٤ – فتح رب البرية في شرح القواعد الفقهية والأصولية
أحمد بن علي وأسامة
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف: سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا).
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
رقم القاعدة: 4
نص القاعدة:
مَا مِن حَادِثةٍ إلا وللهِ فيها حُكْمٌ .
صيغ أخرى للقاعدة:
1 – ما من نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ..
2 – أية حادثة شرعية لا تخلو الأصول من دلالة عليها .
3 – لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى متلقى من قاعدة الشرع .
4 – لا يجوز ترك الحادثة لا حكم فيها مع ورود الشرع .
5 – كليات الشريعة دالة على أن الأحكام لا تبقى مشكلة لا فيصل فيها .
6 – ما من واقعة إلا وفي الشريعة مستمسك بحكم الله فيها .
………………………….
المعنى:
أن ما يحدث أو يطرأ, أوتقع واقعة, أو نازلة مما لم يرد في شأنه نص خاص من كتاب ولا سنة يمكن استنباطه من خلال عمومات الأدلة الشرعية والقياس والنظر الصحيح فلابد أن نجد لكل معضلة حكم لله فيه.
القاعدة تفتح باب الاجتهاد المستمر
قال الشافعي: فليست تنزل في أحد من أهل الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها.
وهكذا عمل الصحابة رضوان الله عليهم
قال ابن القيم: “إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء , فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا ؟
فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجوز, وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم؛ فإنهم كانوا يُسألون عن حوادثَ لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران , وإن اجتهد فأخطأ فله أجر“ (رواه البخاري ومسلم). هذا يعم ما اجتَهد فيه مما لم يَعرف فيه قول مَن قبله وما عَرف فيه أقوالا واجتهد في الصواب منها. وعلى هذا درج السلف والخلف . والحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث. ومن له مباشرة لفتاوى الناس يعلم أن المنقول, وإن اتسع غاية الاتساع, فإنه لا يفي بوقائع العالم جميعا, وأنت إذا تأملت الوقائع رأيت مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة, ولا يعرف فيها كلام لأئمة المذاهب ولا لأتباعهم .
والثاني: لا يجوز له الإفتاء ولا الحكم, بل يتوقف حتى يظفر فيها بقائل, قال الإمام أحمد لبعض أصحابه : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
والثالث: يجوز ذلك في مسائل الفروع, لتعلقها بالعمل, وشدة الحاجة إليها, وسهولة خطرها -أي ما ليس له خطورة كبيرة في الدين- , ولا يجوز في مسائل الأصول.
والحق التفصيل, وأن ذلك يجوز– بل يستحب أو يجب– عند الحاجة وأهلية المفتي والحاكم. فإن عُدم الأمران لم يجز, وإن وجد أحدهما دون الآخر احتمل الجواز والمنع والتفصيل, فيجوز للحاجة دون عدمها“. اهـ
إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 5|156.
سؤال: إذا كانت نصوص الشرع وأحكامه المنزلة محدودة معدودة, والوقائع المتجددة لا تنحصر ولا تقف عند حد, فكيف سنجد في الشرع جوابا لكل سؤال وحكما لكل نازلة؟! أو بصيغة أخرى يستعملها الأصوليون: إذا كانت النصوص متناهية, والحوادث لا متناهية, فكيف يحيط المتناهي باللامتناهي؟!
وكان جوابهم عليه جوابا عمليا أكثر منه نظريا, وذلك بالممارسة الفعلية للاجتهاد والإفتاء. وتتمثل أهم مسالكهم النظرية والعملية في الجواب على هذا السؤال, أو هذا الإشكال, فيما يلي:
1– تدبر النصوص والاستنباط منها.
