.
هذا الشرط الثاني من شروط المسح على الخفين:
وهي: أن تكون في المدة المحددة شرعًا: وهي ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم.
وقد اختلفوا في الوقت الذي يَحتَسِب به مَن مَسَح على خفيه على أقوال:
[الأول]: قالت طائفة: يَحتسب به مِن وقت مسحه على خفيه تمامَ يوم وليلة للمقيم، وإلى تمام ثلاثة أيام ولياليهن من وقت مسحه في السفر؛ وبهذا قال الإمام أحمد بن حنبل.
ومن حجة من قال هذا القول ظاهر قول رسول الله ﷺ: «يمسح المسافر على خفيه ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يومًا وليلةً»، فظاهر هذا الحديث يدلّ على أن الوقت في ذلك وقت المسح، لا وقت الحدث، ثم ليس للحَدَث ذكر في شيء من الأخبار، فلا يجوز أن يُعْدَل عن ظاهر قول رسول الله ﷺ إلى غير قوله إلا بخبر عن الرسول، أو إجماع يدلّ على خصوص.
قال ابن المنذر رحمه الله: ومما يزيد ذلك القول وضوحًا وبيانًا قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في المسح على الخفين: يمسح إلى الساعة التي توضأ فيها، ولا شك أن عمر – رضي الله عنه – أعلم بمعنى قول رسول الله ﷺ ممن بعده، وهو أحد مَن رَوى عن النبيّ ﷺ المسح على الخفين، وموضعه من الدين موضعه، وقد قال النبيّ ﷺ: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين بعدي»، وقال أيضًا: «اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر».
[الثاني]: أن وقت المسح من الحدث إلى الحدث، وهذا قول سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي.
[الثالث]: أن الماسح على خفيه يستتم بالمسح خمس صلوات، لا يمسح أكثر من ذلك، رُوي هذا القول عن الشعبيّ، وبه قال إسحاق، وأبو ثور، وسليمان بن داد.
[الرابع]: قول ربيعة ومالك ومن تبعهما من أهل المدينة، أنه لا وقت للمسح، بل يمسح كما شاء.
قال ابن المنذر رحمه الله: وتفسير قول مَن قال: «يمسح من الحدث إلى الحدث»: أن يَلْبَس الرجل خفيه على طهارة، ثم يُحدث عند زوال الشمس، ولا يمسح على خفيه إلا من آخر وقت الظهر، فله أن يمسح على خفيه إلى أن تزول الشمس من غد، وإذا زالت الشمس من غد وجب خَلْعُ الخف، ولم يكن له أن يمسح إذا كان مقيمًا أكثر من ذلك.
ومن حجة من قال هذا القول أن المسح رخصة، فلما أحدث هذا، فأبيح له المسح، ولم يمسح، وترك ما أبيح له إلى أن جاء الوقت الذي أحدث فيه، فقد تم الوقت الذي أبيح له فيه المسح، ووجب خلع الخف.
وفي القول الثاني له أن يمسح إلى الوقت الذي مسح، وهو آخر وقت الظهر على ظاهر الحديث.
وقال بعض من يقول بالقول الثالث: لَمّا اختلف أهل العلم في هذا الباب، نظرنا إلى أقل ما قيل، وهو أن يصلي بالمسح خمس صلوات، فقلنا به، وتركنا ما زاد على ذلك؛ لِما اختلفوا؛ لأن الرُّخَص لا يُستعمل منها إلا أقلُّ ما قيل، وإذا اختلفوا في أكثر من ذلك وجب الرجوع إلى الأصل، وهو غسل الرجلين. انتهى [«الأوسط» ١/ ٤٤٢ – ٤٤٥].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد اتَّضح مما سبق أن أرجح الأقوال هو القول الأول، وهو أنه يبدأ من وقت المسح؛ لموافقته لظاهر الحديث، كما سبق بيانه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند [1ج/ رقم (317)].
