[1ج/ رقم (448)] فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند
مجموعة: طارق أبي تيسير، ومحمد البلوشي.
و أحمد بن علي وعبدالله المشجري وعدنان البلوشي وعمر الشبلي وأحمد بن خالد ومحمد سيفي وسلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
قال الإمام الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند [1ج/ رقم (448)]:
مسند سلمة بن قيس رضي الله عنه
قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج (1) ص (118)): حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ وجَرِيرٌ عَنْ مَنصُورٍ عَنْ هِلالِ بْنِ يَسافٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ «إذا تَوَضَّأْتَ فانْتَثِرْ وإذا اسْتَجْمَرْتَ فَأوْتِرْ».
قال أبو عيسى: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قال أبو عبد الرحمن: هو حديث صحيحٌ على شرط مسلم.
وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلمًا أن يخرجاها.
الحديث أخرجه النسائي (ج (1) ص (67))، وأخرجه ابن ماجه (ج (2) ص (142))، والحميدي (ج (2) ص (378)).
===================
الحديث سيكون من وجوه:
الوجه الأول:
أورد الحديث الإمام أبو عيسى الترمذي (ت (279)) في سننه، أبواب الطهارة عن رسول الله لا، باب: ما جاء في المضمضة والاستنشاق، ((27)).
والوادعي رحمه الله جعله في جامعه:
(3) – كتاب الطهارة، (13) – إذا استجمرت فأوتر، ((711)).
و (20) – إذا توضأت فانتثر، ((727)).
والثاني: شرح وبيان الحديث
قال الوادعي رحمه الله (مسند سلمة بن قيس رضي الله عنه)
(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ) الأشْجَعِيِّ صَحابِيٌّ، سَكَنَ الكُوفَةَ، رضي الله عنه، (قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ «إذا تَوَضَّأْتَ فانْتَثِرْ) أي: لِيُخْرِج الماء الذي استنشقه، وذلك يكون بريح الأنف بإعانة يده، أو بغيرها مع إخراج الأذى؛ لما يأتي من قوله: «فإن الشيطان يبيت على خياشيمه»؛ ولما فيه من المعونة على القراءة؛ لأن تنقية مجرى النفس تصحّح مخارج الحروف. قاله الإتيوبي في البحر المحيط.
قالَ فِي القامُوسِ: اِسْتَنْثَرَ اِسْتَنْشَقَ الماءَ، ثُمَّ اِسْتَخْرَجَ بِنَفَسِ الأنْفِ كانْتَثَرَ انْتَهى.
وقالَ الحافِظُ: الِاسْتِنْثارُ هُوَ طَرْحُ الماءِ الَّذِي يَسْتَنْشِقُهُ المُتَوَضِّئ، ُ أيْ: يَجْذِبُهُ بِرِيحِ أنْفِهِ؛ لِتَنْظِيفِ ما فِي داخِلِهِ، فَيُخْرِجُهُ بِرِيحِ أنْفِهِ سَواءٌ كانَ بِإعانَةِ يَدِهِ أمْ لا، وحُكِيَ عَنْ مالِكٍ كَراهِيَةُ فِعْلِهِ بِغَيْرِ إعانَةِ اليَدِ؛ لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ فِعْلَ الدّابَّة، ِ والمَشْهُورُ عَدَمُ الكَراهَةِ، وإذا اِسْتَنْثَرَ بِيَدِهِ فالمُسْتَحَبُّ أنْ يَكُونَ بِاليُسْرى.
بَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسائِيُّ، وأخْرَجَهُ مُقَيَّدًا بِها مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ. رضي الله عنه انْتَهى.
(وإذا اسْتَجْمَرْتَ) أيْ: إذا اِسْتَعْمَلْتَ الجِمارَ، وهِيَ الحِجارَةُ الصِّغارُ فِي الِاسْتِنْجاءِ. (فَأوْتِرْ»)، أيْ: ثَلاثًا أوْ خَمْسًا، ووَقَعَ فِي رِوايَةِ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، (مَن اِسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَن فَعَلَ فَقَدْ أحْسَنَ، ومَن لا فَلا حَرَجَ). أخْرَجَهُ أحمد وأبو داود وبن ماجَهْ.
قالَ الحافِظُ فِي الفَتْحِ: وهَذِهِ الزِّيادَةُ حَسَنَةُ الإسْنادِ،
وأخَذَ بِهَذِهِ الرِّوايَةِ أبُو حَنِيفَةَ ومالِكٌ، فَقالُوا: لا يُعْتَبَرُ العَدَدُ، بَلْ المُعْتَبَرُ الإيتارُ.
وأخَذَ الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وأصْحابُ الحَدِيثِ بِحَدِيثِ سَلْمانَ عَنْ النَّبِيِّ لا، قالَ: (لا يَسْتَنْجِ أحَدُكُمْ بِأقَلَّ مِن ثَلاثَةِ أحْجارٍ). رَواهُ مُسْلِمٌ.
فاشْتَرَطُوا أنْ لا ينقص من الثلاث مع مراعاة الإنقاء، وإذا لَمْ يَحْصُلْ بِها فَيُزادُ حَتّى يُنَقّى، ويُسْتَحَبُّ حِينَئِذٍ الإيتارُ؛ لِقَوْلِهِ: ((مَن اِسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ))، ولَيْسَ بِواجِبٍ؛ لِقَوْلِهِ: (مَن لا فَلا حَرَجَ) وبِهَذا يَحْصُلُ الجَمْعُ بَيْنَ الرِّواياتِ فِي هَذا البابِ. انْتَهى.
