: [1ج/ رقم (229)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، وعبدالحميد البلوشي، وكديم، ومحمد البلوشي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (229)]:
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (3) ص (350)): حدثنا حجين، ويونس، قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله ? أنه قال: «إن خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا، والبيت العتيق».
هذا حديث حسن على شرط مسلم.
الحديث أخرجه أبو يعلى (ج (4) ص (182)) فقال رحمه الله: حدثنا كامل (وهو ابن طلحة) حدثنا ليث به.
* وقال الإمام أبو محمد عبد بن حميد رحمه الله في «المنتخب» (ج (3) ص (26)): حدثني أحمد بن يونس قال حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر: عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا أو البيت العتيق».
هذا حديث حسن.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الأول:
أورد الحديث الإمام أحمد في مسنده، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه، ((14782)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(4) – كتاب الصلاة، (7) – فضل الصلاة في المساجد الثلاثة، ((810)).
(7) – كتاب الحج والعمرة، (68) – فضل المسجد الحرام، ((1435)).
(16) – كتاب الفضائل، (94) – فضل المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، ((16) – كتاب الفضائل).
(33) – كتاب التفسير، (248) – قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [سورة الحج، الآية: (29)]، ((4201)).
وقال شعَيب الأرنؤوط وآخرون – ط: الرسالة -:
“إسناده صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه عبد بن حميد ((1049))، والنسائي في «الكبرى» ((11347))، وأبو يعلى ((2266))، وابن خزيمة في الحج كما في «إتحاف المهرة» (3) / (501)، وابن حبان ((1616))، والطبراني في «الأوسط» ((744)) و ((4427)) من طرق عن الليث ابن سعد، بهذا الإسناد. وانظر ((14612)) “. انتهى.
والثاني: شرح وبيان الحديث
“جعَل اللهُ عزَّ وجلَّ التَّفاضُلَ في كُلِّ شَيءٍ، ففضَّل بعضَ الأنبياءِ على بعضٍ، وبعضَ الشُّهورِ على بعضٍ، وبعضَ البِقاعِ على بعضٍ، ومن هذه البِقاعِ التي فضَّلها اللهُ عزَّ وجلَّ المسجِدَ الحَرامَ، ومَسجِدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((خَيرُ ما رُكِبَتْ إليه الرَّواحِلُ))، أي: خَيرُ ما سافَرَ الإنسانُ له ((والبَيْتُ العَتيقُ)) وهو المسجِدُ الحَرامُ، والكَعْبَةُ؛ فإنَّها هي البَيتُ العَتيقُ، كما قال تَعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، والواو هنا لا تَقتَضي التَّرتيبَ، ولا تَقتَضي أفضليَّةَ مَسجِدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على البَيتِ الحَرامِ؛ فإنَّه خِلافُ ما اتَّفَقَتْ عليه الرِّواياتُ؛ وإنَّما قدَّمَه لأنَّه المُشاهَدُ الحاضِرُ للمُخاطَبينَ.
وقد ورَدَ النهيُ عن السَّفرِ لغَيرِ هذه المساجِدِ المَذْكورةِ والمسجِدِ الأقْصى، كما جاءَ في الحديثِ الذي خرَّجه البُخاريُّ عن أبي هُرَيرَةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثَلاثَةِ مساجِدَ: مَسجِدِ الحَرامِ، ومَسجِدي، ومَسجِدِ الأقْصى))؛ وهذا لِمَا لهذه المساجِدِ من الفَضْلِ؛ فالصَّلاةُ فيها مُضاعَفَةٌ على ما سِواها من المساجِدِ؛ فالصَّلاةُ في المسجِدِ الحَرامِ بمِئَةِ أَلْفِ صَلاةٍ، وفي المسجِدِ النَّبويِّ بأَلْفٍ، وفي المسجِدِ الأقْصى بخَمْسِمِئَةٍ، وقد بَناها الأنبياءُ، وهي مَواطِنُ تَهْفو إليها القُلوبُ.
وفي الحديثِ: بيانُ عُلُوِّ مَكانَةِ المسجِدِ الحَرامِ، والمسجِدِ النَّبويِّ”. [الموسوعة الحديثية- الدرر].
ورواه عن جابر رضي الله عنه أحمد بلفظ: ((خير ما ركبت إليه الرواحل مسجد إبراهيم، ومسجدي)). قال الهيثمي: وسنده حسن. [فيض القدير للمناوي (3/ 490)، التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (ت (1182))].