المسألة السادسة: ابتداء مدة المسح:
وتبتدئ مدة المسح من الحدث بعد اللبس، كمن توضأ لصلاة الفجر، ولبس الخفين، وبعد طلوع الشمس أحدث، ولم يتوضأ، ثم توضأ قبل صلاة الظهر، فابتداء المدة من طلوع الشمس وقت الحدث. وقال بعض العلماء: ابتداؤها من حيث توضأ قبل صلاة الظهر، أي: من المسح بعد الحدث. ( الفقه الميسر)
قال النووي رحمه الله: ” وقال الأوزاعي وأبو ثور: ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث، وهو رواية عن أحمد وداود، وهو المختار الراجح دليلا، واختاره ابن المنذر، وحُكِيَ نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ” انتهى من المجموع” (1/512).
قال ابن باز:” الصواب أنه يبدأ من المسح بعد الحدث، إذا لبسته على طهارة، ثم أحدثت ببول، أو ريح، أو غيرهما، ثم توضأت أول وضوء هذا هو المبدأ، فإذا أحدثت مثلًا: بعد الظهر، ثم توضأت للعصر؛ يكون وضوء العصر هو أول شيء، فإذا جاء العصر الثاني تخلع.
(المسألة السادسة): انتهاء مدة المسح، هل ينقض الوضوء ؟
للعلماء في ذلك أقوال أشهرها قولان في مذهب الشافعي:
الأول: يجب استئناف الوضوء.
الثاني: يكفيه غسل القدمين.
والثالث: لا شيء عليه، بل طهارته صحيحة يصلي بها ما لم يحدث.
قال النووي رحمه الله. قلت: وهذا القول الثالث أقواها، وهو الذي اختاره النووي خلافاً لمذهبه أيضاً فقال رحمه الله (1/ 527): (وهذا المذهب حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وقتادة وسليمان بن حرب، واختاره ابن المنذر، وهو المختار الأقوى، وحكاه أصحابنا عن داود).
قلت: وحكاه الشعراني في (الميزان) (1/ 150) عن الإمام مالك وحكى النووي عنه غيره فليحقق.
وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية كما تراه في كلامه السابق في المسألة الثالثة (ص92) تبعاً لابن حزم، وذكر هذا في القائلين به إبراهيم النخعي وابن أبي ليلى، ثم قال (2/ 94): (وهذا هو القول الذي لا يجوز غيره، لأنه ليس في شيء من الأخبار أن الطهارة تنتقض عن أعضاء الوضوء ولا عن بعضها بانقضاء وقت المسح، وإنما نهى عليه السلام عن أن يمسح أحد أكثر من ثلاث للمسافر أو يوم وليلة للمقيم. فمن قال غير هذا فقد أقحم في الخبر ما ليس فيه، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. فمن فعل ذلك واهماً فلا شيء عليه، ومن فعل ذلك عامداً بعد قيام الحجة عليه فقد أتى كبيرة من الكبائر، والطهارة لا ينقضها إلا الحدث، وهذا قد صحت طهارته، ولم يحدث فهو طاهر، والطاهر يصلي ما لم يحدث أو ما لم يأت نص جلي في أن طهارته انتقضت وإن لم يحدث.
وهذا الذي انقضى وقت مسحه لم يحدث ولا جاء نص في أن طهارته انتقضت لا عن بعض أعضائه ولا عن جميعها، فهو طاهر يصلي حتى يحدث، فيخلع خفيه حينئذٍ وما على قدميه ويتوضأ ثم يستأنف المسح توقيتاً آخر، وهكذا أبداً. [رياح المسك العطرة من رياض صحيح البخاري المزهرة (206)].
(المسألة السابعة): الفتاوى
قال الشيخ ابن باز رحمة الله عليه: “يشرع المسح على الخفين: إذا كانا ساترين للقدمين والكعبين، طاهرين ومن جلد أي حيوان كان من الحيوانات الطاهرة؛ كالإبل والبقر والغنم ونحوها، إذا لبسهما على طهارة.
ويجوز المسح على الجوربين، وهما: ما ينسج لستر القدمين من قطن أو صوف أو غيرهما، كالخفين في أصح قولي العلماء؛ لأنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه مسح على الجوربين والنعلين، وثبت ذلك عن جماعة من أصحاب النبي ﷺ ورضي الله عنهم، ولأنهما في معنى الخفين في حصول الارتفاق بهما، وذلك في مدة المسح، وهي: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، تبدأ من المسح بعد الحدث في أصح قولي العلماء؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، إذا لبسهما بعد كمال الطهارة، وذلك في الطهارة الصغرى.
