[مشكل رقم: {(19)}]
بإشراف سيف بن غدير النعيمي
جمع واختصار سيف بن دورة الكعبي
عن جندب [بن عبد الله] رضي الله عنه قال: قال رسول الله ?”قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال عز وجل من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك” رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن القائل رجل عابد قال أبو هريرة:”تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته”.
الإشكال:
احتجاج المعتزلة بهذا الحديث على أن الإحباط واقع على الإيمان فما الرد عليهم?
-_-_-_-_-_-_-_
إجابة أحمد بن علي:
مشكل الحديث 19
قال النووي في شرح مسلم:
” وفيه دلالة لمذهب أهل السنَّة في غفران الذنوب بلا توبة إذا شاء اللَّه غفرانها، واحتجت المعتزلة به في إِحباط الأعمال بالمعاصي الكبائر، ومذهب أهل السنَّة أنها لا تحبط إلا بالكفرِ، ويتأول حبوط عمل هذا على أنه أسقطت حسناته في مقابلة سيئاته، وسمي إحباطا مجازا، ويحتمل أنه جرىَ منه أمر آخر أوجب الكفر، ويحتمل أن هذا كان في شرع من قبلنا وكان هذا حكمهم” ا هـ.
قال الشيخ عبد العزيز الراجحي في شرح الطحاوية:
أما معتقد أهل السنة والجماعة، فكما سبق أنهم لا يكفرون بالكبائر كما يفعل الخوارج والمعتزلة أو الخوارج، ولا يخرجونهم من الإيمان كما تفعل الخوارج، ولا يقولون: إنه كامل الإيمان كما تقول المرجئة، بل يقولون: إنه مؤمن، يثبتون له أصل الإيمان، وينفون عنه مطلق الإيمان، يثبتون أصل الإيمان، وهو مطلق الإيمان، وينفون عنه الإيمان المطلق، فيقولوا مطلق الإيمان ثابت له، والإيمان المطلق منفي عنه، فلا بد من التقييد، فيقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن عاص، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وكذلك في النفي لا ينفون عنه الإيمان، ويسكتون، بل لا بد من التفصيل ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقا، كما هو الأدلة على هذا كثيرة من الكتاب والسنة. والله أعلم.
أورد هذا الحديث الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتابه الكبائر مستدلا به على أنه من الكبائر
قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية:
وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت … ثم إذا كان القول في نفسه كفرا قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقا زنديقا …
———-
إجابة حسين البلوشي:
والجواب على هذا الذي قاله المعتزلة من وجهين:
* الوجه الأول بالمنع أن نمنع أن المقصود من الحديث الكفر المخرج من الملة.
قال النووي في ” شرح مسلم ” (16/ 174):
” واحتجت المعتزلة به في إِحباط الأعمال بالمعاصي الكبائر، ومذهب أهل السنَّة أنها لا تحبط إلا بالكفرِ، ويتأول حبوط عمل هذا على أنه أسقطت حسناته في مقابلة سيئاته، وسمي إحباطا مجازا، ويحتمل أنه جرىَ منه أمر آخر أوجب الكفر، ويحتمل أن هذا كان في شرع من قبلنا وكان هذا حكمهم” ا هـ.
وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
ويحتمل معني ” أحبطت عملك “، آي: عملك الذي كنت تفتخر به على هذا الرجل، وهذا أهون، لأن العمل أذا حصلت فيه إساءة بطل وحده دون غيره، لكن ظاهر حديث أبي هريرة يمنع هذا الاحتمال، حيث جاء فيه أن الله تعالى قال: أذهبوا به إلى النار. (القول المفيد)
* الوجه الثاني من حيث الموافقة:
نقول نوافقكم على أن المقصد هنا حبوط العمل لكن هذا لا يعني بأن الإنسان يكفر بأية معصية يفعلها كما تريدونه من هذا الحديث.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
قوله: ” وأحبطت عملك “. ظاهر الإضافة في الحديث: أن الله أحبط عمله كله، لأن المفرد المضاف الأصل فيه أن يكون عاماً.
ووجه إحباط الله عمله على سبيل العموم حسب فهمنا والعلم عند الله: أن هذا الرجل كان يتعبد لله وفي نفسه إعجاب بعمله، وإدلال بما عمل على الله كأنه يمن على الله بعمله، وحينئذ يفتقد ركناً عظيماً من أركان العبادة، لأن العبادة مبنية على الذل والخضوع، فلابد أن تكون عبداً لله عز وجل بما تعبدك به وبما بلغك من كلامه، وكثير من الذين يتعبدون لله بما تعبدهم به قد لا يتعبدون بوحيه، قد يصعب عليهم أن يرجعوا على رأيهم إذا تبين لهم الخطأ من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ويحرفون النصوص من أجله، والواجب أن تكون لله عبداً فيما بلغك من وحيه، بحيث تخضع له خضوعاً كاملاً حتى تحقق العبودية اهـ (القول المفيد)
قال العلامة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:
[فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل] قد يقول الإنسان كلمة من الكفر تُحبط عمله كله كالرجل الذي قال: «والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله جل وعلا: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان. إني قد غفرت له وأحبطت عملك» (1) كلمة واحدة تجرأ فيها على الله وأراد أن يمنع الله أن يغفر لهذا المذنب، فالله جل وعلا أحبط عمله وغضب عليه. والإنسان قد يتكلم بمثل هذه الكلمة ونحوها فيخرج من دين الإسلام اهـ (شرح كشف الشبهات)
وقد بين الشيخ صالح آل الشيخ وجه يفيدنا أيضا في هذا الباب قال:
فهذا يتألى فيجعل الله جل وعلا يحكم بما اختاره هو من الحكم، فيقول: والله لا يحصل لفلان كذا. تكبرا واحتقارا للآخرين فيريد أن يجعل حكم الله جل وعلا كحكمه تأليا واستبعادا أن يفعل جل وعلا ما ظنه هو، فهذا التألي و الإستبعاد نوع تحكم في الله جل وعلا وفي فعله، وهذا لا يصدر من قلب معظم لله جل وعلا. اهـ (كفاية المستزيد شرح كتاب التوحيد تفريغ سالم الجزائري)
* ونضيف نكتة تهدم استدلال المعتزلة بهذا الحديث.