تنبيه: الراجح أن للمسجد الأقصى فضل مئتين وخمسين صلاة
والثالث: ملحقات:
(المسألة الأولى): حكم زيارة المسجد النبوي الشريف، وهل له تعلق بالحج؟
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“زيارة المسجد النبوي سنة؛ لقول النبي ? (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) [أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم ((1189))، ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، رقم ((1397))]، فيسافر الإنسان لزيارة المسجد النبوي؛ لأن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام [أخرجه البخاري، كتاب الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، رقم ((11190))، ومسلم، كتاب الحج باب فضل الصلاة في بمسجدي مكة والمدينة، رقم ((1394))]،
ولكنه إذا سافر إلى المدينة فينبغي أن يكون قصده الأول الصلاة في مسجد الرسول ?، وإذا وصل إلى هناك، زار قبر رسول الله ? وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، على الوجه المشروع في ذلك من غير بدع ولا غلو.
وقولك في السؤال: هل له علاقة بالحج؟
جوابه: أنه لا علاقة له بالحج، وأن زيارة المسجد النبوي منفصلة، والحج والعمرة منفصلان عنه، لكن أهل العلم رحمهم الله يذكرونه في باب الحج، أو في آخر باب الحج؛ لأن الناس في عهد سبق يشق عليهم أن يفردوا الحج والعمرة في سفر وزيارة المسجد النبوي في سفر، فكانوا إذا حجوا واعتمروا، مروا على المدينة لزيارة مسجد رسول الله ?؛ وإلا فلا علاقة بين هذا وهذا”. [فقه العبادات للعثيمين (394)].
(المسألة الثانية): آداب
أ) فصل في آداب دخول مكة
وهي سبعة:
(1) – الأول: استحب بعض السلف أن يقول عند الدخول في أول الحرم وهو خارجَ مكة -شرفها الله تعالى وعظمها-: «اللهمَّ هذا حرمُك وأمنُك، فحرِّمْ لحمي ودمي وبَشَري على النار، وآمِنِّي عذابَك يوم تبعثُ عبادَك، واجعلني من أوليائك وأهلِ طاعتك».
(2) – الثاني: أن يغتسل بذي طوى؛ لأن النبي ? كان يبيت بها، ويغتسل لدخول مكة، قالت الشافعية، والحنفية، والحنابلة: يستحب الغسلُ لمن دخل مكة وهو محرِم، حتى للحائض والنفساء، وعند المالكية: إنه مسنون لغير الحائض.
قلت: فمن تيسر له المبيت بها، والاغتسال فيها، وإلا، فلا شيء عليه من ذلك.
(3) – الثالث: أن يدخل من ثنية كَداء من أعلى مكة باتفاق الأربعة، إلا أن المالكية قالوا: يستحب لمن أتى من طريق المدينة، وفي حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-: كان النبي ? إذا دخل مكة، دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، وإذا خرج، خرج من الثنية السفلى، رواه الجماعة إلا الترمذي، وفي الباب عن عائشة عند الشيخين، وأبي داود.
(4) – الرابع: أن يدخلها نهارًا، باتفاقهم، وذلك أفضل، ولو دخل ليلًا، جاز؛ كدخولها راكبًا وماشيًا، وصحح النووي أن دخولها ماشيًا أفضل.
(5) – الخامس: أن يدخل مكة والمسجد من جميع الجوانب، لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة اقتداء بالنبي ?، فإنه دخلها من وجهه من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلات، ولم يكن على عهد النبي ? لمكة ولا للمدينة سور، ولا أبواب مبنية، ودخل المسجد من الباب الأعظم الذي يقال له: باب بني شيبة، (ويعرف بباب السلام) وهذا أقرب الطريق إلى الحَجَر (يعني)، ولم يكن قديمًا بناء يعلو البيت، ولا كان بين الصفا والمروة والمشعر الحرام، ولا كان بمنى ولا عرفات مسجدٌ، ولا عند الجمرات، بل كل هذه محدثة بعد الخلفاء الراشدين، ومنها ما أحدث بعد ذلك، فقد كان البيت يُرى قبل دخول المسجد.
(6) – السادس: إذا دخل مكة، ووقع بصره على البيت، فليقل: لا إله إلا الله، اللهُ أكبر، اللهمَّ زدْ هذا البيتَ تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزِدْ مَن شرَّفه وكرَّمه ممَّن حجَّه أو اعتمر تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبِرًّا، اللهمَّ افتح لي أبواب رحمتك، وأدخلني جنتك، وأعِذْني من الشيطان الرجيم، ثم يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، ويستحب عند الشافعية: إذا رأى البيت أن يرفع يديه بباطن كفيه كما يرفعهما للدعاء، ولا يشير بيده ولا بالسبابة إلى البيت كما يفعله بعض العوام؛ فإن ذلك بدعة، وبه قال الحنابلة، وعند الحنفية: لا يرفع يديه عند رؤية البيت، وبه قال مالك، واستدلوا بحديث ابن جريج: أن النبي ? كان إذا رأى البيت، رفع يديه، وقال: «اللهمَّ زِدْ … إلخ» رواه الشافعي في «مسنده»، وقال: ليس في هذا شيء، فلا أكرهه، ولا استحبه. قال البيهقي: فكأنه لم يعتمد على الحديث؛ لانقطاعه، وعن جابر: وسئل عن الرجل يرى البيتَ يرفع يديه، فقال: لقد حججنا مع رسول الله ?، فلم يكن يفعله، رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وسنده ضعيف.