أما في الطهارة الكبرى فلا يمسح عليهما، بل يجب خلعهما وغسل القدمين؛ لما ثبت عن صفوان بن عسال رضي الله عنه، قال: كان رسول الله ﷺ يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم أخرجه النسائي، والترمذي واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه، كما قاله الحافظ في البلوغ.
والطهارة الكبرى: هي الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس، أما الطهارة الصغرى: فهي الطهارة من الحدث الأصغر؛ كالبول، والريح، وغيرهما من نواقض الوضوء.
والله ولي التوفيق”. [شروط المسح على الخفين، مجموع الفتاوى للإمام ابن باز رحمه الله].
[تنبيه]:
انظر: أحكام لبس الخفين: رياح المسك العطرة من رياض صحيح البخاري المزهرة (206)، والتعليق على الصحيح المسند (1033).
ومر قريبا ما يتعلق بأحكام الخفاف والنعال في فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند [1ج/ رقم (317)].
المطلب الثالث: التوبة:
ويمكن إجمال المسائل التي توضح هذا المطلب، كالتالي:
(المسألة الأولى): في معنى التوبة:
قال النوويّ – رَحِمَهُ اللهُ -: أصل التوبة في اللغة: الرجوع، يقال: تاب، وثاب – بالمثلثة – وآب، بمعنى رجع، والمراد بالتوبة هنا: الرجوع عن الذَّنْب، وقد سبق في «كتاب الإيمان» أن لها ثلاثة أركان:
الإقلاع، والندم على فعل تلك المعصية، والعزم على أنّ لا يعود إليها أبدًا، فإن كانت المعصية لحقّ آدميّ، فلها ركن رابع، وهو التحلّل من صاحب ذلك الحقّ، وأصلها الندم، وهو ركنها الأعظم،
واتفقوا على أنّ التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة، أو كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام، وقواعده المتأكدة،
ووجوبها عند أهل السُّنَّة بالشرع، وعند المعتزلة بالعقل، ولا يجب على الله قبولها إذا وُجدت بشروطها عقلًا عند أهل السُّنَّة، لكنه يقبلها كرمًا وفضلًا،
وعرفنا قبولها بالشرع، والإجماع، خلافًا لهم، وإذا تاب من ذنب، ثم ذكره،
هل يجب تجديد الندم؟
فيه خلاف لأصحابنا، وغيرهم، من أهل السُّنَّة، قال ابن الأنباريّ: يجب، وقال إمام الحرمين: لا يجب، وتصح التوبة من ذنب، وإن كان مصرًّا على ذنب آخر، وإذا تاب توبة صحيحة بشروطها، ثم عاود ذلك الذَّنْب كُتب عليه ذلك الذَّنْب الثاني، ولم تبطل توبته، هذا مذهب أهل السُّنَّة في المسألتين، وخالفت المعتزلة فيهما، قال أصحابنا: ولو تكررت التوبة، ومعاودة الذَّنْب صحت، ثم توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها، وما سواها من أنواع التوبة، هل قبولها مقطوع به، أم مظنون فيه؟ خلاف لأهل السُّنَّة، واختار إمام الحرمين أنه مظنون، وهو الأصح، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ – رَحِمَهُ اللهُ – [«شرح النوويّ» ١٧/ ٥٩ – ٦٠].
وقال القرطبيّ – رَحِمَهُ اللهُ – في [«المفهم» ٧/ ٦٩ – ٧١]: اختلفت عبارات المشايخ فيها، فقائل يقول: إنها الندم، وآخر يقول: إنها العزم على أنّ لا يعود، وآخر يقول: الإقلاع عن الذَّنْب، ومنهم من يَجمع بين الأمور الثلاثة، وهو أكملها، غير أنه مع ما فيه غير مانع، ولا جامع.
(المسألة الثانية): شروط التوبة:
قال ابن عثيمين: في تفسير سورة النساء:
قال الله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما (18)} [النساء: 18]
من فوائد الآية الكريمة:
1 – أن التوبة تنقطع باحتضار المرء؛ أي: بحضور الموت، لقوله: {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن}.
2 – أن المحتضر لا عبرة بقوله؛ لأنه غير كامل الشروط.
