[1ج/ رقم (489)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي.
و أحمد بن علي، ومحمد البلوشي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري وسلطان الحمادي ومحمد فارح ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (489)]:
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (5) ص (251)): (22159) – حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا رَبَاحٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ? فَقَالَ: مَا الْإِثْمُ؟ فَقَالَ: «إِذَا حَكَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ».
قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «إِذَا سَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ، وَسَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ».
هذا حديث صحيحٌ.
وإبراهيم بن خالد هو القرشي الصنعاني المؤذن، ترجمته في «تهذيب التهذيب»، وثَّقه أحمد وابن معين والبزار والدارقطني.
ورباح هو ابن زيد القرشي مولاهم الصنعاني، أثنى عليه الإمام أحمد، وقال أبو حاتم: جليل ثقة، كما في «تهذيب التهذيب».
وقال الإمام أحمد رحمه الله (ص (252)): حدثنا رَوْحٌ، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير به.
وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج (5) ص (255)): حدثنا إسماعيل، أخبرنا هشام الدَّسْتَوائي، عن يحيى بن أبي كثير به.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث الإمام أحمد في مسنده، تتمة مسند الأنصار، حديث أبي أمامة الباهلي الصدي بن عجلان بن عمرو ويقال: ابن وهب الباهلي، عن النبي ?، ((22159)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(2) – كتاب الإيمان، (6) – من هو المؤمن؟ وفيه الرد على المرجئة، ((312)).
وفي: (29) – الرد على المجبرة والشاهد من الأدلة إضافة الأفعال إلى أصحابها، ((361)).
و (32) – كتاب الأدب، (103) – البعد عن الشبهات، ((3671)).
قال الألباني: صحيح – «الصحيحة» ((550)). [صحيح موارد الظمآن، (1/ 131) في 2 – كتاب العلم، (16) – باب ما جاء في البر والإِثم].
وقال محققو المسند – ط: دار الرسالة العالمية – (37/ 468 – 469): “حديث صحيح، رجاله ثقات، وقد سلف الكلام على هذا الإسناد عند الرواية ((22147)).
إبراهيم بن خالد: هو الصنعاني المؤذن، ورباح: هو ابن زيد القرشي الصنعاني، ومعمر: هو ابن راشد الأزدي البصري، وجد زيد بن سلام: هو ممطور الأسود الحبشي أبو سلام.
وأخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» ((20104))، ومن طريقه الطبراني في «الكبير» ((7539))، وفي «الأوسط» ((3017))، والحاكم (1) / (14)، والقضاعي في «مسند الشهاب» ((401))، وأخرجه ابن منده في «الإيمان» ((1089)) من طريق عبد الله بن المبارك، كلاهما (عبد الرزاق وعبد الله بن المبارك) عن معمر بن راشد، بهذا الإسناد. ورواية الحاكم مختصرة بالسؤال عن الإيمان. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ((7540))، وفي «الشاميين» ((233)) من طريق أبي سعيد الشامي، والحاكم (1) / (14) من طريق عليّ بن المبارك، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، به. وروايتهما مختصرة بالسؤال عن الإيمان. وجاء عند الطبراني: «عن سلام بن أبي سلام، عن أبي أُمامة» دون ذكر جده أبي سلام ممطور الحبشي بينهما.
وسيأتي عن روح بن عبادة برقم ((22166))، وعن إسماعيل ابن علية برقم ((22199))، كلاهما عن هشام الدَّسْتُوائي، عن يحيى بن أبى كثير.
وفي باب سؤال الرجل النبي ? عن الإثم، فقال له: إذا حَكَّ في نفسِك شيءٌ فَدَعْه. عن النَّواسِ بن سَمْعان سلف برقم ((17631))، وعن أبي ثَعْلبة الخُشَني سلف برقم ((17742))، وعن وابِصَة بن معبد الأسدي سلف أيضًا برقم ((17999)).
وفي باب سؤاله ? عن الإيمان، فقال: «إذا ساءَتْك سَيِّئَتُك، وسَرَّتك حسنتُك، فأنت مؤمنٌ» عن عمر بن الخطاب سلف في مسنده برقم ((114))، وعن عامر بن أبي ربيعة سلف برقم ((15696))، وعن أبي موسى الأشعري سلف أيضًا برقم ((19565)).
وقوله ?: «حَكَّ» بتشديد الكاف، أي: أَثَّر فيها الانقباض، ولم ينشرح الصدر به، وكان في قلبك منه شيء من الشكِّ، والإيهامِ أنه ذنبٌ، والحاصل أن النفسَ إذا تردَّدت في كونه ذنبًا، فالتقوى تركُه.
وقوله: ما الإيمان؟ أي: ما علامته، وبأيِّ شيء يَعرِفُ المرءُ إيمانَه”. انتهى.
الابواب التي ذكر هذا الحديث
1. الإمام أحمد (في المسند)
– ذكر الحديث في “مسند الشاميين” ضمن الأحاديث المتعلقة بالإيمان وصفات المؤمن.
2. الإمام النسائي (في السنن الكبرى)
– جاء الحديث تحت باب: علامة الإيمان، وهو في سياق بيان أن شعور المسلم بالفرح للطاعة والحزن للمعصية من دلائل صدق إيمانه.
3. الإمام الطبراني (في المعجم الكبير والمعجم الأوسط)
– ورد الحديث تحت باب: ما يدل على كمال الإيمان، في إطار الحديث عن الصفات القلبية للمؤمنين.
4. الإمام الهيثمي (في مجمع الزوائد)
– أدرجه في كتاب: الإيمان والمعرفة، وعلق على سنده
رجاله موثوقون.
5. الشيخ الألباني (في السلسلة الصحيحة وصحيح الترغيب والترهيب)
– أورد الحديث في أبواب:
– علامات الإيمان (السلسلة الصحيحة).
– الترغيب في محاسبة النفس والعمل الصالح (صحيح الترغيب).
6. الإمام ابن حبان (في صحيحه)
– وضع الحديث في كتاب: الإيمان، باب: ذكر إثبات الفرح بالطاعات والحزن بالمعاصي من الإيمان.
7. الإمام البيهقي (في شعب الإيمان)
– ذكره في باب: شعب الإيمان المتعلقة بالقلب، ضمن الحديث عن علامات الإيمان وأثر الأعمال القلبية على السلوك.
8. الإمام ابن أبي الدنيا (في كتاب محاسبة النفس)
– أورده في كتاب: محاسبة النفس، باعتباره حديثًا يدعو إلى مراقبة النفس والحث على الإخلاص.
ملخص الأبواب:
– الإيمان وعلاماته (النسائي، ابن حبان، البيهقي).
– محاسبة النفس ومراقبتها (ابن أبي الدنيا، الألباني).
– صفات المؤمن وكمال الإيمان (أحمد، الطبراني، الهيثمي).
والثاني: شرح وبيان الحديث
“الإيمانُ باللهِ تعالى من أَعْظَمِ القَضَايا التي اهتمَّ بمعرفَتِها أصْحابُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فكانوا يَسْأَلون عنه، وعن عَلَاماتِه”.
(قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (5) ص (251)): (22159) – حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا رَبَاحٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ?، فَقَالَ: مَا الْإِثْمُ؟) قال القاري: “أَيْ مَا عَلَامَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَصٌّ صَرِيحٌ، أَوْ نَقْلٌ صَحِيحٌ، وَاشْتَبَهَ أَمْرُهُ، وَالْتَبَسَ حُكْمُهُ؟ ” [مرقاة المفاتيح، (1/ 118)].
(فَقَالَ: «إِذَا حَكَّ)، أَيْ تَرَدَّدَ، “بتشديد الكاف، أي: أَثَّر فيها الانقباض، ولم ينشرح الصدر به، وكان في قلبك منه شيء من الشكِّ، والإيهامِ أنه ذنبٌ،
والحاصل: أن النفسَ إذا تردَّدت في كونه ذنبًا، فالتقوى تركُه”.
(فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ».
قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟) “أي: ما علامته، وبأيِّ شيء يَعرِفُ المرءُ إيمانَه”،
(قَالَ: «إِذَا سَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ)، أي: إذا أصابتْكَ معصيةٌ، ونَدِمْتَ عليها خوفًا من العُقُوبة؛ لكوْنِها منهيًّا عنها يُخافُ بسَبِبِها العُقُوبة.
قال المناوي: “أي: أحزنك ذنبك؛ لكونك قاطعا بصدق الشارع فيما توعد به من العقاب عليها سميت سيئة؛ لأن بها يسوء حال فاعلها؛ وهي سبب كل سوء {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} “. انتهى.
وقوله: (وَسَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ):
(وَسَرَّتْكَ) أي: أفرحتك وأعجبتك، وأصل السرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه. (حَسَنَتُكَ)، أي: عبادتك؛ إذا صَدَرَتْ منكَ طاعةٌ وفَرِحْتَ بتَوْفيقِ اللهِ لكَ فيها، راجيًا ثوابَها؛ لكوْنِها مَحبوبةً لله وكوْنِها مأمورًا بها ومَرجُوًّا عليها الإثابةُ.
وقال الملا علي القاري: “أَيْ: إِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً وَحَصَلَ لَكَ فَرَحٌ وَمَسَرَّةٌ بِتَوْفِيقِ الطَّاعَةِ، وَإِذَا فَعَلْتَ سَيِّئَةً وَوَقَعَ فِي قَلْبِكَ حُزْنٌ وَمَسَاءَة؛ ٌ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ”. [مرقاة المفاتيح، (1/ 118)].
قوله: (فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ»)، أي: فذَلِكَ عَلَامةُ الإيمانِ، وهذا من إِطْلاق اسْمِ الإيمانِ على مَنْ أتى ببَعْضِ أجزائِهِ.
قال المناوي: “أي: فذلك علامة إيمانك، وليس الإيمان إلا تصديق الشارع فيما جاء به، وفي الحزن على السيئة إشعار بالندم الذي هو أعظم أركان التوبة، فكأنه قال: إذا أتيت بالطاعة المأمور بها، وكلما أذنبت ذنبا تبت منه، كان ذلك علامة حسن الخاتمة، وأنك تموت على الإيمان حقا، وقد أشار إلى ما قررته أولا قول الطيبي، يعني: إذا صدرت منك طاعة وفرحت بها متيقنا بأنك تثاب عليها، وإذا أصابتك معصية وحزنت عليها فذلك علامة الإيمان. [فيض القدير، (1/ 374)، رقم ((677))، بتصرف].
لأن المؤمن “يُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَيَعْتَقِدُ الْمُجَازَاةَ عَلَيْهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُبَالِي بِهِمَا”. قاله الملا علي القاري. [مرقاة المفاتيح، (1/ 118)].
وقال الملا على القاري (ت (1014)): “لِأَنَّ الْمُنَافِقَ حَيْثُ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: (34)] “. [مرقاة المفاتيح، (9/ 3879)].
قال الصنعاني (ت (1182)): “وفيه: أن الإيمان لا ينافيه اقتراف السيئات”. [التنوير شرح الجامع الصغير، (2/ 91)].
وفي رواية لأحمد ((فَدَعْهُ)): المعنى: أنَّ النَّفْسَ إذا تردَّدَتْ في كوْنِهِ ذنبًا، فالتَّقْوى تَرْكُه، أو المعنى: اتْرُكْهُ احتياطًا إذا كان الأحْوطُ تَرْكَهُ، وإذا كان الفِعلُ أَوْلى فاتْرُكْ ضِدَّه؛ لِئَلَّا تَقَعَ في الإثْمِ، وهذه الأَجْوِبةُ من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من الأُسلوبِ الحَكِيمِ، ومُداواةِ النُّفُوسِ المؤمنةِ بالحِكْمَةِ، والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وأنْ يَجْعَلَ عليها رقيبًا من أَنْفُسِها.
قال القاري: “أَيِ: اتْرُكْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: («دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»)، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْبَابِ الْبَوَاطِنِ الصَّافِيَةِ، وَالْقُلُوبِ الزَّاكِيَةِ، أَوِ الْمَعْنَى: اتْرُكْهُ احْتِيَاطًا إِذَا كَانَ الْأَحْوَطُ تَرْكَهُ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ أَوْلَى فَاتْرُكْ ضِدَّهُ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْإِثْمِ، وَقِيلَ: الْجَوَابَانِ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ”. قاله الملا علي القاري [مرقاة المفاتيح، (1/ 118)].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
إن الحديث يبيّن أن الإيمان ليس حالة جامدة، بل هو حالة متحركة تتأثر بالأعمال القلبية والجوارحية
كتاب “الفتاوى الكبرى” (المجلد 6، ص 643):
وقال شيخ الإسلام مجموع الفتاوى” (المجلد 10، ص 88)
“وهذا الحديث صريح في أن المؤمن إذا فعل السيئة يكرهها ويبغضها، وإذا فعل الحسنة يحبها ويرضاها، وهذا من خصائص الإيمان. فإن القلب إذا كان حيًا بالإيمان، كان موجِب ذلك أن يحب الخير ويكره الشر. فإذا أذنب العبد ذنبًا كان ذلك مما يكرهه. فترتب على ذلك الحزن، وإذا عمل خيرًا كان ذلك مما يحبه. فترتب على ذلك السرور، وهذا بخلاف الفاجر الذي لا يبالي بالسيئات، بل لا يكرهها قلبه.”
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وَالْإِلْهَامُ فِي الْقَلْبِ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ
وَالْعِلْمِ وَالظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَالْحُبِّ وَالْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ فَقَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَرْجَحُ وَأَظْهَرُ وَأَصْوَبُ وَقَدْ يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ ? أَنَّهُ قَالَ: «{قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ}» وَالْمُحَدَّثُ الْمُلْهَمُ الْمُخَاطَبُ، وَفِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ ? فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ {: الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ وَسَكَنَ إلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك} «وَهُوَ فِي السُّنَنِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ ? قَالَ:» {الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ} ” وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْإِثْمُ حِزَازُ الْقُلُوبِ. وَ (أَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُورُ الْكَوْنِيَّةُ قَدْ تَنْكَشِفُ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا فَالْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ إلَى كَشْفِهَا أَحْوَجُ لَكِنَّ هَذَا فِي الْغَالِبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَشْفًا بِدَلِيلِ وَقَدْ يَكُونُ
بِدَلِيلِ يَنْقَدِحُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ
عَنْهُ وَهَذَا أَحَدُ مَا فُسِّرَ بِهِ مَعْنَى «الِاسْتِحْسَانِ».
مجموع الفتاوى (10) / (476) — ابن تيمية
وومما وقع لابن تيمية ونحسبه إلهام من الله ولا نزكي على الله أحدا جزمه بالانتصار على التتار لما رأى قرائن تحقق وعد الله بالنصر، من تعاون بين الجيوش الإسلامية ورجوع لله.
ففي مستدرك الفتاوى:
ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا. فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وسمعته يقول ذلك. قال: فلما أكثروا علي قلت: لا تكثروا كتب الله في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو. وكانت فراسته الجريئة في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.
المستدرك على مجموع الفتاوى (1) / (187) — ابن تيمية
قال ابن القيم:
[لا يعمل بالفتوى حتى يطمئن لها قلب المستفتي]
الفائدة السادسة والخمسون: لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله ?: «استفت نفسك، وإن أفتاك الناس وأفتوك»، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولًا، ولا تخلِّصه فتوى المفتي من اللَّه إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي ?: «من قضيت له بشيء من [حق] أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار» والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظنّ المُستفتي أنَّ مجرد فتوى الفقيه تُبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال [في] الباطن، أو لشكِّه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، [أو] لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه [وسكون] النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي سأل ثانيًا وثالثًا، حتى تحصل له الطمأنينة، [فإن لم] يجد، فلا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها والواجب تقوى اللَّه بحسب الاستطاعة.
