[1ج/ رقم (488)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي. وأحمد بن علي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري ويوسف بن محمد السوري و ناصر الريسي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (488)]:
(488) – قال الإمام أحمد رحمه الله (ج (5) ص (248)): حَدَّثَنا رَوْحٌ، عَنْ هِشامٍ، عَنْ واصِلٍ، (1) مَوْلى أبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي يَعْقُوبَ، عَنْ رَجاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: أنْشَأ رَسُولُ اللهِ ? غَزْوَةً فَأتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لِي بِالشَّهادَةِ. فَقالَ: «اللهُمَّ سَلِّمْهُمْ وغَنِّمْهُمْ». قالَ: فَسَلِمْنا وغَنِمْنا. قالَ: ثُمَّ أنْشَأ رَسُولُ اللهِ ? غَزْوًا ثانِيًا، فَأتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لِي بِالشَّهادَةِ. فَقالَ: «اللهُمَّ سَلِّمْهُمْ وغَنِّمْهُمْ». قالَ: فَسَلَّمْنا وغَنِمْنا (2).
قالَ: ثُمَّ أنْشَأ غَزْوًا ثالِثًا، فَأتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أتَيْتُكَ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ فَسَألْتُكَ أنْ تَدْعُوَ اللهَ لِي بِالشَّهادَةِ، فَدَعَوْتَ اللهَ أنْ يُسَلِّمَنا ويُغَنِّمَنا فَسَلِمْنا وغَنِمْنا. يا رَسُولَ اللهِ، فادْعُ اللهَ لِي بِالشَّهادَةِ. فَقالَ: «اللهُمَّ سَلِّمْهُمْ وغَنِّمْهُمْ». قالَ: فَسَلِمْنا وغَنِمْنا، ثُمَّ أتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، مُرْنِي بِعَمَلٍ. قالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ». قالَ: فَما رُئِيَ أبُو أُمامَةَ ولا امْرَأتُهُ ولا خادِمُهُ إلّا صُيّامًا. قالَ: فَكانَ إذا رُئِيَ فِي دارِهِمْ دُخانٌ بِالنَّهارِ قِيلَ اعْتَراهُمْ ضَيْفٌ نَزَلَ بِهِمْ نازِلٌ. قالَ: فَلَبِثْتٌ (3) بِذَلِكَ ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ أتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أمَرْتَنا بِالصِّيامِ فَأرْجُو أنْ يَكُونَ قَدْ بارَكَ اللهُ لَنا فِيهِ يا رَسُولَ اللهِ، فَمُرْنِي بِعَمَلٍ آخَرَ قالَ: «اعْلَمْ أنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ لِلَّهِ سَجْدَةً إلّا رَفَعَ اللهُ لَكَ بِها دَرَجَةً، وحَطَّ عَنْكَ بِها خَطِيئَةً)).
حَدَّثَنا رَوْحٌ، حَدَّثَنا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أبِي يَعْقُوبَ، عَنْ رَجاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: أنْشَأ رَسُولُ اللهِ ? غَزْوًا فَأتَيْتُهُ فَذَكَرَ مَعْناهُ إلّا أنَّهُ قالَ: مُرْنِي بِعَمَلٍ آخُذُهُ عَنْكَ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ قالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ». ((1)).
(4) حَدَّثَنا فِطْرُ بْنُ حَمّادِ بْنِ واقِدٍ، حَدَّثَنا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي يَعْقُوبَ، عَنِ رَجاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ أبِي أُمامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ? مِثْلَهُ أوْ نَحْوَهُ ((3)).
وقال الإمام أحمد رحمه الله (ص (255)): حدثنا بهز بن أسد وحدثنا مهدي بن ميمون … فذكره مطولًا كالأول.
وقال (ص (258)): حدثنا يزيد، حدثنا مهدي بن ميمون … فذكره. هذا حديث صحيحٌ. وله علة غير قادحة، فقد رواه الإمام أحمد (ج (5) ص (249)) فقال: ثنا عبد الصمد، ثنا شعبة، ثنا محمد بن أبي يعقوب الضبي، قال: سمعت أبا نصر يحدث عن رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة … فذكره.
وأخرجه النسائي (ج (4) ص (165)) من طريقين إلى شعبة فذكر واسطة بين محمد بن أبي يعقوب ورجاء بن حيوة، فهذه علة لكنها غير قادحة؛ لأن النسائي رحمه الله قد أخرجه قبل، وفيه تصريح محمد بن أبي يعقوب بالإخبار من رجاء بن حيوة، فعلى هذا فالحديث من المزيد في متصل الأسانيد.
فثبت الحديث والحمد لله.
* وقال النسائي رحمه الله (ج (4) ص (165)): أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ قَالَ «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ». أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ الضَّبِّيَّ حَدَّثَهُ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ قَالَ «عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ».
هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح. ولا يضره أن النسائي رواه بعد عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن أبي نصر، عن رجاء؛ فإن محمد بن عبد الله قد صرح بأن رجاء أخبره بذلك، ولا نعلم أحدًا قال: إن محمدًا لم يسمع من رجاء. والله أعلم.
————————
حاشية الصحيح المسند:
((1)) قال الأخ أحمد القدسي حفظه الله: إن همامًا مقحم بين هشام وهو ابن حسان وواصل مولى أبي عيينة، كما في «الحلية» (ج (5) ص (175))، وفي «معجم الطبراني» (ج (8) ص (109)).
———————–
حاشية تحقق المسند:
(1) وقع في (م): «عن هشام، عن همام، عن واصل»، وهو خطأ، والصواب: «عن هشام، عن واصل»، بحذف: «عن همام» كما في (ظ (5)) و (ق).
(2): من قوله: “قال: ثم أنشأ رسول الله ? غزوًا ثانيًا” إلى قوله: “فسلمنا وغنمنا”. سقط من (م)، والمثبت من (ظ (5)) و (ق).
(3): كذا في (ظ (5)) وفي (م) و (ق): “فلبث”.
(4): زاد في طبعة الرسالة: (عبد الله)، فيكون الإسناد: ((22142) – حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنا فِطْرُ بْنُ حَمّادِ بْنِ واقِدٍ،)، وفي الحاشية علقوا على ذلك، بقولهم: “وقع في (م): «حدثنا عبد الله، حدثني أبي»، على أنه من رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه، وهو خطأ، والصواب حذف: «حدثني أبي» كما جاء في (ظ (5))، فالحديث من زوائد عبد الله على «مسند» أبيه”. انتهى المراد.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث الإمام أحمد في مسنده، ((22140)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(4) – كتاب الصلاة، (65) – فضل الصلاة، ((894)). وذكر أحاديث أخرى في ذلك.
(8) – كتاب الصوم، (3) – فضل الصوم، ((1450)).
(9) – كتاب الدعوات والأذكار، (19) – طلب الدعاء من الرجل الصالح، ((1560)).
(13) – كتاب الجهاد والغزوات، (77) – الغزو في سبيل الله، ((2050)). وذكر في هذا الباب جملة من الأحاديث.
وفي غاية المقصد في زوائد المسند، لنور الدين الهيثمي (ت (807))، كتاب الجهاد، باب تمنى الشهادة، ((2557)).
وفي صحيح ابن حبان، بوب عليه: ذِكْرُ البَيانِ بِأنَّ الصَّوْمَ لا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الطّاعاتِ، ((3425)).
وفي دلائل النبوة للبيهقي (6) / (234)، لأبي بكر البيهقي (ت (458))، جماع أبواب دعوات نبينا ? المستجابة في الأطعمة والأشربة وبركاته التي ظهرت فيما دعا فيه وغير ذلك من دعواته على طريق الاختصار فلا سبيل إلى نقل جميعها لما فيه من الإكثار، باب: ما جاء في دعائه ? لأبي أمامة [(1)] وأصحابه حين سأل الدعاء بالشهادة بالسلامة وإصابة الغنيمة فكان كما دعاه.
وفي الجامع الكامل في الحديث الصحيح، (49) – كتاب فضائل الصحابة، وأخبارهم جموع ما جاء في فضل الصحبة، جموع فضائل أفراد الصحابة وأخبارهم، (104) – باب: أخبار أبي أمامة صدي بن عجلان (ج9/ ص265).
وقال محققو المسند – ط: الرسالة –
عن الإسناد الأول:
“إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير واصل مولى أبي عُيينة، ورجاء بن حَيْوة الكِنْدي الفلسطيني، فمن رجال مسلم.
روح: هو ابن عبادة القيسي البصري، وهشام: هو ابن حسان القُرْدوسي البصري، ومحمد بن أبي يعقوب: هو محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب التميمي البصري.
وأخرجه الطبراني في» الكبير «((7465))، وأبو نعيم في» الحلية «(5) / (175) و (6) / (277) من طريق روح بن عبادة، بهذا الإسناد.
وأخرجه النسائي في» المجتبى «(4) / (165)، والبيهقي (4) / (301) من طريق جرير ابن حازم، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، به. واقتصر النسائي على قصة الصيام.