3 – أنه يشترط لصحة التوبة أن تكون في الزمن الذي تقبل فيه التوبة، وذلك قبل حضور الموت، وحينئذ يحسن بنا أن نأتي على شروط التوبة، وقد تتبعناها فوجدناها خمسة شروط:
الشرط الأول: الإخلاص لله عز وجل، بأن لا يكون الحامل له على التوبة إلا محبة الله والقرب منه، والخوف من عذابه، لا لينال شيئا من الدنيا، أو يدفع عنه مذمة في الدنيا، إنما يحمله على التوبة الإخلاص لله عز وجل.
الشرط الثاني: الندم على ما فعل من الذنب، فإن تاب بلا ندم؛ فتوبته: إما فاسدة؛ لعدم تمام شروطها، أو ناقصة جدا
الشرط الثالث: الإقلاع عن الذنب، فإن لم يقلع فتوبته كاذبة، وهو إلى الإستهزاء بالله أقرب منه إلى تعظيم الله، إذ كيف يقول: إنه تائب من شرب الخمر، وهو مدمن عليه؟ ! وكيف يقول: إنه تائب من الربا وهو مصر عليه؟ ! فإن هذا استهزاء بالله عز وجل …
الشرط الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل إلى ما تاب منه…
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت تقبل من التائب، فان كانت في وقت لا تقبل منه – كما لو حضر الأجل، أو طلعت الشمس من مغربها – فإن التوبة لا تقبل، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا تنقطع التوبة حتى تنقطع الهجرة، ولا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها”، فإذا تاب الإنسان عند طلوع الشمس من مغربها، أو عند حلول الأجل؛ لم تقبل منه… [«تفسير العثيمين: النساء» (1/ 141)].
انظر: ٤٩ – كتاب: التَّوْبَةِ. فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم (2675).
المطلب الرابع: المرء مع من أحب:
ويمكن إجمال المسائل التي توضح هذا المطلب، كالتالي:
(المسألة الأولى): أهمية اختيار الصحبة الصالحة
جاء في هذا الحديث: [قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: الْمَرْءُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”].
والحديث يُطمئن قلوب المؤمنين الذين يحبون النبي ﷺ والصحابة والتابعين، وإن لم يصلوا إلى مرتبتهم في العمل.
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله على السنة: “أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) يعني: أن الإنسان إذا صار خليلًا ومصاحبًا لإنسان فإنه يكون مثله في أخلاقه وفي صفاته وفي عبادته….
واختيار الأخلاء والأصدقاء المستقيمين هو الذي ينفع؛ ولهذا يقول الله تعالى: ﴿الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:٦٧]، انتهى. [شرح سنن أبي داود للعباد]. باختصار
(المسألة الثانية): صفات الصديق أو الأخ المرجو في هذا الزمان:
إِذا كُنتَ في كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه فَعِش واحِداً أَو صِل أَخاكَ فَإِنَّهُ مُفارِقُ ذَنبٍ مَرَّةً وَمُجانِبُه.
إِذا أَنتَ لَم تَشرَب مِراراً عَلى القَذى ظَمِئتَ وَأَيُّ الناسِ تَصفو مَشارِبُه
قال ابن حزم الأندلسي – رحمه الله – :
ومن الأسباب المتمناة في الحب: أن يهب الله عز وجلَّ للإنسان صديقاً مخلصاً ، لطيف القول ، بسيط الطَّوْل ، حسَن المأخذ ، دقيق المنفذ ، متمكن البيان ، مرهف اللسان ، جليل الحِلم ، واسع العلم، قليل المخالفة ، عظيم المساعفة ، شديد الاحتمال ، صابراً على الإدلال ، جم الموافقة ، جميل المخالفة ، محمود الخلائق ، مكفوف البوائق ، محتوم المساعدة ، كارهاً للمباعدة ، نبيل الشمائل ، مصروف الغوائل ، غامض المعاني ، عارفاً بالأماني ، طيب الأخلاق ، سري الأعراق ، مكتوم السر ، كثير البر ، صحيح الأمانة ، مأمون الخيانة ، كريم النفس ، صحيح الحدس ، مضمون العون ، كامل الصون ، مشهور الوفاء ، ظاهر الغناء ، ثابت القريحة ، مبذول النصيحة ، مستيقن الوداد ، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد ، صادق اللهجة ، خفيف المهجة ، عفيف الطباع ، رحب الذراع ، واسع الصدر ، متخلقاً بالصبر ، يألف الإمحاض [أي : إخلاص الود] ، ولا يعرف الإعراض ، يستريح إليه ببلائله ، ويشاركه في خلوة فكره ، ويفاوضه في مكتوماته ، وإن فيه للمحب لأعظمَ الراحات .
