: [1ج/ رقم (240)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (240)]:
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (3) ص (360)): حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها، يقول: «الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة».
هذا حديث حسنٌ.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الأول:
أورد الحديث الإمام أحمد في مسنده، مُسْنَدُ المُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحابَةِ، ((14868)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(10) – كتاب البُيوع، (43) – الترخيص في العرايا، ((1746)).
وبوب عليه ابن حبان في صحيحه، ذِكْرُ الِاسْتِحْبابِ لِلْمَرْءِ أنْ يَكُونَ بَيْعُهُ العَرايا فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ، ولا يُجاوِزُ بِهِ إلى أنْ يَبْلُغَ خَمْسَةَ أوْسُقٍ احْتِياطًا، ((4987)).
وقال شعَيب الأرنؤوط وآخرون ط: الرسالة: ” إسناده حسن لأجل محمد بن إسحاق، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين.
وأخرجه ابن حبان ((5008)) من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، بهذا الإسناد.
وأخرجه أبو يعلى ((1781))، وابن خزيمة ((2469))، والطحاوي (4) / (30)، والحاكم (1) / (417) من طريق حماد بن سلمة، والبيهقي (5) / (311) من طريق أحمد ابن خالد الوهبي، كلاهما عن محمد بن إسحاق، به.
وانظر ما سلف برقم ((14358)).”. انتهى.
والثاني: شرح وبيان الحديث
(عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها)، قال الشيخ العباد في شرح السنن أن أبا داود رحمه الله لما ذكر “المزابنة التي فيها المنع من بيع الثمر بالتمر ذكر بيع العرايا التي هي مستثناة من المزابنة، فلو أن جماعة عندهم تمر، وجاء وقت الثمر وليس عندهم نقود يشترون بها الثمر، وأرادوا أن يخرصوا نخلات معينة بمقدارها إذا يبست مقابل التمر الذي سيدفع من أجل أن يجنوا هذا الثمر شيئًا فشيئًا، ويستفيدوا من الرطب في وقت نضوجه، ويأكلوه شيئًا فشيئًا، فجاء الترخيص بقدر خمسة أوسق.
إذًا: المزابنة لا تجوز مطلقًا، ورخص منها في العرايا في مقدار معين، وليس للإنسان أن يزيد في بيع العرايا عن المقدار الذي جاء في الحديث، وهو ما دون خمسة أوسق، فالترخيص للحاجة، ولا يتوسع فيه فيشتري العرايا كيف شاء؛ لأن الاستثناء جاء فيما دون الخمسة أوسق أو الخمسة شك الراوي، ولكن جاء في حديث آخر أنه في حدود أربعة أوسق، فدل هذا على أن العرايا مستثناة من المنع، وأنه رخص لمن يريد أن يستفيد من الرطب في حينه على رءوس النخل، فيجنيه مدة الاستفادة منه كل يوم، لكن يكون بمقدار معين للحاجة.
والعرايا خاصة بالرطب والتمر، فلا يدخل فيها غيرهما”. انتهى.
ثم بين مقدار ذلك (يقول: «الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربعة») “الوَسْقُ والوِسْقُ: مَكِيلَةٌ مَعْلُومَةٌ، وهُوَ سِتُّونَ صاعًا بِصاعِ النَّبِيِّ ?، فالوَسْقُ عَلى هَذا الحِسابِ مِائَةٌ وسِتُّونَ مَنًّا”. [لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، وتاج العروس مادة (وسق)].
“ولاَ يَخْرُجُ المَعْنى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ المَعْنى اللُّغَوِيِّ”. [الشرح الصغير (1) / (608)، والقليوبي (1) / (24)، والمغني (2) / (700)، وجواهر الإكليل (1) / (124)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (4) / (210)، بواسطة الموسوعة الفقهية].
والوسق ستون صاعًا بصاع النبيّ ?، والصاع النبويّ بالموازين المعاصرة على ما قدّره العلماء المتأخّرون هو (3000) (ثلاثة آلاف غرام)، فالخمسة الأوسق تكون ثلاثمائة صاع، فتكون الثلاثمائة الصاع (9000) (تسعة آلاف غرام). راجع ما كتبه الشيخ البسّام: في «شرح بلوغ المرام» [«توضيح الأحكام، شرح بلوغ المرام» (3) / (45)].
وقال في (عون المعبود وحاشية ابن القيم (9) / (157)): ” جَمْعُ وسْقٍ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وهُوَ سِتُّونَ صاعًا، والصّاعُ خَمْسَةُ أرْطالٍ، وثُلُثٌ بِالبَغْدادِيِّ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ.
وقَدْ وقَعَ الِاتِّفاقُ بَيْنَ الشّافِعِيِّ ومالِكٍ عَلى صِحَّتِهِ فِيما دُونَ الخَمْسَةِ، وامْتِناعُهُ فِيما فَوْقَها، والخِلافُ بَيْنَهُما فِيها، والأقْرَبُ تَحْرِيمُهُ فِيها لِحَدِيثِ جابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? يَقُولُ حِينَ أذِنَ لِأصْحابِ العَرايا أنْ يَبِيعُوها بِخَرْصِها يَقُولُ الوَسْقُ والوَسْقَيْنِ والثَّلاثَةُ والأرْبَعَةُ أخْرَجَهُ أحْمَدُ وتَرْجَمَ له بن حِبّانَ الِاحْتِياطُ عَلى أنْ لا يَزِيدَ عَلى أرْبَعَةِ أوْسُقٍ. كَذا فِي السُّبُلِ “. انتهى.
قال ابن رسلان رحمه الله: وهذِه المسألة لها تعلق بأصول الفقه؛ لأن النهي عن المزابنة ورد مستثنى منه العرايا، والعرايا قد وقع الشك في مقدارها، فيكون ذلك كتخصيص العام بمجمل، فإنه يمنع الاحتجاج به، كذلك هنا يمنع الاحتجاج بعموم النهي عن المزابنة في الخمسة، وهذِه مسألة مقررة في أصول الفقه.
