[1ج/ رقم (458)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير،، ومحمد البلوشي. وأحمد بن علي وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (458)]:
قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج (10) ص (98)): حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ أخبرَنا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ أخبرَنا سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أبِي العَلاءِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قالَ: كُنّا مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ نَتَداوَلُ فِي قَصْعَةٍ مِن غَدْوَةٍ حَتّى اللَّيْلِ، تقُومُ عَشَرَةٌ وتقْعُدُ عَشَرَةٌ، قُلْنا: فَما كانَتْ تُمَدُّ؟! قالَ مِن أيِّ شَيْءٍ تَعْجَبُ؟ ما كانَتْ تُمَدُّ إلّا مِن هاهُنا، وأشارَ بِيَدِهِ إلى السَّماءِ.
قال أبو عيسى: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وأبُو العَلاءِ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ.
قال أبو عبد الرحمن: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخين.
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله في سننه، أبواب المناقب عن رسول الله صل الله عليه وسلم، باب: في آيات إثبات نبوة النبي صل الله عليه وسلم وما قد خصه الله عز وجل به، ((3625)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(15) – كتاب دلائل النبوة، (21) – البركة الإلهية في الطعام القليل، ((2273)).
(17) – كتاب الأطعمة، (7) – الجلوس على الطعام عشرة عشرة، ((2659)).
وقد يبوب على الحديث أيضًا، مثل:
1) باب: إثبات أن الله تعالى من فوق العرش يمد من يشاء من عباده.
2) باب: الكرامات والمعجزات.
3) باب: آداب الطعام.
والثاني: شرح وبيان الحديث
أعْطَى اللهُ سُبحانَه لنَبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم الآياتِ والمُعجزاتِ الماديَّةَ والمعنويَّةَ الدَّالةَ على صِدْقِ نُبوَّتِه، وقد رأى الصَّحابةُ الكِرامُ بعضَ هذه الآياتِ مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مُخبِرين بها مَن بعدَهم.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ سَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ رضِيَ اللهُ عنه: (كنَّا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَتداوَلُ من قَصعةٍ)، أي: نتناوَلُ ونَتناوبُ في أخْذِ الطَّعامِ وأكْلِه من القَصعةِ، وهي الإناءُ الكبيرُ تُصْنَعُ من الخشبِ، (من غُدْوةٍ)، أي: من أوَّلِ النَّهارِ، (حتَّى اللَّيلِ)، أي: إلى دُخولِ العَشِيَّةُ من اللَّيلِ، (يقومُ عشَرةٌ)، أي: بعدَ فَراغِهم من الأكْلِ منها، (ويقعُدُ عشَرةٌ)، أي: للتَّناولِ والأكْلِ منها أيضًا، (قُلْنا: فما كانت تُمَدُّ؟!) وفي روايةِ الدَّارميِّ: “فقال رجُلٌ لسمُرةَ بنِ جُندبٍ: أمَا كانت تُمَدُّ؟ “، والمعنى: فمِن أيِّ شَيءٍ كانت القصعةُ تُمَدُّ منه ويُزادُ فيها الطَّعامُ، ومِن أين يَكثُرُ هذا الأكْلُ فيها طُولَ النَّهارِ ولهذا العددِ؟! وهذا من تعجُّبِهم، قال سَمُرةُ رضِيَ اللهُ عنه: (“مِن أيِّ شَيءٍ تعجَبُ؟ “) أي: لا تعجَبُ أيُّها السَّائلُ، (“ما كانت تُمَدُّ إلَّا من هاهنا- وأشار بيدِه إلى السَّماءِ-“)، والمعنى: لا يكونُ كثرةُ الطَّعامِ فيها إلَّا مِن السَّماءِ من عندِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ بنُزولِ البَركةِ فيها. [الموسوعة الحديثية، وانظر: تحفة الأحوذي].
وفي الحديثِ: بيانُ مُعجزةٍ من مُعجزاتِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومِن دَلائلِ نُبوَّتِه.
وفيه: بَيانُ أنَّ البركةَ في الطَّعامِ إنَّما تنزِلُ من الله تعالى.