وأين هذا ؟!
فإن ظَفِرَتْ به يداك: فشدهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك البخيل، وصنه بطارفك وتالدك، فمعه يكمل الأنس، وتنجلي الأحزان، ويقصر الزمان، وتطيب النفس، ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عوناً جميلا، ورأياً حسناً. [طوق الحمامة، ( ص 164 )].
قال ابن الجوزي رحمه الله: كان لنا أصدقاء، وإخوان، أعتد بهم، فرأيت منهم من الجفاء، وترك شروط الصداقة، والأخوَّة: عجائب، فأخذت أعتب.
ثم انتبهت لنفسي، فقلت: وما ينفع العتاب، فإنهم إن صلحوا: فللعتاب، لا للصفاء.
فهممت بمقاطعتهم، ثم تفكرتُ فرأيت الناس بي معارف، وأصدقاء في الظاهر، وإخوة مباطنين، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم.
إنما ينبغي أن تنقلهم من “ديوان الأخوة” إلى “ديوان الصداقة الظاهرة”.
فإن لم يصلحوا لها: نقلتَهم إلى “جملة المعارف”، وعاملتهم معاملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم.
فقد قال يحيى بن معاذ: بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له اذكرني في دعائك.
وجمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم صديق في الظاهر، فأما الأخوَّة والمصافاة: فذاك شيء نُسخ، فلا يُطمع فيه.
وما رأى الإنسان تصفو له أخوَّة من النسب، ولا ولده، ولا زوجته.
فدع الطمع في الصفا، وخذ عن الكل جانباً، وعاملهم معاملة الغرباء.
وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود؛ فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره، وربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك.
وقد قال الفضيل بن عياض: إذا أردت أن تصادق صديقاً: فأغضبه، فإن رأيته كما ينبغي: فصادقه.
وهذا اليوم مخاطرة؛ لأنك إذا أغضبت أحداً: صار عدواً في الحال.
والسبب في نسخ حكم الصفا: أن السلف كان همتهم الآخرة وحدها، فصفت نياتهم في الأخوة، والمخالطة، فكانت دِيناً لا دنيا.
والآن: فقد استولى حب الدنيا على القلوب، فإن رأيت متملقاً في باب الدين: فاخبُرهُ: تَقْلَهُ – أي : إن اختبرته: تبين لك منه ما يبعدك عنه -. [صيد الخاطر، (ص 391 ، 392 )].
قال القرافي: ما كل أحد يستحق أن يعاشر ولايصاحب ولا يسارر.
وقال علقمة: اصحب من إن صحبته زانك، وإن أصابتك خصاصة عانك وإن قلت سدّد مقالك، و إن رأى منك حسنة عدّها، وإن بدت منك ثلمة سدّها، وإن سألته أعطاك، وإذا نزلت بك مهمة واساك، وأدناهم من لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق.
ويقول بعضهم: مجالسة الأضداد ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول، وليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة، ولا كل من يصلح للمؤانسة يؤمن على الأسرار، ولا يؤمن على الأسرار إلا الأمناء فقط.
ويكفي في مشروعية التحري لاختيار الأصدقاء قوله صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)). (رواه أبو داود و غيره)
قال الأوزاعي: الصاحب للصاحب كالرقعة للثوب، إذا لم تكن مثله شانته.
قيل لابن سماك: أيّ الإخوان أحقّ بإبقاء المودة؟ قال: الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملَّك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت منه راعاك، وإن استعضدته عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكفي مودة فعله أكثر من مودة قوله.
وقال بعض العلماء: لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تتعلّم منه شيئا في أمر دينك فينفعك أو رجل تعلمه شيئا في أمر دينه فيقبل منك، والثالث فاهرب منه.
قال علي رضي الله عنه:
إنّ أخاك الصِّدق من كان معك *** ومن يضُرُّ نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزّمان صدعك *** شتّت نفسه ليجمعك
وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرّك، ويستر عيبك، فيكون معك في النوائب، ويُؤثرك بالرّغائب، وينشر حسنتك، ويطوي سيّئتك، فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك.
