[1ج/ رقم (474)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي.
و أحمد بن علي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد وأسامة الحميري ومحمد فارح
ويوسف بن محمد السوري
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (474)]:
مسند شداد بن الهاد رضي الله عنه
(474) – قال الإمام النسائي رحمه الله (ج (4) ص (60)): أخْبَرَنا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قالَ أنْبَأنا عَبْدُ اللهِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قالَ أخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خالِدٍ أنَّ ابْنَ أبِي عَمّارٍ، أخْبَرَهُ عَنْ شَدّادِ بْنِ الهادِ: أنَّ رَجُلًا مِن الأعْرابِ جاءَ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ واتَّبَعَهُ، ثُمَّ قالَ: أُهاجِرُ مَعَكَ، فَأوْصى بِهِ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ بَعْضَ أصْحابِهِ، فَلَمّا كانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ سَبْيًا فَقَسَمَ وقَسَمَ لَهُ، فَأعْطى أصْحابَهُ ما قَسَمَ لَهُ، وكانَ يَرْعى ظَهْرَهُمْ، فَلَمّا جاءَ دَفَعُوهُ إلَيْه، ِ فَقالَ: ما هَذا؟ قالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ. فَأخَذَهُ فَجاءَ بِهِ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ، فَقالَ ما هَذا قالَ: «قَسَمْتُهُ لَكَ». قالَ: ما عَلى هَذا اتَّبَعْتُكَ، ولَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلى أنْ أُرْمى إلى هاهُنا – وأشارَ إلى حَلْقِهِ – بِسَهْمٍ فَأمُوتَ فَأدْخُلَ الجَنَّةَ.
فَقالَ «إنْ تَصْدُقْ اللهَ يَصْدُقْكَ». فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتالِ العَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أصابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أشارَ، فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ: «أهُوَ هُوَ؟» قالُوا: نَعَمْ. قالَ: «صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ». ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلّى عَلَيْهِ، فَكانَ فِيما ظَهَرَ مِن صَلاتِهِ: «اللَّهُمَّ هَذا عَبْدُكَ، خَرَجَ مُهاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أنا شَهِيدٌ عَلى ذَلِكَ».
هذا حديث صحيحٌ، رجاله رجال الصحيح، إلا سويد بن نصر، وقد وثَّقه مَسْلَمَة، كما في «تهذيب التهذيب».
وابن أبي عمار اسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار.
===================
[تنبيه]: قال النسائي -رحمه الله تعالى- في «الكبرى» بعد إخراجه لهذا الحديث: ما نصه:
قال أبو عبدالرحمن: ما نعلم أحدا تابع ابن المبارك على هذا، والصواب ابن أبي عمار، عن ابن شداد بن الهاد، وابن المبارك أحد الأئمة، ولعل الخطأ من غيره. والله أعلم انتهى.
قال الإتيوبي – عفا الله تعالى عنه -: الظاهر أن النسائي رحمه الله تعالى يريد إعلال الحديث بالإرسال، فإن ابن شداد تابعي، لكن الذي يظهر أن انفراد ابن المبارك بوصله كاف؛ لأنه إمام ثبت، فزيادته مقبولة، فلا يؤثر مخالفة غيره له بالإرسال، فلعل المصنف رحمه الله تعالى أعرض عن ذكر هذا الإعلال لما اختصر «المجتبى»، لعدم تأثيره. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، (19/ 203 – 206)].
قلنا: وجدنا أن ابن المبارك توبع عليه حيث تابعه عبد الرزاق أخرجه عبدالرزاق في مصنفه. ومن طريقه البيهقي في الكبرى كما سيأتي
فيبقى إن صح تعليل النسائي الخطأ ممن هو أعلى من ابن المبارك
الحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث الإمام النسائي رحمه الله، في كتابه السنن، الموسوم بـ “المجتبى”، ((21)) كتاب الجنائز، ((61)) الصلاة على الشهداء، ((1953)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(2) – كتاب الإيمان، (5) – تفاوت الناس في الإيمان، ((308)).
و (5) – كتاب الجنائز، (19) – فضل موت الشهادة، ((1191)).
و (13) – كتاب الجهاد والغزوات، (4) – الإخلاص في الجهاد في سبيل الله، ((1950)).
و (20) – كتاب الزهد، (3) – الصدق في الزهد، ((2878)).
و (30) – كتاب الهجرة، (2) – فضل المهاجرين، ((3457)).
“هذا الحديث رواه: النسائي [في (باب: الصلاة على الشهداء، من كتاب: الجنائز) (4) / (60) – (61) ورقمه/ (1953)، وهو في الكبرى ((1) / (634)) ورقمه/ (2080). واللفظ له – عن سويد بن نصر عن عبد الله [هو: ابن المبارك، روى حديثه – أيضا -: الطحاوى في شرح المعاني ((1) / (505) – (506)) بسنده عن نعيم بن حماد عنه].