فالشك الذي في مقدار الرخصة يقتضي الشك في مقدار المنهي عنه، ويعدل إلى دليل آخر، وقد نبه الأصحاب على ذلك، ومثل ذلك ما قاله إمام الحرمين [«نهاية المطلب» (8) / (364)] فيما إذا قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي إلا من يفسق منهم، لما اعتقد أن ذلك متردد بين عود الاستثناء إلى الكل أو إلى الأخير، وحكمه مع ذلك بأنه لا يصرف إلى الأولاد لأجل التردد، ومثل ذلك بحث جرى بين السبكي وبين شيخه ابن الرفعة في قوله ?: «المؤمنون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا» [رواه الترمذي ((1352))، وغيره، قال الترمذي: حديث حسن صحيح]. ورام [في الحاشية”في (ر): ورآه”. انتهى] ابن الرفعة الاستدلال بذلك إلى أنه متى شك في شرط وجب إدراجه في العموم، والحكم بصحته حتى يقوم دليل على منعه، وليس بجيد لما هو مرجح عند الأصوليين [انظر: «المجموع» (10) / (378)]. [شرح سنن أبي داود لابن رسلان (14) / (114) وما بعدها]. وسيأتي ذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى في محله.
وعند مسلم: ((ولَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ)) فيه أن الترخيص خاصّ في العرايا بالرطب، وبالتمر، وقد اختلف السلف هل يُلحق العنب، أو غيره بالرطب في العرايا؟ فقيل: لا، وهو قول أهل الظاهر، واختاره بعض الشافعيّة، منهم المحبّ الطبريّ. وقيل: يُلحق العنب خاصّة، وهو مشهور مذهب الشافعيّ، وقيل: يُلحق كل ما يُدّخر، وهو قول المالكيّة، وقيل: يُلحق كلّ ثمرة، وهو مَنقول عن الشافعيّ أيضًا، قاله في «الفتح» [(5) / (655)].
وقال ابن قُدامة رحمه الله: ولا يجوز بيع العرية في غير النخل، وهو اختيار ابن حامد، وقول الليث بن سعد، إلا أن يكون مما ثمرته لا يجري فيها الربا، فيجوز بيع رطبها بيابسها؛ لعدم جريان الربا فيها، ويَحْتَمِل أن يجوز في العنب والرطب دون غيرهما، وهو قول الشافعيّ؛ لأن العنب كالرطب، في وجوب الزكاة فيهما، وجواز خرصهما، وتوسيقهما، وكثرة تيبيسهما، واقتياتهما في بعض البلدان، والحاجة إلى أكل رطبهما، والتنصيص على الشيء يوجب ثبوت الحكم في مثله، ولا يجوز في غيرهما؛ لاختلافهما في أكثر هذه المعاني، فإنه لا يمكن خرصها؛ لتفرّقها في الأغصان، واستتارها بالأوراق، ولا يُقتات يابسها، فلا يحتاج إلى الشراء به.
وقال القاضي: يجوز في سائر الثمار، وهو قول مالك، والأوزاعيّ؛ قياسًا على ثمرة النخيل. ولنا ما روى الترمذي؛ أن النبيّ ?، نهى عن المزابنة: الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وكل ثمرة بِخِرْصها. وهذا حديث حسن، وهذا يدل على تخصيص العرية بالتمر، وعن زيد بن ثابت – رضي الله عنه -، عن رسول الله ?؛ أنه رخّص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب، أو بالتمر، ولم يرخص في غير ذلك، وعن ابن عمر، قال: نَهى رسول الله ?، عن المزابنة، والمزابنة: بيع ثمر النخل بالتمر كيلًا، وبيع العنب بالزبيب كيلًا، وعن كل ثمرة بخرصه، ولأن الأصل يقتضي تحريم بيع العرية، وإنما جازت في ثمرة النخيل رخصة، ولا يصح قياس غيرها عليها؛ لوجهين:
[أحدهما]: أن غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها، وسهولة خرصها، وكون الرخصة في الأصل لأهل المدينة، وإنما كانت حاجتهم إلى الرطب دون غيره.
[الثاني]: أن القياس لا يُعْمَل به، إذا خالف نَصًّا، وقياسهم يخالف نصوصًا غير مخصوصة، وإنما يجوز التخصيص بالقياس على المحل المخصوص، ونَهْيُ النبي ? عن بيع العنب بالزبيب، لم يدخله تخصيص، فيقاسَ عليه، وكذلك سائر الثمار، والله أعلم. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله [«المغني» (6) / (128) – (129)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: القول بعدم إلحاق غير التمر بالتمر هو الأرجح عندي؛ لظهور أدلّته، عملًا بالنصّ؛ لأن الترخيص في ذلك على خلاف الأصل؛ لأن الأصل عدم جواز بيع الرطب بالتمر؛ لعدم تساويهما كيلًا، وهو المسمّى بالمزابنة الذي ورد النهي عنه، فما ثبتٌ على خلاف الأصل يُقتصر عليه، فلا يكون محلًّا للقياس، فتأمّل بإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب. [البحر المحيط الثجاج]
لكن إذا وجد معنى الاقتيات في ثمر آخر لا يوجد في تلك البلد تمر فلا يبعد الجواز. لأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.
أما الحديث الذي فيه حصر العرايا بالتمر فالراجح إرساله:
فعند الترمذي
(1303) – حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الحُلْوانِيُّ الخَلّالُ قالَ: حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ، عَنْ الوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا بُشَيْرُ بْنُ يَسارٍ، مَوْلى بَنِي حارِثَةَ، أنَّ رافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وسَهْلَ بْنَ أبِي حَثْمَةَ، حَدَّثاهُ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? نَهى عَنْ بَيْعِ المُزابَنَةِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، إلّا لِأصْحابِ العَرايا، فَإنَّهُ قَدْ أذِنَ لَهُمْ، وعَنْ بَيْعِ العِنَبِ بِالزَّبِيبِ، وعَنْ كُلِّ ثَمَرٍ بِخَرْصِهِ»: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِن هَذا الوَجْهِ
وورد عند النسائي لكن لفظه
(4543) أخبرنا الحسين بن عيسى قال حدثنا أبو أسامة قال حدثني الوليد بن كثير قال أخبرني بشير بن يسار أن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة حدثاه أن رسول الله ? نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا لأصحاب العرايا فإنه أذن لهم.