فمن ذلك ما استنبطه علي بن أبي طالب رضي الله عنه, في شأن شرب الخمر, بعد أن اتسع واستشرى في بعض الأقاليم. “قال الزهرى : أخبرنى حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبى قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه, فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما, وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم, وهم معه متكئون في المسجد. فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه, فقال عمر رضي الله عنه: هم هؤلاء عندك فسلهم. فقال علي رضي الله عنه: نراه إذا سكر هذى, وإذا هذى افترى, وعلى المفترى ثمانون. قال فقال عمر رضي الله عنه: أبلغ صاحبك ما قال. قال: فجلد خالد رضي الله عنه ثمانين, وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين“.
ومعلوم أن هذا الاستنباط مأخوذ من قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة} [النور- 4] . فالآية في موضوع القذف, ولكن عليا استنبط منها وبنى عليها اجتهاده لقضية أخرى, بحكم العنصر المشترك بين الحالتين, وهو الافتراء والقذف.
ومن استنباطاته أيضا ما استنتجه في مسألة الحد الأدنى لمدة الحمل, وذلك من خلال النظر والربط بين عدة آيات. قال ابن كثير : “وقد استدل علي , رضي الله عنه, بهذه الآية {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف — 15] , مع التي في لقمان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان– 14] , وقولِه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة- 233] , على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, وهو استنباط قوي صحيح“.
وهكذا كان كبار الصحابة وفقهاؤهم , لا يتوقفون عن التدبر واستنباط المعاني والأحكام الجديدة من الكتاب والسنة, لما يشهدونه أو يعرض عليهم من تطورات ومستجدات.من أمثلة ذلك ما جاء في صحيح مسلم وغيره: “أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة…, إلى أن قال: ” … ثم إني لا أدع بعدى شيئا أهم عندي من الكلالة . ما راجعت رسولَ الله– صلى الله عليه وسلم — في شيء ما راجعته في الكلالة, وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه, حتى طَعن بإصبعه في صدري فقال: « يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ؟!». وإني إن أعشْ أَقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن… “.
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: “ولعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما أغلظ له (أي لعمر), لخوفه من اتكاله واتكال غيره على ما نُصَّ عليه صريحا, وترْكِهِم الاستنباطَ من النصوص. وقد قال الله تعالى {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء — 83] . فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة, لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة, فإذا أُهمل الاستنباط فات القضاء في معظم الأحكام النازلة أو في بعضها“.
2_ القياس على المنصوص.
قال ابن السمعاني : ” الضرورة داعية إلى وجوب القياس, لأن النصوص متناهية والحوادث غير متناهية, ولا بد أن يكون لله تعالى في كل حادثة حكم, إما بتحريم أو تحليل. فإذا كانت النصوص قاصرة عن تناول جميع الحوادث وكان التكليف واقعا بمعرفة الأحكام, لم يكن لنا طريق نتوصل به إلى معرفتها إلا القياس. ألا ترى: أنا إذا تركنا القياس تعطلت أحكام الحوادث, فصح قولنا: إن الضرورة داعية إلى استعمال القياس”.
وقال إمام الحرمين في بيان أهمية القياس في هذا المقام: ” القياس مناط الاجتهاد وأصل الرأي, ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة, وهو المفضي إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع مع انتفاء الغاية والنهاية, فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة, ومواضع الإجماع معدودة مأثورة, فما ينقل منها تواترا فهو المستند إلى القطع, وهو معوز قليل, وما ينقله الآحاد عن علماء الأعصار يُـنَـزَّل منزلة أخبار الآحاد, وهي على الجملة متناهية, ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها. والرأي المبتوت المقطوع به عندنا, أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى, متلقى من قاعدة الشرع“.
3_ تحكيم كليات الشريعة.