[أقوال أهل العلم] في حكم المَضْمَضَةُ والِاسْتِنْشاقُ:
[القول الأول:] (إذا تَرَكَهُما فِي الوُضُوءِ حَتّى صلى، أعاد الصلاة،
ورَأوْا ذَلِكَ فِي الوضوء والجنابة سواء،
وبه يقول بن أبِي لَيْلى وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ وأحْمَدُ وإسْحاقُ)
واسْتَدَلُّوا بِأحادِيثِ البابِ، وقَوْلُهُمْ هُوَ الرّاجِح؛ لِثُبُوتِ الأمْرِ بِهِما، والأصْلُ فِي الأمْرِ الوُجُوبُ مَعَ ثُبُوتِ مُواظَبَتِهِ لا عليهما.
[القول الثاني:] (وقالَتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ يُعِيدُ فِي الجَنابَةِ، ولا يُعِيدُ فِي الوُضُوءِ.
وهُوَ قَوْلُ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ وبَعْضِ أهْلِ الكُوفَةِ) وهُوَ قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ ومَن تَبِعَه. ُ
فَعِنْدَ هَؤُلاءِ المَضْمَضَةُ والِاسْتِنْشاقُ سُنَّتانِ فِي الوُضُوءِ، وواجِبانِ فِي غُسْلِ الجَنابَةِ؛
واسْتَدَلُّوا عَلى عَدَمِ الوُجُوبِ فِي الوُضُوءِ بِحَدِيثِ: “عَشْرٌ مِن سُنَنِ المُرْسَلِينَ”، وقَدْ رَدَّهُ الحافِظُ فِي التَّلْخِيصِ، وقالَ: إنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِلَفْظِ عَشْرٌ مِن السُّنَن، ِ بَلْ بِلَفْظِ: “مِن الفِطْرَةِ”، ولَوْ ورَدَ لَمْ يَنْتَهِضْ دَلِيلًا عَلى عَدَمِ الوُجُوب؛ ِ لِأنَّ المُرادَ بِهِ السُّنَّةُ، أيْ: الطَّرِيقَةُ، لا السُّنَّةُ بِالمَعْنى الأُصُولِيِّ.
واستدلوا أيضا بحديث بن عَبّاسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: المَضْمَضَةُ والِاسْتِنْشاقُ سُنَّةٌ، رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ، قالَ الحافِظُ وهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ،
واسْتَدَلُّوا أيْضًا بِما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ وصَحَّحَهُ الحاكِمُ مِن قَوْلِهِ لا لِلْأعْرابِيِّ: “تَوَضَّا كَما أمَرَكَ اللَّهُ”، فَأحالَهُ عَلى الآيَةِ، ولَيْسَ فِيها ذِكْرُ المَضْمَضَةِ والِاسْتِنْشاقِ والِاسْتِنْثارِ،
ورُدَّ: بِأنَّ الأمْرَ بِغَسْلِ الوَجْهِ أمْرٌ بِها، وبِأنَّ وُجُوبَها ثَبَتَ بِأمْرِ رَسُولِ اللَّهِ لا، والأمْرُ مِنهُ أمْرٌ مِن اللَّهِ تعالى؛ بدليل: {وما آتاكم الرسول فخذوه}.
[القول الثالث:] (لا يُعِيدُ فِي الوُضُوءِ ولا فِي الجَنابَةِ إلَخْ)، لَيْسَ لِهَذِهِ الطّائِفَةِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، وقَدْ اِعْتَرَفَ جَماعَةٌ مِن الشّافِعِيَّةِ وغَيْرِهُمْ بِضَعْفِ دَلِيلِ مَن قالَ: بِعَدَمِ وُجُوبِ المَضْمَضَةِ والِاسْتِنْشاقِ والِاسْتِنْثارِ. قالَهُ فِي النَّيْلِ واللَّهُ تعالى أعلم. [تحفة الأحوذي لعبد الرحمن المباركفوري (ت (1353)) رحمه الله، (1/ 97 – 99)، بتصرف يسير].
والثالث: المسائل والأحكام:
المطلب الأول: في معنى الاستجمار
(المسألة الأولى): معنى الاستجمار
قال الإتيوبي رحمه الله في البحر المحيط الثجاج، في قوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ) أي استعمل الجمارَ، وهي الحجارة الصغيرة في الاستنجاء،
وحمله بعضهم على استعمال البَخُور، فإنه يقال فيه: تَجَمَّر، واستجمر، حكاه ابن حبيب، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولا يصحّ عنه، وابن عبد البر عن مالك، وروى ابن خزيمة في «صحيحه» عنه خلافه، وقال عبد الرزاق، عن معمر أيضًا بموافقة الجمهور، واستَدَلّ بعض من نَفَى وجوب الاستنجاء بهذا الحديث؛ للإتيان فيه بحرف الشرط، ولا دلالة فيه، وإنما مقتضاه التخيير بين الاستنجاء بالماء، أو بالأحجار؛ قاله في «الفتح» [(1) / (316)].
وقال النوويّ عفا الله عنه: أما الاستجمار: فهو مسح محلّ البول والغائط بالْجِمَار، وهي الأحجار الصغار، قال العلماء: يقال: الاستطابةُ، والاستجمار، والاستنجاء لتطهير محلّ البول والغائط،
فأما الاستجمار فمختص بالمسح بالأحجار،
وأما الاستطابة والاستنجاء، فيكونان بالماء ويكونان بالأحجار.
قال: هذا الذي ذكرناه من معنى الاستجمار هو الصحيح المشهور الذي قاله الجماهير من طوائف العلماء من اللغويين، والمحدثين، والفقهاء.