فإن كان في البلد مفتيان [أحدهما] أعلم من الآخر،
فهل يجوز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل؟ فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان [لأصحاب] الشافعي وأحمد، فمن جوَّز ذلك رأى أنه يقبل قوله إذا كان وحده فوجود من هو أفضل منه لا يمنع [من قبول قوله] كالشاهد، ومن منع استفتاءه قال: المقصود حصول ما يغلب على الظن الإصابة [وغلبة الظن بفتوى] الأعلم أقوى فيتعيَّن)، والحق التفصيل بأن المفضول إن ترجَّح بديانة أو ورع أو تحرٍّ للصواب، وعدم ذلك الفاضل فاستفتاء المفضول جائز إنْ لم يتعين، وإن استويا فاستفتاء الأعلم أولى، واللَّه أعلم.
إعلام الموقعين عن رب العالمين – ت مشهور
(6) / (192) — ابن القيم
قال ابن رجب:
الحديثِ السابع والعشرون
عَنِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالِ:
“الْبِرُّ حُسْنُ الخُلق، وَالإِثمُ مَا حَاكَ في نَفْسكَ، وَكرِهْت أَنْ يَطَّلعَ عَلَيْهِ النَّاسُ”.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* * *
وَعَنْ وَابِصَةَ بن معبَد رضي الله عنه قال: أَتَيتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالإثمِ؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: “اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطمَأَنَّتْ إِليهِ النَّفْسُ، واطمَأَنَّ إليهِ الْقَلْبُ. والإِثْم مَا حَاكَ في النَّفس وَتَرَدَّدَ في الصَّدْر، وَإِن أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ”.
قَالَ الشَّيخ رحمه الله: حَديثٌ حَسَنٌ رُوِّينَاهُ في مُسنَدَيِ الإِمامَينْ: أَحْمَدَ بِنِ حَنْبل، وَالدَّارمِيِّ بإسْنَاد حَسَنَ.
[تخريج الحديث]:
أما حديث النوَّاس بن سمعان فخرجه مسلم من رواية معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نفير عن أبيه عن النوَّاس.
ومعاوية، وعبد الرحمن، وأبوه تفرَّد بتخريج حديثهم مسلم، دون البخاري.
* * *
وأما حديث وابصة فخرجه الإمام أحمد من طريق حَمّاد بن سَلَمهَ، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز، عن وابصة بن معبد قال:
“أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريدُ أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سأَلتهُ عنه فقال لي: “ادْنُ يا وابصةُ! ” فدنوتُ منه حتى مَسَّتْ رُكْبتي ركبتَه؛ فقال: “يا وابصة! أُخبرك ما جئتَ تَسْأَلُ عنه أو تَسْألني؟ ” قلتُ: يا رسول الله! أخبرني. قال: “جئتَ تسألُني عن البر والإثم”؟ قلت: نعم، فجمع أصابعه الثلاث؛ فجعل يَنْكُتُ بِهَا في صدري، ويقول: “يا وابِصَة! استفت نَفْسَكَ: البر ما اطمأَنّ إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإِثم ما حاكَ في القلب، وتردَّد في الصَّدْرِ، وإن أفتاكَ النَّاسُ وأَفْتَوكَ!؟ “.
****
وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الإثم حوَّاز القلوب.
واحتج به الإمام أحمد، ورواه عن جرير، عن منصور، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال عبد الله: “إياكم وحَزَائزَ القلوب، وما حَزَّ في قلبك من شَيء فَدَعْهُ”.
وقال أبو الدرداء: “الخير في طُمَأنينة والشَّر في ريبة”.
وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له: أرأيت شيئًا يَحيك في صدورنا، لا ندري: حلالُ هو أم حرام؟ فقال: “إياكم والحكَّاكات؛ فإنهن الإثم “.
والحزّ والحكّ متقاربان في المعنى.
والمراد ما أثر في القلب ضيقًا وحرَجًا ونفورًا وكراهَةً.
* * *
[هذه الأحاديث]:
فهذه الأحاديث اشتملت على تفسير البر والإثم. وبعضها فيه تفسيرُ الحلال والحرام.
* *
[التحذير من زيغة الحكيم]:
– قال معاذ بن جبل: “أحذركم زيْغَةَ الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمةَ الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فقيل لمعاذ: ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأَن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: [بلى] اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال [لها] ما هذه، ولا يَثْنينَّك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلقّ الحقَّ إذا سمعته؛ فإن على الحق نورًا”.
– خرجه أبو داود وفى رواية له قال: بلى ما تشابه عليك من قول الحكيم، حتى تقول ما أراد بهذه الكلمة.
[وممن يحدث بما لم يُسمَعْ]:
– ومن هذا المعنى قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: “سيكونُ في آخر الزمان قومٌ يحدِّثونَكُم بما لم تَسْمَعُوا أنتُم ولا آباؤكُم، فإياكُمْ وإياهُم”.
يعني أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين، ولا تعرفه.
– وفي قوله: “أنتم ولا آباؤكم” إشارة إلى أن ما استقرت معرفته عند المؤمنين مع تقادُم العهد، وتطاوُل الزمان؛ فهو الحق. وأنّ ما أُحدِث بعد ذلك مما يُستنكَرُ؛ فلا خير فيه.
[ما رآه المسلمون حسنًا]:
– ومن هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: “ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح “.
[أحداث تؤكد ذلك]:
-وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يأمر أصحابَه بما لا تنشرح به صدور بعضهم، فيمتنعون من فعله، فيغضب من ذلك. كما أمرهم بفَسخ الحج إلى العمرة. فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنَحْر هديهم، والتحلُّل من عُمرهَ الحديبية فكرهوه، وكما كرهوا مفاوضته لقريش – على أن يرجع من عامه، وعلى أن من أتاه منهم يردُّه إليهم.
* * *
[ما ورد النص فيه]:
– وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
[كيف ينبغي تلقي ذلك؟]:
– وينبغي أن يَتَلَقَّى ذلك بانشراح الصدر والرضا؛ فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمانُ [به] والرضا به، والتسليم له. كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
* * *
[ما ليس فيه نص]:
– وأما ما ليس فيه نصٌّ من الله ولا رسوله، ولا عمن يُقتدى بقوله من الصحابة وسلفِ الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبُه بالإيمان المنشرح صَدْرُه بنور المعرفة واليقين منه شيءٌ وحاك في صدره لشبهة موجودة، ولم يجد من يُفتي فيه بالرخصة إلا مَن يُخبر عن رأيه، وهو ممن لا يوثَقُ بعلمه وبدينه، بل هو معروفٌ باتباع الهوى، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره إن أفتاه هؤلاء المفتون.
– وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا.
– قال المروزي في كتاب الورع: قلت لأبي عبد الله: إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق، وقد وقع في قلبي من أمرها شيء.
– فقال: أمرها أمرٌ قذِرٌ متلوث.
قلت: فتكرهُ العملَ فيها؟
قال: دع ذا عنك. إن كان لا يقع في قلبك شيءٌ.
قلت: قد وقع في قلبي منها.
فقال: قال ابن مسعود: الإثْمُ حَوَّازُ القلوب.
قلت: إنما هذا على المشاورة.
قال: أي شيء يقع في قلبك؟
قلت: قد اضطربَ عليَّ قَلْبِي.
قال: الإثمُ حَوَّازُ القلوب.
* * *
[سبق شيء مما يتعلق بتفسير هذه الأحاديث]:
وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: “الحلال بَيِّنٌ والحرام بيِّنٌ”.