والحاصل: أنه ليس في الباب ما يدل على مشروعية رفع اليدين عند رؤية البيت، وهو حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل.
(7) – السابع: إذا دخل المسجد، بدأ الطواف؛ لأن النبي ? لما دخل، بدأ به، ولم يصلِّ قبل ذلك تحيةَ المسجد، ولا غير ذلك، بل تحية المسجد الحرام هو الطواف بالبيت، فله ألا يعرج على شيء دون الطواف، إلا أن يجد الناس في المكتوبة، فيصلي معهم ثم يطوف. [رحلة الصديق إلى البلد العتيق لصديق حسن خان (ت (1307))، (83 – 85)].
ب) الآداب المشروعة في زيارة المسجد النبوي
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
“السنة لمن زار المدينة المنورة أن يبدأ بالمسجد النبوي، فيصلي فيه ركعتين والأفضل أن يكون فِعْلُهُن في الروضة النبوية إذا تيسر ذلك لقول النبي ?: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة.
ثم يأتي القبر الشريف فيسلم على النبي ? وعلى صاحبيه: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، من قبل القبلة، يستقبلهما استقبالًا، وصفة السلام أن يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، وإن زاد فقال: صلى الله وسلم عليك وعلى آلك وأصحابك، وجزاك الله عن أمتك خيرًا، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، فلا بأس.
ثم يتأخر عن يمينه قليلًا، فيسلم على الصديق فيقول: السلام عليك يا أبا بكر ورحمة الله وبركاته رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيرًا، ثم يتأخر قليلًا عن يمينه ثم يسلم على عمر رضي الله عنه مثل سلامه على الصديق رضي الله عنهما.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي ? أنه قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى.
وثبت عنه ? أنه قال: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. متفق عليه.
وثبت عنه ? أنه قال: زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة. وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ….
و يشرع للرجال والنساء جميعًا الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله ? في كل مكان لعموم قول الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقول النبي ?: من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا. والأحاديث في فضل الصلاة على النبي ? كثيرة …. “. انتهى. [من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من (المجلة العربية) (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 17/ 410)].
وقال أيضًا:
“.أما ما شاع بين الناس من أن الزائر يقيم ثمانية أيام حتى يصلي أربعين صلاة فهذا وإن كان قد روي في بعض الأحاديث: إن من صلى فيه أربعين صلاة كتب الله له براءة من النار، وبراءة من النفاق إلا أنه حديث ضعيف عند أهل التحقيق لا تقوم به الحجة؛ لأنه قد انفرد به إنسان لا يعرف بالحديث والرواية، ووثقه من لا يعتمد على توثيقه إذا انفرد.
فالحاصل أن الحديث الذي فيه فضل أربعين صلاة في المسجد النبوي حديث ضعيف لا يعتمد عليه. والزيارة ليس لها حد محدود، وإذا زارها ساعة أو ساعتين، أو يومًا أو يومين، أو أكثر من ذلك فلا بأس.
ويستحب للزائر أن يزور البقيع ويسلم على أهله ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة.
ويستحب له أن يزور الشهداء ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة.
ويستحب له أن يتطهر في بيته ويحسن الطهور ثم يزور مسجد قباء ويصلي فيه ركعتين كما كان النبي يزوره عليه الصلاة والسلام،
أما الطواف بقبر النبي فهذا لا يجوز، وإذا طاف بقصد التقرب إلى النبي فهذا شرك بالله عزوجل، فالطواف عبادة حول الكعبة لا تصلح إلا لله وحده، ومن طاف بقبر النبي ? أو قبر غيره من الناس يتقرب إليهم بالطواف صار مشركًا بالله عزوجل، وإن ظن أنه طاعة لله، وفعله من أجله يتقرب به إليه صار بدعة.
وهكذا حكم الطواف عند قبر غير النبي ? مثل قبر الحسين، أو البدوي في مصر، أو ابن عربي في الشام، أو قبر الشيخ عبدالقادر الجيلاني، أو موسى الكاظم في العراق، أو غير ذلك.
وينبغي أن نفرق بين الزيارة للميت وبين عبادة الله وحده، فالعبادة لله وحده، والميت يزار لتذكر الآخرة أو الزهد في الدنيا والدعاء والترحم عليه، أما أنه يعبد من دون الله، أو يدعى من دون الله، أو يستغاث به أو ما أشبه ذلك، فذلك لا يجوز بل هو من المحرمات الشركية.
ونسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من ذلك وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه”. انتهى. [ما يفعله الزائر للمدينة المنورة، نشر في كتاب (فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة) لسماحته ص 139 (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 17/ 405) الموقع الرسمي لفضيلته].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “الآداب المشروعة فذكر نحو ما سبق ثم قال:.