وقال القاضي عياض رحمه الله: اختَلَف قولُ مالك وغيره في معنى الاستجمار المذكور في هذا الحديث، فقيل: هذا، وقيل: المراد به في الْبَخُور، أن يأخذ منه ثلاث قِطَع، أو يأخذ منه ثلاث مرات، يَسْتَعمل واحدة بعد أخرى، قال: والأول أظهر، والله أعلم، والصحيح المعروف ما قدمناه. انتهى كلام النوويّ عفا الله عنه [«شرح النوويّ» (3) / (125)].
(2) / (309)]. انتهى نقل الإتيوبي رحمه الله.
(المسألة الثانية):
أنه دل حديث الباب على وجوب الاستطابة، وأنها لا تجوز بأقل من ثلاثة أحجار،
وأن الأحجار تجزئ عن الماء، وهو مجمع عليه عند عامة أهل العلم، قالوا: يجوز الاقتصار على الأحجار، وخالفت الزيدية، والقاسمية من الشيعة، فقالوا: لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء.
قال النووي في شرح المهذب [جـ (1) / ص (101)]: وهم محجوجون بالأحاديث الصحيحة أن النبي لا أمر بالاستنجاء بالأحجار، وأذن فيه، وفعله. اهـ. [البحر المحيط الثجاج، (1/ 636)].
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستجمار وترًا:
(اعلم): أنه اختُلف في اشتراط الثلاث في الاستنجاء بالأحجار على مذاهب:
(الأول): مذهب الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الحديث، فإنهم اشترطوا أن لا ينقص من الثلاث، مع مراعاة الإنقاء إذا لم يحصُل بها، فيُزاد حتى ينقي، ويُستحبّ حينئذ الإيتار؛ لقوله لا: «ومن استجمر فليوتر»، وليس بواجب؛ لما أخرجه أبو داود في «سننه» بإسناد حسن، فزاد: «ومن لا فلا حرج»، وبهذا يحصل الجمع بين الروايات.
(المذهب الثاني): مذهب مالك، وداود قالا: الواجب الإنقاء، فإن حصل بحجر واحد أجزأ، وحكاه العبدريّ عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وبه قال أبو حنيفة، حيث أوجب الاستنجاء.
واحتجّ هؤلاء بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «من استجمر فليوتر، ومن فَعَل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج»،
قالوا: ولأن المقصود الإنقاء، ولأنه لو استنجى بالماء لم يُشترط عدد، وكذلك الحجر.
واحتجّ أصحاب المذهب الأول بحديث سلمان رضي الله عنه الآتي: «لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار»، فإنه صريح في وجوب الثلاث.
وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، وحديث عائشة رضي الله عنها أن النبيّ لا قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب معه بثلاثة أحجار»، وهو حديث صحيح.
وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا: «كان رسول الله لا يأمرنا بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرّمّة»، أخرجه النسائيّ، وهو حديث صحيح، وبحديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال: سئل النبيّ لا عن الاستطابة؟ فقال: «بثلاثة أحجار»، حديث صحيح، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقيّ.
وبحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أتى النبيّ لا الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث، فلم أجده، فأخذت روثةً، فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: ((إنها ركس))، رواه البخاريّ، وأحمد، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، وفي رواياته زيادة: “فألقى الروثة، وقال: ((ائتني بحجر))، يعني ثالثًا، وفي بعضها: ((ائتني بغيرها)).
وبحديث جابر رضي الله عنه الآتي آخر الباب أن النبيّ لا قال: ((من استجمر فليوتر)).
وفي رواية لأحمد، والبيهقيّ: ((إذا استجمر أحدكم، فليستجمر ثلاثًا))، قال البيهقيّ رحمه الله: هذه الرواية تُبَيّن أن المراد بالإيتار في الرواية الأولى ما زاد على الواحد.
وقال الخطابيّ عفا الله عنه في حديث سلمان رضي الله عنه: «أمرنا أن نستنجي بثلاثة أحجار»: في هذا البيان الواضح أن الاقتصار على أقلّ من ثلاثة أحجار لا يجوز، وإن حصل الإنقاء بدونها، ولو كفى الإنقاء لم يكن لاشتراط العدد معنًى، فإنا نعلم أن الإنقاء قد يحصل بواحد، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى؛ لأنه يزيل العين والأثر، فدلالته قطعيّة، فلم يَحتَجْ إلى الاستظهار بالعدد، وأما الحجر فلا يزيل الأثر، وإنما يفيد الطهارة ظاهرًا لا قطعًا، فاشتُرط فيه العدد، كالعدّة بالأقراء لَمّا كانت دلالتها ظنًّا اشتُرط فيها العدد، وإن كان قد تحصل براءة الرحم بقرء، ولهذا اكتُفي بقرء في استبراء الأمة، ولو كانت العدّة الولادة لم يُشترط العدد؛ لأن دلالتها قطعيّة. انتهى كلام الخطابيّ ملخّصًا.
[فإن قيل]: التقييد بثلاثة أحجار إنما كان؛ لأن الإنقاء لا يحصل بدونهما غالبًا، فخرج مخرج الغالب.
[قلنا]: لا يجوز حمل الحديث على هذا؛ لأن الإنقاء شرط بالاتّفاق، فكيف يُخلّ به، وَيذكُر ما ليس بشرط، مع كونه موهمًا للاشتراط.
[فإن قيل]: فقد ترك ذكر الإنقاء.