والثالث: المسائل والأحكام:
(المسألة الأولى): ما يتعلق بالبركة
(الأول): البركة من الله تعالى، ولا تطلب إلا منه
الحديث يوضح أهمية الإيمان بأن البركة من الله تعالى، فقد يأتي الطعام قليلاً ويكفي لعدد كبير بإذن الله تعالى، وهذا يظهر في تبويب العلماء تحت كتاب دلائل النبوة؛ لأن البركة من الأمور الغيبية التي يمد الله تعالى بها من شاء من عباده، كما أن الإشارة إلى السماء تعزز العقيدة في أن البركة من الله سبحانه وتعالى من فوق عرشه.
قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله:
* فإن البركة من الله عزوجل، هو الذي يأتي بها سبحانه وتعالى، ولا تطلب البركة من غيره، فطلبها من زيد أو من عمرو أن يعطيك بركة هذا لا أصل له، بل هذا من الشرك إذا طلبها منه أو اعتقد أنه يبارك في الناس، وأنه يعطي البركة هو فهذا شرك أكبر، ونعوذ بالله من ذلك.
* وأما إن ظن أن خدمته – أي: لهذا الشخص – أو طاعته فيها بركة؛ لأنه من الصالحين ومن الأخيار، فيرجو بهذا الثواب إذا أطاعه أو ساعده في شيء، فهذا يختلف: إن كان يطاع كعالم من علماء المسلمين، أو من العباد والأخيار الذين هم معروفون بالاستقامة وطاعة الله ورسوله، فساعده لله بأن قضى حاجته، بأن زاره في الله ليسلم عليه؛ لأنه من أهل الصلاح، فيزوره لله فقط لا لطلب البركة، بل لله، يزوره أو يعوده إذا مرض،
فهذا شأن المسلمين، وهذا مستحب من باب التزاور، ومن باب عيادة المرضى، ومن باب زيارة الإخوة في الله، وهذا حق، أما لطلب البركة فلا يجوز؛ لأنه لا أصل لهذا.
* وإنما هذا من حق النبي ? هو الذي جعله الله مباركا، فلا بأس أن يقصد لطلب البركة من مائه أو من عرقه أو من شعره، فالله جعل فيه بركة عليه الصلاة والسلام، ولما حلق رأسه في حجة الوداع وزعه بين الصحابة، وكانوا يتبركون بوضوئه لما جعل الله فيه من البركة، فهذا خاص به ? وليس لغيره.
* ولهذا لم يتبرك الصحابة رضي الله عنهم بوضوء الصديق رضي الله عنه ولا بشعره ولا عرقه، ولا بوضوء عمر رضي الله عنه ولا شعره، ولا غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، فعلم بذلك أن هذا الأمر خاص به ? ولا يقاس عليه غيره.
* فينبغي لأهل الإسلام أن يعرفوا هذا، وأن يحذروا هذه الخرافات التي فعلها أصحاب [الطرق]، وهذه الخلافات التي جعلوها.
هذا خليفة لهذا! وهذا خليفة هذا! فكل هذا لا أصل له، ولا ينبغي أن يتخذ هذا الشيء، ولا أن يعطى هدايا ونذورا بهذا المعنى،
* أما إذا أعطى أخاه الفقير مساعدة هدية أو من الزكاة، لأنه يحبه في الله أو لأنه فقير، فهذا لا بأس به، أما لاعتقاد البركة أو أنه خليفة الشيخ الفلاني، أو خليفة كذا فهذا لا أصل له، وهذه أمور منكرة. [استخلاف أبناء الأولياء من بعدهم للتبرك بهم، فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الطيار (335 – 337)، بتصرف يسير].
ولذا بوب الوادعي رحمه الله على ذلك: البركة الإلهية في الطعام القليل، في كتاب دلائل النبوة.
(الثاني): التبرك بالرسول ?:
ثبت تبرك الصحابة الكرام برسول الله ? في أحاديث كثيرة؛ ففي صحيح البخاري عن ابن سيرين أنه قال: قلت لعبيدة: عندنا من شعر النبي ?، أصبناه من قبل أنس أو من قبل أهل أنس. فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها. [أخرجه البخاري ((170))].