يقول إمام الحرمين الجويني , مبينا اعتماده على الكليات في تقرير أحكام المستجدات: “لست أحاذر إثبات حكم لم يدونه الفقهاء , ولم يتعرض له العلماء , فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يُلْفَى مدونا في كتاب, ولا مضمنا لباب. ومتى انتهى مساق الكلام إلى أحكام نظمها أقوام, أحلتها على أربابها وعزيتها إلى كتابها, ولكني لا أبتدع ولا أخترع شيئا, بل ألاحظ وضع الشرع, وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه. وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة, التي لا يوجد فيها أجوبة العلماء معدة. وأصحاب المصطفى صلوات الله عليه, ورضي الله عنهم, لم يجدوا في الكتاب والسنة إلا نصوصا معدودة, وأحكاما محصورة محدودة, ثم حكموا في كل واقعة عنَّت, ولم يجاوزوا وضع الشرع ولا تعدوا حدوده, فعلمونا أن أحكام الله تعالى لا تتناهي في الوقائع, وهي مع انتفاء النهاية عنها صادرة عن قواعد مضبوطة“.ومن أكبر هذه الكليات وأغزرها عطاء, ما سماه بعض العلماء بالقياس الكلي. وهو المسمى أيضا بالاستصلاح, أو المصلحة المرسلة, أو القياس المرسل. فهذا المسلك يسمح, بل يقضي بالنظر إلى المصالح المشروعة وبناء الأحكام عليها فيما لا نص فيه. وهو المسلك الذي عول عليه الصحابة من وقت مبكر بعد انقطاع الوحي. فهم– كما يقول الغزالي — ” استرسلوا على الفتوى, وكانوا لا يرون الحصر, والنصوص ومعانيها لا تفي بجملة المسائل, فلا بد من المصير إلى المصالح“.
4- _ أحكام الوقائع بين طرف الانحصار وطرف الانتشار.
وذكر إمام الحرمين مسلكا آخر يمكن من خلاله تقرير أحكام لا حصر لها, مما لم ينص الشرع على أحكامه. قال في بيان هذا المسلك: “… فلو قال قائل: ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له, ومآخذ الأحكام متناهية, فكيف يشتمل ما يتناهى على ما لا يتناهي؟ وهذا إعضال لا ينوء بحمله إلا موفَّقٌ رَيَّانُ من علوم الشريعة. فنقول: للشرع مبنى بديع, وأُسٌّ هو منشأ كل تفصيل وتفريع. وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية, وهو المشير إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية. وذلك أن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات, والأمر والنهي, والإطلاق والحجر, والإباحة والحظر, ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما, وتنـتفي النهاية عن مقابِلِهِ ومناقضه“.
ومعنى هذا أن الأصناف المتقابلة من أحكام الشرع, يكون فيها أحد الصنفين محصورا وأحكامه معلومة, ويكون مقابلُه غير محصور في أفراده وصوره. فإذا عرفنا أحكام الصنف المحصور, فمقابله يكون على عكسه في الحكم. فالمحرمات محددة ومحصورة, يقابلها ما لا ينحصر من الأشياء والتصرفات, فحكمها الإباحة. وما فيه حجر وتقييد من الشرع, محدد منحصر, ويقابله ما لا يحصى, فهو على الإطلاق وعدم التقييد. وما حكم الشرع بنجاسته معين محصور, وما سوى ذلك فهو على حكم الطهارة.
وعلى هذا المنوال قال ابن القيم : “… وكذلك يُجعل ما ينقض الوضوء محصورا, وما سوى ذلك لا ينقضه. وكذلك ما يفسد الصوم, وما يوجب الغسل, وما يوجب العدة, وما يُمنع منه المحرِم, وأمثال ذلك… “.
ومعنى هذا أن هناك ما لا يحصى من الأشياء والأفعال والحوادث, يعرف حكمها بمعرفة الأحكام المنصوصة الواردة في بعض أفرادها على خلاف الأصل, فإذا تحددت وانحصرت, كان الباقي على أصله…
وفيما يلي نماذج متفرقة لاجتهادات العلماء في قضايا متنوعة لا نص فيها.
1_ اشتهر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقدرته الفائقة على استنباط الأحكام للنوازل الجديدة غير المعهودة, حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه — وهو من هو — يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن. من ذلك: “أن امرأة مجنونة أصابت فاحشة على عهد عمر , فأمر عمر برجمها, فمُرَّ بها علَى علي , والصبيان يقولون: مجنونةُ بني فلان تُرجَم, فقال علي : ما هذا ؟ قالوا: أصابت فاحشة, فأمر عمر برجمها, فقال: ردوها, فردوها, فقام إلى عمر , فقال: أما علمت أن القلم مرفوع عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ, وعن المبتلى حتى يبرأ, وعن الصبي حتى يعقل, أو قال: يحتلم؟ قال: بلى, قال: فما بال هذه؟ قال: فخلى سبيلها”.