[قلنا]: ذلك من المعلوم الذي يُستغنى بظهوره عن ذكره بخلاف العدد، فإنه لا يُعرف إلا بتوقيف، فنصّ على ما يخفى، وترك ما لا يخفى، ولو حُمِلَ على ما قالوه لكان إخلالًا بالشرطين معًا، وتعرُّضًا لما لا فائدة فيه، بل فيه إيهام.
والجواب عن الحديث الذي احتجّوا به: أن الوتر الذي لا حرج في تركه هو الزائد على ثلاثة؛ جمعًا بين الأحاديث، والجواب عن الدليلين الآخرين سبق في كلامنا؛ قاله النوويّ رحمه الله في «شرح المهذّب» [«المجموع» (2) / (104)].
وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: وقد عارضت الحنفيّة حديث سلمان رضي الله عنه المذكور الذي هو نصّ في اشتراط الثلاث بحديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي فيه: «فأخذ الحجرين، وألقى الروثة»، قال الطحاويّ: هو دليل على أن عدد الأحجار ليس بشرط؛ لأنه قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجار؛ لقوله: «ناولني»، فلما ألقى الروثة دلّ على أن الاستنجاء بالحجرين يُجزئ؛ إذ لو لم يكن كذلك لقال: ابغني ثالثًا.
وتعقّبه الحافظ، فقال: قد روى أحمد هذه الزيادة بإسناد رجاله ثقات، قال في آخره: «فألقى الروثة، وقال: إنها ركس، ائتني بحجر»، قال: مع أنه ليس فيما ذكر استدلال؛ لأنه مجرّد احتمال، وحديث سلمان رضي الله عنه نصّ في عدم الاقتصار على ما دونها، وأيضًا في سائر الأحاديث الناصّة على وجوب الثلاث زيادة يجب المصير إليها، مع عدم منافاتها بالاتّفاق، فالأخذ بها متحتّم. انتهى [راجع «نيل الأوطار» (1) / (149)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحقّ هو ما ذهب إليه المشترطون للثلاث في الاستجمار بالأحجار؛ لقوّة دليله، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [البحر المحيط الثجاج، (6/ 238 – 241)].
وراجع. [فتح العلام، (1/ 365)].حيث انتصر لهذا القول ايضا
(المسألة الرابعة): الحجر الكبير الذي له ثلاث شعب، هل يقوم مقام ثلاثة أحجار؟
- ذهب الشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأحمد في رواية إلى أنه يجزئه الحجر الكبير الذي له ثلاثة شُعب، ويقوم مقام ثلاثة أحجار، وذلك لأنَّ العلة في أمره -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بثلاثة أحجار لأجل أن لا يكرر الإنسان المسح على وجه واحد؛ لأنه إذا فعل ذلك لا يستفيد، بل ربما يزيده تلوثًا.
ذكر هذا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، ثم رجَّح هذا القول، وقال: وذلك لأن الشرع معاني لا مجرد ألفاظ.
وقال ابن قدامة رحمه الله في «المغني»: وذلك كما لو فصله ثلاثة صغارًا، واستجمر بها؛ إذا لا فرق بين الأصل والفرع، إلا فصله، ولا أثر لذلك في التطهير.
• وذهب أحمد في رواية، وهو قول ابن المنذر إلى أنه لا يجزئه أقل من ثلاثة أحجار؛ لحديث سلمان المتقدم.
والراجح هو القول الأول، والله أعلم.
قال الحافظ عفا الله عنه في «الفتح» ((156)): والدليل على صحته، أنه لو مسح بطرف واحد، ورماه، ثم جاء شخص آخر، فمسح بطرفه الآخر؛ لأجزأهما بلا خلاف [انظر: «المغني» ((1) / (216))، «المجموع» ((2) / (103))، «الشرح الممتع» ((1) / (111))، «الفتح» ((156))]. [فتح العلام، (1/ 366)].(المسألة الخامسة): حكم الإيتار فيما زاد على الثلاث.
• ذهب بعض أهل العلم إلى وجوبه، كما ذكر ذلك ابن الملقن في «شرح العمدة» ((1) / (249))، وهو قول ابن حزم كما في «المحلَّى» ((122))، واستدلوا بقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «ومن استجمر، فليوتر».
• وذهب جمهور أهل العلم إلى الاستحباب، وجعلوا الصارف حديث أبي هريرة المتقدم: «من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج»، وهو حديث ضعيف كما قد بيناه.
والراجح هو القول الأول، والله أعلم. [فتح العلام].(المسألة السادسة): هل يقوم غير الحجر مقامه كالخشب والمناديل والخرق وغير ذلك؟
أن الجمهور ألحقوا بالحجر ما يقوم مقامه من كل جامد، طاهر، مزيل للعين، وليمس له حرمة ولا هو جزء من حيوان.
قال النووي في المجموع: سواء في ذلك الأحجار والأخشاب والخرق والخزف والآجر الذي لا سرجين فيه، وما أشبه ذلك، وهو مذهب العلماء كافة، إلا داود، فلم يجوّز غير الحجر، هكذا قيل،
وقال أبو الطيب: هذا ليس بصحيح عن داود، بل مذهبه الجواز.
والحجة فيه:
ما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال اتبعت النبي لا، وخرج لحاجته، فقال: «ابغني أحجارا أستنفض بها، ولا تأتني بعظم، ولا روث» رواه البخاري، وغيره، وحديثه الآخر: «وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرِّمَّة»
فنهيه لا عن هذين يدل على أن غير الحجر يقوم مقامه، وإلا لم يكن لتخصيصهما بالنهي معنى،
وحديث ابن مسعود الذي مر قريبًا حيث إنه علل منع الاستنجاء بكونها ركسا، ولم يعلل بكونها غير حجر.