ومن بركاته نبوع الماء من تحت أصابعه وتكثيره الطعام وإبراؤه المرضى وذوي العاهات كبصقة في عيني علي رضي الله عنه يوم خيبر فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء، ومن بركته إجابة دعائه فقد دعا الله كثيرا فاستجاب له كثيرا، ودعا لأنس فكثر الله ماله وولده، ودعا للاستسقاء فثار السحاب أمثال الجبال.
قال القرطبي: كان ? كلما دعا الله في شيء أجابه وظهرت بركات دعوته على المدعو له وعلى أهله وبنيه. [كتاب الإعلام للقرطبي (367) نقلا عن كتاب التبرك (67)].
وأعظم بركة تحصل للعبد هي اتباع الرسول ? والسير على نهجه فبها تنال محبة الله ومغفرته؛ قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ((31))} [آل عمران: (31)].
وقد كان الصحابة على علم بأن هذه البركة من الله تعالى، ولذلك فإن كبارهم لم يطلبوها من النبي ? إلا في الأمور المشروعة كأن يدعو لهم أو يصلي عندهم فيتخذون مكانه مسجدا ونحو ذلك.
بل كان النبي ? ينبههم على ذلك؛ كما في البخاري لما نبع الماء من بين يديه قال: «حي على أهل الوضوء والبركة من الله». [أخرجه البخاري ((5639)). قال ابن حجر: وفي رواية النسفي «حي على الوضوء»، بإسقاط لفظ «أهل» وهي أصوب، وقال غيره: الصواب حي هلا على الوضوء المبارك”. [الفتح (10) / (105)، ولا إشكال في ذلك فقد أخرجه البخاري برقم (3579) ونصه:» حي على الطهور المبارك، والبركة من الله”].
تنبيه: قوله (فيتخذون مكانه مسجدا) سبق التنبيه أن قصة طلب عتبان من النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في منزلة ليتخذه مسجدا إنما هو للاقتداء وليس للتبرك بأماكن الأنبياء. لذلك عتبان لم يدع أحد للصلاة فيه. إنما الثابت أنهم يتبركون بشعره وعرقه ولباسه …
وذكر الشاطبي حديثا يفيد أن الأولى ترك التبرك بذات رسول الله ? وآثاره، وأن يحرص الإنسان على القيام بالدين، قال: وقد خرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال حدثني رجل من الأنصار أن رسول الله ? كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوء ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم، فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم: «لم تفعلون هذا؟» قالوا: نلتمس الطهور والبركة بذلك، فقال رسول الله ?: «من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله، فليصدق الحديث وليؤد الأمانة ولا يؤذ جاره». [الاعتصام (1) / (485)، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف ((19748))]. [معجم التوحيد (1/ 361 – 363)]. الصحيحة (2998)
(الثالث): حكم التبرك بآثار الرسول ? بعد وفاته:
جاء في صحيح الإمام مسلم أن أسماء بنت أبي بكر أخرجت جبة طيالسة، وقالت هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت قبضتها، وكان رسول الله ? يلبسها فنحن نغسلها للمرضى لنستشفي بها. [أخرجه مسلم ((2069))].
وبهذا الحديث وغيره يثبت جواز التبرك بآثار الرسول ? بعد وفاته، ولا يثبت في هذا الزمان وجود شيء من آثاره من شعر أو عرق أو سيف أو ما شابه ذلك، ولكن في اتباع هديه والاقتداء به والسير على منهاجه ظاهرا وباطنا أعظم بركة، أما ما يذكره بعض الناس من وجود ذلك فإنه موقع شك لا يقين.
يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: «ونحن نعلم أن آثاره من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين». [التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص (146)]. [معجم التوحيد (1/ 363)].
(رابعا): حكم بعض الألفاظ المتعلقة بالبركة:
(1) – كلمة تبارك لا تطلق إلا على الله إذ معناها تعالى وتعاظم وتقدس. قال ابن دريد: “وتبارك لا يوصف به إلا الله تعالى، ولا يقال تبارك فلان في معنى عظم، هذه الصفة لا تنبغي إلا الله عزوجل”. [جمهرة أنساب العرب (1) / (223) التبرك (29)].