ورواه: الطبراني في الكبير [((7) / (271)) ورقمه/ (7108)، ورواه من طريقه: المزي في تهذيبه ((17) / (233))] عن إسحاق بن إبراهيم [وكذا رواه: الحاكم في المستدرك ((3) / (595) – (596)) بسنده عن إسحاق بن إبراهيم به … وسكت هو، والذهبي في التلخيص ((3) / (595) – (596)) عنه] عن عبد الرزاق [والحديث في مصنفه ((5) / (276)) ورقمه/ (9597)، ورواه: البيهقي في السنن الكبرى ((4) / (15) – (16)) بسنده عن أحمد بن يوسف السلمي عنه – أيضا -]،
كلاهما عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد عن ابن أبي عمار عن شداد به … وأورده الألباني في صحيح سنن النسائي [((2) / (420)) ورقمه/ (1845)]، وقال: “صحيح”. اهـ، وهو كما قال،
وابن جريج اسمه: عبد الملك بن عبد العزيز، صرح بالتحديث. وسويد – في الإسناد – هو: المروزي. وعكرمة هو: المخزومي، اسم جده: العاص. واسم ابن أبي عمار: عبد الرحمن بن عبد الله المكى. قاله سعود بن عيد الصاعدي رحمه الله تعالى [الأحاديث الواردة في فضائل الصحابة (ح (1828)، ج10/ ص149)].
قلنا تنبيه في مصنف عبدالرزاق إنما أخرجه برقم 6651
والثاني: شرح وبيان الحديث
بوب الإمام النسائي رحمه الله على الحديث: ” (61) – الصلاة على الشهداء”.
قال الإتيوبي – عفا الله تعالى عنه -: “الظاهر من صنيع المصنف -رحمه الله تعالى- أنه يرى جواز الصلاة على الشهداء، وجواز تركها، حيث ترجم بـ «الصلاة على الشهداء»، ثم أورد حديثين، كل منهما يدل على جواز الصلاة عليهم، ثم ترجم بعد هذا بـ «ترك الصلاة عليهم»، وأورد حديثا يدل على ترك الصلاة عليهم، فدل على أنه يرى أنه إن صلي عليهم، فحسن، وإن ترك، فحسن، وهو المنقول عن أحمد، وإسحاق بن راهويه، وهو المذهب الراجح، كما سيأتي بيان ذلك في المسائل، إن شاء الله تعالى.
و «الشهداء»: جمع شهيد، كما قال في «الخلاصة»:
وهو فعيل، بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، على اختلاف التأويل التالي.
قال ابن الأنباري: سمي الشهيد شهيدا؛ لأن الله، وملائكته شهود له بالجنة. وقيل: سموا شهداء؛ لأنهم ممن يستشهد يوم القيامة مع النبي ? على الأمم الخالية.
وقال أبو منصور: والشهادة تكون للأفضل، فالأفضل من الأمة، فأفضلهم من قتل في سبيل الله، ميزوا عن الخلق بالفضل، وبين الله أنهم {بل أحياء عند ربهم يرزقون ((169)) فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران: (169) – (170)]،
ثم يتلوهم في الفضل من عده النبي ? شهيدا، فإنه قال: «المبطون شهيد، والمطعون شهيد».
وقيل: سمي شهيدا؛ لأنه حي لم يمت، كأنه شاهد أي حاضر.
وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده.
وقيل: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل.
وقيل: لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل.
وقيل: غير ذلك. أفاده ابن منظور -رحمه الله تعالى-. [«لسان العرب» باختصار]. والله تعالى أعلم بالصواب. [ذخيرة العقبى في شرح المجتبى للإتيوبي (19/ 202)].
شرح الحديث:
(عن شداد بن الهاد) قيل: اسمه أسامة، ولقبه شداد، واسم الهاد عمرو، وقال خليفة ابن خياط: اسم الهاد أسامة بن عمرو بن عبد الله بن جابر بن بشر بن عتوارة بن عامر بن مالك ابن ليث بن بكر [«تاريخه» ج (2) ص (156)]. وإنما قيل له: الهاد؛ لأنه كان يوقد النار بالليل للأضياف. [«تحفة الأشراف» ج (4) ص (148)].
(أن رجلا من الأعراب) لم أر من سماه (جاء إلى النبي ?، فآمن به، واتبعه ثم قال: أهاجر معك) أي: قال للنبي ?: أترك بلدي، وأكون معك في المدينة، وإنما طلب ذلك منه رغبة فيما أعد للمهاجرين من الثواب، وليتمكن من الخروج للجهاد ونحوه، بسهولة، (فأوصى به النبي ?، بعض أصحابه) عطف على مقدر، أي: أذن له ? في أن يهاجر، وأن يكون معه، ثم أوصى، أي: أمر النبي ? بعض الصحابة، ليقوم بأمره، حيث إنه غريب، يحتاج إلى من يساعده في أموره.
فإن قلت: ظاهر هذا الحديث يعارض ما أخرجه الشيخان، وأبو داود، والمصنف [سيأتي للمصنف في «كتاب الجهاد» برقم (11) / (4164)] من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابيا، سأل رسول الله ? عن الهجرة؟، فقال: «ويحك، إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل؟»، قال: نعم، قال: «فهل تؤدي صدقتها»، قال: نعم، قال: «فاعمل من وراء البحار [أي من وراء القرى والمدن]، فإن الله تعالى، لن يترك من عملك شيئا».
(لم يترك): [أي لن ينقصك، كما في قوله تعالى: {ولن يتركم أعمالكم} [سورة محمد ?: (35)]
فإنه يدل على أن النبي ?، لم يأذن لهذا الأعرابي في الهجرة، بخلاف الأعرابي المذكور في حديث الباب، فقد أذن له فيها، فكيف توفق بينهما؟.