حكم المسكوت عنه في الشرع
الجملة الرابعة: قوله: [(وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)] أي: أنه سكت عنها فلم يحرمها ولم يحللها، وإنما هي عفو، فالشيء الذي لم يأت ما يدل على تحريمه فالإنسان يأتي به ويفعله ولا يبحث عنه.
وهذا البحث والسؤال قد يكونان في زمن النبوة، وهذا الذي تترتب عليه مضرة، بأن يوجب شيء لا يستطاع، أو يحرم شيءٌ بسببه، كما جاء في قصة الرجل الذي سمع النبي ﷺ يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا.
قال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت الرسول ﷺ فأعاد السؤال، فقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم).
فالله عز وجل أوجب الحج، ووجوبه في كل عام لا شك أنه في غاية المشقة، فدلالة اللفظ بمجرده تدل على أنه مرة واحدة؛ لأنه لا يستطاع أن يحج الناس جميعًا في كل سنة، ولهذا قال النبي ﷺ: (لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم) أي: لا تسألوني مثل هذه الأسئلة التي فيها مشقة وتعسير وتشديد على الناس.
وكذلك كونه يسأل عن شيء فيحرم من أجل مسألته، وقد جاء في الحديث: (إن أعظم الناس جرمًا من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته).
أما السؤال بعد زمنه ﷺ فكالأسئلة التي فيها تنطع وتكلف والناس في غنى عنها وليسوا بحاجة إليها، فلا ينبغي أن يسألوا مثل هذه الأسئلة ولا يبحثوا عنها، وإنما عليهم الانكفاف والإعراض وعدم الاشتغال بها، وعليهم الاشتغال بما يعود عليهم بالخير أما أن يشتغلوا ويعنوا بتفريع المسائل والتعمق فيها والسؤال عن أشياء ليس للإنسان أن يسأل عنها فهذا مما لا يفيد.
فعلى الإنسان أن يقف عند الحرام ويجتنبه، وأما الحلال عله أن يأتي به ويقدم عليه، وما سُكِتَ عنه فإنه لا يشغل نفسه به، وما كان من أشياء ليس فيها تحريم ولا تحليل فيرجع في ذلك إلى الأصل، فما كان الأصل فيه الحل فإنه يبقى على ذلك الأصل، وما كان الأصل فيه التحريم فإنه يبقى على ذلك الأصل، ولا يُشتغل بالتكلف والتعمق في المسائل التي لا يفيد التعمق فيها، وقد جاء ما يدل على المنع من ذلك، كما في حديث: (هلك المتنطعون).
وعلى هذا فهذا الحديث مشتمل على هذه الأربع الجمل: جملة تتعلق بالفرائض الواضحة المتعينة، وجملة تتعلق بما هو مشروع وسائغ، سواء أكان واجبًا أم مستحبًا أم مباحًا، وأنه يقتصر عليه ولا يتجاوز به الحد بحيث يتعدى، بل يوقف عنده، وجملة تتعلق بالحرام الواضح، فعلى الإنسان أن يتركه ولا يقع فيه، وجملة تتعلق بما كان مسكوتًا عنه، فإنه مما عفا الله عز وجل عنه، والإنسان له أن يأخذ به؛ فإنه مما أباحه الله وأحله، ولكن لا يشغل نفسه بأمور لا ينفعه الاشتغال بها، كالتعمق والتكلف والسؤال عن أمور ليس له أن يسأل عنها، ولا يمكنه أن يصل فيها إلى جواب، وإنما عليه أن يكف عن ذلك، وأن لا يقدم عليه.
شرح الأربعين النووية – العباد ٢٨/٦