وقال الشيخ ابن عثيمين: “قال العلماء معنى تبارك: أي كثرت بركاته وخيراته، ولهذا يقولون: إن هذا الفعل لا يوصف به إلا الله؛ فلا يقال: تبارك فلان؛ لأن هذا الوصف خاص بالله.
وقول العامة: «أنت تباركت علينا» لا يريدون بهذا ما يريدونه بالنسبة إلى الله تعالى، وإنما يريدون أصابنا بركة من مجيئك … “. [مجموع فتاوى ابن عثيمين (10) / (1103). وانظر القول المفيد ط (1) – (3) / (277)].
(2) – هذه من بركاتك يا فلان أو بركات فلان هذه جائزة ويدل عليها قول أسيد بن الحضير في البخاري حين نزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة الذي ضاع منها: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ولأن الله أخبر أن بعض الناس مبارك كالصالحين [انظر: للاستزادة مجموع فتاوى ابن عثيمين (10) / (1104). وانظر القول المفيد ط (1) – (3) / (278)]. [معجم التوحيد (1/ 363 – 364)].
(المسألة الثانية): إثبات أن الله تعالى من فوق العرش يمد من يشاء من عباده
يظهر بوضوح من خلال الإشارة إلى السماء، دلالة على أن الله تعالى هو المدبر لكل شيء، وهو الذي يرزق عباده ويمدهم من فضله.
وقد جاءت عدة نصوص في القرآن والسنة تؤكد على علو الله تعالى واستوائه على عرشه؛ كما في قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة النحل: 50].
وهذا المعنى يعضد مفهوم البركة الإلهية التي وردت في الحديث، حيث تُنسب الزيادة والرزق إلى الله تعالى مباشرة.
(المسألة الثالثة): التوكل على الله تعالى في الرزق:
الحديث يعلّم المؤمن أهمية التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه في الرزق، فالرزق يمكن أن يأتي بغير الأسباب المادية وليس محصورًا فقط في الأسباب المادية التي لابد من بذلها، إذ يشير إلى قدرة الله على مد عباده ورزقهم من حيث لا يحتسبون.
(المسألة الربعة): استحباب الأكل جماعة وبيان العلة ذلك.
يُستفاد استحباب الأكل جماعة لما في ذلك من بركة، وهذا جاء في أحاديث أخرى، قال ابن القيم رحمه الله: «وللتسمية في أول الطعام والشراب، وحمد الله في آخره، تأثير عجيب في نفعه واستمرائه، ودفع مضرته، قال الإمام أحمد: إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل: إذا ذكر اسم الله في أوله، وحمد الله في آخره، وكثرت عليه الأيدي، وكان من حل». [زاد المعاد ((4) / (232))].
وقد جاء حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم مرفوعا: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية»، وعند ابن ماجة من حديث عمر رضي الله عنه: «إن طعام الواحد يكفي الاثنين، وإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة»، وقال المهلب: المراد بهذه الأحاديث الحض على المكارمة، والتقنع بالكفاية؛ يعني: وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة، وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما، ورابع أيضا بحسب من يحضر.
وعند الطبراني ما يرشد إلى العلة في ذلك، وأوله: «كلوا جميعا، ولا تفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين … » الحديث، فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر زادت البركة.
وقيل: معناه: إن الله يضع من بركته فيه ما وضع لنبيه ?، فيزيد حتى يكفيهم.
قال ابن العربي: وهذا إذا صحت نيتهم، وانطلقت ألسنتهم به، فإن قالوا: لا يكفينا قيل لهم: البلاء موكل بالمنطق.
وقال العز بن عبد السلام في «الأمالي»: إن أريد الإخبار عن الواقع فمشكل؛ لأن طعام الاثنين لا يكفي إلا اثنين، وإن كان له معنى آخر، فما هو؟.
والجواب من وجهين: أحدهما: أنه خبر بمعنى الأمر؛ أي: أطعموا طعام الاثنين الثلاث، والثاني: أنه للتنبيه على أن ذلك يقوت الثلاث، وأخبرنا بذلك لئلا نجزع، والأول أرجح؛ لأن الثاني معلوم. انتهى.