[الجواب]: يجمع بينهما بأن النبي ? كان يعامل كل أحد بما يناسب حاله، فالأعرابي في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، كان ممن لا يتحمل مشقة الغربة على أهله، ووطنه، بخلاف الأعرابي الذي في حديث الباب، فإنه كان ممن يتحمل المشاق في سبيل الله، كما ظهر مصداق ذلك في إعراضه عن الغنائم، واشتياقه إلى النعيم المقيم الدائم، فمنع الأول من الهجرة، وأذن للثاني فيها، نظرا لمصلحة كل منهما، والله تعالى أعلم.
(فلما كانت غزوة) لم أعرف هذه الغزوة
(قالوا: نعم، قال: صدق الله) بتخفيف الدال في الموضعين، أي: أخلص لله في قوله، وعهده، (فصدقه) أي: جازاه بتحقيق رغبته،
(ثم كفنه النبي ?، في جبة النبي ?)، والظاهر أن تكفينه في جبته ? لبركتها، وإلا فالسنة أن يكفن الشهيد في ثيابه، فقد أمر ? في قتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد، والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم، وثيابهم، رواه أبو داود، وابن ماجه، وفي سنده ضعف، لكن يشهد له ما أخرجه أبو داود بإسناد على شرط مسلم، عن جابر رضي الله، قال: “رمي رجل بسهم في صدره، فمات، فأدرج في ثيابه، كما هو، ونحن مع رسول الله ?)،
(ثم قدمه) أي: وضعه بين يديه (فصلى عليه) هذا محل الترجمة، حيث يدل على أنه ? صلى على شهيد، (فكان فيما ظهر من صلاته) أي: تبين لمن صلى معه من الدعاء لذلك الميت: (اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك)، أي: على المذكور من هجرته في سبيل الله، ثم قتله شهيدا.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
“هَذِهِ حَقِيقَةُ الدِّينِ، حَقِيقَةُ الإِخْلَاصِ، حَقِيقَةُ العَمَلِ لِخِدْمَةِ دِينِ رَبِّ العَالمِينَ، لَيْسَ هَاهُنَا شَيْء، الفَائِدَةُ هُنَاكَ، الأَجْرُ هُنَاك، المَثُوبَةُ هُنَاك، وَأَمَّا هَاهُنَا فِي الدُّنْيَا؛ فَتَعَبٌ وَنَصَبٌ، وَعَنَاءٌ وَبَلَاءٌ، وَأَلَمٌ وَمَشَقَّةٌ، وَاللَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُصْلِحُ البَالَ، وَيُطَمْئِنُ القَلْبَ، وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ”.
وحديث شداد بن الهاد رضي الله عنه هذا صحيح، وهو من أفراد النسائي -رحمه الله تعالى-، أخرجه هنا (61) / (1953) – وفي «الكبرى» (61) / (2080). والله تعالى أعلم.
[ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، (19/ 203 – 206)].
والثالث: المسائل والأحكام:
(المسألة الأولى): هل ينزع ما على الشهيد من ثياب وغيرها؟
قال النووي رحمه الله في «المجموع» ((5) / (267)): مذهبنا أنه يزال ما عليه من حديد، وجلود، وجبة محشوة، وكل ما ليس من عام لباس الناس، ثم وليه بالخيار: إن شاء كفنه بما بقي عليه مما هو من عام لباس الناس، وإن شاء نزعه وكفنه بغيره، وتركه أفضل كما سبق، وقال مالك، وأحمد: لا ينزع عنه فرو، ولا خف، ولا محشو، ولا يخير وليه في نزع شيء، ولأصحاب داود خلاف كالمذهبين، وأجمع العلماء على أن الحديد، والجلود ينزع عنه. اهـ
وبقول الشافعية قال بعض الحنابلة، والصواب قول مالك، وأحمد، واختاره الإمام الألباني رحمه الله؛ لحديث جابر الذي في الباب: وأمر بدفنهم بدمائهم. [انظر: «الإنصاف» ((2) / (474))، «المغني» ((3) / (471))، «أحكام الجنائز» (ص (60))، بواسطة فتح العلام ()].
(المسألة الثانية): هل يغسل شهيد المعركة؟
نقل البغوي في «شرح السنة» الاتفاق على عدم غسله ((5) / (366)).
• ولكن نقل النووي، وابن قدامة الخلاف عن سعيد بن المسيب، والحسن، أنهم قالوا يغسل.
وعامة أهل العلم على عدم جواز غسله، واستدلوا على ذلك بشهداء أحد؛ فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يغسلهم كما في حديث جابر الذي في الكتاب، وحديث جليبيب رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- دفنه ولم يغسله، أخرجه مسلم ((2472)) عن أبي برزة رضي الله عنه، وقصة حنظلة بن أبي عامر أنه غسلته الملائكة. أخرجه ابن حبان ((7025)) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بإسناد حسن، وهو في «الصحيح المسند» ((575)) وهذا القول هو الصحيح، والله أعلم. [انظر: «المجموع» ((5) / (264))، «المغني» ((3) / (467))، بواسطة فتح العلام ()].
وقال الإتيوبي رحمه الله تعالى في عرضه لأقوال أهل العلم في المسألة:
قال الإمام ابن المنذر -رحمه الله تعالى-: قد اختلفوا في غسل الشهيد، فقال عامة أهل العلم: لا يغسل، كذلك قال مالك بن أنس، ومن تبعه، من أهل المدينة، وبه قال الحكم، وحماد، وأصحاب الرأي، ومن وافقهم من أهل الكوفة، وبه قال الشافعي، وأصحابه، وكذلك قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وكذلك قال عطاء، وسليمان بن موسى، ويحيى الأنصاري، وإبراهيم النخعي.