وأما ما يفعله بعض الناس من التمسح بجدران الحجرة، أو التبرك بها، أو ما أشبه ذلك، فكله من البدع، وأشد من ذلك وأنكر وأعظم: أن يدعو النبي ? لتفريج الكربات، وحصول المرغوبات؛ فإن هذا شرك أكبر مخرج عن الملة، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرا، ولا يملك لغيره كذلك نفعًا ولا ضرا، ولا يعلم الغيب، وهو ? قد مات كما يموت غيره من بني آدم، فهو بشر يحيا كما يحيون، ويموت كما يموتون، وليس له من تدبير الكون شيء أبدًا، قال الله تعالى، أي: للرسول ?: (قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا رَشَدًا) ((21)) (قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أحَدٌ ولَنْ أجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا) (الجن: (21) / (22))، وقال الله تعالى له: (قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إلا ما شاء الله) (لأعراف: (188)) وقال الله له: (قُلْ لا أقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ ولا أقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ) (الأنعام: (50)).
فالرسول ? بشر محتاج إلى الله عز وجل، وليس به غنى عنه طرفة عين، ولا يملك أن يجلب نفعًا لأحد أو يدفع ضررًا عن أحد، بل هو عبد مربوب مكلف كما يكلف بنو آدم، وإنما يمتاز بما من الله به عليه من الرسالة التي لم تكن لأحد قبله ولن تكون لأحد بعده، وهي الرسالة العظمى التي بعث بها إلى سائر الناس إلى يوم القيامة. [فقه العبادات للعثيمين (395)].
(المسألة الثالثة) في اختلاف أهل العلم في معنى الاستثناء في قوله: «إلا المسجد الحرام»:
(اعلم) أنهم اختلفوا في معنى هذا الاستثناء،
فقال الجمهور: معناه إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجد المدينة، حكاه ابن عبد البرّ عن ابن الزبير، وعطاء بن أبي رَباح، وقتادة، وسفيان بن عيينة، ومن المالكية: مُطَرِّف، وابن وهب، وجماعة أهل الأثر، وقال به الشافعيّ، وأحمد.
ويدل له ما رواه الإمام أحمد، والبزار في «مسنديهما»، وابن حبان في «صحيحه»، والبيهقي في «السنن الكبرى»، وغيرهم، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله ?: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا».
قال ابن عبد البرّ رحمه اللهُ: اختُلِف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومَن رفعه أحفظ وأثبت من جهة النقل، وهو أيضًا صحيح في النظر؛ لأن مثله لا يُدرك بالرأي، مع شهادة أئمة الحديث للذي رفعه بالحفظ والثقة، وقال النوويّ رحمه اللهُ: حديث حسن، وقال الحافظ العراقي في «شرح الترمذيّ»: رجاله رجال الصحيح.
وروى ابن ماجه من حديث جابر – رضي الله عنه – مرفوعًا: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه»، وفي بعض النسخ: «من مائة صلاة فيما سواه»، فعلى الأول معناه: فيما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني: معناه: من مائة صلاة في مسجد المدينة، ورجال إسناده ثقات، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه.
قال ابن عبد البر: جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما، وعلى ذلك يحمله أهل العلم بالحديث، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية «معروف بالرواية عن جابر وابن الزبير.
وروى البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه:» الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة «. قال البزار: إسناده حسن.
وفي» سنن ابن ماجه «حديث آخر يقتضي تفضيل الصلاة في مسجد مكة، إلا أنه مخالف لما تقدم في قدر الثواب، رواه عن أنس مرفوعًا، وفيه:» وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة”، قال العراقيّ رحمه الله: فيه أبو الخطاب الدمشقيُّ يحتاج إلى الكشف عنه.
وذهب آخرون إلى أن معنى الاستثناء:
إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة، ذكر ابن عبد البر أن يحيى بن يحيى سأل عبد الله بن نافع عن معنى هذا الحديث، فذكر هذا، ثم قال ابن عبد البر: تأويل ابن نافع بعيد عند أهل المعرفة باللسان، قال: ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد رسول الله ? أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفًا، وإذا كان هكذا لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافع،
وحسبك ضعفًا بقولٍ يؤول إلى هذا.
وقال ابن بطال: مثّل بعض العلماء بلسان العرب الاستثناء في هذا الحديث بمثال بَيِّن فيه معناه، فإذا قلت: اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة، إلا العراق جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكون فاضلًا، وأن يكون مفضولًا، فإن كان مساويًا فقد عُلم فضله، وإن كان فاضلًا أو مفضولًا لم يُعلم مقدار المفاضلة بينهما، إلا بدليل على عدة درجات، إما زائدة على ذلك، أو ناقصة عنه.
قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: هذا كلام فيه إنصاف، بخلاف كلام ابن نافع، وقد قام الدليل على أن المسجد الحرام فاضل بمائة درجة، وقد سبق ذلك، فوجب الرجوع إليه.