(4544) أخبرنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن يحيى عن بشير بن يسار عن أصحاب رسول الله ? أنهم قالوا رخص رسول الله ? في بيع العرايا بخرصها.
وأعله الدارقطني بالإرسال:
(2648) – وسئل عن حديث يحيى بن سعيد، عَنْ أنَسٍ نَهى رَسُولُ اللَّهِ ? أن يشترى الثمر بالتمر في رؤوس النخل فإن ذلك ربا، ورخص في العرايا.
فقال: يرويه شريك، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، قاله حنيفة بن مرزوق، وعبد الغفار بن الحكم الحراني عنه.
وخالفه ابن عيينة؛
فرواه عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرٍ، عَنْ سهل بن أبي حثمة.
ورواه الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار مرسلا وهو أصحها. انتهى
فيمكن أن يصلح على شرط الذيل على أحاديث معلة ظاهرها الصحة
والثالث: مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في اختلاف أهل العلم في تفسير العَرايا:
قال الإمام البخاريّ رحمه الله: باب تفسير العَرايا،: وقال مالك: العَرِية أن يُعرِي الرجلُ الرجلَ النخلةَ، ثم يتأذى بدخوله عليه، فرخّص له أن يشتريها منه بتمر، وقال ابن إدريس: العرية، لا تكون إلا بالكيل من التمر، يدًا بيد، لا يكون بالجِزاف، ومما يقويه: قول سهل بن أبي حَثْمة: «بالأوسق الموسقة»، وقال ابن إسحاق في حديثه، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: كانت العرايا، أن يُعري الرجل في ماله النخلة والنخلتين، وقال يزيد، عن سفيان بن حسين: العرايا نخل، كانت توهب للمساكين، فلا يستطيعون أن ينتظروا بها، فرُخِّص لهم أن يبيعوها بما شاؤوا من التمر.
ثم أخرج بسنده عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت – رضي الله عنهم -؛ أن رسول الله ?، رَخَّص في العرايا أن تباع بخرصها كيلًا، قال موسى بن عقبة: والعرايا نخلات معلومات، تأتيها فتشتريها. انتهى.
قال في «الفتح»: قوله: وقال مالك: العرية أن يُعريَ الرجل الرجل النخلة؛ أي: يهبها له، أو يهب له ثمرها، ثم يتأذى بدخوله عليه، فرُخّص له؛ أي: للواهب أن يشتريها؛ أي: يشتري رُطَبَها منه؛ أي: من الموهوبة له بتمر؛ أي: يابس.
وهذا التعليق وصله ابن عبد البر من طريق ابن وهب، عن مالك. وروى الطحاويّ من طريق ابن نافع، عن مالك؛ أن العرية: النخلة للرجل في حائط غيره، وكانت العادة أنهم يَخرُجون بأهليهم في وقت الثمار إلى البساتين، فيَكرَه صاحب النخل الكثير، دخول الآخر عليه، فيقول له: أنا أعطيك بخرص نخلتك تمرًا، فرُخِّص له في ذلك.
ومن شرط العرية عند مالك: أنها لا تكون بهذه المعاملة، إلا مع المُعرِي خاصة؛ لِما يدخل على المالك من الضرر، بدخول حائطه، أو ليدفع الضرر عن الآخر بقيام صاحب النخل بالسقي، والكُلَف، ومن شرطها أن يكون البيع بعد بُدُوّ الصلاح، وأن يكون بتمر مؤجل، وخالفه الشافعي في الشرط الأخير، فقال: يشترط التقابض.
وقوله: «وقال ابن إدريس: العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر، يدًا بيد، ولا تكون بالجزاف»، ابن إدريس هذا رجح ابن التين أنه عبد الله الأوديّ الكوفيّ، وتردد ابن بطال، ثم السبكيّ، في «شرح المهذب»، وجزم المزيّ في «التهذيب» بأنه الشافعيّ، والذي في «الأم» للشافعيّ، وذكره عنه البيهقيّ، في «المعرفة» من طريق الربيع عنه، قال: العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة، فأكثر بخرصه من التمر، بأن يُخرَص الرُّطَب، ثم يُقَدَّر كم ينقص إذا يبس؟ ثم يشتري بخرصه تمرًا، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا، فسد البيع. انتهى.
وهذا وإن غاير ما علقه البخاريّ لفظًا، فهو يوافقه في المعنى؛ لأن محصلهما أن لا يكون جزافًا، ولا نسيئة.
قال الحافظ: وقد جاء عن الشافعيّ، بلفظ آخر، قرأته بخط أبي علي الصدفي بهامش نسخته، قال: لفظ الشافعيّ: ولا تباع العريّة بالتمر، إلا أن تُخرَص العريّة، كما يُخرص المعشّر، فيقال: فيها الآن كذا وكذا، من الرُّطَب، فإذا يبس كان كذا وكذا، فيَدفَع من التمر بكيله خرصًا، ويقبض النخلة بثمرها، قبل أن يتفرقا، فإن تفرقا قبل قبضها فسد.
قوله: «ومما يقويه»؛ أي: قول الشافعيّ بأن لا يكون جزافًا، قول سهل بن أبي حثمة: «بالأوسق الموسقة»، وقول سهل هذا أخرجه الطبريّ، من طريق الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن سهل موقوفًا، ولفظه: «لا يباع الثمر في رءوس النخل، بالأوساق المُوَسَّقَة، إلا أوسقًا: ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة يأكلها الناس».
وما ذكره البخاريّ عن الشافعيّ، هو شرط العرية عند أصحابه، وضابط العرية عندهم: أنها بيع رُطَب، في نخل، يكون خرصه إذا صار تمرًا، أقل من خمسة أوسق، بنظيره في الكيل من التمر، مع التقابض في المجلس.