وأخرجه عبد الرزاق في» مصنفه «((7899))، ومن طريقه الطبراني في» الشاميين «((2112))، وفي» الكبير «((7464)) عن هشام بن حسان، عن محمد ابن أبي يعقوب، به. لم يذكر فيه» واصل مولى أبي عيينة «. وسقط من مطبوع» المصنَّف «:» رجاء بن حيوة «. ولم يُذكر في الحديث القطعة الأخيرة منه:» وإنك لن تسجد لله سجدة … إلخ «.
وسيأتي الحديث بالأرقام ((22141)) و ((22142)) و ((22195)) و ((22220)) من طريق مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب، ومختصرًا بقصة الصيام برقمي ((22149)) و ((22276)) من طريق شعبة عن محمد بن أبي يعقوب، لكن زاد بينه وبين رجاءٍ أبا نصر حميد بن هلال، وهو من المزيد في متصل الأسانيد، وأبو نصر هذا ثقة.
وفي باب قوله ?:» عليك بالصوم، فإنه لا مثل له «عن أبي فاطمة رضي الله عنه، أخرجه ضمن حديث مطول الطبراني في» الكبير «(22) / ((810))، وفي» الشاميين «((198)) و ((1210)) من طريقين عن كثير بن مرة، عنه.
وفي باب قوله ?: “اعلم أنك لن تسجد لله سجدة … إلخ” عن أبي فاطمة أيضًا، وقد سلف في مسنده برقم ((15527))، وقد ذكرنا أحاديث الباب هناك”. انتهى المراد.
وقالوا عن الإسناد الثاني:
“إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير رجاء بن حَيْوة الكِنْدي الفلسطيني، فمن رجال مسلم. مهدي بن ميمون: هو الأزدي المِعْوَلي البصري.
وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (5) / (174) – (175) من طريق روح بن عبادة، بهذا الإسناد.
وأخرجه النسائي (4) / (165)، والطبراني في «الكبير» ((7463))، وفي «الشاميين» ((2111))، والشجري في «أماليه» (1) / (277)، وأبو نعيم (5) / (174) – (175)، والبيهقي في «الشعب» ((3893))، وفي «الدلائل» (6) / (234) – (235)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (8) /ورقة (295) من طرق عن مهدي بن ميمون، به. ورواية النسائي والبيهقي في «الشعب» مختصرة بقصة الصوم.
وانظر ما قبله”. انتهى المراد.
وقالوا عن الإسناد الثالث:
حديث صحيح، وهذا إسناد حسن في المتابعات والشواهد من أجل فِطْر بن حماد بن واقد العَيْشي، فقد قال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال أبو = = داود: تغير تغيرًا شديدًا، وذكره ابن الجوزي في «الضعفاء»، وقال أبو زرعة: ثقة، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وقال ابن خلفون في «ثقاته»: هو عندي صدوق. قلنا: وقد توبع.
وانظر ((22140)) “. انتهى المراد.
والثاني: شرح وبيان الحديث
“كان الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم – لحِرصِهم على الطَّاعاتِ وما يُقرِّبُ مِن رِضا اللهِ عزَّ وجلَّ – كثيرًا ما يَسأَلون النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أفضلِ الأعمالِ، وأكثرِها قُربةً إلى اللهِ تعالى؛ فكانتْ إجاباتُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تختلِفُ باختلافِ أشخاصِهم وأحوالِهِمْ، وما هو أكثرُ نفعًا لكلِّ واحدٍ منهم.
وفي هذا الحَدِيثِ يقولُ أبو أُمَامَةَ رضِي اللهُ عنه: (أَنْشَأَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم غزْوةً)، يعني: جهَّز الجيشَ لِيَغْزُوَ في سبيلِ اللهِ، وكان أبو أُمَامَةَ من الخَارِجِينَ في هذا الغَزْو، قال: (فَأَتَيْتُهُ)، أي: جئْتُ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ (فقُلْت: يا رسولَ الله، ادْعُ اللهَ لي بالشَّهَادة)، أي: أنْ يَرْزُقَني اللهُ الموْتَ شهيدًا في سَبيلِهِ؛ وطَلَبَ ذلك لأنَّ الشَّهيدَ له مَنْزِلَةٌ عاليةٌ عند ربِّه، ودعْوَتُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُجابةٌ، فقال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((اللَّهُمَّ سلِّمْهم وغَنِّمْهم))، أيْ: دَعَا لهم أنْ يَعودوا سَالِمين فلا يُصابوا بسُوءٍ، وغَانِمين، أيْ: فَائِزين مُنْتصِرين ومعهم غنائِمُ الحَرْب، فاستجابَ الله لنبِيِّه فَعَادوا سَالِمين غَانِمين.
ثم تَكرَّر الغزوُ والخروجُ في سبيل اللهِ ثانيةً وثالثةً، وفي كلِّ مرَّةٍ يَسألُ أبو أُمَامَةَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الدُّعاءَ له بالشَّهَادة، وكان دُعاءُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمِثْل دُعَائِهِ في الخروجِ الأوَّلِ، وهو أن يَعودوا سَالِمين غَانِمين، كما قال أَبو أُمَامَة: (فقُلْت: يا رسولَ الله، إنِّي أتيْتُك مرَّتينِ قبل مَرَّتي هذه، فسألْتُك أنْ تدعُوَ اللهَ لي بالشَّهَادة فدعوْتَ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُسلِّمَنا ويُغنِّمَنا، فسلَّمَنا وغنَّمَنا يا رسولَ الله؛ فادْعُ اللهَ لي بالشَّهَادة)، وهذا مِن حِرْصِ أبي أُمَامةَ على الاستشهادِ في سبيلِ الله، (فقال: ((اللَّهمَّ سَلِّمْهم وغَنِّمْهم))، ولعلَّ هذه الإجابةَ من النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه يعلَمُ الخيرَ له، وأنَّ العملَ الصالحَ مع النِّيَّة الصَّادقةِ لله يرفَعُ درجةَ العَبْدِ عندَ الله، (قال: فَسلَّمَنا وغنَّمَنا)، أي: سَلِمَ في جَسَده ورَجَعَ بأَجْرِ الجِهَادِ مع غَنيمةِ الحَرْبِ، قال أبو أُمَامَةَ رضِي اللهُ عنه، (ثم أَتَيْتُهُ فقُلْت: يا رسولَ الله: مُرْني بعَمَل)، أي: أَوْصِني بعِبَادةٍ تُناسِب حالي أَنالُ به أجرًا عند ربِّي وأتقرَّبُ بها إليه، فأوْصَاه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: ((عليك بالصَّوْم)) “، أي: الْزَمِ الصَّوْمَ، وأَكْثِرْ منه؛ ((فَإنَّه لا مِثْلَ له))، أي: لا نَظِيرَ له في كَثْرة الأَجْر والثَّواب.
قال التابعِيُّ رَجَاءُ بن حَيْوَةَ – راوي الحَدِيث عن أبي أُمَامَة -: (“فَمَا رُئِيَ أبو أُمَامةَ ولا امرأتُهُ ولا خادِمُهُ إلَّا صِيَامًا”)، أيْ: فما كان من أبي أُمَامةَ رضِي اللهُ عنه إلَّا أنَّه استجابَ لوَصِيَّة رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأمْرِه، وسارَع إلى ذلك؛ فكان هو وامرأتُهُ وخادِمُهُ يُكثِرون من صِيامِ التطوُّعِ، (“فكان إذا رُئِيَ في دَارِهم دُخَانٌ بالنَّهَارِ”)، وهذا كِنَايةٌ عن تَحْضيرِ الطَّعامِ وأنَّهم ليسوا صَائِمِين، (“قيل: اعْتَرَاهُمْ ضَيْفٌ”)، أي: جَاءَهُمْ ضَيْفٌ، (“نزَلَ بهم نَازِلٌ”)، أي: إذا نَزَلَ بهم أَحَدٌ أَفْطروا ليأكْلوا معه وليُشَاركوه إكرامًا للضَّيْف.
قال رَجَاءٌ: (“فَلَبِثَ بذلك ما شَاءَ الله”)، أي: ظلُّوا على هذا العملِ مُدَاوِمين عليه، قال أبو أُمامةَ رضِي اللهُ عنه: (“ثم أَتَيْتُهُ، فقُلْت: يا رسولَ الله، أَمَرْتَنَا بالصِّيامِ؛ فأرجو أنْ يكونَ قد بَارَكَ اللهُ لنا فيه”)، أي: وفَّقَنا اللهُ لهذا الخيرِ والثوابِ في هذا العمَلِ ورَزَقَنا المُداوَمةَ عليه، قال: (“فَمُرنِي بعَمَل آخَرَ”)، أي: يكونُ ثوابُهُ عظيمًا إضافةً إلى الصَّوْم؛ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((اعلمْ أنَّك لن تَسْجُدَ لله سَجْدةً إلَّا رَفَعَ اللهُ لك بها دَرَجَةً، وحطَّ عنك بها خَطِيئةً))، أي: إنَّ كُلَّ سَجدةٍ تَسْجُدُها لله، تكون سببًا لغُفْران الذُّنُوب، ورَفْعِ الدَّرَجاتِ وزِيادةِ الحَسَناتِ؛ فيكونُ ذلك سببًا في دُخُولِك الجَنَّةَ، والمُرَادُ هنا الحَضُّ على كَثْرةِ الصَّلاةِ؛ فعبَّرَ عن الصَّلاةِ بالسُّجُود؛ لأنَّه من أَعْظَمِ أركانِها؛ لأنَّ
السُّجُودَ غايةُ التواضُعِ والعُبوديةِ لله تعالى.