فصل:
وقد ذكر العلماء فيمن تُؤثر صحبته ومحبته خمس خصال:
أن يكون عاقلا، حسن الخلق، غير فاسق، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا.
1) أما العقل: فهو رأس المال وهو الأصل، فلا خير في صحبة الأحمق.
قال علي رضي الله عنه:
فلا تصحب أخا الجهل *** وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى *** حليما حين آخاه
يُقاس المرء بالمرء *** إذا ما المرء ماشاه
وللشيء على الشيء *** مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب *** دليل حين يلقاه
و العاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه، إما بنفسه وإما إذا فُهِّم.
2) أما حسن الخلق: فلا بدّ منه إذ ربّ عاقل يدرك الأشياء على ماهي عليه، ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بُخل أو جبن أطاع هواه، وخالف ما هو المعلوم عنده، لعجزه عن قهر صفاته، وتقويم أخلاقه، فلا خير في صحبته.
قال أبو حاتم ابن حبان رحمه الله: الواجب على العاقل أن يعلم أنه ليس من السرور شيء يعدل صحبة الإخوان، ولا غم يعدل غم فقدهم، ثم يتوقى جهده مفاسدة من صافاه، ولا يسترسل إليه فيما يشينه، وخير الإخوان من إذا عظمته صانك، ولا يعيب أخاه على الزّلّة، فإنه شريكه في الطبيعة، بل يصفح، وينتكب محاسدة الإخوان، لأن الحسد للصديق من سقم المودة، كما أن الجود بالمودة أعظم البذل، لأنه لا يظهر ودّ صحيح من قلب سقيم.
3) أما الفاسق: فلا فائدة في صحبته، فمن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق بصداقته، بل يتغيّر بتغيّر الأعراض؛
قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه} ( الكهف 28)
وقال تعالى: {فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا}. (النجم 29)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي}. (رواه الترمذي و أبو داود)
قال أبو حاتم رحمه الله في “روضة العقلاء”: “العاقل لا يصاحب الأشرار؛ لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار، تعقب الضغائن، لا يستقيم ودّه، ولا يفي بعهده، وإن من سعادة المرء خصالا أربعا:
أن تكون زوجته موافقة، وولده أبرار، و إخوانه صالحين، وأن يكون رزقه في بلده. وكل جليس لا يستفيد المرء منه خيرا، تكون مجالسة الكلب خيرا من عشرته، ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم، كما أن من يدخل مداخل السوء يتهّم”.
قال بعضهم:
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم *** وتوسّمنّ أمورهم وتفقّد
فإذا ظفرت بذي الأمانة والتُّقى *** فبه اليدين قرير عين فاشدد
4) أما المبتدع: ففي صحبته خطر سراية البدعة وتعدي شؤمها إليه، فالمبتدع مستحق للهجر والمقاطعة، فكيف تؤثر صحبته.
5) أما الحريص على الدنيا: فصحبته سمّ قاتل؛ لأنّ الطّباع مجبولة على التشبّه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرّك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهدّ في الدّنيا، فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا، ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة.
الناس شتىّ إذا ما أنت ذقتهم *** لا يستوون كما لا يستوي الشّجر
هذا له ثمر حلو مذاقته *** وذاك ليس له طعم ولا ثمر
(المسألة الثالثة): إذا أحب أحد أخاه هل يقول له ذلك، وما حكم ذلك ؟
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلَمْتَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَعْلِمْهُ. قَالَ: فَلَحِقَهُ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ. فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ) رواه أبو داود (رقم/5125)، وصححه النووي في رياض الصالحين (183)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود.
وفي بعض روايات الحديث: (أعلمه فإنه أثبت للمودة بينكما) رواه ابن أبي الدنيا في “الإخوان” (69). وهو في الصحيح المسند (54).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “وذلك لما في هذه الكلمة من إلقاء المحبة في قلبه؛ لأن الإنسان إذا علم أنك تحبه أحبك، مع أن القلوب لها تعارف وتآلف وإن لم تنطق الألسن، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))، لكن إذا قال الإنسان بلسانه فإن هذا يزيده محبة في القلب، فتقول: إني أحبك في الله” انتهى. [شرح رياض الصالحين].