ثم إنَّ صور العرية كثيرة:
[منها]: أن يقول الرجل لصاحب حائط: بعني ثمر نخلات بأعيانها، بخرصها من التمر، فيخرصها ويبيعه، ويقبض منه التمر، ويسلم إليه النخلات بالتخلية، فينتفع برطبها.
[ومنها]: أن يهب صاحبُ الحائط لرجل نخلات، أو ثمر نخلات معلومة من حائطه، ثم يتضرر بدخوله عليه، فيخرصها، ويشتري منه رطبها، بقدر خرصه بتمر، يعجله له.
[ومنها]: أن يهبه إياها، فيتضرر الموهوب له، بانتظار صيرورة الرطب تمرًا، ولا يحب أكلها رطبًا؛ لاحتياجه إلى التمر، فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب، أو من غيره، بتمر يأخذه معجلًا.
[ومنها]: أن يبيع الرجل ثمر حائطه، بعد بُدُوّ صلاحه، ويستثني منه نخلات معلومة، يُبقيها لنفسه، أو لعياله، وهي التي عُفي له عن خرصها في الصدقة، وسُمِّيت عرايا؛ لأنها أُعريت من أن تُخرَص في الصدقة، فرُخّص لأهل الحاجة، الذين لا نقد لهم، وعندهم فضول من تمر قُوتهم، أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها.
[ومما يطلق عليه اسم عَرِيّة]: أن يُعرِي رجلًا تمر نخلات، يُبِيح له أكلها، والتصرف فيها، وهذه هبة مخصوصة.
[ومنها]: أن يُعري عامل الصدقة لصاحب الحائط، من حائطه نخلات معلومة، لا يَخرُصها في الصدقة، وهاتان الصورتان من العرايا لا يبيع فيهما. ذكر ذلك كله في «الفتح» [» الفتح” (5) / (663) – (664)]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج].
[فائدة] “الفرق بين بيع ما لا يملك وبيع العرايا وبيع السلم
بيع ما لا يملك: كونه يبيع سلعة معينة لا يملكها، وليس شيئًا موصوفًا في الذمة يوجد في الوقت المحدد، فهذا لا بأس به؛ لأنه يكون موجودًا في ذلك الوقت، فيعطيه إياه، أما كونه يبيع سلعة لا يملكها، فمعناه أنه لا يملك ثمرة النخل، أو أنه لا يملك النخل، ولكن السلم بيع شيء موصوف في الذمة، وهذا لا بأس به.
أما بيع العرايا فهو بيع يكون الثمن فيه تمرًا والمثمن تمرًا على رءوس النخل، وأما السلم فالثمن فيه دراهم، وأما في العرايا فهو تمر، فصار فيه محذور من جهة أن فيه بيع الشيء بمثله بدون تقابض، وهذا لا يجوز، فلا بد من التماثل والتقابض، لكنه رخص في العرايا لحاجة الناس وبحدود معينة، وأما الذي السلم فليس له دخل في العرايا؛ لأن هذا قدم ثمنًا وليس تمرًا، وإنما قدم نقودًا والمبيع شيء موصوف في الذمة، هذا شيء وهذا شيء.
كما أن السلم ليس مستثنى من أصل مثل العرايا التي أبيحت للحاجة”. [شرح سنن أبي داود – عبد المحسن العباد].
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في حكم العَرايا:
ذهب أكثر أهل العلم إلى إباحتها، منهم: مالك، وأهل المدينة، والأوزاعيّ، وأهل الشام، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يحل بيعها؛ لأن النبيّ ?: «نهى عن بيع المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر»، متفق عليه، ولأنه يبيع الرطب بالتمر، من غير كيل في أحدهما فلم يجز، كما لو كان على وجه الأرض، أو فيما زاد على خمسة أوسق.
واحتجّ الجمهور بالحديث المتفق عليه: «أن النبي ? رخص في العرايا، في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق»، فقد رواه جماعة من الصحابة: أبو هريرة، وزيد بن ثابت، وسهل بن أبي حثمة، وغيرهم.
قال ابن قُدامة رحمه الله: خرّجه أئمة الحديث في كتبهم، وحديثهم في سياقه: «إلا العرايا»، كذلك في المتفق عليه، وهذه زيادة يجب الأخذ بها، ولو قُدِّرَ تعارضُ الحديثين وجب تقديم حديثنا؛ لخصوصه، جمعًا بين الحديثين، وعملًا بكلا النصين.
وقال ابن المنذر: الذي نهى عن المزابنة، هو الذي أرخص في العرايا، وطاعة رسول الله ? أولى، والقياس لا يُصار إليه مع النصّ، مع أن في الحديث أنه أرخص في العرايا، والرخصة استباحة المحظور، مع وجود السبب الحاظر، فلو منع وجود السبب من الاستباحة، لم يبق لنا رخصة بحال. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله [«المغني» (6) / (119) – (120)].
وقال في «الفتح» – بعد أن أورد صور العرايا المذكورة في المسألة السابقة -: وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعيّ، والجمهور، وقَصَر مالك العرية في البيع على الصورة الثانية، وقَصَرها أبو عبيد على الصورة الأخيرة، من صور البيع، وزاد أنه رُخّص لهم أن يأكلوا الرطب، ولا يشتروه لتجارة، ولا ادّخار.
ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها، وقصر العرية على الهبة، وهو أن يُعرِي الرجل تمر نخلة من نخله، ولا يُسَلِّم ذلك له، ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة، فرُخص له أن يحتبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب، بخرصه تمرًا، وحَمَله على ذلك أخذُه بعموم النهي عن بيع الثمر بالتمر.