وفي شرح حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: “دَع ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ”.
وشرح حديث: “إذا لم تَسْتَحِ فاصْنَعْ ما شِئْتَ” شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة ههنا.
* * *
[والإلهام هل هو حجة؟]:
– وقد ذكر طوائفُ من فقهاء الشافعية والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألةَ الإلهام هل هو حجة أم لا؟ وذكروا فيه اختلافًا بينهما، وذكر طائفةٌ من أصحابنا: أن الكشف ليس بطريق للأحكام، وأخذه القاضي أبُو يَعْلَى من كلام أحمد في ذمّ المتكلمين في الوساس والخطرات، وخالفهم طائفةٌ من أصحابنا في ذلك.
وقد ذكرنا نَصَّ أحمد ههنا بالرجوع إلى حوازِّ القلوب.
* * *
[لماذا كان ذم المتكلمين؟]:
– وإنما ذم أحمد وغيره: المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية. حيث كان كلامُهُمْ في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي، بل إلى مجرد رأي وذوق. كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الراقي من غير دليلٍ شرعي.
[الرجوع في الشتبهات إلى حواز القلوب]:
– فأما الرجو في الأمور المشتبهة إلى حَوّاز القلوب فقد دلت عليه النصوص النبوية، وفتاوى الصحابة، فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك؟ لا سيما وقد لص على الرجوع إليه موافقة لهم؟!.
* * *
[الصدق طمأنينة]:
– وقد سبق حديث “إن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة” فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه، زمعرفته، وبنفوره عن الكذب وإنكاره، كما قال الربيع بن خُثَيْم: “إن للحديث ضوءًا كضوء النهار، تعرفه، و [للكذب] ظُلْمَةً كظلمة الليل، تنكِرُه”.
– وخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة عن عبد الملك بن سعيد بن سويد عن أبي حُمَيد، وعن أبي أُسَيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا سَمِعْتُمُ الحديثَ عَنِّي تَعرفُهُ قُلوبكُمْ وتَليِنُ له أَشْعَارُكم وأَبْشَارُكُمُ وتُرَوْن أنه منكم قريب فأنا أوْلاكم به، وإذا سمعتم الحديثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمُ وتَنْفِرُ [منه] أَشْعارُكُم وأبشارُكُم وَتُرَوْن أنه مِنْكُمْ بعِيدٌ فأنا أَبْعَدُكُم مِنْهُ”.
وإسناده أنه قد قيل على شرط مسلم؛ لأنه خرَّج بهذا الإسناد بعينه حديثًا – لكن هذا الحديث معلول؛ فإنه رواه بكير بن الأشجّ، عن عبد الملك بن سعيد، عن عباس بن سهل، عن أبيّ بن كعب من قوله.
قال البخاري: هو أصح.
* * *
– وروى يحيى بن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا حُدِّثْتم عني حديثا تعرفونه ولا تُنكرونه فصدِّقوا به، فإني أقول ما يُعرف ولا يُنكر، وإذا حُدثتم عني حديثًا تُنكرونه ولا تَعرفونه، فلا تُصَدقوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرَف”.
– وهذ الحديث معلولٌ أيضًا.
– وقد اخْتُلِفَ في إسناده على ابن أبي ذئب، ورواه الحفاظ عنه، عن سعيد مرسلًا.
والمرسَل أصح عند أئمة الحفاظ منهم: ابن معين، والبخاري، وأبو حاتم الرازي، وابن خزيمة، وقال:
“ما رأيت أحدًا من علماء الحديث يثبت وصله “.
* * *
[علام تحمل على تقدير صحتها؟]:
وإنما تحملُ مثلُ هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقَّاد الذين كثرت ممارستهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام غيره، ولحال رواة الأحاديث، ونَقَلة الأخبار، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم، وحفظهم وضبطهم؛ فإن هؤلاء لهم نقدٌ خاص في الحديث يختصُّون بمعرفته، كما يختصّ الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود: جيدِها وردِيئها، وخالصها ومشوبها، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر؛ بانتقاد الجواهر.
* * *
– قال ابن مهدي: “معرفة الحديث إلهام”.
وقال: “إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة”.
[جامع العلوم والحكم 2/ 729 ت الأحمدي أبي النور]
قال ابن عثيمين:
فقوله عليه الصلاة والسلام: ((البر حسن الخلق)) يعني أن حسن الخلق من البر الداخل في قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2) وحسن الخلق يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة عباد الله.
فحسن الخلق في عبادة الله: أن يتلقى الإنسان أوامر الله بصدر منشرح، ونفس مطمئنة، ويفعل ذلك بانقياد تام، بدون تردد، وبدون شك، وبدون تسخط، يؤدي الصلاة مع الجماعة منقاداً لذلك، يتوضأ في أيام البرد منقاداً لذلك، يتصدق بالزكاة من ماله منقاداً لذلك، يصوم رمضان منقاداً لذلك، يحج منقاداً لذلك.
وأما في معاملة الناس فإن يقوم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والنصح بالمعاملة وغير هذا، وهو منشرح الصدر، واسع البال، لا يضق بذلك ذرعاً، ولا يتضجر منه، فإذا علمت من نفسك أنك في هذه الحال، فإنك من أهل البر.
أما الإثم فهو أن الإنسان يتردد في الشيء، ويشك فيه، ولا ترتاح له نفسه، وهذا فيمن نفسه مطمئنة راضية بشرع الله.
وأما أهل الفسوق والفجور فإنهم لا يترددون في الآثام، تجد الإنسان منهم يفعل المعصية منشرحاً بها صدره والعياذ بالله، لا يبالي بذلك، لكن صاحبَ الخير الذي وُفق للبر هو الذي يتردد الشيء في نفسه، ولا تطمئن إليه، ويحيك في صدره، فهذا هو الإثم.
وموقف الإنسان من هذا أن يدعه، وأن يتركه إلى شيء تطمئن إليه نفسه، ولا يكون في صدره حرج منه، وهذا هو الورع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام: ((وإن أفتاك الناس وأفتوك)) حتى لو أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه، فإن هذا من الخير والبر.
إلا إذا علمت أن في نفسك مرضاً من الوسواس والشك والتردد فيما أحل الله، فلا تلتفت لهذا، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما يخاطب الناس، أو يتكلم على الوجه الذي ليس فيه أمراض، أي ليس في قلب صاحبه مرض، فإن البر هو ما أطمأنت إليه نفسه، والإثم ما حاك في صدره وكره أن يطلع عليه الناس، والله الموفق.
[شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 498]
وقال ابن عثيمين أيضا:
وأما الإثم فقال هو: (ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) يعني بما حاك في النفس، يعني لم تطمئن إليه النفس، بل ترددت فيه، وكرهت أن يطلع عليه الناس.
ولكن هذا خطاب للمؤمن، أما الفاسق فإن الإثم لا يحيك في صدره، ولا يهمه أن يطلع عليه الناس؛ بل يجاهر به ولا يبالى، لكن المؤمن لكون الله سبحانه وتعالى قد أعطاه نوراً في قلبه، إذا هم بالإثم حاك في صدره، وتردد فيه، وكره أن يطلع عليه الناس، فهذا الميزان إنما هو في حق المؤمنين.
قال الله سبحانه وتعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (فاطر: 8).
[شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 3/ 565]
والثالث: فقه الحديث:
(المسألة الأولى): اسْتِشْعَارُ الطَّاعَةِ والذَّنْبِ مِنَ الْإيمَان (من شعب الإيمان):
(1) – عَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ ?، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ» فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ، (خ) (6308)
(2) – عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ? مِنَ المُوبِقَاتِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «يَعْنِي بِذَلِكَ المُهْلِكَاتِ»، (خ) (6492)
(3) – قَال الْبُخَارِيُّ ج (1) ص (18): وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: «مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا».