وكان الحسن، وسعيد بن المسيب، يقولان: يغسل، فإن كل ميت يجنب، وسئل ابن عمر عن غسل الشهيد، فقال: قد غسل عمر، وكفن، وحنط، وصلي عليه، وكان شهيدا.
قال ابن المنذر -رحمه الله تعالى-: ثابت عن رسول الله ? أنه لم يغسل شهداء أحد، ولم يصل عليهم.
قال: واختلفوا في الصبي، والمرأة يقتلان، فكان الشافعي يقول: يصنع بهما ما يصنع بالشهداء، لا يغسلان، ولا يصلى عليهما، وكذلك قال أبو ثور، وقال يعقوب، ومحمد: يصنع بالولدان ما يصنع بالشهداء، ولا يغسلون. وكان النعمان يقول: أما النساء، والرجال، فلا يغسلون، ويصنع بهم ما يصنع بالشهيد، وأما الولدان الذين ليست لهم ذنوب فيغسلون.
قال ابن المنذر: لما كانت السنة في غسل الرجال، والنساء، والولدان، والصلاة عليهم سبيلا واحدا، حيث يغسلون، ويصلى عليهم، كان كذلك سبيلهم في الموضع الذي يوقف عنه عن غسلهم، والصلاة عليهم سبيلا واحدا، استدلالا بالسنة، لا فرق بين الأخيار والأشرار، والذين لهم ذنوب، والذين لا ذنوب لهم في ذلك، إن شاء الله.
قال: واختلفوا فيمن قتله غير أهل الشرك، فكان الشعبي يقول: من قتله اللصوص لم يغسل، وقال سفيان الثوري: من قتل مظلوما لم يغسل، وكذلك قال الأوزاعي فيمن قتله اللصوص.
وكان مالك، والشافعي يقولان: يغسلون، ويصلى عليهم، قال الشافعي: الغسل، والصلاة سنة بني آدم لا يخرج منها إلا من تركه رسول الله ?، وهم الذين قتلهم المشركون خاصة في المعركة.
قال ابن المنذر -رحمه الله تعالى-: وهذا الذي قاله مالك، والشافعي حسن، وروينا عن أسماء بنت أبي بكر أنها غسلت عبد الله بن الزبير بعد ما تقطعت أوصاله. انتهى [«الأوسط» ج (5) ص (346) – (348)].
قال الإتيوبي – عفا الله تعالى عنه -: قد تقدم في المسألة الماضية ترجيح القول بجواز الصلاة على الشهداء، وأما غسلهم، فالأرجح عندي عدم مشروعيته، لعدم ثبوت دليل يعتمد عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. [ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، (19/ 207 – 215)].
(المسألة الثالثة): هل يصلى على شهيد المعركة؟
• ذهب جمهور العلماء إلى المنع من الصلاة عليه، واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما [قال: كان النبي ? يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن؟» فيقدمه في اللحد. ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. رواه البخاري].
- وذهب الثوري، وأبو حنيفة، والمزني، وإسحاق إلى أنه يصلى عليه، واستدلوا على ذلك بأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ورد عنه أنه صلى على حمزة مع شهداء أحد رضي الله عنهم، [جاء من عدة أوجه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى على حمزة مع شهداء أحد، وهي أحاديث ما بين موضوع، ومنكر. انظر: «البدر المنير» ((5) / (243) – (250))، «تنقيح التحقيق» ((2) / (633) – (638))] واستدلوا بحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه في «الصحيحين» [أخرجه البخاري برقم ((1344))، ومسلم برقم ((2296))] أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خرج قبل موته بأيام فصلى على شهداء أحد صلاته على الميت، ثم صعد المنبر …. الحديث، واستدلوا بحديث شداد بن الهاد رضي الله عنه أن أعرابيا أسلم، ثم قتل في المعركة، فصلى عليه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وهو عند النسائي ((4) / (60)) بإسناد صحيح، وصححه شيخنا الوادعي رحمه الله في «الصحيح المسند» ((474)).
وقد رد الجمهور على هذه الأدلة بأن حديث صلاته على حمزة ضعيف، منكر، قال الشافعي رحمه الله كما في «الفتح» ((1343)): جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي ? لم يصل على قتلى أحد، وما روي أنه صلى عليهم، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه. قال: وأما حديث عقبة بن عامر؛ فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين، يعني والمخالف يقول: لا يصلى على القبر إذا طالت المدة. قال وكأنه ? دعا لهم، واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعا لهم بذلك. اهـ
وقد أول الجمهور حديث عقبة بنفس تأويل الشافعي، بأن المقصود أنه دعا لهم كدعائه للموتى، ويدل على هذا التأويل أن الصلاة على القبر لا تقع بعد هذه المدة عند المخالفين كما تقدم من كلام الشافعي، وكذلك ظاهر الحديث أن الدعاء كان في المسجد، والصلاة تكون عند القبر. وأما حديث شداد؛ فقد أجيب عنه بأنه مرسل، وليس بصحيح، بل هو حديث صحيح، متصل.
• وقد ذهب الإمام أحمد إلى مشروعية الصلاة على الشهيد، وظاهر كلامه أن الترك أفضل؛ لفعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في غالب الشهداء، ودليل الجواز حديث شداد بن الهاد.