وفي الحَدِيث: حِرْصُ الصَّحَابةِ على السُّؤَال عن مَعَالي الأُمُورِ وتَمَنِّي الشَّهَادةِ.
وفيه: فَضيلةٌ ظاهرةٌ لأبي أُمامةَ وأهلِ بيتِه رضِيَ اللهُ عنهم”. [الحديثية].
والثالث: المسائل والأحكام:
(المسألة الأولى): التدرج في العمل:
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بإرشاده إلى الصيام، بل زاد بذكر فضل السجود، مما يدل على أهمية التدرج في الأعمال.
أولاً:
التدرج في الدعوة إلى الله تعالى والعمل
(إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه – وفي رواية البخاري رحمه الله، وغيره: أن يعبدوا الله وحده لا شريك له- عبادة الله وحده، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتعطى إلى فقرائهم).
إلى هنا يقف طالب العلم والداعية إلى الله ليرى الأسلوب في الدعوة إلى الله مع قوم أهل كتاب، وذوي عقل وفكر، فتكون الدعوة معهم بالتدرج، فأول شيء يدعوهم إليه هو ما لا نزاع فيه؛ وهو عبادة الله وحده.
فالوثنيون قد يعارضون في ذلك أشد من أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب عندهم مبدأ في التوحيد، والشرك طارئ عليهم، فيدخل في التدرج بعبادة الله وحده، ثم ينتقل إلى العبادة البدنية التي ليس فيها درهم ولا دينار، وهي: الصلوات الخمس في اليوم والليلة، فإن هم استجابوا لذلك فمعناه أنهم على طريق السمع والطاعة، فينتقل بهم إلى عنصر المادة: (أعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة -وسمى الزكاة المفروضة صدقة- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).
وهنا أيضًا من حسن التنبيه، ومن إعجاز التشريع، أنه افترض عليهم صدقة لا يدفعونها لغيرهم من المسلمين، وإنما تخرج منهم وتوزع فيهم، فتؤخذ من أغنيائهم وترد عليهم، والمال مال الله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: (33)] وترد على فقرائهم، وأيتامهم، ومساكينهم، من آبائهم، وإخوانهم، وجيرانهم، فهي لن تخرج من أيديهم.
فعندما يعلم أغنياء اليمن أن الزكاة التي فرضها الإسلام ليست ضريبة تجبى منهم إلى غيرهم، بل تؤخذ منهم وترد عليهم؛ حينئذ يسهل أمر دفع المال؛ لأن المال صنو النفس، والنفس شحيحة عليه، وحريصة على تحصيله، وشحيحة في إنفاقه.
وهكذا كان بعث رسول الله ? معاذًا إلى اليمن، فقالوا: إنه كان جابيًا للزكاة والجزية، وكان أميرًا، ومعلمًا ومفتيًا وقاضيًا، فكان يؤدي كل هذه المهام، وليس مجرد جامع للزكاة.
[شرح بلوغ المرام لعطية سالم (124) / (10) لعطية سالم (ت (1420)) رحمه الله، كتاب الزكاة – مقدمة كتاب الزكاة [(1)]، جوانب الحكمة في الدعوة والتعامل من حديث معاذ، التدرج في الدعوة إلى الله تعالى].
ثانيًا: اكتساب الإيمان والتقوى والحب واللذة في العبادة كالعلم، لا يحصل جملة واحدة، بل مع كثرة القراءة والبحث، فالسبيل الوحيد للحصول على هذه الأعمال القلبية الإيمانية هو بكثرة العبادات القلبية والبدنية، وتدبر القرآن، والتفكر في خلق الله تعالى، والتدرج في العبادات من صلاة وصيام وقراءة قرآن بتدبّر وفهم.
فالذي يستمر على حاله في عبادته وعلمه دون تغيير للأفضل، وإكراه النفس في طلب المعالي: كيف سيزداد إيمانه؟ ويعظم توكله؟ ويتلذذ بعبادته؟ ويرسخ علمه؟ [حاشية: تقريب فتاوى ابن تيمية (2) / (777)].
(المسألة الرابعة): حكم الدعاء بالشهادة:
من السنة أن يدعو العبد الله بالشهادة في سبيله.
قال الشيخ عبد المحسن العباد: “من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، ويستحب للمجاهدين الدعاء عند اللقاء، فإنه من مواطن استجابة الدعاء”. [شرح سنن أبي داود للعباد (300) / (1)].
وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه، (3) – (بابُ الدُّعَاءِ بالجِهَادِ والشَّهَادَةِ لِلرِّجَالِ والنِّساءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء بِالْجِهَادِ بِأَن يَقُول: أللهم ارزقني الْجِهَاد، أَو أللهم اجْعَلنِي من الْمُجَاهدين. قَوْله: (وَالشَّهَادَة)، أَي: الدُّعَاء بِالشَّهَادَةِ، بِأَن يَقُول: أللهم ارزقني الشَّهَادَة فِي سَبِيلك. قَوْله: (للرِّجَال وَالنِّسَاء)، مُتَعَلق بِالدُّعَاءِ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن هَذَا غير مَخْصُوص بِالرِّجَالِ، وَإِنَّمَا هم وَالنِّسَاء فِي ذَلِك سَوَاء.
وَقَالَ عُمَرُ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي بَلَدِ رسولِكَ
هَذَا التَّعْلِيق مُطَابق للدُّعَاء بِالشَّهَادَةِ فِي التَّرْجَمَة، وَقد مضى هَذَا مَوْصُولا فِي آخر الْحَج بأتم مِنْهُ، رَوَاهُ عَن يحيى ابْن بكير عَن اللَّيْث عَن خَالِد بن يزِيد عَن سعيد بن أبي هِلَال عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أللهم ارزقني شَهَادَة فِي سَبِيلك وَاجعَل موتِي فِي بلد رَسُولك. وَأخرجه ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات الْكَبِير) عَن حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، زوج النَّبِي ? أَنَّهَا سَمِعت أَبَاهَا يَقُول: أللهم ارزقني قتلا فِي سَبِيلك، ووفاةً فِي بَلْدَة نبيك، قَالَت: قلت: وأنَّى ذَاك؟ قَالَ: إِن الله يَأْتِي بأَمْره أنَّى شَاءَ”. قاله العيني عفا الله عنه. [عمدة القاري شرح صحيح البخاري ((14) / (85)) بدر الدين العيني (- (855))،
كتاب الوصايا، (باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء)]. ثم أورد حديث البخاري رحمه الله حديث ((9872))، عن أنَسِ ابنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقولُ كانَ رسولُ الله ? يَدْخُلُ عَلى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحانَ فَتُطْعِمُهُ وكانَتْ أُمُّ حَرامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ علَيْهَا رسولُ الله ? فأطْعَمَتْهُ وجَعَلَتْ تَفْلِي رَأسَهُ فَنامَ رسولُ الله ? ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهْوَ يَضْحَكُ قالَتْ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رسولَ الله قَالَ ناسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ الله يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ مُلُوكًا علَى الأسِرَّةِ أَو مِثْلَ الْمُلُوكِ على الأسِرَّةِ شَكَّ إسْحَاقُ قالَتْ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فدَعَ لَهَا رسولُ الله ? وضَعَ رأسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهْوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رسولَ الله قَالَ ناسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً فِي سَبِيلِ الله كَمَا قَالَ فِي الأوَّلِ قالَتْ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أنْتِ مِنَ الأوَّلِينَ فرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمانِ مُعَاوِيَةَ بنِ أبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ فَهَلَكَتْ.
وبوب النووي عفا الله عنه في صحيح مسلم: ” ((46)) – (بَابُ اسْتِحْبَابِ طَلَبِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى) “، وأورد مسلم رحمه الله في ذلك:
[(4921)] ((1908)) – (عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ»).
[(4922)] ((1909)) – (سَهْلَ بْنَ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ? قَالَ: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ»، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو الطَّاهِرِ فِي حَدِيثِهِ: «بِصِدْقٍ»).
وقوله: (طَلَبَ الشَّهَادَةَ)؛ أي: الموت شهيدًا، (صَادِقًا) قَيَّد به؛ لأن الصدق معيار الأعمال، ومفتاح بركاتها [«عون المعبود» (4) / (268)]. (أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ»)؛ أي: لم تقدّر له، وفي الرواية التالية: «من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه»، قال النوويّ رحمه الله: معنى الرواية الأولى مُفَسَّر من الرواية الثانية، ومعناهما جميعًا أنه إذا سأل الشهادة بصدق أُعطي من ثواب الشهداء، وإن كان موته على فراشه، وفيه استحباب سؤال الشهادة، واستحباب نية الخير. انتهى [«شرح النوويّ» (13) / (55)].