وروى العسكري في «المواعظ» عن عمر رضي الله عنه مرفوعا: «كلوا، ولا تفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، كلوا جميعا، ولا تفرقوا، فإن البركة في الجماعة»، فيؤخذ من هذا أن الشرط الاجتماع على الأكل، وأن معنى الحديث: طعام الاثنين إذا كانا متفرقين كافي الثلاثة إذا أكلوا مجتمعين، ذكره الزرقاني رحمه الله. [“شرح الزرقاني على الموطأ”، (4) / (379) – (381)].
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: هكذا جاء هذا الحديث في «الموطأ» وغيره من حديث أبي الزناد، بهذا الإسناد، وقد روى أبو الزبير عن جابر ما هو أعم من هذا، ثم أخرج بسنده عن ابن جريج، قال: أخبرنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي ? يقول: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية».
قال: فأما الكفاية والاكتفاء فليس بالشبع والاستغناء، ألا ترى إلى قول أبي حازم رحمه الله: إذا كان لا يغنيك ما يكفيك، فليس في الدنيا شيء يغنيك، ومن هذا الحديث – والله أعلم – أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعله عام الرمادة حين كان يدخل على أهل كل بيت مثلهم، ويقول: لن يهلك امرؤ عن نصف قوته. انتهى [“التمهيد” لابن عبد البر (19) / (25)].
وقال في «الفتح»: نقل عن إسحاق بن راهويه، عن جرير قال: معنى الحديث أن الطعام الذي يشبع الواحد يكفي قوت الاثنين، ويشبع الاثنين قوت الأربعة، وقال المهلب: المراد بهذه الأحاديث الحض على المكارم، والتقنع بالكفاية، يعني وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية، وإنما المراد المواساة، وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما، وإدخال رابع أيضا بحسب من يحضر، وقد وقع في حديث عمر عند ابن ماجة بلفظ: «إن طعام الواحد يكفي الاثنين، وإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة»، ووقع في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر في قصة أضياف أبي بكر رضي الله عنه المذكور في الباب الماضي: «فقال النبي ?: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس»، وعند الطبراني من حديث ابن عمر ما يرشد إلى العلة في ذلك، وأوله: «كلوا جميعا ولا تفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين … » الحديث، فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما كثر ازدادت البركة، وقد أشار الترمذي إلى حديث ابن عمر، وعند البزار من حديث سمرة نحو حديث عمر، وزاد في آخره: «ويد الله على الجماعة». انتهى [«الفتح» (12) / (310)، كتاب «الأطعمة» رقم ((5392))]، والله تعالى أعلم. نقله الإتيوبي رحمه الله في البحر المحيط الثجاج.
وفيه دعوة للتآلف والتعاون بين المسلمين، وقد بوّب الوادعي رحمه الله على هذا: باب الجلوس على الطعام عشرة عشرة في كتاب الأطعمة.
والحديث يظهر جانبًا من التنظيم في حياة الصحابة رضي الله عنهم في التعامل مع الموارد.
والرابع: خلاصة فقه وفوائد الحديث:
1 – (منها): الحديث يبين مفهوم البركة وأنها من الله تعالى وحده، وليست خاضعة للقوانين المادية التي يدركها الإنسان، والله قادر على زيادة القليل وجعله كافيًا لعدد كبير.
2 – (ومنها): استحباب الاجتماع على الطعام، وأن لا يأكل المرء وحده، ففيه تقارب بين المسلمين وزيادة للألفة والمحبة.
3 – (ومنها): أهمية ربط كل شيء بقدرة الله، وتثبيت مفهوم التوحيد في النفوس.
4 – (ومنها): الصبر وعدم الاستعجال، الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتداولون في الأكل دون استعجال.
5 – (ومنها): هذا الحديث يشجع المسلم على الإيمان بقدرة الله تعالى على إحداث الأمور التي لا تدركها العقول بالحسابات المادية.
قال الإتيوبي رحمه الله:
6 – (ومنها): الإشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصلت معها البركة، فتعم الحاضرين.
