(09) – بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
قال تعالى:
لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) سورة الأعراف
قال الطبري:
ومعنى قوله: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا}،: لئن لم يتعطف علينا ربنا بالتوبة برحمته، ويتغمد بها ذنوبنا، لنكونن من الهالكين الذين حبطت أعمالهم
قال ابن كثير:
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أَيْ: مِنَ الْهَالِكِينَ وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِذَنْبِهِمْ وَالْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ عز وجل.
قال القرطبي:
(قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أَخَذُوا فِي الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: “لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وَتَغْفِرْ لَنَا” بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَفِيهِ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ فِي السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ. “رَبَّنَا” بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ النِّدَاءِ. وَهُوَ أَيْضًا أَبْلَغُ فِي الدُّعَاءِ وَالْخُضُوعِ. فَقِرَاءَتُهُمَا أبلغ في الاستكانة والتضرع، فهي أولى.
قال أبوالسعود:
{لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا} بِإنْزالِ التَّوْبَةِ المُكَفِّرَةِ.
{وَيَغْفِرْ لَنا} ذُنُوبَنا بِالتَّجاوُزِ عَنْ خَطِيئَتِنا، وتَقْدِيمُ الرَّحْمَةِ عَلى المَغْفِرَةِ، مَعَ أنَّ التَّخْلِيَةَ حَقُّها أنْ تُقَدَّمَ عَلى التَّحْلِيَةِ، إمّا لِلْمُسارَعَةِ إلى ما هو المَقْصُودُ الأصْلِيُّ، وإمّا لِأنَّ المُرادَ بِالرَّحْمَةِ: مُطْلَقُ إرادَةِ الخَيْرِ بِهِمْ، وهو مَبْدَأٌ لِإنْزالِ التَّوْبَةِ المُكَفِّرَةِ لِذُنُوبِهِمْ.
واللّامُ في ” لَئِنْ ” مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ} لِجَوابِ القَسَمِ، وما حُكِيَ عَنْهم مِنَ النَّدامَةِ والرُّؤْيَةِ والقَوْلِ، وإنْ كانَ بَعْدَ ما رَجَعَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَيْهِمْ، كَما يَنْطِقُ بِهِ الآياتُ الوارِدَةُ في سُورَةِ طَهَ، لَكِنْ أُرِيدَ بِتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ حِكايَةُ ما صَدَرَ عَنْهم مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ في مَوْضِعٍ واحِدٍ.
قال الشنقيطي:
قَوْلُهُ تَعالى: {وَلَمّا سُقِطَ في أيْدِيهِمْ ورَأوْا أنَّهم قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا ويَغْفِرْ لَنا لِنَكُونُنَّ مِنَ الخاسِرِينَ}.
بَيَّنَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ عَبَدَةَ العِجْلِ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ، ونَدِمُوا عَلى ما فَعَلُوا، وصَرَّحَ في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“ بِتَوْبَتِهِمْ ورِضاهم بِالقَتْلِ وتَوْبَةِ اللَّهِ جَلَّ وعَلا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكم بِاتِّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم عِنْدَ بارِئِكم فَتابَ عَلَيْكم إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ} [(54)].
قال السعدي:
وَلَمَّا رجع موسى إلى قومه، فوجدهم على هذه الحال، وأخبرهم بضلالهم ندموا و سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي: من الهم والندم على فعلهم، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فتنصلوا، إلى اللّه وتضرعوا و قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا فيدلنا عليه، ويرزقنا عبادته، ويوفقنا لصالح الأعمال، وَيَغْفِرْ لَنَا ما صدر منا من عبادة العجل لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الذين خسروا الدنيا والآخرة.
(8) / (1) / (2021) (14): (09) – Saif: بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
قال تعالى:
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151).سورة الأعراف
قال الشوكاني
قَوْلُهُ: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِأخِي} هَذا كَلامٌ مُسْتَانَفٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ مُوسى بَعْدَ كَلامِ هارُونَ هَذا؟ فَقِيلَ: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِأخِي طَلَبَ المَغْفِرَةَ لَهُ أوَّلًا، ولِأخِيهِ ثانِيًا لِيُزِيلَ عَنْ أخِيهِ ما خافَهُ مِنَ الشَّماتَةِ، فَكَأنَّهُ تَذَمَّمَ مِمّا فَعَلَهُ بِأخِيهِ، وأظْهَرَ أنَّهُ لا وجْهَ لَهُ، وطَلَبَ المَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ مِمّا فَرَطَ مِنهُ في جانِبِهِ، ثُمَّ طَلَبَ المَغْفِرَةَ لِأخِيهِ إنْ كانَ قَدْ وقَعَ مِنهُ تَقْصِيرٌ فِيما يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ وتَغْيِيرِ ما وقَعَ مِنهم، ثُمَّ طَلَبَ إدْخالَهُ وإدْخالَ أخِيهِ في رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ.
قال البقاعي:
ولَمّا تَبَيَّنَ لَهُ ما هو اللّائِقُ بِمَنصِبِ أخِيهِ الشَّرِيفِ مِن أنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ في دُعائِهِمْ إلى اللَّهِ ولا ونى في نَهْيِهِمْ عَنِ الضَّلالِ، ورَأى أنَّ ما ظَهَرَ مِنَ الغَضَبِ مُرْهِبٌ لِقَوْمِهِ وازِعٌ لَهم عَمّا ارْتَكَبُوا، دُعاءٌ لَهُ ولِنَفْسِهِ مَعَ الِاعْتِرافِ بِالعَجْزِ وأنَّهُ لا يَسَعُ أحَدًا إلّا العَفْوُ، وساقَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ مَساقَ الجَوابِ لِسُؤالٍ بِقَوْلِهِ: {قالَ رَبِّ} أيْ: أيُّها المُحْسِنُ إلَيَّ {اغْفِرْ لِي} أيْ: ما حَمَلَنِي عَلَيْهِ الغَضَبُ لَكَ مِن إيقاعِي بِأخِي {ولأخِي} أيْ: في كَوْنِهِ لَمّا يَبْلُغْ ما كُنْتُ أُرِيدُهُ مِنهُ مِن جِهادِهِمْ.
ولَمّا دَعا بِمَحْوِ التَّقْصِيرِ، أتْبَعَهُ الإكْرامَ فَقالَ: {وأدْخِلْنا} أيْ: أنا وأخِي وكُلُّ مَنِ انْتَظَمَ مَعَنا {فِي رَحْمَتِكَ} لِتَكُونَ غامِرَةً لَنا مُحِيطَةً بِنا؛ ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ {وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ} أيْ: لِأنَّكَ تُنْعِمُ بِما لا يَحْصُرُهُ الجَدُّ ولا يُحْصِيهِ العَدُّ مِن غَيْرِ نَفْعٍ يَصِلُ إلَيْكَ ولا أذًى يَلْحَقُكَ بِفِعْلِ ذَلِكَ ولا تَرْكِهِ
قال السعدي:
فندم موسى عليه السلام على ما استعجل من صنعه بأخيه قبل أن يعلم براءته، مما ظنه فيه من التقصير. و قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي هارون وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ أي: في وسطها، واجعل رحمتك تحيط بنا من كل جانب، فإنها حصن حصين، من جميع الشرور، وثم كل الخير وسرور. وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: أرحم بنا من كل راحم، أرحم بنا من آبائنا، وأمهاتنا وأولادنا وأنفسنا.