وقال في «الفتح» بعد ذكر هذا الحديث ما نصّه: وأصرح منه في المراد ما أخرجه الحاكم بلفظ: «من سأل القتل في سبيل الله صادقًا، ثم مات أعطاه الله أجر شهيد»، وللنسائيّ من حديث معاذ مثله، وللحاكم من حديث سهل بن حُنيف مرفوعًا: «من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه». انتهى [«الفتح» (7) / (58)، كتاب «الجهاد» رقم ((2797))].
قوله: (مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ)؛ أي: الموت شهيدًا (بِصِدْقٍ)؛ أي: لا لمجرّد الرغبة في فضل الشهداء من غير أن يرضى بحصولها إن حَصَلت، وسؤال الشهادة مرجعه سؤال الموت الذي لا محالة واقع على أحسن حال، وهو فناء النفس في سبيل الله تعالى، وتحصيل رضاه، وهو محبوب من هذه الجهة، فيجوز أن يسألها، ولا يضرّ ما يلزمه من معصية الكافر، وفرحة الأعداء، وحزن الأولياء. قاله السنديّ.
وقال المناويّ: قوله: «وإن مات على فراشه»؛ أي: لأن كلًّا منهما نوى خيرًا وفَعَل ما يقدر عليه، فاستويا في أصل الأجر، ولا يلزم من استوائهما فيه من هذه الجهة استواؤهما في كيفيته وتفاصيله؛ إذ الأجر على العمل ونيّته يزيد على مجرد النية، فمن نوى الحجّ، ولا مال له يحج به يثاب دون ثواب من باشر أعماله، ولا ريب أن الحاصل للمقتول من ثواب الشهادة تزيد كيفيته وصفاته على الحاصل للناوي الميت على فراشه، وإن بلغ منزلة الشهيد، فهما وإن استويا في الأجر، لكن الأعمال التي قام بها العامل تقتضي أثرًا زائدًا، وقربًا خاصًّا، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء، فعُلِم من التقرير أنه لا حاجة لتأويل البعض، وتكلّفه بتقدير «مِن» بعد قوله: «بلغه الله»، فأَعْطِ ألفاظ الرسول حقّها، وأنزلها منازلها يتبيّن لك المراد. قاله المناويّ رحمه الله.
وفيه: الحثّ على سؤال الشهادة بنيّة صادقة، وبيان فضل الصدق. [البحر المحيط الثجاج (32/ 653)].
(المسألة الخامسة): تعدد الفضائل:
الحديث يجمع بين فضائل الصيام والصلاة، مما يدل على شمولية العبادة في الإسلام.
أولاً: فضل الصلاة:
(1) ـ تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ قال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.
(2) – أفضل الأعمال بعد الشهادتين؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله ?:أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها» قال: قلت: ثم أيّ؟ قال: «برّ الوالدين» قال: قلت: ثم أيّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» [متفق عليه].
(3) – تغسل الخطايا؛ لحديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ?: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهرٍ غمرٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات» [مسلم، (1) / (463)، برقم (668)].
(4) – تكفّر السيئات؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ? قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر» [مسلم، (1) / (209)، برقم (233)].
(5) – نور لصاحبها في الدنيا والآخرة؛ لحديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ? أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: «من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون، وفرعون، وهامان، وأبيّ بن خلف» [أخرجه الإمام أحمد في المسند، (2) / (169)، والدارمي، (2) / (301)، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، (1) / (440): «رواه أحمد بإسناد جيد»].
وفي حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: «الصلاة نور» [مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، (1) / (203)، برقم (223)]؛ ولحديث بريدة رضي الله عنه عن النبي ? أنه قال: «بشر المشَّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» [أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة، برقم (561)، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة، برقم (223)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح لشواهده الكثيرة، (1) / (224)].
(6) – يرفع الله بها الدرجات، ويحط الخطايا؛ لحديث ثوبان مولى رسول الله ? عن النبي ? أنه قال له: «عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة» [أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، (1) / (253)،برقم (488)].
(7) – من أعظم أسباب دخول الجنة برفقة النبي ? -؛ لحديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه، قال: كنت أبيت مع رسول الله ?، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سَلْ» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أو غير ذلك؟» قلت: هو ذاك، قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود» [مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، (1) / (253)، برقم (489)].
(8) – المشي إليها تكتب به الحسنات وترفع الدرجات وتحط الخطايا؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ?: «من تطهَّر في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله؛ ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خَطْوَتاه إحداهما تحطُّ خطيئة، والأخرى ترفع درجة» [مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، (1) / (462)، برقم (666)].
وفي الحديث الآخر: «إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله تعالى له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله تعالى عنه سيئة .. » [أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الهدي في المشي إلى الصلاة، برقم (563)].
(9) – تُعدُّ الضيافة في الجنة بها كلما غدا إليها المسلم أو راح؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ?: «من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نُزُلًا كُلَّما غدا أو راح» [متفق عليه]. والنزل ما يهيأ للضيف عند قدومه.
(10) – يغفر الله بها الذنوب فيما بينها وبين الصلاة التي تليها؛ لحديث عثمان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ? يقول: «لا يتوضأ رجل مسلم فيحسن الوضوء، فيصلي صلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها» [مسلم].
(11) – تكفر ما قبلها من الذنوب؛ لحديث عثمان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ? يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأتِ كبيرة، وذلك الدهر كلّه» [مسلم].
(12) – تُصلّي الملائكة على صاحبها ما دام في مُصلاّه، وهو في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ?: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجةً. وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد، لا ينهزه إلا الصلاة، لا يريد إلا الصلاة، فلم يخطُ خطْوَة إلا رُفِعَ له بها درجةً، وحُطَّ عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة يُصلُّون على أحدكم مادام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذِ فيه، ما لم يحدث فيه» [متفق عليه].
(13) – انتظارها رباط في سبيل الله؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ? قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات»؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» [مسلم].
(14) – أجر من خرج إليها كأجر الحاج المحرم؛ لحديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله ? قال: «من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه، فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتابٌ في عليين» [أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة، برقم (558)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (1) / (111)،وفي صحيح الترغيب، (1) / (127)].
(15) – من سُبِق بها وهو من أهلها فله مثل أجر من حضرها؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي ?: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله تعالى مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئًا» [أبو داود، كتاب الصلاة، باب في من خرج يريد الصلاة فسبق بها، برقم (564)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (1) / (113)].
(16) – إذا تطهر وخرج إليها فهو في صلاة حتى يرجع، ويكتب له ذهابه ورجوعه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ?: «إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل: هكذا» وشبك بين أصابعه [ابن خزيمة في صحيحه، (1) / (229)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، (1) / (206)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1) / (118)]، وعنه رضي الله عنه يرفعه: «من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي، فرِجْلٌ تكتُبُ حسنة ورِجلٌ تحطُّ سيئة حتى يرجع» [ابن حبان في صحيحه، برقم (1620)، والنسائي (2) / (42)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي،
(1) / (217)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، (1) / (121)، وقال: «وهو كما قالا» يعني الحاكم والذهبي. وانظر: أحاديث أخرى صحيحة تدل على أن من تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد فهو في صلاة حتى يرجع إلى منزله. صحيح الترغيب والترهيب للألباني، (1) / (121)]. [صلاة المؤمن، (1/ 115 – 119)].
[تنبه]: مر قريبا في فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند [1ج/ رقم (474)] ذكر فضل الغزو، وفضل المشي إلى الصلاة.
ثانيًا: فضائل الصيام وخصائصه:
الصوم عبادة عظيمة تتطلب إخلاصًا وصبرًا، وهو أفضل الأعمال التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم.
والصيام له فضائل وخصائص عظيمة على النحو الآتي:
(1) – الصيام من الأعمال التي يُعِدُّ اللهُ بها المغفرة والأجر العظيم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فضائل الصيام وخصائصه
فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
(2) – الصيام خير للمسلم لو كان يعلم؛ لقول الله تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون}.
(3) – الصيام سبب من أسباب التقوى؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}.
(4) – الصوم جنة، يستجنُّ بها العبد المسلم من النار؛ لحديث جابر رضي الله عنه، أن رسول الله ? قال: «قال ربنا تعالى: الصيامُ جنةٌ يستجنُّ بها العبدُ من النار، وهو لي وأنا أجزي به» [أخرجه أحمد، (23) / (33)، برقم (14669)، و (23) / (411)، برقم (15264)، وقال محققو المسند: «حديث صحيح بطرقه وشواهده»].