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ)) رواه الترمذي (2392). وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (417).
والمقصود من هذا: الاستحباب، وليس الإلزام والوجوب.
قال المناوي رحمه الله: “((فليخبره أنه يحبه لله)) فليخبره بمحبته له ندب، بأن يقول له: إني أحبك لله. أي: لا لغيره من إحسان أو غيره، فإنه أبقى للألفة، وأثبت للمودة، وبه يتزايد الحب ويتضاعف، وتجتمع الكلمة، وينتظم الشمل بين المسلمين، وتزول المفاسد والضغائن.
وهذا من محاسن الشريعة”. انتهى. [فيض القدير، (1/319)].
[من المسألة السابعة والثامنة من: الفوائد المنتقاة في شرح مسلم (6713)].
[انظر]:
الفوائد المنتقاة في شرح مسلم (6713). للاستزادة في مسائل المحبة في الله تعالى، وفيه: بيان لحقوق الأخوة ومستلزمات الصحبة والمحبة.
والرابع: فوائد الحديث:
1 – (منها): فَضلُ طلبِ العِلمِ، وعِظَمُ منزلةِ طالبِ العِلمِ، واحتفاءُ الملائكةِ بطالبِ العلمِ.
“أن طالب العلم يحتاج فعلًا إلى أن يُشجَّع، وأن يبين له فضلُ العلم ومكانته، وأن تذكر له الأحاديث التي في فضله، حتى يزداد حرصًا ومثابرةً وعنايةً بطلب العلم، ولهذا لـمَّا قال زر: جئت ابتغاء العلم، قال له صفوان: ((إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، رضًا بـما يطلب))”.
2 – (منها): بيانُ حِرصِ التابعينَ على طَلبِ العِلمِ مِن الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم.
3 – (منها): جواز مطالبة السائل للعالم عن دليله أهو نص أم استدلال واجتهاده، وعلى العالم ألا يتحرج من ذلك.
4 – (منها): أن كلام النبي عليه الصلاة والسلام يحسم الأمر.
ومعنى ذلك: أنه إن كان قد سمع في ذلك شيئًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهت المسألة، وزال ما في الصدر بـما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و زِر قد حكَّ في صدره المسحُ على الخفين بعد الغائط والبول، وأشكل عليه هذا الأمر، فجاء إلى هذا الصحابي صفوان بن عسَّال الْمُرَادِيّ ، ليسأله عن ذلك، قال له: “كنتَ امرءًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجئت أسألك عن ذلك: هل سمعته يذكر في ذلك شيئًا؟
5 – (منها): الحث على طلب العلم، وسؤال المكلَّف أهل العلم عما أشكل من أمر دينه.
“أن الأشياء التي قد يستشكلها المرء برأيه أو بعقله ونحو ذلك، إذا بلغه الحديث فيها، يجب عليه ألا يتردد، وأن يترك رأيه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال علي بن أبي طالب: “لو كان الدين بالرأي؛ لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره”، فإذا مر على الإنسان مسألة، وحكت في صدره، أو كان يرى فيها شيئًا، عليه إن بلغه فيها الحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يلزمه.
6 – (منها): التأدب مع العلماء والصالحين، وخفض الصوت في مجالس العلم.
7 – (منها): تعليم الجاهل حسن الأدب وقواعد السلوك.
8 – (منها): بيان مشروعيّة المسح على الخفيّن، وهو الذي عليه جماهير أهل العلم، قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث: الحكمُ الجليلُ الذي فَرّق بين أهل السنة وأهل البدع، وهو المسح على الخفين، لا ينكره إلا مخذول، أو مبتدع، خارج عن جماعة المسلمين أهل الفقه والأثر، لا خلاف بينهم في ذلك بالحجاز، والعراق، والشام، وسائر البلدان، إلا قومًا ابتدعوا، فأنكروا المسح على الخفين. انتهى. [«التمهيد» ١١/ ١٣٤]، وكما مر بيان المذاهب، وأدلتها في المسائل – ولله الحمد والمنة -.
9 – (ومنها): أن مسألة المسح على الخفّين صارت شعارًا لأهل السنّة، ولذلك تُذْكَرُ في كتب العقائد؛ لأن إنكارها ردّ للمتواتر، وعُدّ ترك القول به شعارًا لأهل البدع.