ثم قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا: أن الصلاة في مسجد النبيّ ? أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بمائة صلاة، ومن غيره بألف صلاة، قال: واحتَجَّ لذلك بما رواه سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن سليمان بن عتيق، قال: سمعت ابن الزبير، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه».
قال: وتأول بعضهم هذا الحديث أيضًا عن عمر على أن الصلاة في مسجد النبيّ ? خير من تسعمائة صلاة في المسجد الحرام، قال: وهذا كله تأويل لا يعضده دليل، وحديث سليمان بن عتيق هذا لا حجة فيه؛ لأنه مختلف في إسناده، وفي لفظه، وقد خالف فيه من هو أثبت منه، فمن الاختلاف أنه روي عنه، عن ابن الزبير، عن عمر بلفظ: «صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجد النبيّ ?»، وبلفظ: «صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول الله ?، فإنما فضله عليه بمائة صلاة».
قال: فكيف يحتجون بحديث قد روي فيه ضِدَ ما ذكروه نصًّا من روايات الثقات إلى ما في إسناده من الاختلاف أيضًا؟ وقد ذكره عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني سليمان بن عتيق، وعطاء، عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول: «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه، ويشير إلى مسجد المدينة».
ثم رَوى ابن عبد البر بإسناده عن سليمان بن عتيق، عن ابن الزبير، عن عمر: «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد رسول الله ?، فإنما فضله عليه بمائة صلاة»، ثم قال: على أنه لم يُتابع سليمان بن عتيق على ذكره عمر، وهو مما أخطأ فيه عندهم، وانفرد به، وما انفرد به فلا حجة فيه، وإنما الحديث محفوظ عن ابن الزبير.
انتهى [«طرح التثريب في شرح التقريب» (6) / (46) – (49)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من التحقيق أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام على مسجد المدينة، كما هو رأي الجمهور، فما ذهبوا إليه هو الحقُّ؛ لظهور أدلّته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): أنه استَدَلّ الجمهور بهذا الحديث بالتقرير الذي تقدم على تفضيل مكة على المدينة؛ لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها، مما تكون العبادة فيه مرجوحة.
وهو مذهب سفيان بن عيينة، والشافعي، وأحمد، في أصح الروايتين عنه، وابن وهب، ومطرف، وابن حبيب؛ الثلاثة من أصحاب المالكية، وحكاه الساجيّ، عن عطاء بن أبي رباح، والمكيين، والكوفيين، وبعض البصريين والبغداديين، وحكاه ابن عبد البر رحمه اللهُ عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وابن عمر، وجابر، وعبد الله بن الزبير، وقتادة، لكن حَكى القاضي عياض، والنووي عن عمر أن المدينة أفضل، وحكاه ابن بطال، عن عمر
بصيغة التمريض، فقال: وروي عن عمر، قال ابن عبد البر: وقد روي عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها، قال: لكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة.
ومما يدل للجمهور ما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه عن عبد الله بن عديّ بن حمراء – رضي الله عنه -، قال: رأيت رسول الله ? واقفًا على الحَزَوَّرة، فقال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت»، قال الترمذيّ: حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال ابن عبد البر: هذا من أصح الآثار عن النبيّ ?، قال: وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى.
وذهب آخرون إلى تفضيل المدينة على مكة، وهو قول مالك، وأهل المدينة، وحكاه زكريا الساجيّ عن بعض البصريين والبغداديين، وتقدم قول من حكاه عن عمر.
قال ابن عبد البرّ رَحمه اللهُ: واستَدَلّ أصحابنا على ذلك بقوله ?: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»، قال: ورَكَّبوا عليه قوله ?: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، قال: وهذا لا دليل فيه على ما ذهبوا إليه؛ لأنه إنما أراد به ذمّ الدنيا والزهد فيها، والترغيب في الآخرة، فأخبر أن اليسير من الجنة خير من الدنيا كلها، وأراد بذكر السوط -والله تعالى أعلم- التقليل، لا أنه أراد موضع السوط بعينه، بل موضع نصف سوط، وربع سوط من الجنة الباقية خير من الدنيا الفانية، ثم قال: ولا حجة لهم في شيء مما ذهبوا إليه، ولا يجوز تفضيل شيء من البقاع على شيء إلا بخبر يجب التسليم له، ثم ذكر حديث ابن حمراء المتقدم، وقال: كيف يترك مثل هذا النصّ الثابت، ويُمال إلى تأويل لا يجامع متأوله عليه. انتهى [«طرح التثريب في شرح التقريب» (6) / (49) – (50)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكِر أن الأرجح في المسألة هو ما ذهب إليه الجمهور من تفضيل مكة على المدينة؛ لقوة حجته.