وعن كعب بن عُجرة رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله ?: «أُعيذك بالله يا كعبَ بن عُجْرَةَ من أُمراءَ يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابَهم فصدَّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس منِّي ولستُ منه، ولا يرِدُ عليَّ الحوض، ومن غَشِيَ أبوابهم أو لم يغشَ فلم يصدقهم في كذبهم ولم يُعنهم على ظلمهم فهوَ منِّي وأنا منه، وسَيَرِدُ عليَّ الحوض، يا كعبَ بنَ عُجرةَ: الصلاةُ برهانٌ، والصومُ جنّةٌ حصينةٌ، والصدقةُ تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ، يا كعبَ بنَ عُجرةَ، إنه لا يدخل الجنة لحمٌ نَبَتَ من سُحْتٍ، النارُ أولى به، يا كعبَ بنَ عُجرةَ، الناسُ غاديان: فمبتاعٌ نَفْسَه فمُعْتقها، وبائعٌ نَفْسَه فمُوبِقُها» [الترمذي، كتاب الصلاة، باب ذكر فضل الصلاة، برقم (614)، وأحمد (22) / (332)، برقم (14441)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، (1) / (336)، والحديث فيه: التحذير من إمرة السفهاء، والتحذير من تصديقهم، وإعانتهم على ظلمهم، فليراجع هناك].
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، قال: إني سمعت رسول الله ? يقول: «الصيامُ جُنَّةٌ كجُنَّةِ أحدكم من القتال» قال: وكان آخر ما عَهِدَ إليَّ رسول الله ? حين بعثني إلى الطائف قال: «يا عثمان تجوَّز في الصلاة؛ فإن في
القوم الكبير وذا الحاجة»، وفي لفظ: «الصيام جُنَّةٌ من النار كجُنَّةِ أحدكم من القتال» [أحمد (26) / (202)، برقم (6273)، و (26) / (205)، برقم (16278)، و (29) / (433)، برقم (17902)، وصحح إسناده محققو مسند الإمام أحمد].
(5) – الصيام حِصْنٌ حصين من النار؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ? قال: «الصيام جُنَّةٌ وحِصْنٌ حَصِينٌ من النار» [أحمد (15) / (123)، برقم (9225)، وصحح إسناده محققو المسند، (15) / (123)، وحسنه المنذري، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1) / (578): «حسن لغيره»].
(6) – الصيام جُنّةٌ من الشهوات؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لقد قال لنا رسول الله ?: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض فضائل الصيام وخصائصه
للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاءٌ» [متفق عليه].
(7) – صيام يوم في سبيل الله يباعد الله النار عن وجه صاحبه سبعين سنة؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ? يقول: «من صام يومًا في سبيل الله بَعَّدَ الله وجهه عن النار سبعين خريفًا» [متفق عليه].
(8) – صيام يوم في سبيل الله يبعد صاحبه عن النار كما بين السماء والأرض، لحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن النبي فضائل الصيام وخصائصه
? قال: «من صامَ يومًا في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض» [الترمذي، كتاب فضائل، الجهاد، باب فضل الصوم في سبيل الله، برقم (1624)، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2) / (223): «حسن صحيح»، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم (563)].
وقد قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في قوله ?: «من صام يومًا في سبيل الله»، «أي: في طاعة الله، يعني: قاصدًا به وجه الله تعالى، وقد قيل عنه: إنه الجهاد في سبيل الله» [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، (3) / (217)]، وقال النووي رحمه الله: «فيه فضيلة الصيام في سبيل الله، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقًا، ولا يختل به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه، ومعناه: المباعدة عن النار، والمعافاة منها، والخريف السنة، والمراد به سبعين سنة» [شرح النووي على صحيح مسلم، (8) / (281)،وانظر: فتح الباري لابن حجر، (6) / (48)]، وسمعت فضائل الصيام وخصائصه
شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: «وهذا الحديث حمله قوم على الجهاد، وهو ظاهر كلام المؤلف، إذا لم يشق عليهم، وقال قوم: هذا الحديث في سبيل الله: أي في طاعة الله» [تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم (2840)].
(9) – الصوم وصية النبي ?، ولا مثل له، ولا عدل؛ لحديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله: مُرني بأمر ينفعني الله به، قال: «عليك بالصوم فإنه لا مِثْلَ له»،
(10) – الصوم يدخل الجنة من باب الريان، لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ?: «إن في الجنة
بابًا يُقالُ له: الريَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؛ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرُهم، فإذا دخل آخرهم أُغلق فلم يدخل منه أحد» [متفق عليه]، وفي رواية: «في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يُسمَّى الريان لا يدخله إلا الصائمون» [البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة أبواب الجنة، برقم (3257)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ? قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نُوديَ من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعيَ من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعيَ من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعيَ من باب الريَّان، ومن كان من أهل الصدقة دُعيَ من باب الصدقة»، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله؛ ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعَى أحدٌ من تلك
الأبواب كلِّها؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم» [متفق عليه]،
(11) – الصيام من أول الخصال التي تُدْخِلُ الجنةَ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ?:
«من أصبح اليوم منكم صائمًا؟»، قال أبو بكر: أنا. قال:
«فمن اتَّبع منكم اليوم جنازة؟»، قال أبو بكر: أنا. قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟»،ال أبو بكر: أنا. قال:
«فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟»، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول فضائل الصيام وخصائصه
الله ?: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل
الجنة» [مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل من ضمَّ إلى الصدقة غيرها من أنواع البر، برقم (1028)]. ولفظ البخاري في الأدب المفرد: «ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم إلا دخل الجنة» [البخاري في الأدب المفرد، برقم (515)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص (195)].
(12) – الصيام كفارة للذنوب؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه، عن النبي ?: «فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره، تكفِّرها: الصلاة، والصوم، والصدقة، والأمر، والنهي»، وفي لفظ: «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» [متفق عليه]،وهذا من نعم الله تعالى العظيمة أن يكفر ما يقع من المسلم من الزلل مع أهله، وولده وماله، وجيرانه، بالصلاة، والصوم، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضائل الصيام وخصائصه
فينبغي للمسلم أن يكثر من هذه الخصال، وهذا في الصغائر، أما الكبائر فلا بد فيها على الصحيح من التوبة بشروطها [انظر: فتح الباري، لابن حجر (6) / (605)، وسمعت نحو هذا من سماحة شيخنا ابن باز، أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم (1435)].
(13) – يوفَّى الصائمون أجرهم بغير حساب.
(14) – للصائم فرحتان: فرحة في الدنيا، وفرحة في الآخرة.
(15) – خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وقد دلَّ على هذه الفضائل الثلاث حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله ?: «قال الله تعالى: كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يومُ صَوْمِ أحدِكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتله
فليقل: إنِّي امرؤٌ صائمٌ، والذي نفسُ محمد بيده! لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربَّه فَرِحَ بصومه»، وفي لفظ للبخاري: «الصيام جُنَّة، فلا يرفث، ولا يجهل فضائل الصيام وخصائصه
وإن امرُؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم – مرتين – والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلى، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها»، وفي لفظ لمسلم: «كلُّ عملِ ابن آدم يُضاعف له: الحسنةُ عشرُ أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك»، وفي لفظ لمسلم: « … وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه» [متفق عليه].
قال ابن رجب: “خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة، لخلو المعدة من الطعام بالصيام، وهي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا، لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته، وابتغاء مرضاته ….. وفي طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز وجل معنيان:
أحدهما: أن الصيام لما كان سرا بين العبد وربه في الدنيا، أظهره الله في الآخرة علانية للخلق، ليشتهر بذلك أهل الصيام، ويعرفون بصيامهم بين الناس جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا ….
والمعنى الثاني: أن من عبد الله وأطاعه وطلب رضاه في الدنيا بعمل، فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا، فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله، بل هي محبوبة له، وطيبة عنده، لكونها نشأت عن طاعته واتباع مرضاته، فإخباره بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطييبٌ لقلوبهم، لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا” انتهى من “لطائف المعارف” (300_302) باختصار.
قال ابن رجب: “أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعا، فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا، والصائم عند فطره كذلك، فكما أن الله تعالى حرَّم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره … وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصيام كان مثابا على ذلك، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار التقوِّي على العمل كان نومه عبادة …. ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره، فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يونس / 58،
وأما فرحه عند لقاء ربه فما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا، فيجده أحوج ما كان إليه،
(16) – الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة؛ لحديث عبد الله بن عمرو، أن رسول الله ? قال: «الصيامُ والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي فضائل الصيام وخصائصه
ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه» [أحمد في المسند، (2) / (174)، والحاكم، (1) / (554)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1) / (579): «حسن صحيح»].
(17) – الصوم يزيل الأحقاد والضغائن والوسوسة من الصدور؛ لحديث الأعرابي الصحابي، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي ? أنه قال: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ: يذهبن وحر الصدر» [أما حديث الأعرابي الصحابي، فأخرجه أحمد، (38) / (168)، برقم (3070)، ورقم (23077)، و (34) / (240)، برقم (20737)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين غير صحابيه. وأما حديث ابن عباس فأخرجه البزار، برقم (1057)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1) / (599): «حسن صحيح». ((3)) وحر الصدر: غشه، وحقده، ووساوسه. [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، (5) / (160)]].