• وقد ذهب إلى التخيير الحافظ ابن القيم في «تهذيب السنن» ((4) / (295))، والإمام الألباني في «أحكام الجنائز» ((80))، وهذا القول هو الصواب في هذه المسألة، والله أعلم. [انظر: «شرح السنة» ((5) / (366))، «المجموع» ((5) / (264))، «المغني» ((3) / (467))، «الإنصاف» ((2) / (474) – (475))، «الفتح» ((1343))، بواسطة فتح العلام ()].
وقال الإتيوبي رحمه الله تعالى في عرضه لأقوال أهل العلم في المسألة:
قد تلخص مما تقدم من مناقشة هذه الأحاديث أن أحاديث صلاة النبي ? على قتلى أحد يوم أحد لا تثبت، ولا تصلح لمعارضة ما في «الصحيح» من حديث جابر رضي الله عنه أنه لم يصل عليهم، وإن حاول الشوكاني إثباتها، وذكر المرجحات لذلك، فهي كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: كان ينبغي لمن عارض بهذه الأحاديث أن يستحي على نفسه انتهى.
وإنما العمدة في هذا الباب حديثان:
أحدهما: ما أخرجه البخاري وغيره من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه ? صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت»، وقد تقدم أن دعوى كون المراد بالصلاة الدعاء غير صحيحة، بل المراد الصلاة المشروعة على الأموات، بدليل قوله: «صلاته على الميت».
والثاني: حديث شداد بن الهاد رضي الله عنه المذكور في هذا الباب، وقد عرفت أنه حديث صحيح.
فهذان الحديثان يكفيان لإثبات مشروعية الصلاة على الشهيد، فالمذهب الراجح هو مذهب من أثبت الصلاة عليه، لكن على سبيل الجواز، لا على سبيل الوجوب، كما نقل عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، فإنه قال في رواية المروزي عنه: الصلاة عليه أجود، وإن لم يصلوا عليه أجزأ. انتهى.
وقال أبو محمد ابن حزم عفا الله عنه: إن صلي على الشهيد، فحسن، وإن لم يصل عليه فحسن، واستدل بحديثي جابر، وعقبة رضي الله عنهما المذكورين، وقال: ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ؛ لأن استعمالهما معا ممكن في أحوال مختلفة انتهى. [«المحلى» ج (5) ص (115) – (116)].
والحاصل أن الصواب جواز الصلاة على الشهيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله، والصلاة عليه،
هل هو مختص بمن قتل في المعركة في حرب الكفار، أو أعم من ذلك؟:
فعند الشافعي أن المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار، ولا فرق في ذلك بين الرجل، والمرأة، والكبير، والصغير، والحر، والعبد، والصالح، وغيره.
وخرج بقوله: «في المعركة» من جرح في المعركة، وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج بـ «حرب الكفار» من مات بقتال المسلمين، كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من يسمى شهيدا بسبب غير السبب المذكور، كمن مات مبطونا، أو مطعونا، فإنما يقال له: شهيد بمعنى ثواب الآخرة، وهذا كله هو القول الراجح من مذاهب العلماء.
وروي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد أن من جرح في المعركة إن مات قبل الِارْتِثَاثِ، فشهيد، وَالِارْتِثَاثُ أن يحمل، أو يأكل، أو يشرب، أو يوصي، أو يبقى في المعركة يوما وليلة حيا.
وأما من قتل مدافعا عن نفس، أو مال، أو في المصر ظلما، فعند أبي حنيفة، وأبي يوسف شهيد، وقال الشافعي: إنه وان قيل له: شهيد، فليس من الشهداء الذين لا يغسلون [أفاده في «الفتح» ج (3) ص (571) و «نيل الأوطار» ج (4) ص (56)، ونقلته باختصار].
قال الإتيوبي – عفا الله تعالى عنه -: عندي أن ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أرجح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في شرح صحيح البخاري: “فقد تقدّم حديثُ أبي قتادة، وحديث جابر يدلّ على أنَّ الشَّهيد لا يُصلَّى عليه؛ شهيد المعركة، حكم الصلاة على الشَّهيد –يعني- أنها لا تُشرع، لا يُشرع أن يُصلَّى عليه، بل يُدفنون في ثيابهم ودمائهم من دون صلاةٍ عليهم؛ لأنهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وهذه صفة خاصَّة لهم: لا يُصلَّى عليهم، ولا يُغسّلون، إذا ماتوا في المعركة قتلًا في سبيل الله عزوجل.
وهكذا فعل النبي ? بقتلى أحد: دفنهم في ثيابهم، ولم يُغسّلهم، ولم يُصلِّ عليهم، وكان يجمع الرجلين في قبرٍ واحدٍ ويقول: أنا شهيدٌ على هؤلاء، ويُقدّم أفضلهم في اللَّحد، يسأل: أيّهم أكثر قرآنًا؟ فإذا أُشير إليه يبدأه باللَّحد، فدلَّ على أنَّه يُقدّم الأفضل فالأفضل، وأنَّه لا حرجَ في جمع القتيلين والثلاثة، والميتين والثلاثة في القبر الواحد إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك؛ إمَّا لكثرة القتلى، وإمَّا لضيق البقعة، وإمَّا لأسبابٍ أخرى، وإلا فالسُّنة أنَّ كل ميتٍ وحده، كما كان النبي يفعله ? في البقيع، كان كل ميتٍ وحده، لكن إذا دعت الحاجةُ والضَّرورة إلى دفن الاثنين والثلاثة لا حرج، كما فعل النبيُّ يوم أحدٍ؛ لأنَّ الناس أصابهم جراحات كثيرة، وعليهم مشقّة في دفن كل واحدٍ، ويخشى من عودة الكفرة عليهم أيضًا، كما قد أجمعوا الكرةَ عليهم، فخيَّب اللهُ عملهم”. [شرح الشيخ ابن باز رحمه الله على صحيح البخاري (جديد1) باب الصلاة على الشهيد].