قال الخطّابيّ رحمه اللهُ في «معالمه» بعد أن ذكر ما تمسّك به أهل البدع في إنكار المسح من الأدلة الواهية ما نصّه:
والعجب من الروافض تركوا المسح على الخفّين مع تظاهر الأخبار فيه عن النبيّ ﷺ، واستفاضة علمه على لسان الأمة، وتعلّقوا بمثل هذا التأويل من الكتاب، وبمثل هذه الرواية من الحديث، ثم اتّخذوه شعارًا، حتى إن الواحد منهم ربما تَألّى، فقال: برئت من ولاية أمير المؤمنين، ومسحتُ على خفّي إن فعلتُ كذا.
قال: حدّثني إبراهيم بن فراس، حدّثنا أحمد بن عليّ المروزيّ، حدّثنا ابن أبي الجوّال، أن الحسن بن زيد مَقَتَ على كاتب له، فحبسه، وأخذ ماله، فكتّبَ إليه من الحبس:
أشْكُو إلى اللهِ ما لَقِيتُ … أحْبَبْتُ قَوْمًا بِهِمْ بُلِيتُ
لا أشْتِمُ الصّالِحِينَ جَهْرًا … ولا تَشَيَّعْتُ ما بَقِيتُ
أمْسَحُ خُفِّي بِبَطْنِ كَفِّي … ولَوْ عَلى جِيفَةٍ وطِيتُ
قال: فدعا به من الحبس، وردّ عليه ماله، وأكرمه. انتهى [«معالم السنن» للخطابيّ ١/ ٩٤ – ٩٥].
10 – (منها): مدة المسح على الخفين: للمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وللمقيم يوم وليلة.
11 – (منها): مسح الخفين يكون في الحدث الأصغر فقط.
12 – (منها): دلت النصوص على أن المسح عليهما أفضل من نزعهما؛ ففي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
13 – (منها): الرخصة في المسح على الخفين تخفيف على الأمة، خاصة في السفر.
14 – (منها): الحث على التوبة، والترغيب فيها، وبيان مكانتها، وعظيم شأنـها، وأن باب التوبة واسع غاية السعة، وأنـها مقبولة، وأنـها مفتوحة بابها في أي وقت.
وهذا موضع الشاهد من الحديث، قال سفيان وهو ابن عيينة أحد الرواة: “قِبَل الشام، خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، مفتوحًا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربـها”.
وفي رواية للحديث عند الطبراني ثُمَّ سَأَلَهُ أي الأعرابي عَنِ التَّوْبَةِ، فَقَالَ:”لِلتَّوْبَةِ بَابٌ بِالْمَغْرِبِ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، لا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا”
وقد ورد في الحديث أن الشمس إذا طلعت من مغربـها تاب الناس أجمعين، لكن لا تقبل التوبة في هذه الحال؛ لأنـها توبة مشاهدة ومعاينة، وإنـما الذي يقبل توبة الغيب، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ فَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا”.
15 – (منها): فتح باب الأمل والرجاء، والتبشير بالنجاة، واللطف في الموعظة.
16 – (منها): سعة رحمة الله -عز وجل-، وفتحه باب التوبة.
17 – (منها): الحث على الإسراع في التوبة ومحاسبة النفس والرجوع إلى الله تعالى.
18 – (منها): عظم المنزلة التي يتبوؤها الحب في الله، وهو أوثق عرى الإيـمان، كما أخبر بذلك الرسول عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح مسلم، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم :« فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ».
وهذه بشرى عظيمة يفرح بها المسلم أنه إذا أحب قوماً صار معهم في الجنة وإن قصر به عمله.
19 – (منها): أهمية المحبة في الله تعالى، وأن حب الصالحين ينفع صاحبه يوم القيامة.
20 – (منها): أهمية الاقتراب من الصالحين والاقتداء بهم.
21 – (منها): من شأن المحبة أن تجذب المحب إلى طريق من يحب وتحمله على طاعته.
22 – (منها): رحمة النبي ﷺ ولطفه في تعليم الناس وإجابته على أسئلتهم.
23 – (منها): الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حلمه، وحسن خلقه، ومخاطبته الناس على قدر علمهم وعقولهم.