(18) – الصوم باب من أبواب الخير؛ لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي ? قال له: «ألا أدلُّك أبواب الخير»
قلت: بلى يا رسول الله: قال: «الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل»، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}، حتى بلغ يعلمون» [الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، برقم (2616)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1) / (578): «صحيح لغيره»].
(19) – من خُتِمَ له بصيام يومٍ يريد به وجه الله أدخله الله الجنة؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه، قال: أسندتُ النبي ? إلى صدري فقال: «من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله خُتِمَ له بها دخل الجنة، ومن صام يومًا ابتغاء وجه الله خُتِمَ له بها، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله خُتِمَ له بها دخل الجنة» [أحمد، (5) / (391)، وفي المحقق (38) / (350)، برقم (23324)، وقال محققو المسند: «صحيح لغيره»، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1) / (579)].
(20) – أعد الله الغرف العاليات في الجنة لمن تابع الصيام المشروع، وأطعم الطعام، وألان الكلام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام؛ لحديث أبي مالك
الأشعري عن النبي ? أنه قال: «إنَّ في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهر، أعدَّها الله تعالى
لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وأفشى السلام، وصلَّى بالليل والناس نيام» [أحمد في المسند، (5) / (343)، وابن حبان (موارد) برقم (641)، والترمذي عن علي رضي الله عنه، في كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة غرف الجنة، برقم (2527)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، (3) / (7). وفي صحيح الجامع، (2) / (220)، برقم (2119)].
من عمل هذه الأعمال كانت له هذه الغرف، وهي جمع غرفة: أي علالي في غاية اللطافة، ونهاية الصفا والنظافة، وهي شفافة لا تحجب من وراءها، وهي مخصصة لمن له خلق حسن مع الناس، وخاصة بمن يطيُّب الكلام؛ لكونه من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، وهي لمن أطعم الطعام: للعيال، والفقراء، والأضياف، ونحو ذلك، ولمن أدام الصيام: أي أكثر منه بعد الفريضة، وأقلّه أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وهي لمن صلى بالليل والناس نيام: أي غالبهم نيام أو غافلون عنه؛ لأن العمل بالليل والناس نيام لا رياء فيه ولا سمعة، وهذا يؤكد على أن من فعل ذلك فقد بلغ الغاية العظمى في الإخلاص لله تعالى، وهي لمن أفشى السلام، وبذل السلام لمن عرف ومن لا يعرف، والمقصود أن هذا الحديث فيه الترغيب في هذه الخصال العظيمة، فمن فعلها كانت له هذه الغرف [انظر: مراجع الشرح في فقه الدعوة في صحيح البخاري، للمؤلف، (2) / (773) – (774)].
(21) – الصائم له دعوة لا تردُّ حتى يفطر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ?: «ثلاثة لا تردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتحُ لها أبواب السماء، ويقول الربُّ: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» [ابن ماجه، كتاب الصيام، بابٌ: في الصائم لا تردُّ دعوته، برقم (1752)، والترمذي، كتاب الدعوات، باب سبق المفردون، برقم (3598)، وكتاب صفة الجنة مطولًا برقم (2526)، وأحمد برقم (9743)، (15) / (463)، وأخرجه أحمد مطولًا (13) / (410)، برقم (8043)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، (2) / (86)، وكلهم بلفظ: «والصائم حتى يفطر … » إلا في سنن الترمذي طبعة دار السلام فقال في موضعين: رقم (2526)، ورقم (3598): « … حين يفطر»، أما في النسخة التي حققها أحمد شاكر، فلفظها في حديث رقم (2526): «حين يفطر»، وفي حديث رقم (3598) «حتى يفطر»].
(22) – الصائم دعوته لا ترد حين يفطر، لما رُوي عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، يقول: قال رسول الله ?: «إن للصائم عند فطره لدعوةً ما تُردُّ»، قال ابن أبي مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيء أن تغفر لي» [ابن ماجه، كتاب الصيام، باب في الصائم لا تردُّ دعوته، برقم (1753)،
والحاكم، (1) / (422)، وقد حسنه ابن حجر في الفتوحات الربانية، (4) / (342)،
وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (4554)، وفي مشكاة المصابيح برقم
(1993)، ولكنه ضعفه في إرواء الغليل برقم (921)، وفي ضعيف سنن ابن ماجه
ص (137)]، وقد جاء في لفظ بعض نسخ الترمذي للحديث الذي قبل هذا: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين
يفطر، ودعوة المظلوم» [الترمذي برقم (2526)، ورقم (3598) وتقدم تخريجه مع الذي قبله]، ويعضد ذلك حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي ?: «إن لله عند كلِّ فطر عتقاء» [مسند أحمد، برقم (22202)، قال محققو المسند، (36) / (539): «صحيح لغيره»].
(23) – تفطير الصائمين فيه الأجر الكبير؛ لحديث زيد ابن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ?: «من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا» [الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائمًا، برقم (807)، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب في ثواب من فطر صائمًا، برقم (1746)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1) / (424)].
(24) – لعظم أجر الصيام جعله الله تعالى من الكفارات على النحو الآتي:
أ- كفارة فدية الأذى، قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ}.
ب- من لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لقول الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
ج-كفارة قتل الخطأ؛ لقول الله تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
د- كفارة اليمين؛ لقول الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ ِباللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}.
هـ – جزاء قتل الصيد في الإحرام؛ لقول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ واللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام}.
ز- كفارة الظهار؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فوائد الصيام ومنافعه
مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم}. [فضائل الصيام وقيام صلاة التراويح].
يقول الإمام المناوي في فيض القدير تدليلا على ذلك: “إذ هو يقوي القلب والفطنة، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق، وإذا صام المرء اعتاد قلة الأكل والشرب، وانقمعت شهواته، وانقلعت مواد الذنوب من أصلها، ودخل في الخير من كل وجه، وأحاطت به الحسنات من كل جهة”.
ويقول الإمام السندي في حاشيته على سنن النسائي: “فإنه لا مثل له في كسر الشهوة، ودفع النفس الأمارة والشيطان، أو لا مثل له في كثرة الثواب … ، ويحتمل أن يكون المراد بالصوم كف النفس عما لا يليق، وهو التقوى كلها، وقد قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13) “.??وقد سطر الصحابة الأجلاء والتابعون الكرام نماذج رائعة في الاستفادة من مدرسة الصوم، يقول أبو المتوكل: “كان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد”، وعن الشعبي قال: “قال عمر: ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف”، وعن كثير بن هشام عن جعفر قال: “سمعت ميمونا يقول: إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب”، وعن الشعبي عن علي قال: “إن الصيام ليس من الطعام والشراب، ولكن من الكذب والباطل واللغو”، وعن مجاهد قال: “خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب”.
——-
أَنْوَاعُ الصَّوْمِ وَدَرَجَاتُهُ:
اعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: صَوْمُ الْعُمُومِ، وَصَوْمُ الْخُصُوصِ، وَصَوْمُ خُصُوصِ الْخُصُوصِ. أَمَّا صَوْمُ الْعُمُومِ: فَهُوَ كَفُّ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا صَوْمُ الْخُصُوصِ: فَهُوَ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ عَنِ الْآثَامِ، وَأَمَّا صَوْمُ خُصُوصِ الْخُصُوصِ: فَصَوْمُ الْقَلْبِ عَنِ الْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ ? بِالْكُلِّيَّةِ.
أَسْرَارُ الصَّوْمِ وَشُرُوطُهُ الْبَاطِنَةُ:
هِيَ سِتَّةُ أُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّهُ عَنِ الِاتِّسَاعِ فِي النَّظَرِ إِلَى كُلِّ مَا يُذَمُّ وَيُكْرَهُ وَإِلَى كُلِّ مَا يُشْغِلُ الْقَلْبَ وَيُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّانِي: حِفْظُ اللِّسَانِ عَنِ الْهَذَيَانِ وَالْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْفُحْشِ وَالْجَفَاءِ وَالْخُصُومَةِ وَالْمِرَاءِ.
الثَّالِثُ: كَفُّ السَّمْعِ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى كُلِّ مَكْرُوهٍ لِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ قَوْلُهُ حُرِّمَ الْإِصْغَاءُ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ سَوَّى اللَّهُ عزوجل بَيْنَ السَّمْعِ وَأَكْلِ السُّحْتِ فَقَالَ تَعَالَى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [الْمَائِدَةِ: (42)].