وتُعُقّب بالتصريح باستثناء العرايا، في حديث ابن عمر، كما تقدم، وفي حديث غيره. وحكى الطحاويّ عن عيسى بن أبان، من أصحابهم: أن معنى الرخصة، أن الذي وُهِبت له العرية لم يملكها؛ لأن الهبة لا تُملك إلا بالقبض، فلمّا جاز له أن يُعطي بدلها تمرًا، وهو لم يملك المبدَل منه، حتى يستحق البدل، كان ذلك مستثنى، وكان رخصة، وقال الطحاوي: بل معنى الرخصة فيه: أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به، ويعطي بدله، ولو لم يكن واجبًا عليه، فلما أُذن له أن يحبس ما وعد به، ويعطي بدلًا، ولا يكون في حكم من أخلَف وعده، ظهر بذلك معنى الرخصة، واحتج لمذهبه بأشياء، تَدُلُّ على أن العرية العطية، ولا حجة في شيء منها؛ لأنه لا يلزم من كون أصل العرية العطية، أن لا تُطلق العرية شرعًا على صور أخرى.
قال ابن المنذر: الذي رَخّص في العرية، هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر، في لفظ واحد، من رواية جماعة من الصحابة، قال: ونظير ذلك: الإذنُ في السَّلَم، مع قوله ?: «لا تبع ما ليس عندك»، قال: فمن أجاز السلم، مع كونه مستثنى من بيع ما ليس عندك، ومنع العرية، مع كونها مستثناة من بيع الثمر بالتمر، فقد تناقض، وأما حملهم الرخصة على الهبة، فبعيد مع تصريح الحديث بالبيع، واستثناء العرايا منه، فلو كان المراد الهبة، لما استثنيت العرية من البيع، ولأنه عبّر بالرخصة، والرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع، والمنع إنما كان في البيع، لا الهبة، وبأن الرخصة قُيِّدت بخمسة أوسق، أو ما دونها، والهبة لا تتقيد؛ لأنهم لم يفرقوا في الرجوع في الهبة، بين ذي رحم وغيره، وبأنه أبُو كان الرجوع جائزًا، فليس إعطاؤه بالتمر بدل الرطب، بل هو تجديد هبة أخرى، فإن الرجوع لا يجوز، فلا يصح تأويلهم. انتهى [«الفتح» (5) / (664) – (665)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن لك مما ذُكِر أن الحق هو ما عليه الجمهور من جواز بيع العرايا؛ لوضوح أدلّته، وتبين لك أيضًا أن التأويلات التي ذكرها الحنفيّة لأحاديث العرايا كلها باطلة؛ لمعارضتها النصوص الصريحة.
وإنْ تَعْجَب فعجبٌ ما أطال به صاحب، تكملة فتح الملهم» نفسه في شرحه مؤيّدًا مذهبه الحنفيّ، قاتل الله التعصّب، والله المستعان.
قال القرطبيّ رحمه الله بعد أن ذكر مذهب الحنفيّة في تأويل أحاديث العرايا، ما نصّه: وهذا المذهب إبطال لحديث العريّة من أصله، فيجب اطّراحه، وذلك أن حديث العريّة تضمّن أنه بيعٌ مرخّصٌ فيه في مقدار مخصوص، وأبو حنيفة يُلغي هذه القيود الشرعيّة. انتهى [«المفهم» (4) / (394)].
(المسألة الثالثة): أنه اختَلَف العلماء في أن هذه الرخصة هل يُقتَصَر بها على مورد النصّ، وهو النخل، أم يتعدى إلى غيره؟ على أقوال:
[أحدها]: اختصاصها بالنخل، وهذا قول الظاهرية، على قاعدتهم في ترك القياس.
[الثاني]: تعدّيها إلى العنب، بجامع ما اشتركا فيه من إمكان الخرص، فإن ثمرتهما متميزة مجموعة في عناقيدها، بخلاف سائر الثمار، فإنها متفرقة مستترة بالأوراق، لا يتأتى خرصها، وبهذا قال الشافعيّ.
[الثالث]: تعديها إلى كل ما ييبس ويُدَّخَر من الثمار، وهذا هو المشهور عند المالكية، وجعلوا ذلك علة الحكم في محل النصّ، وأناطوا الحكم به وجودًا وعدمًا، حتى قالوا: لو كان البسر مما لا يتتمر، والعنب مما لا يتزبب لم يجز شراء العرية منه بخرصها، بل يخرج عن محل الرخصة؛ لعدم العلة.
[الرابع]: تعدّيها إلى كل ثمرة مُدَّخَرة، وغير مُدَّخرة، وهذا قول محمد بن الحسن، وهو قول عن الشافعيّ [«طرح التثريب» (6) / (140)].
وسبق الترجيح
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم القائلين بجواز بيع العرايا في مقدارها:
قال ابن قُدامة رحمه الله: لا تجوز العرايا في زيادة على خمسة أوسق، بغير خلاف نعلمه، وتجوز فيما دون خمسة أوسق، بغير خلاف بين القائلين بجوازها، فأما في خمسة أوسق، فلا يجوز عند الإمام أحمد رحمه الله، وبه قال ابن المنذر، والشافعيّ في أحد قوليه، وقال مالك، والشافعيّ في قول: يجوز، ورواه إسماعيل بن سعيد، عن أحمد؛ لأن في حديث زيد، وسهل أنه رَخّص في العرية مطلقًا، ثم استثنى ما زاد على الخمسة في حديث أبي هريرة، وشكّ في الخمسة، فاستثنى اليقين، وبقي المشكوك فيه على مقتضى الإباحة، ولنا أنَّ النبيّ ?، نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الرطب بالتمر، ثم أرخص في العرية، فيما دون خمسة أوسق، وشكّ في الخمسة، فيبقى على العموم في التحريم، ولأن العرية رخصة، بُنيت على خلاف النص والقياس يقينًا فيما دون الخمسة، والخمسة مشكوك فيها، فلا تثبت إباحتها مع الشك.
ورَوى ابن المنذر بإسناده أن النبيّ ?، رَخَّصَ في بيع العرية، في الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربعة، والتخصيص بهذا يدل على أنه لا تجوز الزيادة في العدد عليه، كما اتفقنا على أنه لا تجوز الزيادة على الخمسة؛ لتخصيصه إياها بالذكر.