وقد أشبع الكلام الإمام المجتهد البارع أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه «المُحَلّى» ناصرًا رأي الجمهور في تفضيل مكة على المدينة، ومُفَنِّدًا رأي القائلين بالعكس، وناقضًا لما تمسكوا به، بما لا تجده في كتاب غيره، فلتُراجع كتابه المذكور [«المحلى» (7) / (279) – (290)]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): استثنى القاضي عياض رحمه الله من القول بتفضيل مكة البقعة التي دُفن فيها النبيّ ?، وضمّت أعضاءه الشريفة، وحكى اتفاق العلماء على أنها أفضل بقاع الأرض.
وقال النوويّ في «شرح المهذب»: ولم أر لأصحابنا تعرُّضًا لما نقله، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وتُعُقِّب على القاضي بأن هذا لا يتعلق بالبحث المذكور؛ لأن محله ما يترتب عليه الفضل للعباد.
وأجاب القرافيّ: بأن سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل، بل قد يكون لغيرها، كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: جواب القرافي هذا غير مفيد، بل التعقب المذكور على وجهه، فافهم.
قال ابن عبد البر: وكان مالك يقول: مِن فَضْلِ المدينة على مكة أني لا أعلم بقعة فيها قبر نبيّ معروف غيرها، قال ابن عبد البر: يريد ما يُشَكّ فيه، فإن كثيرًا من الناس يزعم أن قبر إبراهيم عليه السلام بيت المقدس، وأن قبر موسى عليه السلام هناك، ثم ذكر حديث أبي هريرة المرفوع في سؤال موسى عليه السلام ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، ثم قال: إنما يُحتج بقبر رسول الله ? على من أنكر فضلها، أما من أقر به، وأنه ليس على وجه الأرض أفضل بعد مكة منها، فقد أنزلها منزلتها، واستعمل القول بما جاء عن النبيّ ? في مكة، وفيها.
ثم روى ابن عبد البر عن عليّ بن أبي طالب أنه قال: إني لأعلم أي بقعة أحب إلى الله في الأرض؟ هي البيت الحرام، وما حوله.
وقال بعضهم: سبب تفضيل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة أنه روي «أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يُخْلَق»، رواه ابن عبد البر في أواخر «التمهيد» من طريق عطاء الخراسانيّ موقوفًا، وعلى هذا، فقد رَوى الزبير بن بكار أن جبريل عليه السلام أخذ التراب الذي خُلِق منه النبيّ ? من تراب الكعبة، فعلى هذا؛ فالبقعة التي ضمت أعضاءه من تراب الكعبة، فيرجع الفضل المذكور إلى مكة، إن صح ذلك، والله تعالى أعلم. انتهى [«طرح التثريب في شرح التقريب» (6) / (50) – (51) بزيادة من «الفتح» (3) / (81) – (82)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: مثل هذه الأمور تحتاج إلى دليل صحيح، وهذه الأخبار التي أوردها هنا لم يثبت لدينا صحّتها، فلا يُعتمد عليها فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة):
قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله نقلًا عن والده في «شرح الترمذيّ» ما نصه: في حديث عبد الله بن الزبير، وجابر، وابن عمر، وأبي الدرداء، وأنس – رضي الله عنهم – مرفوعًا: «إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة»، وفي حديث عمر – رضي الله عنه – موقوفًا عليه: «إن الصلاة فيه خير من مائة صلاة»، وهكذا رواه الطبراني في «الأوسط» من حديث عائشة – رضي الله عنها – مرفوعًا، وفي بعض طرق أثر عمر: «إن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة بمسجد المدينة»، وفي حديث الأرقم: «إن الصلاة بمكة أفضل من ألف
صلاة ببيت المقدس» رواه أحمد وغيره.
قال: والجمع بين هذا وبين ما تقدم؛ أن يُحْمَل أثر عمر باللفظ الأول، وحديث عائشة على تقدير صحتهما على أن المراد خير من مائة صلاة في مسجد المدينة، فيكون موافقًا لحديث ابن الزبير، ومن معه، وحديث الأرقم، وأثر عمر باللفظ الثاني يقتضي أن تكون الصلاة في المسجد الحرام بألف ألف صلاة، وإذا تعذّر الجمع، فيرجع إلى الترجيح، وأصح هذه الأحاديث حديث ابن الزبير، وجابر، وابن عمر، وأبي الدرداء، فإن أسانيدها صحيحة.
قال: وأما الاختلاف في مسجد المدينة، فأكثر الأحاديث الصحيحة: «إن الصلاة فيه خير من ألف صلاة»، وفي حديث أبي الدرداء: «إنها بألف صلاة» من غير تفضيل على الألف، وفي حديث أنس عند ابن ماجه: «إن الصلاة فيه بخمسين ألف صلاة»، وفي حديث أبي ذر عند الطبراني في «الأوسط»: «إن الصلاة فيه أفضل من أربع صلوات ببيت المقدس».