قال النووي رحمه الله: وأما قوله لا «وليستنج بثلاثة أحجار» وشبهه، فإنما نص علي الأحجار، لكونها الغالب الموجود للمستنجي بالقضاء، مع أنه لا مشقة فيها، ولا كلفة، في تحصيلها، وهذا نحو قوله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: آية (151)] وقوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: آية (101)] ونظائر ذلك، فكل هذا مما ليس له مفهوم يُعْمل به، لخروجه على الغالب. اهـ المجموع [جـ (1) / ص (114)].
قال الإتيوبي عما الله عنه: هذا الذي حققه النووي رحمه الله هو التحقيق الحقيق بالقبول. والله أعلم. [البحر المحيط الثجاج، (1/ 637)].
فائدة: قال ابن قدامة رحمه الله في «المغني» ((1) / (214)): ولابُدَّ أن يكون ما يستجمر به مُنْقِيًا؛ لأن الإنقاء مُشْتَرَطٌ في الاستجمار، فأما الزَّلج، كالزجاج، والفحم الرخو، وشبههما مما لا يُنْقِي، فلا يجزئ؛ لأنه لا يحصل منه المقصود. اهـ
فائدة: العلة في النهي عن العظم، والروث.
ثبت في «صحيح البخاري» ((155)، (3860)): أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال لأبي هريرة لا: «ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، وَلَا تَاتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ»، ثُمَّ إنَّ أَبا هُرَيْرة قَالَ لَهُ: مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ؟ قَالَ: «هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ، وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، وَنِعْمَ الْجِنُّ، فَسَأَلُونِي الزَّادَ، فَدَعَوْتُ اللهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طُعْمًا»، وفي روايةٍ: «طعامًا».
وفي «صحيح مسلم» ((450))، من حديث عبدالله بن مسعود: أنَّ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال للجن حين سألوه الزاد: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم، وكل بعرةٍ علفٌ لدوابكم»، قال: «فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم».
وقد استنبط أهل العلم من هذا الحديث تحريم الاستنجاء بمطعومات الإنس، ومطعومات دوابهم؛ لأَنَّ زادهم أعظم حرمةً من زاد الجن، ودوابهم.
فائدة: قال النووي عفا لله عنه في «المجموع» ((2) / (93)): لا يجوز أن يبول على ما منع الاستنجاء به؛ لحرمته، كالعظم، وسائر المطعومات. اهـ. [انظر: «المغني» ((1) / (215) – (216))، «المجموع» ((2) / (119))، «الفتح» ((155))].
فائدة: قال النووي عفا لله عنه في «شرح المهذب» ((2) / (120)): ولو استنجى بشيء من أوراق المصحف -والعياذ بالله- عالمًا، صار كافرًا، مرتدًا، نقله القاضي حسين، والروياني، وغيرهم.
قلتُ: ويلتحق به الأوراق التي فيها ذكر الله عزوجل، وأما كتب الفقه، وما فيه علوم شرعيةٌ، فهو محرمٌ حرمةً شديدة، ولا يُؤْمَن عليه من الكفر. [انظر: «شرح المهذب» ((2) / (119))، «المغني» ((1) / (216))، «الفتح» ((155))]. [فتح العلام، (1/ 368 – 369)].
(المسألة السابعة): من محاسن الدين الإسلامي العناية الصحية بالسبيلين:
“السبيلان هما مخرجا البول والغائط، وأكد الطب الحديث على أنهما أكثر الأسباب المؤدية لنقل العدوى والمرض وذلك عند إهمال نظافتها والعناية بهما.
فمعظم الأمراض الهضمية وغيرها تنتقل بسبب الغائط والبول ويؤكد الطب في عصرنا على أن البول والغائط هما الحاملان للجراثيم ولذا يعتمد على تحليلها في تحديد المرض وتشخيصه.
ولهذا أولى الإسلام السبيلين عناية فائقة وبين الطب أنها أساس صحي لا غنى للمرء عنه، وذلك يتمثل فيما يلي:
(1) – نظافتهما وإزالة ما يعلق بهما بعد كل مخرج، وهذا يسمى عند الفقهاء بالاستنجاء، ويتحقق بنظافة المخرج بالماء وحصول الإنقاء، وهذا واجب على المسلم، وقد جاء الحث عليه في مواضع عدة منها:
ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي معاذ قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي لا إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء. يعني يستنجي به» [صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الوضوء، باب الاستنجاء بالماء (1) / (250)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي لا دخل الخلاء فوضعت له وضوءا قال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال: اللهم فقهه في الدين» [صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء (1) / (244)].
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإن استحييتم فإن رسول الله لا كان يفعله» [أخرجه الإمام الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الاستنجاء بالماء (1) / (25)]. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال الترمذي: «وعليه العمل عند أهل العلم: يختارون الاستنجاء بالماء وإن كان الاستنجاء بالحجارة يجزئ عندهم فإنهم استحبوا الاستنجاء بالماء ورأوه أفضل وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق» [أخرجه الإمام الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الاستنجاء بالماء].
فإن عدم الماء وجب الاستجمار وهو تنظيف المخرج بالحجارة ونحوها شريطة الإنقاء وأن يكون وترا وأن يكون الاستجمار بكل شيء طاهر وتحريم الاستجمار بالروث وكل شيء نجس.
وأخرج البخاري في صحيحه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله لا قال: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» [صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا (1) / (263)].
كما حرص الإسلام على نظافة اليدين بعد الاستنجاء بغسلهما أو تنقيتها بالتراب.