وروى مسلم عن سهل؛ أن رسول الله ?، رخص في بيع العرية النخلة، والنخلتين، ولأن خمسة الأوسق في حكم ما زاد عليها، بدليل وجوب الزكاة فيها، دون ما نقص عنها، ولأنها قدر تجب الزكاة فيه، فلم يجز بيعه عرية، كالزائد عليها.
فأما قولهم: أرخص في العرية مطلقًا، فلم يثبت أن الرخصة المطلقة سابقة على الرخصة المقيدة، ولا متأخرة عنها، بل الرخصة واحدة، رواها بعضهم مطلقة، وبعضهم مقيدة، فيجب حمل المطلق على المقيد، ويصير القيد المذكور في أحد الحديثين، كأنه مذكور في الآخر، ولذلك يقيد فيما زاد على الخمسة اتفاقًا. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله [«المغني» (6) / (121) – (122)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه أحمد، وجماعة من تقديره بأقل من خمسة أوسق، هو الأرجح؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في أنه هل يجوز أن يشتري أكثر من خمسة فيما زاد على صفقة؟
قال ابن قدامة رحمه الله: لا يجوز أن يشتري أكثر من خمسة أوسق، فيما زاد على صفقة، سواء اشتراها من واحد، أو من جماعة، وقال الشافعي: يجوز للإنسان بيع جميع ثمر حائطه عرايا، من رجل واحد، ومن رجال في عقود متكررة؛ لعموم حديث زيد، وسهل، ولأن كل عقد جاز مرة، جاز أن يتكرر، كسائر البيوع.
ولنا أن النهي عن المزابنة عامّ، استُثنِيَ منه العرية، فيما دون خمسة أوسق، فما زاد يبقى على العموم في التحريم؛ ولأن ما لا يجوز عليه العقد مرة، إذا كان نوعًا واحدًا، لا يجوز في عقدين، كالذي على وجه الأرض، وكالجمع بين الأختين، فأما حديث سهل، فإنه مقيد بالنخلة والنخلتين، بدليل ما روينا، فيدل على تحريم الزيادة عليهما، ثم إن المطلق يُحْمَل على المقيد، كما في العقد الواحد. انتهى.
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الحنبليّة من عدم جواز أكثر من خمسة أوسق مطلقًا هو الأرجح؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة):
قال ابن قُدامة رحمه الله أيضًا: إن باع رجل عَرِيتين من رجلين، فيهما أكثر من خمسة أوسق جاز، وقال أبو بكر، والقاضي: لا يجوز؛ لِما ذكرنا في المشتري، ولنا أن المُغَلَّب في التجويز حاجة المشتري، بدليل ما رَوى محمود بن لبيد، قال: «قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالًا محتاجين من الأنصار، شكوا إلى رسول الله ?؛ أن الرُّطَب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبًا يأكلونه، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر، الذي في أيديهم، يأكلونه رُطَبًا»، وإذا كان سبب الرخصة حاجة المشتري، لم تعتبر حاجة البائع إلى البيع، فلا يتقيد في حقه بخمسة أوسق، ولأننا لو اعتبرنا الحاجة من المشتري، وحاجة البائع إلى البيع، أفضى إلى أن لا يحصل الإرفاق؛ إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين، فتسقط الرخصة، فإن قلنا: لا يجوز ذلك بطل العقد الثاني، وإن اشترى عريتين، أو باعهما، وفيهما أقل من خمسة أوسق جاز وجهًا واحدًا. انتهى [«المغني» (6) / (122) – (123)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي القول الأول أرجح؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): أنه لا يشترط في بيع العرية، أن تكون موهوبة لبائعها،
قال ابن قُدامة: هذا ظاهر كلام أصحابنا، وبه قال الشافعيّ، وظاهر قول الخِرَقي أنه شرط، وقد روى الأثرم، قال: سمعت أحمد سئل عن تفسير العرايا؟ فقال: العريا أن يُعري الرجل الجار، أو القرابة للحاجة، أو المسكنة، فللمُعرى أن يبيعها ممن شاء.
وقال مالك: بيع العرايا الجائز هو أن يُعري الرجلُ الرجلَ نخلات من حائطه، ثم يكره صاحب الحائط، دخول الرجل المعرى؛ لأنه ربما كان مع أهله في الحائط، فيؤذيه دخول صاحبه عليه، فيجوز أن يشتريها منه.
واحتجوا بأن العرية في اللغة: هبة ثمرة النخيل عامًا، قال أبو عبيد: الإعراء أن يجعل الرجل للرجل ثمرة نخله عامَها ذلك، قال الشاعر الأنصاري، يَصِف النخل [من الطويل]:
فَلَيْسَتْ بِسَنْهاءَ ولا رُجَّبِيَّةٍ … ولَكِنْ عَرايا فِي السِّنِينَ الجَوائِحِ
يقول: إنا نُعرِيها الناس، فتعيّن صرف اللفظ إلى موضوعه لغة، ومقتضاه في العربية ما لم يوجد ما يصرفه عن ذلك.