7 – (ومنها): أنه لا ينبغي للمرء أن يستحقر ما عنده، فيمتنع من تقديمه، فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء، بمعنى حصول سد الرمق، وقيام البنية، لا حقيقة الشبع، ومنه قول عمر رضي الله عنه عام الرمادة: «لقد هممت أن أنزل على أهل كل بيت مثل عددهم، فإن الرجل لا يهلك على ملء بطنه». والله تعالى أعلم. انتهى من [البحر المحيط الثجاج].
8 – (ومنها): الحديث يظهر جانبًا من التنظيم في حياة الصحابة رضي الله عنهم في التعامل مع الموارد.
وانظر: الجامع الكامل في الحديث للأعظمي رحمه الله، (48) – كتاب سيرة النبي ?، جموع في معجزات النبي ? ودلائل نبوته، (9) – باب: ما جاء في تكثير الطعام، (8/ 709 – 919).
وسبق ذكر ما يتعلق بالمعجزات والبركة في الدروس السابقة.
(9) ورد في البخاري 3385 ومسلم 2040:
عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ:
لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا، أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ). فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (بِطَعَامٍ). فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: (قُومُوا). فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ؟ فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا عِنْدَكِ). فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ). فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ).
فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ). فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ). فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثمانون رجلا.
(10) قال الالباني – رحمه الله -:
التَشَبُّه بالكفار بالتَفَرُّق عند الطعام
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا طعم أحدكم فسقطت لقمته من يده فليمط ما رابه منها وليطعمها، ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق يده، فإن الرجل لا يدري في أي طعامه يبارك الله، فإن الشيطان يرصد الناس – أو الإنسان – على كل شيء حتى عند مطعمه أو طعامه ولا يرفع الصحفة حتى يلعقها أو يلعقها، فإن في آخر الطعام البركة».
[قال الإمام]:
قلت: ومن المؤسف حقا أن ترى كثيرًا من المسلمين اليوم وبخاصة أولئك الذين تأثروا بالعادات الغربية والتقاليد الأوربية – قد تَمَكَّن الشيطان من سلبه قسما من أموالهم ليس عدوانا بل بمحض اختيارهم، وما ذاك إلا لجهلهم بالسنة، أو إهمالا منهم إياها، ألست تراهم يتفرقون في طعامهم على موائدهم، وكل واحد منهم يأكل لوحده – دون ضرورة – في صحن خاص، لا يشاركه فيه على الأقل جاره بالجنب، خلافا للحديث السابق ((664)). وكذلك إذا سقطت اللقمة من أحدهم، فإنه يترفع عن أن يتناولها ويميط الأذى عنها ويأكلها، وقد يوجد فيهم من المتعالمين والمتفلسفين من لا يجيز ذلك بزعم أنها تلوثت بالجراثيم والميكروبات! ضربا منه في صدر الحديث إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «فليمط ما رابه منها وليطعمها ولا يدعها للشيطان». ثم إنهم لا يلعقون أصابعهم بل إن
الكثيرين منهم يعتبرون ذلك قلة ذوق وإخلال بآداب الطعام، ولذلك اتخذوا في موائدهم مناديل من الورق الخفيف النشاف المعروف بـ (كلينكس)، فلا يكاد أحدهم يجد شيئا من الزهومة في أصابعه، بل وعلى شفتيه إلا بادر إلى مسح ذلك بالمنديل، خلافا لنص الحديث. وأما لعق الصحفة، أي لعق ما عليها من الطعام بالأصابع، فإنهم يستهجنونه غاية الاستهجان، وينسبون فاعله إلى البخل أو الشراهة في الطعام، ولا عجب في ذلك من الذين لم يسمعوا بهذا الحديث فهم به جاهلون، وإنما العجب من الذين يسايرونهم ويداهنونهم، وهم به عالمون. ثم تجدهم جميعا قد أجمعوا على الشكوى من ارتفاع البركة من رواتبهم وأرزاقهم، مهما كان موسعا فيها عليهم، ولا يدرون أن السبب في ذلك إنما هو إعراضهم عن اتباع سنة نبيهم، وتقليدهم لأعداء دينهم، في أساليب حياتهم ومعاشهم.
فالسنة السنة أيها المسلمون! {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون}.
الصحيحة ((3) / (393) – (395)).
جامع تراث العلامة الألباني في المنهج والأحداث الكبرى (7) / (301) – (302)