[فائدة]: وفي تقريب فتاوى ابن تيمية (3) / (443): ” (2906) – تركُ النبي ? غسل الشهيد والصلاة عليه يدل على عدم الوجوب، أما استحباب الترك فلا يدل على التحريم. [المستدرك (3) / (142)] “. انتهى.
وفي الحاشية ((1)) قال: “قال العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في حاشية الاختيارات (ص (131)): لعلها: (أما مجرد)، بدل: (أما استحباب) “. انتهى.
[تنبيه]: سبق أن مر معنا المسألة في: (8) – أبواب الجنائز، باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد، تحفة الأحوذي للعلامة عبد الرحمن المباركفوري (ت (1353)) رحمه الله.
وانظر أيضًا: صحيح البخاري – ت البغا (1) / (450) — البخاري (ت (256)) (29) – كتاب الجنائز، (71) – باب: الصلاة على الشهيد.
وسبق الإشارة إلى المسألة في عون الصمد شرح الذيل على الصحيح المسند (45).
(المسألة الرابعة): العلة في ترك الصلاة على الشهيد
قيل: من أي وجه تركت الصلاة على الشهيد؟ فقال: هي السنة، من فعل رسول الله، ?.
قال محمد بن رشد: وإن كانت هي السنة، فلا يمتنع أن تعلل السنن إذا وجد لها علة، والعلة في ترك الصلاة على الشهيد، أن الصلاة على الميت شفاعة له، ولا يشفع إلا للمذنبين؛ والشهداء قد غفرت ذنوبهم، وصاروا إلى كرامة الله ورحمته وجنته أجمعين، فارتفعت حالهم عن أن يصلى عليهم، كما يصلى على سائر موتى المسلمين – والحمد لله رب العالمين؛ ولهذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الناس يدخلون عليه أفواجا فيدعون وينصرفون. وقد روي عن ابن وهب: أنه قال: كيف يصلى على حي؟ وهذا اعتلال فيه نظر، إذ لا شك في أنهم قد ماتوا وخرجوا من الدنيا، وصاروا في عداد الموتى ووجب أن تنكح نساؤهم، وتقسم أموالهم، فليس كون أرواحهم حية عند الله، بمانع من الصلاة عليهم، كما لا يمنع ذلك من الصلاة على سائر المؤمنين، وإن كانت لحياتهم مزية بأنهم عند ربهم يرزقون، ويأكلون في الجنة وينعمون، وعند النفخ في الصور لا يفزعون، ولا يخمدون، ولا يصعقون. وأبو حنيفة يرى أن يصلى على الشهيد، ومن حجته ما روي أن رسول الله ? صلى يوم أحد على حمزة، وقد سئل مالك عن ذلك، فقال: ما سمعت، وأما غسله فلا اختلاف أحفظه في أنه لا يغسل. [البيان والتحصيل، ابن رشد الجد (ت (520))، (2/ 299 – 300)].
قلنا: ابن وهب في قوله: كيف يصلى على حي
لا يقصد الحياة الحقيقية الدنيوية لكن يقصد الحياة في الآخرة التشريفية حيث جازاهم الله من جنس ما قدموا
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية (26/ 275 – 276): “ولعل ترك الغسل والصلاة على من قتله جماعة المشركين إرادة أن يلقوا الله جل وعز بكلومهم لما جاء فيه عن النبي ? أن ريح الكلم ريح المسك واللون لون الدم [ما ورد أن ريح الكلم ريح المسك. أخرجه البخاري (الفتح (6) / (20) – ط السلفية) ومسلم ((3) / (1498) – (1499)، ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة]، واستغنوا بكرامة الله جل وعز عن الصلاة لهم مع التخفيف على من بقي من المسلمين لما يكون فيمن قاتل بالزحف من المشركين من الجراح وخوف عودة العدو ورجاء طلبهم وهمهم بأهليهم وهم أهليهم بهم.
والحكمة في ذلك إبقاء أثر الشهادة عليهم وورد عن النبي ? أنه قال: ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، أما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله. حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي وصحيح الترغيب 1326 انتهى.
وفي الشرح الصوتي لزاد المستقنع لابن عثيمين (ت (1421)) (1/ 2726 – ): ” (ولا يصلى عليه) لا يصلي عليه أحد من الناس؛ لا الإمام ولا غير الإمام؛ لأن النبي ? لم يصل على شهداء أحد، ولأن الحكمة من الصلاة الشفاعة؛ لقول النبي ?: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه»، فدل هذا على أن الحكمة من الصلاة هي الشفاعة.
والشهيد يكفر عنه كل شيء إلا الدين؛ فإن الدين لا يسقط بالشهادة، يبقى في ذمة الميت في تركته، إن خلف تركة، وإلا فإنه إذا كان أخذه يريد أداءه أدى الله عنه.
(ولا يصلى عليه) إذن نقول: لا يصلى عليه دليل وتعليل، ما هو الدليل؟ أن النبي ? لم يصل على شهداء أحد، والتعليل: أن المقصود من الصلاة الشفاعة، والشهيد قد كفر عنه كل شيء.