(4) – عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: «إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَاتُكَ، وَسَاءَتْكَ سَيِّئَاتُكَ، فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا الْإِثْمُ؟ قَالَ: «إِذَا حَاكَ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ».، (حب) (176) [قال الألباني]: صحيح – «الصحيحة» ((550)).
(5) – عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ ? فِينَا فَقَالَ:» أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ «: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ المُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ?، (ت) (2165) [قال الألباني]: صحيح.
(المسألة الثانية): تعريف الإثم والإيمان:
أولاً: تعريف الإثم:
أ. الإثم لغة:
مصدر قولهم: أثم يأثم، وهو مأخوذ من مادّة (أث م) الّتي تدلّ على البطء والتّأخّر، ومن ذلك ناقة آثمة: أي متأخّرة، والإثم مشتقّ من ذلك، لأنّه بطيء عن الخير متأخّر عنه، يقال: أثم فلان: وقع في الإثم أي الذّنب، ويجمع على آثام. والأثام: جزاء الإثم، قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا أراد مجازاة الأثام يعني العقوبة، والأثام والإثام: عقوبة الإثم.
وقال القرطبيّ: الأثام في كلام العرب: العقاب، وقيل: واد في جهنّم جعله الله عقابا للكفرة [تفسير القرطبي ((13) / (51))].
ويقول الرّاغب: الإثم والأثام اسم للأفعال المبطئة عن الثّواب والجمع آثام، وتسمية الكذب والقمار والخمر والمعصية وغير ذلك بالإثم لكونها من جملته، وقال الجوهريّ: الإثم: الذّنب، والأثام جزاء الإثم، يقال: أثم الرّجل إثما ومأثما، إذا وقع في الإثم فهو آثم وأثيم وأثوم أيضا، يقال: أثمه الله في كذا يأثمه ويأثمه أي عدّه عليه إثما وقيل عاقبه على الإثم فهو مأثوم أي مجزيّ جزاء إثمه، وآثمه: أوقعه في الإثم، وأثّمه أي قال له: أثمت (ورماه بالإثم)، وقد تسمّى الخمر إثما، وتأثّم من كذا: أي تحرّج عنه وكفّ.
قال ابن منظور: تأثّم: تاب من الإثم، واستغفر منه، وهو (أي صيغة التأثّم) على السّلب كأنّه سلبه بالتّوبة والاستغفار أو رام ذلك بهما، وفي حديث معاذ: فأخبر بها عند موته تأثّما أي تجنّبا للإثم، كما يقال أيضا: تأثّم فلان: إذا فعل فعلا خرج به من الإثم، كما يقال تحرّج: إذا فعل ما يخرج به عن الحرج [مقاييس اللغة ((1) / (60))، المفردات (ص (5)).، الصحاح ((5) / (1858))، ولسان العرب ((1) / (28))].
ب. الإثم اصطلاحا:
قال الجرجانيّ: الإثم: ما يجب التّحرّز منه شرعا وطبعا [التعريفات ((7))].
وقال المناويّ: الإثم والأثام: هي الأفعال المبطّئة للثّواب والآثم المتحمّل للإثم [التوقيف ((38))].
وقال الكفويّ: الإثم: هو الذّنب الّذي تستحقّ العقوبة عليه، ولا يصحّ أن يوصف به إلّا المحرّم [الكليات للكفوي ((40))].
2) الفرق بين الإثم والذنب والوزر:
قال الكفويّ: إنّ الذّنب هو مطلق الجرم عمدا كان أو سهوا، بخلاف الإثم فإنّه ما يستحقّ فاعله العقاب، فيختصّ بما يكون عمدا.
أمّا الإثم والوزر فهما واحد في الحكم العرفيّ وإن اختلفا في الوضع، فإنّ وضع الوزر للقوّة لأنّه من الإزار، وهو ما يقوّي الإنسان، ووضع الإثم للّذّة وإنّما خصّ به فعل الشّرّ لأنّ الشّرور (في الغالب) ما تكون مستلذّة [المرجع السابق]. [نضرة النعيم، (9/ 4200 – 4201)].
3) وفي الحديث بين الإثم:
ما تورث النفس شكًا واضطرابًا، ويتعارض مع الفطرة السليمة.
ثانيًا: تعريف الإيمان:
1): تعريف الإيمان:
أ. الإيمان في اللغة:
الإيمان مصدر من آمن يؤمن إيمانًا، فهو مؤمن، وهو مشتق من الأمن.
قال الجوهري: الإيمان: التصديق، والله تعالى المؤمن، لأنه أمّن عباده من أن يظلمهم، وأصل آمن أأمن بهمزتين لينت الثانية. . . والأمن ضدّ الخوف [الصحاح ((5) / (2071))].
وقال ابن منظور: الإيمان ضدّ الكفر، والإيمان بمعنى التصديق ضدّه التكذيب، يقال: آمن به قوم وكذَّب به قوم [لسان العرب ((13) / (21))].
وقال الراغب الأصفهاني: آمن إنما يقال على وجهين:
أحدهما: متعدّيًا بنفسه، يقال: آمنته، أي جعلت له الأمن ومنه قيل لله مؤمن.
والثاني: غير متعدٍّ، ومعناه صار ذا أمن.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [سورة يوسف، آية ((17))]، قيل: معناه بمصدق لنا، إلا أن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن [المفردات (ص (26))].
وقال الفيروز أبادي: «الإيمان الثقة، وإظهار الخضوع» [القاموس المحيط (ص (1518))].
وخلاصة ما سبق أن الإيمان في اللغة معناه التصديق الذي معه أمن، وليس مجرّد التصديق يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: « … فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر، … فاللفظ متضمّن مع التصديق معنى الائتمان أو الأمانة، كما يدلّ عليه الاشتقاق والاستعمال، ولهذا قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [سورة يوسف، آية ((17))]، أي: لا تقرّ بخبرنا ولا تثق به، ولا تطمئن إليه ولو كنّا صادقين، لأنهم لم يكونوا عنده ممّن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لم يأمن لهم … » [مجموع الفتاوى ((7) / (291))].
ب. تعريف الإيمان شرعا:
من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأركان.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: «المشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلّها داخلة في مسمّى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارًا شديدًا … ».
قال الثوري: هو رأي محدث أدركنا السلف على غيره [أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى ((2) / (903))].
وقال الأوزاعي: وكان من مضى من السلف لا يفرّقون بين العمل والإيمان.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار: أمّا بعد، فإن الإيمان فرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان … [أخرجه البخاري معلقًا في كتاب الإيمان ((1) / (8))، وأخرجه موصولًا ابن أبي شيبة في الإيمان ((45))، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر. انظر تغليق التعليق ((2) / (19) – (20))].
2) “حقيقة الإِيمان:
أنه مُركّب من قولٍ وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح. فهذه أربعة أمور جامعة لأمور دين الإسلام:
الأول: قول القلب: وهو تصديقه، وإيقانه، واعتقاده.
الثاني: قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بلوازمها.
الثالث: عمل القلب: وهو النيّة، والإخلاص، والمحبّة، والانقياد، والإقبال على الله تعالى، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه.
الرابع: عمل اللسان والجوارح: فعمل اللسان ما لا يؤدَّى إلا به: كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار، والدعاء، والاستغفار، وغير ذلك. وعمل الجوارح ما لا يؤدَّى إلا بها، مثل: القيام، والركوع، والسجود، والمشي في مرضاة الله، كنقل الخطا إلى المساجد، وإلى الحج، والجهاد في سبيل الله عزوجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يشمله حديث شعب الإِيمان [انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ص (373)، ومعارج القبول شرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، للشيخ حافظ الحكمي، (2) / (587) – (591)، وأصول وضوابط في التكفير، للعلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ص (34)، وكتاب الإيمان لابن منده، (1) / (300)، (341)].
قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: «الإِيمان … التصديق الجازم، والاعتراف التام بجميع ما أمر الله ورسوله بالإِيمان به، والانقياد ظاهرًا وباطنًا، فهو تصديق القلب، واعتقاده المتضمن لأعمال القلوب، وأعمال البدن، وذلك شامل للقيام بالدين كله؛ ولهذا كان الأئمة والسلف يقولون: الإِيمان: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وهو: قول، وعمل، واعتقاد، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فهو يشمل عقائد الإِيمان، وأخلاقه، وأعماله» [التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، ص (9)، وانظر: كتاب الإيمان لابن منده، (1) / (341)، وفتاوى ابن تيمية، (7) / (505)].
3) وفي الحديث بين علامة الإيمان، وأنه:
يشير أن التفاعل القلبي مع الأعمال؛ حيث يشعر المؤمن بالسرور عند الطاعة والحزن عند المعصية.
وقد تقدم الحديث عن مسائل الإيمان في كتاب الإيمان من صحيح مسلم، وكذلك في التعليق على “أصول الإيمان”.
(المسألة الثالثة): ضابط دليل الفطرة في الحديث:
1) الحديث يدل على أن الإنسان بطبيعته السليمة يميز بين الحق والباطل، والإثم غالبًا ما يكون مستنكرًا، حتى من النفس البشرية.
2) طمأنينة القلب للحق:
قال ابن رجب رحمه الله:
“وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئن بذكره؛ فالقلب الذي دخله نورُ الإيمان، وانشرح به، وانفسح: يسكن للحق، ويطمَئنّ به، ويقبلُه. وينفرُ عن الباطل، ويكرهه ولا يقبله”. [جامع العلوم والحكم، (2/ 737)].
3) “فيما يتعلق بالمفتي والمستفتي:
أولاً:
أن يكون عند المستفتِي من الورع عند الوقوع في الشبهات والحرام.
قال المناوي رحمه الله في فيض القدير: ” (استفت نفسك) المطمئنة الموهوبة نورا يفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب”.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى: “لكنَّ هذا إنَّما يصحُّ ممَّن نوَّر الله قلبه بالعلم، وزيَّن جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثراً في قلبه. كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمَّة، كما نقل عنهم في “الحلية” و”صفة الصَّفوة”، وغيرهما من كتب ذلك الشَّأن”. [المفهم (4/ 492)].
قال محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى في شرح الأربعين: ” (الإثم ما حاك في نفسك) أي: تردد وصرت منه في قلق ((وكرهت أن يطلع عليه الناس))؛ لأنه محل ذم وعيب، فتجدك مترددا فيه وتكره أن يطلع الناس عليك.
وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيا سليما، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثما ويكره أن يطلع عليه الناس.
أما المتمردون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم، فالكلام هنا ليس عاما لكل أحد بل هو خاص لمن كان قلبه سليما طاهرا نقيا؛ فإنه إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده مترددا يكره أن يطلع الناس عليه، وهذا ضابط وليس بقاعدة، أي علامة على الإثم في قلب المؤمن”.
وقال الشيخ عبدالمحسن العباد حفظه الله تعالى: ” الذي اختلف فيه الإنسان يرجع إلى أهل العلم ممن يثق بعلمه ودينه في أمر يعمل به، فإذا أرشده من يثق بعلمه ودينه أخذ به، وأما استفتاء القلب فالمقصود بذلك: أن الإنسان إذا كان سأل عن شيء وأُخبر بأنه حلال، وكان في نفسه شيء منه أو غير مطمئن إليه أو أنه يعلم في هذا الأمر الخاص به ما يجعله غير مطمئن، فإن السلامة في ذلك أن يترك هذا الشيء الذي هو غير مطمئن إليه” [شرح الأربعين النووية العباد].
ثانيًا:
قال ابن القيم رحمه الله:
“لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك).
فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار).
والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها” انتهى. [“إعلام الموقعين” (4/ 254)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“أي: حتى وإن أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه، فإن هذا من الخير والبر، إلا إذا علمت في نفسك مرضا من الوسواس والشك والتردد فلا تلتفت لهذا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس أو يتكلم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرض” انتهى. [“شرح رياض الصالحين” (2/ 284)].
فالذي يستفتي قلبه ويعمل بما أفتاه به هو صاحب القلب السليم، لا القلب المريض، فإن صاحب القلب المريض لو استفتى قلبه عن الموبقات والكبائر لأفتاه أنها حلال لا شبهة فيها
انظر: فتح الأحد الصمد شرح الصحيح المسند (ج2/ رقم 1207).
وقد مر قول القاري عفا الله عنه، عند قوله (فدعه): “أَيِ: اتْرُكْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: («دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»)، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْبَابِ الْبَوَاطِنِ الصَّافِيَةِ، وَالْقُلُوبِ الزَّاكِيَةِ”. [مرقاة المفاتيح، (1/ 118)].
(المسألة الرابعة): أثر الإيمان على الأخلاق:
الإيمان يُظهر أثرًا عمليًا في حياة المسلم، فليس مجرد اعتقاد، بل يتجلى في الفرح بالحسنات والندم على السيئات.
1) إن إلقاء الله عزوجل في قلب عبد من عباده محبة الإيمان وكراهية الكفر والفسوق والعصيان نعمة كبيرة وفضل عظيم من الله تعالى على ذلك العبد، وقد دعا النبي ? والصحابة خلفه أن يُحَبِّبَ الله تعالى إليهم الإيمان، وأن يُزَيِّنه في قلوبهم، وأن يُكَرِّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}
– عن عبيد بن رفاعة الزرقي، عن أبيه قال: لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، قال رسول الله ?: «استووا حتى أثني على ربي عزوجل» فصاروا خلفه صفوفًا فقال: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قرّبت، ولا معطي لما مندت، ولا مانع لما أعطيت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الحرب، اللهم عائذا بك من سوء ما أعطيتنا، وشر ما منعت منا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق».
صحيح: رواه أحمد ((15492))، والبخاري في الأدب المفرد ((699))، والبزار – كشف الأستار ((1800))، والحاكم ((1) / (506)، (507)) كلهم من طرق عن عبد الواحد بن أيمن، عن عبيد بن رفاعة الزرقي، عن أبيه فذكره.
وإسناده صحيح، والكلام عليه مبسوط في كتاب سيرة النبي ?.
2) السرور بالحسنات ينقسم إلى قسمين:
1 – السرور بفضل الله وتوفيقه لهذه الحسنة – هذا فرحٌ محمود -، ويدخل فيه الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر، قال قيل: يا رسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن.
(2) – السرور الذي يدل على الغرور والعجب والتكبر على الناس بهذه العبادة – وهذا مذموم -؛ وذلك لأن الفضل كله من الله تعالى كما قال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا}، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: يقول الله تعالى ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)). رواه مسلم.
3) أثرُ الطاعاتِ والمعاصي في الخلوة على العبد:
إنّ خيرَ وصيةٍ يضعُها المؤمنُ بين عينيه، قولُ الله تعالى: {وهو معكُم أينما كنتُم، واللهُ بما تعلمون بصيرٌ} [الحديد آية4].
وقول النبيُّ ?: ((اتقِ الله حيثما كنت، واتبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ الناسَ بخُلُقٍ حسن)). أحمد والترمذي والدارمي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (97).
– وإنّ من العقوبات العظيمة التي تلحقُ بمن ينتهك حُرمات الله في الخلوات: ما ورد في الحديث من قوله ?: ((لأعلمنَّ أقواماً من أمَّتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثالَ جبالِ تهامةَ بيضاءَ فيجعلُها اللهُ عزَّوجلَّ هباءً منثوراً، قال ثوبانُ يا رسول الله صِفْهُم لنا، جَلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحنُ لا نعلم؟ قال: أما إنَّهم أخوانُكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها)) رواه ابنُ ماجة وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم505) وصحيح الجامع الصغير.