وروي «أن النبي لا توضأ فلما استنجى دلك يده في الأرض» [أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة (1) / (210) من طريق ابن عباس عن خالته ميمونة رضي الله عنها].
وأخرج النسائي من حديث جرير قال: «كنت مع النبي لا فأتى الخلاء فقضى حاجته ثم قال: يا جرير هات طهور فأتيته بماء فاستنجى وقال بيده فدلك بها الأرض» [أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب دلك اليد بالأرض بعد الاستنجاء (1) / (45)].
وفي هذا تطهير لليد ومنع انتقال الجراثيم إلى الجسم.
ويعد التعقيم بالتراب من أقوى أمور التطهير.
وأخرج مسلم في صحيحه، من طريق ابن عباس قال: حدثتني خالتي ميمونة قالت: «أدنيت لرسول الله لا غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ثم أدخل يده في الإناء ثم أفرغ به على فرجه، وغسله بشماله ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات» [أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة (1) / (210)].
ومن نظافة السبيلين ما يلي:
أ – حلق العانة.
ب – الختان.
وقد حذر الإسلام من عدم التحرز من البول … “. انتهى.
[الوقاية الصحية في الإسلام، (71/ 338 – 344)، مجلة البحوث الإسلامية – مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بتصرف].
المطلب الثاني: في معنى الاستنثار.
(المسألة الأولى): معنى الاستنثار:
«الاستنثار»: استفعال، من النَّثْر – بالنون، والمثلَّثة -، وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ، أي: يجذبه بريح الأنف؛ لتنظيف ما في داخله، فيخرج بريح الأنف سواءٌ كان بإعانة يده أم لا.
وحُكِي عن مالك كراهية فعله بغير اليد؛ لكونه يشبه فعل الدابة، والمشهور عدم الكراهة، وإذا استنثر بيده، فالمستحب أن يكون باليسرى، بَوَّبَ عليه النسائي، وأخرجه مقيدًا بها من حديث عليّ رضي الله عنه [» الفتح «(1) / (315)]. [البحر المحيط (6/ 235)].
(المسألة الثاني):
قد ورد في رواية سفيان، عن أبي الزناد، ولفظه: «وإذا استنثر، فليستنثر وترًا»، أخرجه الحميديّ في «مسنده» عنه، وأصله لمسلم، وفي رواية عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه الآتية للمصنّف بعد ثلاثة أحاديث: «إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثر ثلاث مرّات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه»، أفاده في «الفتح» [» الفتح” (1) / (315)].
وقال النوويّ عفا الله عنه: ففيه دلالةٌ ظاهر على أن الاستنثار غير الاستنشاق، وأن الاستنثار هو إخراج الماء بعد الاستنشاق، مع ما في الأنف من مخاط وشبهه. انتهى المراد.
قال ابن قتيبة وغيره: الاستنشاق والاستنثار واحد، وقال الكرماني: إنَّ هذا الحديث دليلٌ على قول من قالوا: إنَّ الاستنثار هو غير الاستنشاق، وهو الصواب، فالاستنشاق هو إدخال الماء داخل الأنف، والاستنثار: إخراج الماء منه.
(المسألة الثالث): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستنثار:
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: أجمع المسلمون طرًّا على أن الاستنشاق، والاستنثار من الوضوء، وكذلك المضمضة، ومسح الأذنين،
واختلفوا فيمن ترك ذلك ناسيًا أو عامدًا،
– فكان أحمد بن حنبل يذهب إلى أن مَن ترك الاستنثار في الوضوء ناسيًا أو عامدًا أعاد الوضوء والصلاة، وبه قال أبو ثور، وأبو عبيد في الاستنثار خاصّة، وهو قول داود في الاستنثار خاصة أيضًا.
– وكان أبو حنيفة، والثوريّ، وأصحابهما يذهبون إلى إيجاب المضمضة والاستنشاق في الجنابة دون الوضوء.
– وكانت طائفة توجبهما في الوضوء والجنابة.
– وأما مالك، والشافعيّ، والأوزاعيّ، وأكثر أهل العلم، فإنهم ذهبوا إلى أن لا فرض في الوضوء واجبٌ إلا ما ذكره الله عزوجل في القرآن، وذلك غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. انتهى كلامه بالاختصار [«التمهيد» لابن عبد البر رحمه الله (18) / (226)].
وقال في «الفتح»: قوله: (فليستنثر) ظاهر الأمر أنه للوجوب، فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق؛ لورود الأمر به، كأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر، أن يقول به في الاستنثار، وظاهر كلام صاحب «المغني» يقتضي أنهم يقولون بذلك، وأن مشروعية الاستنشاق لا تحصل إلا بالاستنثار.
وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار.
وفيه تَعَقُّبٌ على من نقل الإجماع على عدم وجوبه.
قال الإتيوبي عفا الله عنه: قد عرفت آنفًا من كلام ابن عبد البرّ رحمه الله أن هؤلاء – أحمد، ومن ذكر معه – قائلون بوجوب الاستنثار، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: واستَدَلّ الجمهور على أن الأمر فيه للندب بما حَسّنه الترمذيّ، وصححه الحاكم من قوله لا للأعرابيّ: «توضأ كما أمرك الله»، فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق.