[فإن قال قائل]: أليس النبي ? قد خرج في آخر حياته إلى أحد وصلى عليهم؟
فالجواب:
أن هذه ليست صلاة الميت؛ لأن صلاة الميت يجب أن تكون قبل الدفن، ولكن هذه إما صلاة بمعنى الدعاء، وإما صلاة مودع كما مال إليه ابن القيم رحمه الله أنه خرج إليهم يدعو لهم كالمودع لهم، وأما أنها الصلاة التي تصلى على الميت فلا يمكن أن يبقى الرسول صلى الله عليه وسلم من السنة الثانية إلى السنة العاشرة أو الحادية عشرة لم يصل عليهم”. انتهى.
(المسألة الخامسة): الرسول ? هو الشَّهيد على هذه الأمّة
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: “أنَّ الرسول ? هو الشَّهيد على هذه الأمّة: قتلاها، وغير قتلاها؛ كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
فهو فرطهم، وهو شهيدُ عليهم، وفرطهم يعني: الذي تقدّم أمام الجيش والسّرية للتَّهيئة؛ تهيئة المناخ، تهيئة المنزل، يعني: تهيئة الماء، يُقال له: فرط.
فرسول الله ? هو الفرط لهذه الأمّة، وهو أمامهم على الحوض عليه الصَّلاة والسَّلام.
وهو شهيدٌ عليهم بأعمالهم، قد بلَّغهم الرسالة، ونصحهم عليه الصلاة والسلام، وهو شهيدٌ على ذلك”. [شرح الشيخ ابن باز رحمه الله على صحيح البخاري (جديد1) باب الصلاة على الشهيد].
في تعليقه على باب الصلاة على الشَّهيد من صحيح البخاري، وقد أورد فيه:
1343 – عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كان النبي ? يجمع بين الرجلين من قتلى أحدٍ في ثوبٍ واحدٍ، ثم يقول: أيّهم أكثر أخذًا للقرآن؟، فإذا أُشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحد، وقال: أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغسّلوا، ولم يُصلِّ عليهم.
1344 – عن عقبة بن عامر: أنَّ النبي ? خرج يومًا، فصلَّى على أهل أحدٍ صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: إني فرطٌ لكم، وأنا شهيدٌ عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيتُ مفاتيح خزائن الأرض -أو مفاتيح الأرض-، وإني والله ما أخاف عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها.
فصل:
في ملحق، وتكملة المسائل:
(المسألة السادسة): من مات في أرض المعركة بسبب دابة، أو سقوط، أو عاد عليه سلاحه؟
• قال النووي رحمه الله في «شرح المهذب» ((5) / (267)): مذهبنا أنه لا يغسل، ولا يصلى عليه، وكذا لو وجد ميتا، ولا أثر عليه.
• وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: يغسل، ويصلى عليه.
وقد قال بقول الشافعية بعض الحنابلة، وهو رواية عن أحمد، وقال به ابن حزم في «المحلى» ((562))، وهو أقرب إلى الصواب؛ لأنه قتل، أو مات في معترك المشركين بسبب قتالهم، وقد قتل والد حذيفة رضي الله عنهما يوم أحد خطأ من المسلمين، ولم يستثنه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من شهداء أحد بغسله، والصلاة عليه، والله أعلم. [انظر: «المغني» ((3) / (473) – (474))، «الإنصاف» ((2) / (476))، بواسطة فتح العلام].
(المسألة السابعة): من جرح في أرض المعركة، ثم حمل ومات بعد ذلك؟
قال ابن قدامة رحمه الله في «المغني» ((3) / (472)): وظاهر كلام الخرقي أنه متى طالت حياته بعد حمله؛ غسل، وصلي عليه، وإن مات في المعترك، أو عقب حمله، لم يغسل، ولم يصل عليه، ونحو هذا قول مالك، قال: إن أكل، أو شرب، أو بقي يومين أو ثلاثة غسل. وقال أحمد في موضع: إن تكلم، أو أكل، أو شرب؛ صلي عليه. وقول أصحاب أبي حنيفة نحو من هذا، وعن أحمد أنه سئل عن المجروح إذا بقي في المعترك يوما إلى الليل ثم مات؟ فرأى أن يصلى عليه. وقال أصحاب الشافعي: إن مات حال الحرب لم يغسل ولم يصل عليه وإلا فلا. والصحيح: التحديد بطول الفصل، أو الأكل؛ لأن الأكل لا يكون إلا من ذي حياة مستقرة، وطول الفصل يدل على ذلك، وقد ثبت اعتباره في كثير من المواضع، وأما الكلام والشرب، وحالة الحرب، فلا يصح التحديد بشيء منها. اهـ
الذي صححه ابن قدامة رحمه الله اختاره المجد ابن تيمية، وصححه ابن تميم، وقال صاحب «الإنصاف»: وهو عين الصواب، وقد رجح هذا الإمام ابن عثيمين رحمه الله، وهو الصحيح إن شاء الله، والله أعلم.
ويدل على الصلاة عليه، وتغسيله إذا طال الفصل ما هو مشهور في السيرة أن سعد بن معاذ تأخر موته بعد أن رمي في غزوة الخندق أياما، فغسله النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وصلى عليه.