قال: وقد اختَلَفت الأحاديث في المقدار الذي تضاعف به الصلاة في مسجد بيت المقدس، فعند ابن ماجه من حديث ميمونة مولاة النبيّ ?، عن النبيّ ?: «إن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره»، وعند الطبراني في حديث أبي الدرداء: «إن الصلاة بخمسمائة صلاة»، وفي حديث أنس عند ابن ماجه: «إن الصلاة فيه بخمسين ألف صلاة».
فعلى هذا تكون الصلاة بمسجد المدينة إما بأربعة آلاف على مقتضى حديث ميمونة، وإما بألفين على مقتضى حديث أبي الدرداء، وإما بمائتي ألف صلاة على مقتضى حديث أنس، لكنه في هذا الحديث سوّى بين مسجد المدينة وبين مسجد بيت المقدس.
وأصح طرق أحاديث الصلاة ببيت المقدس: «إنها بألف صلاة»، فعلى
هذا أيضًا يستوي المسجد الأقصى مع مسجد المدينة، وعند أحمد من حديث أبي هريرة، أو عائشة، مرفوعًا: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الأقصى»، وعلى هذا فتُحْمَل هذه الرواية على تقدير ثبوتها: إلا المسجد الأقصى، فإنهما مستويان في الفضل، ولا مانع من المصير إلى هذا؛ أي: فإنه ليس بأفضل من ألف صلاة فيه، بل هو مساوٍ له.
وأصح طرق أحاديث التضعيف في المدينة: «إنها أفضل من ألف»، والأصح في بيت المقدس «إنها بألف»، فيمكن أيضًا أن يكون التفاوت بينهما بالزيادة على الألف، والله تعالى أعلم. انتهى كلام العراقيّ رحمه اللهُ في «شرح الترمذيّ» [«طرح التثريب» (6) / (51) – (52)].
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: عندي الأولى في مثل هذا الاختلاف أن يُسْلَك مسلك الترجيح، فيؤخذ بالأصح، كما أشار إليه العراقيّ آنفًا، فلا حاجة لسائر الروايات المخالفة للأصح، فليتنبه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): ظاهر الحديث أنه لا فرق في تضعيف الصلاة بين الفرض والنفل،
وبه قال الشافعية، ومُطَرِّف، من المالكية، وذهب الطحاويّ إلى اختصاص التضعيف بالفرض، وهو مقتضى كلام ابن حزم الظاهريّ؛ لأنه أوجب صلاة الفرض في أحد المساجد الثلاثة بنذره ذلك، ولم يوجب التطوع فيها بالنذر، وقال النوويّ: وهو خلاف الأحاديث الصحيحة.
قال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: قد يقال: لا عموم في اللفظ؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات، وساعد ذلك أن النبيّ ? قال: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»، وقد يقال: هو عامّ؛ لأنه وإن كان في الإثبات، فهو في معرض الامتنان.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هذا الذي قاله أخيرًا هو الأولى، فالنص عامّ، وإن كان في سياق الإثبات، بدليل أن الكلام ذُكر لبيان امتنان الله تعالى على نبيّه ?، حيث فَضَّل مسجده بهذا الفضل العظيم، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ العراقيّ في «شرح الترمذيّ»: تكون النوافل في المسجد مضاعفة بما ذُكر من ألف في المدينة، ومائة ألف في مكة، ويكون فعلها في البيت أفضل، لعموم قوله ? في الحديث الصحيح: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»، بل ورد في بعض طرقه أن النافلة في البيت أفضل من فعلها في مسجده ?. انتهى [«طرح التثريب» (6) / (52)].
وقال في «الفتح»: ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه، فتكون صلاة النافلة في البيت بالمدينة، أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقًا. انتهى [«الفتح» (3) / (608)]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة):
استُدِلّ بهذا الحديث على أن تضعيف الصلاة في مسجد المدينة يختص بمسجده ? الذي كان في زمنه، دون ما أُحدث بعده فيه من الزيادة في زمن الخلفاء الراشدين وغيرهم؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده، وذاك هو مسجده، وأيضًا أكد ذلك بقوله في رواية «الصحيحين»: «مسجدي هذا»، وبذلك صرح النوويّ، وقال: ينبغي أن يحرص المصلي على ذلك، ويتفطن لما ذكرته.
قال ولي الدين رحمه اللهُ: وهذا بخلاف المسجد الحرام، فإنه لا يختص التضعيف بالمسجد الذي كان في زمنه ?، بل يشمل جميع ما زيد فيه؛ لأن اسم المسجد الحرام يعم الكل، بل المشهور عند الشافعية أن التضعيف يعمّ مكة، بل صحح النووي أنه يعمّ الحرم الذي يحرم صيده. انتهى [«طرح التثريب في شرح التقريب» (6) / (52) – (53)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: عندي فيما قاله النوويّ رحمه الله في المسجد النبوي نظر؛ إذ الظاهر أن قوله:» مسجدي هذا «إنما هو للاحتراز من غيره من مساجد المدينة» فلا يمنع دخول الزيادة بعده ?، ويدل على ذلك أثر عمر – رضي الله عنه -، قال: «لو مدّ مسجد النبيّ ? إلى ذي الحليفة لكان منه»، وفي لفظ: «لو زدنا فيه حتى بلغ الجبّانة كان مسجد رسول الله ?، وجاءه الله بعامر»، رواه عمر بن شبة من طريقين مرسلين عنه موقوفًا، ورفعه ضعيفٌ جدًّا كما بيّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله [«السلسلة الضعيفة» (2) / (452) – (453)]، والله تعالى أعلم.