وأجيب: بأنه يَحْتَمِل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله عزوجل باتباع نبيه لا، وهو الْمُبَيِّن عن الله أمره، ولم يَحْكِ أحدٌ ممن وَصَف وضوءه لا على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهو يَرُدُّ على من لم يوجب المضمضة أيضًا، وقد ثبت الأمر بها أيضًا في «سنن أبي داود» بإسناد صحيح،
وذكر ابن المنذر أن الشافعيّ لم يَحْتَجّ على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يَعْلَم خلافًا في أن تاركه لا يُعيد، وهذا دليلٌ قويّ، فإنه لا يُحْفَظ ذلك عن أحد من الصحابة، ولا التابعين، إلا عن عطاء، وثبت عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة، ذكره كله ابن المنذر. انتهى [«الفتح» (1) / (315)].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: القول بوجوب الاستنثار هو الحقّ، وكذا المضمضة، والاستنشاق، وأما دعوى الإجماع على عدم وجوبها، كما سبق آنفًا عن ابن المنذر أنه لا يُحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين، غير صحيحة، فقد ذكر ابن المنذر نفسه ذلك عن عطاء، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، والزهريّ، وإسحاق بن راهويه [«الأوسط» (1) / (377)]،
وذكر ابن حزم أنه نُقل عن مجاهد أنه قال: الاستنشاق شطر الوضوء، فأين الإجماع المزعوم؟! وقد تقدّم تحقيق القول في هذا في المسألة السابعة من شرح حديث عثمان رضي الله عنه، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج، (6/ 237 – 238)].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“مشروعية الاستنثار، فهل الاستنثار واجب؟
الجواب: لا، الاستنشاق هو الواجب والاستنثار سنة، كما أن المضمضة واجبة، ولفظ الماء سنة وليس بواجب”. [فتح ذي الجلال والإكرام، (1/ 177)].
(المسألة الرابع):
قال زكريا الأنصاري (ت (926)) رحمه الله:
“ويسن أن يكون الإِستنثار بيده اليسرى ويستخرج بها ما في الأنف من أذى؛ لأن اليسرى تستعمل فيما كان من أذى، وكل من المضمضة والاستنشاق والاستنثار سنة لا واجب؛ لخبر: «توضأ كما أمرك الله»، وليس فيما أمر الله شيء منها.
ولأن محلها عضو باطن دونه حائل فلا يجب كما لا يجب غسل العين”. [فتح العلام بشرح الإعلام بأحاديث الأحكام لزكريا الأنصاري (ت (926)) رحمه الله، ص (73)].
(المسألة الخامسة): حكم تقديم الاستنثار على غسل الوجه
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه، وهل هذا واجب؟
الجواب: لا، لو غسل وجهه أولا ثم تمضمض واستنشق واستنثر فلا بأس، لكن الأفضل أن يبدأ بالمضمضة والاستنشاق؛ لأن المضمضة والاستنشاق فيهما شيء من البطون، يعني: أنها باطنة، فكان البدء بتنظيفها أولى من الظاهرة؛ لأن الوجه ظاهر”. [فتح ذي الجلال والإكرام، (1/ 177)].
(المسألة السادسة):
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ لا: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قال الشوكاني رحمه الله في «نيل الأوطار» ((1) / (221)): قَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِنْثَارِ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ، وَلَمْ يَذْهَبْ إلَى وُجُوبِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا شُرِعَ؛ لِأَنَّهُ يُذْهِبُ مَا يُلْصَقُ بِمَجْرَى النَّفْسِ مِنْ الْأَوْسَاخِ، وَيُنَظِّفُهُ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِنَشَاطِ الْقَارِئِ، وَطَرْدِ الشَّيْطَانِ.
وَالْخَيْشُومُ أَعْلَى الْأَنْفِ.
وَقِيلَ: هُوَ الْأَنْفُ كُلُّهُ.
وَقِيلَ: هُوَ عِظَامٌ رِقَاقٌ لَيِّنَةٌ فِي أَقْصَى الْأَنْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّمَاغِ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي «الْبُخَارِيِّ» فِي [بَدْءِ الْخَلْقِ] بِلَفْظِ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ، فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ»، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالِاسْتِنْثَارِ بِاعْتِبَارِ إرَادَةُ الْوُضُوءِ، وَفِي وُجُوبِهِ خِلَافٌ سَيَاتِي. اهـ
قال الصنعاني (ت (1182)) رحمه الله:
“الحديثُ دليلٌ على وجوبِ الاستنثار عند القيامِ منَ النومِ مطلقًا، إلَّا أن في روايةٍ للبخاريِّ: (إذَا استيقظَ أحدُكم منْ منامهِ فتوضأَ، فَلْيستنثرَ ثلاثًا؛ فإنَّ الشيطانَ – الحديثُ)، فيقيدُ الأمر المطلقُ به هنا بإرادةِ الوضوءِ، ويقيد النومُ بمنامِ الليلِ، كما يفيدُهُ لفظُ: (يبيت)؛ إذ البيتوتة فيه، وقد يقالُ: إنهُ خرجَ على الغالبِ، فلا فرقَ بين نومِ الليلِ ونوم النهارِ”. [سبل السلام شرح بلوغ المرام، (1/ 191)].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
أمر من استيقظ من النوم أن يستنثر ثلاثا، يستفاد من قوله: «فليستنثر ثلاثا»، وهل هذا الأمر للوجوب أو لا؟ نقول: الأصل في الأمر الوجوب لاسيما وأن النبي لا علل ذلك بأمر يجب التنزه عنه، وهو أثر الشيطان الذي يبيت على الخيشوم. [فتح ذي الجلال والإكرام، (1/ 180)].