ويدل على عدم اعتبار الكلام أن عمرو بن أقيش استشهد بأحد، وحمل إلى أخته جريحا، فأتاه سعد بن معاذ، فقال: أقاتلت غضبا لله ولرسوله، أم لقومك؟ فقال: بل لله ولرسوله. فمات؛ فدخل الجنة، [أخرجه أبو داود ((2537)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بإسناد حسن، وهو في «الصحيح المسند» ((1393))]، ولم ينقل أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- استثناه من شهداء أحد بالغسل، والصلاة، والله أعلم. [انظر: «المغني» ((3) / (472))، «الإنصاف» ((2) / (476) – (477))، «المجموع» ((5) / (261))، «الشرح الممتع» ((5) / (370))، بواسطة فتح العلام ()].
والرابع: خلاصة فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): ما ترجم له الإمام النسائي -رحمه الله تعالى-، هو مشروعية الصلاة على الشهداء.
2 – (ومنها): أن النبي ? كان يعامل كل أحد على حسب حاله، فقد أذن لهذا الأعرابي في الهجرة، لكونه ممن يقوم بحقها، ومنع منها الأعرابي الذي قد منا ذكره، لكونه ممن لا يقوم بحقها.
3 – (ومنها): شدة عنايته ? بأصحابه، ولا سيما الغرباء، فقد أمر بعض أصحابه أن يقوم بشان هذا الأعرابي، لئلا يناله مشقة الغربة، فيحمله على أن يبغض الإسلام، كما وقع لبعضهم، فقد أخرج البخاري في «صحيحه» عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن أعرابيا، بايع رسول الله ? على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعك [بفتح، فسكون: أي وجع الحمى] بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول الله ?، فقال: يا رسول الله، أقلني بيعتي، فأبى رسول الله ?، ثم جاءه، فقال: أقلني بيعتي، فابى، ثم جاءه، فقال: أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله ?: «إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها، وينصع [من باب نفع: أي: يخلص] طيبها».
4 – (ومنها): كون الغنيمة حلالا.
5 – (ومنها): أن الغنيمة تقسم بين من حضر الوقعة.
6 – (ومنها): أن الإمام يقسم الغنيمة، لمان لم يجتمع الغزاة، فمن حضر أعطاه حظه، ومن غاب حفظه له.
7 – (ومنها): مشروعية حراسة ظهور الجيش، لئلا يفاجئهم العدو من جهتها.
[تنبيه: سبق ذكر ما يتعلق بمسائل الحراسة في سبيل الله تعالى في الصحيح المسند].
8 – (ومنها): استحباب الإعراض عن الغنيمة، وإن كانت حلالا، لئلا ينقص من أجر الغزو شيء، فقد أخرج مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله ?، قال: «ما من غازية تغزو، في سبيل الله، فيصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة، تم لهم أجرهم».
9 – (ومنها): فضل صدق العبد ربه في معاملته، ليجازيه على صدقه، فإن هذا الرجل لما صدق في كونه غزا ليفوز بالجنة، لا لعرض الدنيا، حقق الله تعالى رغبته في ذلك، فاستشهد، ودخل الجنة.
10 – (ومنها): عدم مشروعية غسل الشهيد، حيث إنه ? لم يغسل هذا الشهيد.
12 – (ومنها): مشروعية تكفين الشهيد.
13 – (ومنها): مشروعية الدعاء للميت في الصلاة عليه، وقد ثبت الأمر بذلك، فيما رواه أبو داود، وصححه ابن حبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ? قال: «إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء». والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، (19/ 206 – 207، تراث)].
14 – ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل أراد أن بهاجر اعمل من وراء البحار يعني القرى وحمل على اختلاف حال الرجلين فهذا أذن له لأنه رأى أنه يتحمل ما يترتب على الهجرة
15 – قال الله جل وعلا: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْس) ِ ثم قال سبحانه بعد هذه الأوصاف كلها: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة/ 177.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
(أُولَئِكَ) أي: المتصفون بما ذُكر من العقائد الحسنة، والأعمال التي هي آثار الإيمان، وبرهانه ونوره، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية: فأولئك هم (الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم؛ لأن أعمالهم صدَّقت إيمانهم، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) لأنهم تركوا المحظور، وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير، تضمناً، ولزوماً؛ لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية: أكبر العبادات، ومن قام بها: كان بما سواها أقوم، فهؤلاء هم الأبرار، الصادقون، المتقون.
” تفسير السعدي ” (ص 83).
قال ابن كثير:
اشتملت هذه الآية الكريمة على جُمَل عظيمة
وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة ”
قال ابن القيم رحمه الله:
ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربَّه في جميع
أموره، مع صدق العزيمة، فيصدقه في عزمه، وفي فعله، قال تعالى: (فإذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا الله لَكَانَ خَيْراً لَهُم) فسعادته في صدق العزيمة، وصدق الفعل، فصدق العزيمة: جمعها، وجزمها، وعدم التردد فيها، بل تكون عزيمة، لا يشوبها تردد، ولا تلوُّم، فإذا صدقت عزيمته: بقي عليه صدق الفعل، وهو استفراغ الوسع، وبذل الجهد فيه، وأن لا يتخلف عنه بشيء من ظاهره، وباطنه، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل، والفتور، ومَن صدَق الله في جميع أموره: صنع الله له فوق ما يصنع لغيره، وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص، وصدق التوكل، فأصدَقُ الناس: مَن صح إخلاصُه، وتوكله.
” الفوائد ” (ص 186، 187)