قلت: وقد حقق الموضوع شيخ الإسلام ابن تيمية: رحمه الله تحقيقًا حسنًا حيث قال: وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده ? حكم المزيد، تضعف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه، والطواف لا يكون إلا في المسجد، لا خارجًا ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلّون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر، ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمون كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده، لكانت تلك الصلاة في مسجد غيره، ويأمرون بذلك.
ثم قال: وهذا هو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين، وعملهم، فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل، وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر، وعثمان – رضي الله عنهما -، فإن كلّا منهما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا كان كذلك، فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء الراشدون، والصفوف الأول كانوا يصلّون في غير مسجده،
وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت له في ذلك سلفًا من العلماء. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه اللهُ [راجع: «السلسلة الضعيفة»، للشيح الألبانيّ رحمه الله (2) / (403)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: هذا الذي قاله شيخ الإسلام حسن جدًّا، ولعله أشار بما ذكره عن بعض المتأخرين ما تقدم عن النوويّ رحمه اللهُ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): قال النوويّ رحمه اللهُ: قال العلماء ما حاصله: إن المضاعفة المذكورة في هذا الحديث إنما هي فيما يرجع إلى الثواب، فثواب صلاة فيه يزيد على ثواب ألف صلاة في غيره، ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت، حتى لو كان عليه صلاتان، فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزه عنهما، وهذا لا خلاف فيه، ذكره وليّ الدين رحمه اللهُ [«طرح التثريب» (6) / (53)]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج]
(المسألة العاشرة): فقه وفوائد الباب
(1) – (منها): بيان فضل الصلاة في المسجد الحرام، وهل هو خاص
بالمسجد أم يعمّ الحرم كله؟ فيه خلاف، والصحيح أنه يعمّ الحرم كلّه، وقد
مر تحقيقه قريبًا.
(2) – (ومنها): بيان فضل الصلاة في مسجد رسول الله ?، حيث إنه يُضاعَف على غيره بأكثر من ألف صلاة، إلا المسجد الحرام، وهل هو خاص بما كان مسجدًا في عهده، أم يعمّ الزائد بعده؟ فيه خلاف وقد مر تحقيقه قريبًا أيضًا.
(3) – (ومنها): كون مكة أفضل من المدينة؛ حيث إن الصلاة في مكة أفضل من الصلاة في المدينة، وهو رأي الجمهور، وخالف في ذلك مالك.
(4) – (ومنها): أنه يؤخذ منه أن من نذر أن يصلي في أحد هذه المساجد الثلاثة لزمه الوفاء به، إلا إذا كان مكانه أفضل من مكان النذر، وإليه ذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه، وله أن يصلي في أي محل شاء، وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا نذر حجّا أو عمرة.
والقول الأول هو الأرجح؛ لهذا الحديث [«صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذا أفضَلُ مِن ألفِ صلاةٍ فِيما سِواهُ، إلّا المَسْجِدَ الحَرامَ»]، ولما رواه أحمد، وأبو داود من حديث جابر – رضي الله عنه -، أن رجلًا قال يوم الفتح: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال: «صل ها هنا»، فسأله؟
فقال: «شأنك إذن»، ورواه أيضًا البيهقيّ، والحاكم، وصححه، وصححه أيضًا ابن دقيق العيد في «الاقتراح».
ولأحمد، وأبي داود أيضًا: عن بعض أصحاب النبيّ ? بهذا الخبر، وزاد: فقال النبيّ ?: «والذي بعث محمدًا ? بالحق لو صليت ها هنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس».
قال الشوكانيّ رحمه الله: سكت عنه أبو داود، والمنذريّ، وله طرق، رجال بعضها ثقات.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: فيؤخذ منه أنه لو كان غير مكة، ومثله المدينة لم يقض عنه نذره، بل يجب الوفاء به.
وأما ما عدا المساجد الثلاثة فلا يتعين مكانًا للنذر، ولا يجب الوفاء به عند الجمهور، أفاده في «النَّيل» [راجع:» نيل الأوطار” (1) / (238) – (240)]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع
والمآب. [البحر المحيط الثجاج، (24/ 684)، بتصرف يسير].
تنبيه راجع:
رياح المسك العطرة بمشاركات الأصحاب المباركة على صحيح البخاري ((1190) – (1188))، والتعليق على الصحيح المسند (1/ (824))، فيه ذكر مسائل تتعلق بزيارة المساجد الثلاثة، وحكم زيارة القبور.