– ولهذا فإن من علامات المخلص أن يكون في خلوته كما هو في جلوتِه.
– والطاعةُ والمعصيةُ في الخَلْوةِ لها أثرُها على العبدِ في دينِه وفي صِيتِهِ بين الناس، ولابدَّ أن يظهرَ أثرُ ذلك على العبد، وإليكم بعض أقوال السلف:-
– يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: (وقد يُخفي الإنسانُ ما لا يرضاهُ اللهُ عزّوجلَّ فيُظهُرهُ اللهُ سبحانه عليه ولو بعد حين ويُنطقُ الألسنةَ به وإن لم يشاهدْ الناسُ وربَّما أوقع صاحبَهُ في آفةٍ يفضحُهُ بها بين الخلقِ).
– قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنةِ ضياءً في الوجه ونوراً في القلب، وقوةً في البدن وسعةً في الرزق ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئةِ سواداً في الوجه وظُلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبُغضَةً في قلوب الخلق) الجواب الكافي.
– ويقولُ ابنُ الجوزي: (رأيتُ أقواماً من المنتسبين إلى العلمِ، أهملُوا نظَرَ الحقِّ عزَوجلّ إليهم في الخلوات فمحا محاسنَ ذِكرهم في الجَلَوات فكانوا موجودين كالمعدومين لا حلاوة لرؤيتهم ولا قلب يحنُّ إلى لقائهم).
– وقال بعض السلف: (كان العلماءُ يتواعظون بثلاثٍ ويّكْتُبُ بعضُهم إلى بعض:
“من أحسن سريرتَه أحسنَ اللهُ علانيتهُ، ومن أصلحَ مابينه وبين اللهِ أصلحَ اللهُ مابينه وبين الناس، ومن أصلحَ أمر آخرتهِ أصلحَ اللهُ أمرَ دنياهُ”). سير أعلام النبلاء (19/ 141).
– وقال ابنُ الجوزي رحمه الله: (لقد رأيتُ من كان يراقبُ اللهَ عزّوجلَّ في صبوتِه مع قصوره، فعظّم اللهُ قدرَهُ في القلوبِ حتى عَلَقَتْهُ النفوسُ، ووصَفَتْهُ بما يزيدُ على مافيه من الخير). صيد الخاطر. [مراقبة الله تعالى].
(المسألة الخامسة): مراقبة النفس:
1) الحديث يُرشد إلى أهمية المحاسبة الذاتية ومراقبة النفس، وهي من علامات الإيمان القوي.
2) “أما الإيمان الذي تؤكده كثيرا آيات من كتاب الله – ومن ذلك ما ورد في حديث جبريل -، فهو وجداني محله القلب، مما يبرهن على أن حقيقته مغالبة النفس، وقهرها من أجل رضا الله، وتمكين دلالة هذه الأركان الستة العظيمة، حتى يصدق العمل والقول.
وتعلو مرتبة العقيدة بعد ذلك؛ لتزداد تمكينا من قلب العارف بالله، والمهتم بتطبيق أمره في المرتبتين السابقتين: الإسلام والإيمان، إلى أن يكون عمل الإنسان الظاهر، وإحساسه الباطن تحوطه الرقابة الذاتية: ومحاسبة النفس عن سلامة هذا العمل: ظاهرا أو باطنا، بأن من لا تخفى عليه خافية سبحانه مطلع عليه، وأنه يعلم الدقيقة والجليلة من عبده، مما يدعوه إلى الإخلاص والصدق فيه، وإجادته بقلب حاضر، وهيئة متكاملة.
وهذا أمكن في المراقبة”. [مجلة البحوث الإسلامية (71) / (242)]
3) “منزلة المراقبة، تعريفها:
إن النفس داعيةٌ إلى العصيانِ خاصةً إذا ظنّت أنها بعيدةٌ عن نظر الخلق، ووجدت نفسها في الخلوة.
وحفظُ الله تعالى في الخلوات من علامةِ المؤمن المتقي، الذي يعلم أن عينَ الله تلاحقُه أينما ذهب.
إن الشعورَ بالمراقبة يورّثُ عند المؤمنِ محاسبةَ النفس على التقصير. [مراقبة الله تعالى].
4) الباعثُ على مراقبة الله تعالى (كيف نُقوِّي مراقبةَ اللهِ لدينا؟) ماهي أسباب تقوية المراقبة؟
1 – اليقينُ بقدرة الله تعالى:
فإن الله تعالى على كل شيء قدير، لا يعجزُهُ شيء في الأرض ولافي السماء، ولو شاء إهلاكَ أحدٍ أهلكه، {إنما أمرُهُ إذا أراد شيئاً أن يقولَ له كن فيكون} [يس 82]، فإذا آمنَ العبدُ بذلك علم أنه تحت قدرةِ الله، واللهُ تعالى يغارُ على حرماتِه،
فاحذر يا عبد الله أن يراكَ اللهُ حيثُ نهاك أو يفقِدكَ حيثُ أمرك.
2 – تعظيمُ العبد لرِّبه سبحانَه وتعالى:
وهذا التعظيمُ يكونُ بتعظيم أمرِ اللهِ ونهيه، فكلَّما كانَ العبدُ وقَّافاً عند حدود الله قائماً بأمر الله منتهياً عمّا حرّم الله، كلَّما عَظَّمَ اللهَ، وإذا عظّمَ اللهَ أوجد ذلك الحياءَ من الله في الخلواتِ والجَلَواتِ.
– قال الإمام محمد بن نصر المروزي: “إذا ثبت تعظيمُ اللهِ في قلب العبدِ أورثه الحياءَ من الله والهيبةَ له، فغلب على قلبه ذكرُ إطّلاع الله العظيم ونظرِه إلى ما في قلبه وجوارحه، فاستحى أن يطّلع على قلبه وهو معتقدٌ لشيء ممّا يكره، فطهَّرَ قلبَهُ من كلَّ معصيةِ”. تعظيم قدر الصلاة (2/ 826).
– قال ابنُ القيّم: “وقلبٌ قد امتلأ من جلال الله عزَّوجلَّ وعظمتِه ومحبّتِه ومراقبتِه والحياء منه، فأي شيطانٍ يجترئُ على هذا القلب”. الوابل الصيّب. [مراقبة الله تعالى].
5) ذنوب الخلوات!
أولًا: الداء:
1 – عدم كمال العبودية
قال مُطَرِّف بن الشِّخّير: ” إذا اسْتَوَتْ سريرة العبد وعلانيته؛ قال الله عزَّ وجلَّ: هذا عبدي حقًّا ”
2 – نفور المؤمنين منه!
قال ابن الجوزي: ” وقد يُخفي الإنسان ما لا يرضاه الله عز و جل، فيُظهِره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، ويُنطِق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جوابًا لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هناك من يُجازي على الزلل “.
3 – الخلوة اختبار شديد!
قال عطاء بن أبي رباح في قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]: ” ذلك الصوم والصلاة وغسل الجنابة، وهو السرائر، ولو شاء أن يقول: قد صُمْتُ، وليس بصائم، وقد صلَّيتُ، ولم يصلّ، وقد اغتسلت، ولم يغتسل “.
4 – لا تكتمل تقوى دون صلاح سريرة!
أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه: «أوصيك بتقوى الله تعالى في سِرِّ أمرِك وعلانيته» (صحيح الجامع:2544).
والتقوى في السر أصعب لكنها أعظم أجرًا؛ لأن الدافع إليها: خشية الله وحده، وأما تقوى العلانية فقد يدفع إليها كذلك خوف الفضيحة بين الناس.
5 – سيئاتك في الخلا تنسف حسناتك في الملا!