الرَّابِعُ: كَفُّ بَقِيَّةِ الْجَوَارِحِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَنِ الْآثَامِ وَعَنِ الْمَكَارِهِ، وَكَفُّ الْبَطْنِ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَقْتَ الْإِفْطَارِ فَلَا مَعْنَى لِلصَّوْمِ عَنِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ ثُمَّ الْإِفْطَارِ عَلَى الْحَرَامِ، فَمِثَالُ هَذَا الصَّائِمِ مِثَالُ مَنْ يَبْنِي قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا، وَقَدْ قَالَ ?: «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» فَقِيلَ: «هُوَ الَّذِي يُفْطِرُ عَلَى الْحَرَامِ» وَقِيلَ: «هُوَ الَّذِي يُمْسِكُ عَنِ الطَّعَامِ
الْحَلَالِ وَيُفْطِرُ عَلَى لُحُومِ النَّاسِ بِالْغِيبَةِ وَهُوَ حَرَامٌ»، وَقِيلَ: «هُوَ الَّذِي لَا يَحْفَظُ جَوَارِحَهُ عَنِ الْآثَامِ».
الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَسْتَكْثِرَ مِنَ الطَّعَامِ الْحَلَالِ وَقْتَ الْإِفْطَارِ بِحَيْثُ يَمْتَلِئُ، فَمَا مِنْ وِعَاءٍ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ عزوجل مِنْ بَطْنٍ مُلِئَ مِنْ حَلَالٍ، وَكَيْفَ يُسْتَفَادُ مِنَ الصَّوْمِ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ إِذَا تَدَارَكَ الصَّائِمُ عِنْدَ فِطْرِهِ مَا فَاتَهُ ضَحْوَةَ نَهَارِهِ، وَرُبَّمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي أَلْوَانِ الطَّعَامِ، حَتَّى اسْتَمَرَّتِ الْعَادَاتُ أَنْ يُدَّخَرَ جَمِيعُ الْأَطْعِمَةِ لِرَمَضَانَ فَيُؤْكَلَ مِنَ الطَّعَامِ فِيهِ مَا لَا يُؤْكَلُ فِي عِدَّةِ أَشْهُرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَقْصُودَ الصَّوْمِ الْخَوَاءُ وَكَسْرُ الْهَوَى لِتَقْوَى النَّفْسُ عَلَى التَّقْوَى، وَإِذَا دُفِعَتِ الْمَعِدَةُ مِنْ ضَحْوَةِ نَهَارٍ إِلَى الْعِشَاءِ حَتَّى هَاجَتْ شَهْوَتُهَا وَقَوِيَتْ رَغْبَتُهَا ثُمَّ أُطْعِمَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ وَأُشْبِعَتْ زَادَتْ لَذَّتُهَا، وَتَضَاعَفَتْ قُوَّتُهَا، وَانْبَعَثَ مِنَ الشَّهَوَاتِ مَا عَسَاهَا كَانَتْ رَاكِدَةً لَوْ تُرِكَتْ عَلَى عَادَتِهَا، فَرُوحُ الصَّوْمِ وَسِرُّهُ تَضْعِيفُ الْقُوَى الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الشَّيْطَانِ فِي الْعَوْدِ إِلَى الشُّرُورِ، وَلَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّقْلِيلِ، وَمَنْ جَعَلَ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ صَدْرِهِ مِخْلَاةً مِنَ الطَّعَامِ فَهُوَ عَنِ الْمَلَكُوتِ مَحْجُوبٌ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ بَعْدَ الْإِفْطَارِ مُضْطَرِبًا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ إِذْ لَيْسَ يَدْرِي أَيُقْبَلُ صَوْمُهُ فَهُوَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ يُرَدُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْمَمْقُوتِينَ، وَلْيَكُنْ كَذَلِكَ فِي آخِرِ كُلِّ عِبَادَةٍ يَفْرَغُ مِنْهَا.
موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين (1) / (61) – (62)
——-
فائدة: وقد قال سفيان الغيبة تفسد الصوم رواه بشر بن الحارث عنه.
وروى ليث عن مجاهد خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب.
فائدة: ولا يَلزمُ مِن هذا الحَديثِ تَرجيحُ الصَّومِ على جَميعِ الأعمالِ؛ ففي الصَّحيحينِ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنه: “سأَلْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: أيُّ العمَلِ أحبُّ إلى اللهِ؟ قال: الصَّلاةُ على وقتِها، قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: ثمَّ بِرُّ الوالدَيْنِ، قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: الجهادُ في سبيلِ اللهِ”، وغيرِه مِن الأحاديثِ الكَثيرةِ التي وردَتْ في المفاضلةِ بينَ الأعمالِ واختلافِ وصاياه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأصحابِه؛ فهذا الاختلافُ الواردُ في تَفضيلِ بَعضِ الأعمالِ وذِكرِ أعمالٍ مُتعدِّدةٍ في أحاديثَ مُختلفةٍ على أنَّها أفضلُ الأعمالِ: لا يَعْني حَصْرَ أنواعِ الأعمالِ فيما ذُكِرَ في حَديثٍ بعَينِه، ولا يَعني الأفضليةَ المطلقةَ، بل هي مَحمولةٌ على اختِلاف جوابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بحَسَبِ السُّؤالِ ووَقْتِه، وبحسَبِ أحوالِ السائِلِين واستِعدادِهم وقُدرتِهم كذلِك؛ فيأتي جوابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم له مناسبًا لوقتِ السُّؤالِ وحالِ السائلِ وبما يَعلمُ أنَّه أحوجُ إليه؛ فمِن الأشخاصِ مَن يكونُ الصِّيامُ أفضلَ له، ومنهم مَن يكونُ الجهادُ أفضلَ له وهكذا، وقد يكونُ عملٌ مِن الأعمالِ في وَقتٍ أفضلَ من الأعمالِ الأخرى في ذلِك الوقتِ، وقد يكون في وقتٍ آخَر غيرُه أفضلُ منه.
فائدة:
قال الرَّاوي: وكان أبو أُمامةَ لا يَكادُ يُرى في بيتِه الدُّخَانُ بالنَّهارِ، فإذا رُئِيَ الدُّخَانُ بالنَّهارِ، عرَفوا أنَّ ضَيفًا اعتَرَاهم، وهذا كنايةٌ عن كَثرةِ صِيامِه هو وأهلُه
قال ابن رجب معلقا على هذه الرواية: “الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد، فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر / 10” انتهى من “لطائف المعارف” (283_284).
وجاء في رواية لحديث أبي هريرة عند البخاري (7538): لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به.
قال ابن رجب: “على [هذه الرواية] فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال، ومن أحسن ما قيل في معنى ذلك ما قاله سفيان بن عيينه رحمه الله، قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها، إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدِّي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله عز وجل ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة. خرجه البيهقي في “شعب الإيمان” …. فيحتمل أن يقال في الصوم: إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة (أي قصاص) ولا غيرها، بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة، فيوفى أجره فيها.” انتهى من “لطائف المعارف” (286).
قال أيضا: (وأما قوله: ” فإنه لي” أحسن ما ذكر في [معنى ذلك] وجهان:
أحدهما: أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام.
الوجه الثاني: أن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة.” انتهى من “لطائف المعارف” (289_290) باختصار.
وقال الاتيوبي: وأشار ابن عبد البرّ إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات، فقال: حسبك يكون الصوم جُنّة من النار فضلًا. وسيأتي للمصنف رقم (43) / (2220) – بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول اللَّه مُرْني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم، فإنه لا مثل له». وفي لفظ: «لا عدل له». والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة.
قال الجامع – عفا اللَّه تعالى عنه -: ما ذهب إليه الجمهور يؤيّده ما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والدارميّ بأسانيد صحيحة، عن ثوبان ?، قال: قال رسول اللَّه ?: «استقيموا، ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن». واللَّه تعالى أعلم
ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21) / (82)
ثالثًا: الضيافة وفضلها:
(المسألة الأولى): معنى الضيف والضيافة.
فالضيف: هو الذي ينزل على غيره؛ ليؤويه ويطعمه، مدة إقامته عنده.
والضيافة: هي القيام بمؤنة الضيف، من مأكل ومشرب ومأوى، من نزوله إلى مغادرته.
و «الضيف»: يُطلق على الواحد، وغيره بلفظ واحد؛ لأنه في الأصل مصدر من ضافه ضَيْفًا، من باب باع: إذا نزل عنده … قاله الفيّوميّ [«المصباح المنير» (2) / (366)].
(المسألة الثانية): فضل إكرام الضيف
الضيافة من مكارم الأخلاق، ومحاسن الدين، ومن خلق النبيين عليهم الصلاة والسلام، والصالحين، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ((24))} [الذاريات: (24)] قيل: أكرمهم إبراهيم عليه السلام بتعجيل قراهم، والقيام بنفسه عليهم، وطلاقة الوجه.
فالضيافة من آداب الإسلام، وخلق النبيين والصالحين، وأمارة من أمارات صدق الإيمان.
ويكون الأدب مع الضيف بإكرامه بطلاقة الوجه، وحسن اللقاء، وطيب الكلام، والإطعام ونحو ذلك، مما جرى العرف عليه.
ويقدم له في أول يوم ينزله عنده أحسن ما يأكل منه هو وعياله، ويجتهد في إتحافه، وتقديم أحسن ما يجده له.