ولنا حديث زيد بن ثابت – رضي الله عنه -، وهو حجة على مالك، في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب، ولأنه أبُو كان لحاجة الواهب، لما اختص بخمسة أوسق؛ لعدم اختصاص الحاجة بها، ولم يجز بيعها بالتمر؛ لأن الظاهر من حال صاحب الحائط، الذي له النخيل الكثير، يعريه الناس، أنه لا يعجز عن أداء ثمن العرية، – وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها؛ لأن علة الرخصة حاجة المشتري إلى أكل الرطب، ولا ثمن معه، سوى التمر، فمتى وجد ذلك جاز البيع، ولأن اشتراط كونها موهوبة، مع اشتراط حاجة المشتري
إلى أكلها رُطَبًا، ولا ثمن معه، يفضي إلى سقوط الرخصة؛ إذ لا يكاد يتفق ذلك، ولأن ما جاز بيعه إذا كان موهوبًا، جاز وإن لم يكن موهوبًا، كسائر الأموال، وما جاز بيعه لواهبه، جاز لغيره، كسائر الأموال، وإنما سُمِّي عرية؛ لتعريه عن غيره وإفراده بالبيع. انتهى [«المغني» (6) / (123) – (124)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأظهر عدم اشتراط كونها موهوبة للبائع؛ لوضوح مستنده، والله تعالى أعلم بالصواب، دماليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة):
أنه إنما يجوز بيعها بخرصها من التمر، لا أقل منه، ولا أكثر، ويجب أن يكون التمر الذي يشتري به معلومًا بالكيل، ولا يجوز جِزافًا، قال ابن قُدامة: لا نعلم في هذا عند من أباح بيع العرايا اختلافًا؛ لما رَوى زيد بن ثابت – رضي الله عنه -: «أن رسول الله ? أرخص في العرايا، أن تُباع بخرصها كيلًا»، متفق عليه، ولمسلم: «أن تؤخذ بمثل خرصها تمرًا، يأكلها أهلها رُطَبًا»، ولأن الأصل اعتبار الكيل من الطرفين، وسقط في أحدهما للتعذر، فيجب في الآخر بقضية الأصل، ولأن ترك الكيل من الطرفين، يُكثِرُ الغرر، وفي تركه من أحدهما يقلل الغرر، ولا يلزم من صحته مع قلة الغرر، صحته مع كثرته.
ومعنى خرصها بمثلها من التمر: أن يُطيف الخارص بالعَرِيّة، فينظر كم يجيء منها تمرًا؛ فيشتريها المشتري بمثلها تمرًا، وبهذا قال الشافعيّ، ونقل حنبل عن أحمد أنه قال: يخرصها رُطَبًا، ويعطي تمرًا رُخصة، وهذا يَحْتَمِل الأول، ويَحْتَمِل أنه يشتريها بتمر، مثل الرطب الذي عليها؛ لأنه بيعٌ اشتُرطت المماثلة فيه، فاعتبرت حال البيع، كسائر البيوع، ولأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال، وأن لا يباع الرُّطَب بالتمر، وخولف الأصل في بيع الرُّطَب بالتمر، فيبقى فيما عداه على قضية الدليل، وقال القاضي: الأول أصح؛ لأنه يبنى على خرص الثمار في العُشرِ الصحيح، ثم خرصه تمرًا، ولأن المماثلة في بيع التمر بالتمر معتبرة حالة الادّخار، وبيع الرطب بمثله تمرًا يفضي إلى فوات ذلك.
فأما إن اشتراها بخرصها رطبًا لم يجز، وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعيّ، والثاني: يجوز، والثالث: لا يجوز مع اتفاق النوع، ويجوز مع اختلافه، ووجه جوازه ما رَوى الجُوزَجاني عن أبي صالح، عن الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله ?: «أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب، أو التمر، ولم يرخص في غير ذلك»، ولأنه إذا جاز بيع الرطب بالتمر، مع اختصاص أحدهما بالنقص في ثاني الحال، فلأن يجوز مع عدم ذلك أولى.
واحتجّ الأولون بما رَوى مسلم بإسناده، عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه -: «أن رسول الله ? أرخص في العرايا، أن تؤخذ بمثل خرصها تمرًا»، وعن سهل بن أبي حثمة – رضي الله عنه -؛ أن رسول الله ?، نَهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال: «ذلك الربا، تلك المزابنة»، إلا أنه رخص في العرية: النخلة، والنخلتين، يأخذها أهل البيت، بخرصها تمرًا، يأكلونها رُطُبًا، رواه مسلم، ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمرًا، فلم يجز بيعه بمثله رطبًا، كالتمر الجافّ، ولأن من له رطب، فهو مستغن عن شراء الرطب بأكل ما عنده، وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري على ما أسلفناه، وحديث ابن عمر شك في الرطب والتمر، فلا يجوز العمل به مع الشك، سيّما وهذه الأحاديث تبيّنه، وتزيل الشك. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله [«المغني» (6) / (124) – (126)]، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): يُشترط في بيع العرايا التقابض في المجلس،
وهذا قول الشافعيّ، قال ابن قُدامة: ولا نعلم فيه مخالفًا؛ لأنه بيع تمر بتمر، فاعتبر فيه شروطه، إلا ما استثناه الشرع مما لا يمكن اعتباره في بيع العرايا، والقبض في كل واحد منهما على حسبه، ففي التمر اكتياله أو نقله، وفي الثمرة التخليةُ، وليس من شروطه حضور التمر عند النخيل، بل لو تبايعا بعد معرفة التمر والثمرة، ثم مضيا جميعًا إلى النخلة، فسلّمها إلى مشتريها، ثم مشيا إلى التمر فتسلّمه من مشتريها، أو تسلّم التمر، ثم مضيا إلى النخلة جميعًا، فسلمها إلى مشتريها، أو سلم النخلة، ثم مضيا إلى التمر، فتسلمه جاز؛ لأن التفرق لا يحصل قبل القبض.
إذا ثبت هذا، فإن بيع العَرِيّة يقع على وجهين:
[أحدهما]: أن يقول: بعتك ثمرة هذه النخلة بكذا وكذا، من التمر ويصفه.
[والثاني]: أن يكيل من التمر بقدر خرصها، ثم يقول: بعتك هذا بهذا، أو يقول: بعتك ثمرة هذه النخلة بهذا التمر، ونحو هذا، وإن باعه بمعيّن، فقَبضُهُ بنقله وأخذه، وإن باع بموصوف فقبضه باكتياله. انتهى كلام ابن قُدامة رحمه الله، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العشرة): قال ابن قُدامة رحمه الله أنه لا يجوز بيع العريّة إلا لمحتاج إلى أكلها رُطَبًا، ولا يجوز بيعها لغنيّ، وهذا أحد قولي الشافعيّ، وأباحها في القول الآخر مطلقًا لكل أحد؛ لأن كل بيع جاز للمحتاج، جاز للغنيّ كسائر البياعات، ولأن حديث أبي هريرة، وسهل مطلقان.