(المسألة السابعة):
عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه: توضأ وضوء النبي لا، وفيه: “ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات”. متفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“تكرار التطهير ثلاثا لقوله: «فليستنثر ثلاثا» فهل يؤخذ من هذا أن إزالة النجاسة لابد أن تكون بثلاث غسلات، وأنه لا يكتفى بمرة واحدة ولو زالت النجاسة؟
يحتمل هذا وهذا، ويحتمل أن يقال: إنه يقاس عليه بقية النجاسات كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وقال: إنه يشترط في إزالة النجاسة أن تكون بثلاث غسلات، والمذهب – كما هو معروف عندكم- لابد من سبع غسلات.
ومن فوائد هذا الحديث: اعتبار التثليث في كثير من الأحكام الشرعية كما في هذا الحديث ونظائره”. [فتح ذي الجلال والإكرام، (1/ 180)].
(المسألة الثامنة): الاستنشاق والاستنثار من محاسن الإسلام
“وكما أولى الإسلام الفم عنايته باعتباره مدخلا للجوف، فكذلك أولى الأنف عناية هامة تمثل في الاستنشاق والاستنثار المأمور به المسلم في الوضوء؛ تطهيرا وتنظيفا لهذا الممر الهام؛ يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}.
والمضمضة والاستنشاق جاءت في صفة الوضوء المروي عن النبي لا في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه [أخرجه البخاري في صححيه، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء (1) / (49)] من طريق عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان بن عفان «أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرافق ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل كل رجل ثلاثا ثم قال: رأيت النبي لا: يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه».
فبالاستنشاق والاستنثار الذي يكررهما المسلم في وضوئه خمس مرات أو أكثر تتحقق نظافة هذا الممر الهام – الأنف – من الجراثيم التي علقت بشعر الأنف أو تجويفاته أو بالمادة المخاطية، كما يتيح له الاستعداد للمهام القادمة أثناء الشهيق والزفير من صد كثير من الجراثيم عن طريق المادة المخاطية التي تستعيد قوتها عند كل استنشاق واستنثار.
ولهذا أكد الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله لا قال: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر [أخرجه أبو داود، كتاب (الطهارة)، باب (في الاستنثار) (1) / (35)]» وهذا أمر منه لا بنظافة هذا الممر الهام.
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله لا: «استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا [أخرجه أبو داود، كتاب (الطهارة)، باب (في الاستنثار) (1) / (35)]».
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة إن رسول الله لا قال: «من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر» [أخرجه البخاري في صححيه، «فتح الباري»، كتاب الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء (1) / (262)].
قال ابن حجر في فتح الباري (1) / (262): «المراد بالاستنثار في الوضوء التنظيف لما فيه من المعونة على القراءة؛ لأن بتنقية مجرى التنفس تصح مخارج الحروف».
[الوقاية الصحية في الإسلام، (71/ 335 – 338)، مجلة البحوث الإسلامية – مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد].
والرابع: خلاصة فقه وفوائد الحديث:
(1) – (منها): بيان الأمر بالاستنثار في الوضوء، والحقّ أنه واجبٌ، كالمضمضة والاستنشاق.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث الأمر بالاستنثار بالماء عند الوضوء، وذلك دفع الماء بريح الأنف بعد الاستنشاق، والاستنشاق أخذ الماء بريح الأنف من الكفّ، والاستنثار دفعه، ومحالٌ أن يدفعه مَن لم يأخذه، ففي الأمر بالاستنثار أمر بالاستنشاق، فافهم، وعلى ما وصفتُ لك في الاستنشاق والاستنثار جمهور العلماء، وأصل هذه اللفظة في اللغة القَذْفُ يقال: نَثَرَ، واستنثر بمعنى واحد، وذلك إذا قَذَف من أنفه ما استنشق، مثل الامتخاط، ويقال: الجرأد نثرة حُوت، أي قَذَف به من أنفه.
وقد رَوَى ابن القاسم، وابن وهب عن مالك، قال: الاستنثار أن يَجعل يده على أنفه، ويستنثر، قيل لمالك: أيستنثر من غير أن يضع يده على أنفه؟ فأنكر ذلك، وقال: إنما يفعل ذلك الحمار، وسئل مالك عن المضمضة والاستنثار مرّةً أم مرتين أم ثلاثًا؟ فقال: ما أبالي أيّ ذلك فعلت، وكل ذلك جائز عند مالك، وجميع أصحابه أن يتمضمض، ويستنثر من غرفة واحدة.
(2) – (ومنها): بيان الأمر بالاستجمار وترًا، وهو أيضًا للوجوب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج، (6/ 236)].
3 – (ومنها): استحباب التثليث في غسل الوجه، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل اليدين، والرجلين؛ فكل هذه الأعضاء يستحب التثليث فيها. [توضيح الأحكام من بلوغ المرام، (1/ 200)].
وقال في توضيح أيضًا:
4 – (ومنها): الاستنثار يكون باليد اليسرى، وليس في الحديث ما يقتضي أنَّه باليمين”. انتهى.
5 – (ومنها): كمال الشريعة الإسلامية بالعناية بالطهارة والاحتياط لها.
6 – (ومنها): الاستنشاق غير الاستنثار لأن الجمع بينهما في حديث واحد يدل على التغاير بينهما.
7 – (ومنها): محل الاستنشاق والاستنثار قبل غسل الوجه، وهو من تمام غسله؛ فيكون فرضًا كغسل الوجه.
8 – (ومنها): الأنف من الوجه في الوضوء أخذًا من هذا الحديث مع الآية: (فاغسلوا وجوهكم) المائدة آية: {6}.
9 – (ومنها): مشروعية الإيتار لمن استنجى بالحجارة. [الأحاديث النبوية].