روى البخاري (6019) ومسلم (48)، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ))، قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
فيه: أنه من الإيمان.
قال الحافظ رحمه الله: ” قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الضَّيْف أَنْ يُتْحِفهُ، وَيَزِيدهُ فِي الْبِرّ عَلَى مَا بِحَضْرَتِهِ يَوْمًا وَلَيْلَة، وفي الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يُقَدِّم لَهُ مَا يَحْضُرهُ, فَإِذَا مَضَى الثَّلَاث فَقَدْ قَضَى حَقّه، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ مِمَّا يُقَدِّمهُ لَهُ يَكُون صَدَقَة” انتهى.
قال الخطابي رحمه الله:
قوله: (جائزته يوم وليلة)، سئل مالك بن أنس عنه فقال: يُكرمه، ويتحفه، ويخصه، ويحفظه، يوماً وليلة، وثلاثة أيام ضيافة.
قلت: يريد أنه يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له من بِر، وألطاف، ويقدِّم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته، ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاث: فهو صدقة، ومعروف، إن شاء فعل، وإن شاء ترك. [معالم السنن، (4/ 238)].
وقال القرطبي رحمه الله: أنَّها من أخلاق المؤمنين، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلَّفوا عنها؛ لِمَا يحصل عليها من الثواب في الآخرة، ولمَا يترب عليها في الدنيا من إظهار العمل بمكارم الأخلاق، وحُسن الأحدوثة الطيبة، وطِيْب الثناء، وحصول الرَّاحة للضيف المتعوب بمشقَّات السَّفر، المحتاج إلى ما يخفِّف عليه ما هو فيه من المشقَّة، والحاجة.
ولم تزل الضيافة معمولًا بها في العرب من لدن إبراهيِم ?؛ لأنَّه أول من ضيَّف الضيف، وعادة مستمرة فيهم، حتى إنَّ من تركها يُذمُّ عُرْفًا، ويُبَخَّلُ ويُقَبَّحُ عليه عادة، فنحن وإن لَمْ نقل: إنَّها واجبة شرعًا فهي متعيِّنة لِمَا يحصل منها من المصالح، ويندفع بها من المضارّ عادة وعُرفًا. انتهى كلام القرطبيّ [» المفهم” (5) / (197) – (198)].
(المسألة الثالثة): حكم الضيافة
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ سُنَّةٌ، وَمُدَّتُهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالرِّوَايَةُ الاخْرَى عَنْ أَحْمَدَ – وَهِيَ الْمَذْهَبُ – أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَمُدَّتُهَا يَوْمٌ لَيْلَةٌ، وَالْكَمَال ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَبِهَذَا يَقُول اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. [الموسوعة الفقهية، (28/ 316 – 317)]
قال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدم القول في حكم الضيافة، وأن الأمر بها عند الجمهور على جهة الندب، لأنَّها من مكارم الأخلاق، إلَّا أن تتعين في بعض الأوقات بحسب ضرورة أو حاجة، فتجب حينئذ.
وقال ابن قدامة رحمه الله: “والواجب يوم وليلة، والكمال ثلاثة أيام؛ لما روى أبو شريح الخزاعي – وساق الحديث -” انتهى. [المغني، (11/ 91)].
وقال ابن القيم رحمه الله:
“إن للضيف حقّاً على مَن نزل به، وهو ثلاث مراتب:
حق واجب، وتمام مستحب، وصدقة من الصدقات،
فالحق الواجب: يوم وليلة؛ وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المراتب الثلاثة في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي شريح الخزاعي” انتهى. [زاد المعاد، (3/ 658)].
وقال الشوكاني رحمه الله:
“والحق وجوب الضيافة لأمور:
الأول: إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب.
والثاني: التأكيد البالغ بجعل ذلك فرع الإيمان بالله واليوم الآخر يفيد أن فعل خلافه فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومعلوم أن فروع الإيمان مأمور بها، ثم تعليق ذلك بالإكرام وهو أخص من الضيافة فهو دال على لزومها بالأولي.
والثالث: قوله: (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) فإنه صريح في أن ما قبل ذلك غير صدقة، بل واجب شرعا.
قال الخطابي: يريد أن يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وألطاف، ويقدم له في اليوم الثاني ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته، فما جاوز الثلاث فهو معروف وصدقة إن شاء فعل وإن شاء ترك” انتهى. “نيل الأوطار” (9/ 30).
والراجح – والله أعلم – أن ضيافة المسافر المجتاز – لا المقيم – واجبة، وأن وجوبها على أهل القرى، والأمصار، دون تفريق.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرح قول الحجاوي رحمه الله: “وَتَجِبُ ضِيَافَةُ المُسْلِمِ الْمُجْتَازِ بِهِ فِي الْقُرَى يَوْماً وَلَيْلَةً”.
قال: قوله: ” وتجب ضيافة المسلم “: ” تجب ” هذا بيان حكم الضيافة، والضيافة أن يَتلقَّى الإنسان مَن قدم إليه، فيكرمه، وينزله بيته، ويقدم له الأكل، وهي من محاسن الدين الإسلامي، وقد سبقنا إليها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) الذاريات/ 24، أي: الذين أكرمهم إبراهيم، ولا يمتنع أن يقال: والذين أكرمهم الله عزّ وجل بكونهم ملائكة.
فحكم الضيافة واجب، وإكرام الضيف – أيضاً – واجب، وهو أمر زائد على مطلق الضيافة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، أي: من كان يؤمن إيماناً كاملاً: فليكرم ضيفه … .
قوله: ” المجتاز به ” يعني: الذي مرَّ بك وهو مسافر، وأما المقيم: فإنه ليس له حق ضيافة، ولو كان المقيم له حق الضيافة: لكان ما أكثر المقيمين الذين يقرعون الأبواب! فلا بد أن يكون مجتازاً، أي: مسافراً ومارّاً، حتى لو كان مسافراً مقيماً يومين، أو ثلاثة، أو أكثر: فلا حق له في ذلك، بل لا بد أن يكون مجتازاً.
قوله: “في القرى ” دون الأمصار، والقرى: البلاد الصغيرة، والأمصار: البلاد الكبيرة، قالوا: لأن القرى هي مظنة الحاجة، والأمصار بلاد كبيرة فيها مطاعم، وفنادق، وأشياء يستغني بها الإنسان عن الضيافة، وهذا – أيضاً – خلاف القول الصحيح؛ لأن الحديث عامّ، وكم من إنسان يأتي إلى الأمصار وفيها الفنادق، وفيها المطاعم، وفيها كل شيء، لكن يكرهها ويربأ بنفسه أن يذهب إليها، فينزل ضيفاً على صديق، أو على إنسان معروف، فلو نزل بك ضيف – ولو في الأمصار -: فالصحيح: الوجوب. [الشرح الممتع على زاد المستقنع، (15/ 48 – 51) باختصار].
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقد أوجبها الليث ليلةً واحدةً، واحتج بالحديث: «ليلةُ الضيف حقّ واجبٌ على كل مسلم» [أخرجه أحمد (4) / (130) و (132) و (133)، وأبو داود ((3750))، وابن ماجه ((3677))، وإسناده صحيح]، وبحديث عقبة: «إن نزلتم بقوم، فأمروا لكم بحقّ الضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقَّ الضيف الذي ينبغي لهم».
وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق، وحجتهم قوله ?: «جائزتُهُ يومٌ وليلةٌ»، والجائزة العطية والمنحة والصلة، وذلك لا يكون إلا مع الاختيار، وقوله ?: «فليكرم»، و «ليحسن» يدل على هذا أيضًا، إذ ليس يُسْتَعمَل مثله في الواجب، مع أنه مضموم إلى الإكرام للجار، والإحسان إليه، وذلك غير واجب، وتأولوا الأحاديث أنها كانت في أول الإسلام؛ إذ كانت المواساة واجبة.
قال الإتيوبي عفا الله تعالى عنه: لا يخفى على من تأمّل أن ما أوّل به عامّة الفقهاء غير واضح، فالحقّ ما قاله الليث رحمه الله تعالى من وجوب الضيافة؛ لظهور حجّته، بل سيأتي ترجيح القول بوجوبها ذ دثلاثة أيام، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
والرابع: خلاصة فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): عظم عبادة الصيام، النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصوم بأنه لا مثيل له.
2 – (منها): التأثير العملي للصحابة، تطبيق أبي أمامة وأهله رضي الله عنهم للصيام يدل على حرص الصحابة على الالتزام بتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم.
3 – (منها): الدعاء للشهادة، من المستحب طلب الشهادة، ولكن القبول بما يقدّره الله أعلى منزلة.
4 – (منها): فضل السجود، كل سجدة ترفع درجة وتحط خطيئة، مما يشجع على الإكثار من الصلاة.
5 – (منها): شمولية العبادة، الحديث يجمع بين العبادات البدنية (الصيام) والقولية (الدعاء).
تنبيه: انظر ما يتعلق بأحكام الضيافة فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند، [1ج/ رقم (398)].