قال: ولنا حديث زيد بن ثابت، حين سأله محمود بن لبيد: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالًا محتاجين من الأنصار، شكوا إلى رسول الله ?؛ أن الرُّطَب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رُطَبًا يأكلونه، وعندهم فضول من
التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر، يأكلونه رطبًا، ومتى خولف الأصل بشرط، لم تجز مخالفته بدون ذلك الشرط؛ ولأن ما أبيح للحاجة لم يبح مع عدمها، كالزكاة للمساكين، والترخصِ في السفر فعلى هذا، متى كان صاحبها غير محتاج إلى أكل الرطب، أو كان محتاجًا، ومعه من الثمن مما يشتري به العرية، لم يجز له شراؤها بالتمر، وسواء باعها لواهبها، تحرزًا من دخول صاحب العرية حائطه، كمذهب مالك، أو لغيره، فإنه لا يجوز. وقال ابن عقيل: يباح، ويحتمله كلام أحمد؛ لأن الحاجة وجدت من الجانبين، فجاز كما لو كان المشتري محتاجًا إلى أكلها، ولنا حديث زيد الذي ذكرناه، والرخصة لمعنى خاص، لا تثبت مع عدمه؛ ولأنه في حديث زيد، وسهل: «يأكلها أهلها رطبًا»، ولو جاز لتخليص المُعري لَما شرط ذلك.
فيشترط إذًا في بيع العرية شروط خمسة: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، وبيعها بخرصها من التمر، وقبض ثمنها قبل التفرق، وحاجة المشتري إلى أكل الرطب، وأن لا يكون معه ما يشتري به سوى التمر، واشترط القاضي، وأبو بكر شرطًا سادسًا، وهو حاجة البائع إلى البيع، واشترط الخرقي كونها موهوبة لبائعها، واشترط أصحابنا لبقاء العقد أن يأكلها أهلها رطبًا، فإن تركها حتى تصير تمرًا، بطل العقد. انتهى [«المغني» (6) / (128)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: اشتراط كون المشتري محتاجًا إلى أكلها رطبًا هو الظاهر؛ لِما تقدّم من رواية مسلم: «أن تؤخذ بمثل خرصها يأكلها أهلها رُطبًا»، وأما الحديث الذي ذكره ابن قُدامة عن زيد بن ثابت: «أن رجالًا من المحتاجين شكوا إلى رسول الله ? أن الرطب يأتي إلخ»، فليس بثابت؛ إذ لم يوجد له سند، كما نقله الزيلعيّ في «نصب الراية» ((4) / (13) – (14)) عن صاحب «التنقيح»، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج].
(المسألة الحادي عشرة): فوائد وفقه الحديث:
1 – (منها): أن فيه الترخيصَ في العرايا، واستثناءها من المزابنة المنهيّ عنها، والمزابنة هي بيع الرُّطَب في النخل بالتمر كيلًا.
2 – (ومنها): بيان تحريم بيع الثمر حتى يبدو صلاحه.
3 – (ومنها): بيان أن الثمر لا يباع بعد بدوّ صلاحه بجنسه، وإنما يباع بالدينار والدرهم، ونحو ذلك، مما ليس من جنسه.
4 – (ومنها): بيان جواز بيع العرايا بجنسها من التمر، وهو مستثنى من تحريم المزابنة؛ لحاجة الفقير.
5 – (ومنها): أنه قال ابن الملقّن رحمه الله: يؤخذ من الحديث الرخصة في الرُّطَب، وإلحاق العنب به قياسًا، وقال المحامليّ، وابن الصبّاغ: نصًّا، وألحق الماورديّ البسر أيضًا، وهل يتعدّى إلى غيرهما من الثمار؟ فيه قولان للشافعيّ، أصحّهما: المنع، والثاني: نعم؛ للحاجة، كما جوّز في العنب القياس. انتهى [«الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» (7) / (140)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد تقدّم أن الأرجح عدم إلحاق غير التمر بالتمر؛ لقوّة حججه، فراجعه، وبالله تعالى التوفيق.
6 – (ومنها): أنه يؤخذ منه أيضًا أن الرخصة عامة لجميع الأغنياء والفقراء حيث أطلق الرخصة من غير تقييد بأحد، وهو أصحّ قولي الشافعيّ، والثاني: أنه تختصّ بالفقراء؛ لأنهم سبب الرخصة، كما ذكره الشافعيّ في «الأمّ»، لكن بغير إسناد، وحكاه ابن دقيق العيد وجهًا، وتبع الفورانيّ في ذلك، ومثار الخلاف أن اللفظ العامّ إذا ورد على سبب خاصّ، هل يخصّصه، أو هو على عمومه؛ وفيه خلاف في كتب الأصول [راجع: «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» من هامشه (7) / (140) – (141)]، والأرجح أنه لا يخصص إلا بالقرينة، ومن أدلّته أنه لما نزلت آية: {إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} [هود (114)] قال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال ?: «بل لأمتي كلها» [في الحاشية: “حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في «سننه»، ولفظه: أن رجلًا أصاب من امرأة – يعني ما دون الفاحشة – فلا أدري ما بلغ، غير أنه دون الزنى، فأتى النبي ?، فذكر ذلك له، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ ((114))} [هود (114)]، فقال: يا رسول الله ألي هذه؟ قال: «لمن أخذ بها»، وفي لفظ: «هي لمن عَمِل بها من أمتي» “. انتهى.]، وهو حديث صحيح.
7 – (ومنها): أنه يؤخذ منه نظر الإمام لرعيّته، وفكره في مصالحهم، وما يحتاجون إليه من أمور دنياهم على وجه الشرع.
8 – (ومنها): ما قال وليّ الدين رحمه الله: الرخصة وردت في بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والبسر في معنى الرطب، كما صرَّح به الماوردي من الشافعيّة، ووردت رواية في بيعه برطب أيضًا، وهي في «الصحيحين»، وفي سنن أبي داود، والنسائيّ من حديث خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه؛ أن النبيّ ? رَخَّص في العرايا بالتمر والرطب، فتمسك بذلك بعضهم على جواز بيع الرطب على النخل برطب على الأرض، أو على النخل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].