في حديث ثوبان رضي الله عنه: «لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا». قال ثوبان: يا رسول الله! صِفهم لنا، جلِّهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» (السلسلة الصحيحة: 505).
قال ابن الأعرابي: ” أخسر الخاسرين من أبدى لِلنَّاسِ صَالِح أعماله، وبارز بالقبيح من هُوَ أقرب إِلَيْهِ من حبل الوريد “.
6 – سوء الخاتمة!
وهي عقوبة إلهية على عدم صدق العبد، وإيثاره رضا المخلوقين على رضا رب العالمين. قال ابن القيم: ” أجمع العارفون بالله أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات “. وأيَّده في ذلك ابن رجب فقال: ” خاتمة السوء تكون بسبب دسيسةٍ باطنة بين العبد وربه “.
7 – عرضٌ لمَرض!
ذنوب الخلوات عنوان كبير لضعف تعظيم الله في قلب العبد
8 – السقوط من نظر الله!
قال ابن الجوزي: ” والحذر الحذر من الذُّنُوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تُسقِط العبد من عينه سبحانه “.
9 – اليأس من الإصلاح:
أخطر ما في ذنوب الخلوات أن تكرار السقوط فيها يبث اليأس في قلوب العصاة، فيتركون المحاولة، وينقطعون عن التوبة، وهو ما يؤدي لموت القلب
إِذا مَضَتِ الأوقاتُ في غير طاعة *** ولَمْ تكُ محزونا فذا أعظم الخَطْبِ
علامة موت القلب أن لا ترى به *** حراكًا إلى التقوى وميْلًا عن الذَّنبِ
10 – تكرار المشهد يوم القيامة!
قال ابن عباس عن المذنب في الخلوات: ” وخوفك من الريح إذا حرَّكت سِترَ بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عمِلته “. و في صحيح البخاري: «لَيَقِفَنَّ أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا تَرْجُمان يُترجِم له، ثم ليقولن له: ألم أوتِك مالا؟ فَلَيقولَن: بلى، ثم لَيَقولنَّ ألم أُرسِل إليك رسولا؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يَمِينه فلا يرى إلاَّ النَّار، وينظر عن شِماله فلا يرى إلاَّ النَّار. ونظره ناحية اليمين وناحية الشمال كان في الدنيا خوفًا من أن يراه الناس، لكنه في الآخرة طلبًا للغوث أو رغبةً في الهرب من العذاب».
ثانيا: الدواء:
1 – أقلل من خلواتك!
2 – الدعاء خير دواء:
والدعاء هنا قسمان:
– دعاء وقائي أن يرزقك الله خشيته في الغيب والشهادة، ولذا كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة» (صحيح الجامع:1301).
– دعاء علاجي إن وقعت في الذنب، وعصيته في السِّر، ولذا علَّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقول في سجودك: «اللهم اغفِر لي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وجِلَّه، وأوّلَهُ وآخِرَه، وعلانيته وسِرَّه» (صحيح مسلم:483).
3 – ابْنِ على رصيدك من الخير!
إنَّ ستر الله لك دليلٌ على أنه لا زال لك رصيدٌ عند ربك، فلم يهتك سترك بينما غيرك مفضوح، فابنِ على رصيد الخير لديك بحسنات الخلوات
4 – حياؤك من لقاءٍ قادمٍ قريب!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّهُ، ليس بينَه وبينَه تُرجمانٌ، ولا حجابٌ يحجبُه» (البخاري:7443). والتفكر في هذا الموقف مدعاة لأن يُحسِن كل عبدٍ سريرته ويُصلِح خلوته.
5 – تخيل من يحترمونك لو رأوك على الذنب كيف سيحتقرونك!
في الحديث: «واستحْيِ من الله استحياءك رجلاً مِنْ أهلكَ» (السلسلة الصحيحة:3559).
6 – أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير!
قال ابن القيِّم في الوسيلة الثامنة من أصل عشرة لنيل محبة الله: ” الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة “.
7 – لزوم الجماعة الصالحة:
وفي الحديث الذي رواه الترمذي: «عليكم بالجماعة! فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد».
8 – التوبة الفورية:
عوِّدوا أنفسكم المبادرة بالتوبة؛ السر بالسر، والعلن بالعلن! فإما توبة فور المعصية، وإما فضيحة الدنيا قبل الآخرة
9 – تعظيم الله عز وجل:
قال الإمام محمد بن نصر: ” إذا ثبت تعظيم الله في قلب العبد أورثه الحياء من الله والهيبة له، فغلب على قلبه ذكر اطلاع الله العظيم ونظره بعظمته وجلاله إلى ما في قلبه وجوارحه. وذَكَر المقام غدا بين يديه. وسؤاله إياه عن جميع أعمال قلبه وجوارحه. وذكر دوام إحسانه إليه. وقلة الشكر منه لربه. فإذا غلب ذكر هذه الأُمور على قلبه هاج منه الحياء من الله، فاستحى من الله أن يطلع على قلبه وهو معتقد لشيء مما يكره، أو على جارحة من جوارحه يتحرك بما يكره، فطهَّر قلبه من كل معصية، ومنع جوارحه من جميع معاصيه “.
10 – المراقبة!
قال ابن المبارك: ” الذي يهيج الخوف حَتَّى يسكن فِي القلب دوام المراقبة فِي السر والعلانية “.
11 – مكافأة النفس على الإحسان!
ما أحلى فرحة الانتصار على الشيطان، وما ألذ الإخلاص الذي يجده المسلم إذا ترك معصية الله في السر مع قدرته عليها وتمكنه منها، ثم يتركها لوجه الله، وهذا بعض أجره المعجَّل؛ ينال قسطًا منه هنا قبل أن يكافأ عليه بتمامه يوم القيامة.
وفي الأثر:
(26) – حَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: لَا تَكُنْ وَلِيًّا لِلَّهِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَعَدُوَّهُ فِي السَّرِيرَةِ.
الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا
والرابع: خلاصة فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): “أنَّ الإيمانَ لا يُنافِيهِ اقْتِرافُ السَّيِّئاتِ، وإنْ كانتْ تَنقُصُ منه بلا شَكٍّ.
2 – (منها): أنَّ الفَرَحَ بما يُرْضي اللهَ والحُزْنَ بما يُغْضِبُه من علاماتِ الإيمانِ”. [الحديثية].
3 – (منها): الإيمان ليس فقط قولًا باللسان أو اعتقادًا في القلب، بل يظهر أثره على العمل والسلوك.
4 – (منها): الحث على مراقبة النفس ومحاسبتها؛ لمعرفة مواضع القصور والسعي لتحسينها.
5 – (منها): الفطرة السليمة تُعين الإنسان على معرفة الإثم والحذر منه.
6 – (منها): أهمية الاستجابة للنداء الداخلي الذي يشعر به المؤمن عند وقوعه في الحرام، وهو علامة من علامات حياة القلب.
7 – (منها): الحديث يعكس رحمة الإسلام وسهولة تطبيقه، حيث يعتمد على فطرة الإنسان وإحساسه الداخلي.
8 – (منها): الإيمان يتجلى في تأثر القلب بأفعال العبد؛ الحسنات تفرحه؛ لأنه يرجو ثواب الله، والسيئات تحزنه؛ لأنه يخشى عقاب الله.
9 – (منها): الحديث يعكس أثر الإيمان الحقيقي على سلوك المؤمن وعلاقته بالله تعالى.
10 – (منها): الإثم يشمل الأفعال التي تخالف أوامر الله تعالى وتشريعاته، سواء في السر أو العلن.
11 – (منها): “ما يتردد ويختلج في صدر الإنسان من الأمور المتشابهات فيجب عليه تركها واجتنابها.
12 – (منها): حرص الصحابة رضوان الله عليهم على العلم.
13 – (منها): في الحزن على السيئة إشعار بالندم الذي هو من أعظم أركان التوبة”.
——