أن هذا الحديث يهدم عقيدتكم التي هي أن الواجب على الله أن يعذب العبد الذي يعصيه سبحانه وتعالى وهنا قد غفر الله عز وجل لهذا العاصي وأدخله الجنة مع كثرة معصيته فالحديث يرجع إلى إبطال مذهبكم.
——
جواب سيف بن دورة الكعبي:
ورد في الصحيح المسند رقم
1302 – قال أبو داود رحمه الله: حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أخبرنا علي بن ثابت عن عكرمة بن عمار قال حدثني ضمضم بن جوس قال قال أبو هريرة
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول أقصر فوجده يوما على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد أكنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للآخر اذهبوا به إلى النار
قال أبو هريرة والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
هذا حديث حسن.
وقلنا في تعليقنا عليه:
معاني الكلمات: (متواخيين): وقع في رواية (متحابين)، وقيل معناهما متقابيلين في القصد والسعي.
-َكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَلَا يُبَالِي مَا يَقُولُ.
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ خطورة ذَلِكَ فَانْظُرْ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ 2621فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنِّي لَا أَغْفِرُ لِفُلَانٍ؟ قَدْ غَفرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» فَهَذَا الْعَابِدُ الَّذِي قَدْ عَبَدَ اللَّهَ مَا شَاءَ أَنْ يَعْبُدَهُ، أَحْبَطَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ عَمَلَهُ كُلَّهُ.
وبوب عليه النووي باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى) راجع الجواب الكافي
-بعض السيئات تبطل الحسنات، ورد في ذلك آثار، أما المعتزله فقالوا: تحبط الإيمان وخلدوه في النار وهذا القول تفردوا به، أما أهل السنة وإن أبطلوا حسناته فيبقى عنده أصل الإيمان فيدخل الجنة بعد العذاب (ابن رجب بمعناه) انتهى من تعليقي
وقال الألباني وذكر حديث جندب في الصحيحة 1685: وعزاه لمسلم، وذكر متابعا لسويد ثم ذكر شاهده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ومن حديث أبي قتادة: وفيه دليل صريح أن التألي على الله يحبط العمل أيضاً كالكفر، وترك صلاة العصر، ونحوها. انظر تعليق على كتابي “صحيح الترغيب والترهيب”
وقال في تعليقه على حديث (من ترك صلاة العصر؛ فقد حبط عمله) رواه البخاري: أي بطل عمله، وحمله الدميري على المستحل، أو من تعود الترك، أو على حبوط الأجر. ذكره المناوي، والأخير هو الظاهر. وقال السندي: قيل: أريد به تعظيم المعصية لا حقيقة اللفظ، ويكون من مجاز التشبيه. قلت: وهذا مبني على أن العمل لا يحبط إلا بالكفر، لكن ظاهر قوله تعالى (لا ترفعوا أصواتكم) الآية يفيد أنه قد يحبط ببعض المعاصي أيضاً. فيمكن أن يكون ترك العصر عمداً من جملة تلك المعاصي. والله أعلم. انتهى من تعليق الألباني على الترغيب والترهيب 1/ 324
وأخرج حديث جندب مرة أخرى في الصحيحة 2014: وعزاه للطبراني وقال: ثم أخرجه الطبراني من طريق حماد بن سلمة أخبرنا أبوعمران عن جندب (أن رجلاً آلى أن لا يغفر الله لفلان، فأوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء إنها خطيئة فليستقبل العمل) قلت: وإسناده صحيح موقوف، ولكنه في حكم المرفوع بدليل ما قبله انتهى ويقصد بما قبله حديث جندب المرفوع.
قال صاحب فيض القدير في شرحه لقول جندب: فليستقبل العمل: أي يستأنف عمله للطاعات فإنها حبطت بتأليه على الله وهذا مخرج الزجر والتنفير لا الحقيقة.
قال باحث:
السيئات قد تُحبِطُ الحسنات:
ما هي الأعمال السيئة التي يفعلها العبد فتحبط أعماله الصالحة وتردها، وتُمحَى بسببها من صحيفة الأعمال؟
الحمد لله
أولا:
من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة أن الأعمال لا تُقبل مع الكفر، ولا يبطلها كلَّها غيرُ الكفر.
دل عليه قوله تعالى: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ، وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَاتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) التوبة/53 – 54
قال ابن تيمية رحمه الله:
” ولا يحبط الأعمال غير الكفر؛ لأن من مات على الإيمان فإنه لا بد أن يدخل الجنة، ويخرج من النار إن دخلها، ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الأعمال مطلقًا إلا الكفر، وهذا معروف من أصول السنة ” انتهى. “الصارم المسلول” (ص/55)
وقد خالف أهل البدعة من الخوارج والمعتزلة والمرجئة، فغلا الخوارج والمعتزلة وقالوا: إن الكبائر تمحو وتبطل جميع الحسنات والطاعات، وعاكستهم المرجئة فقالوا: إن حسنة الإيمان تمحو جميع السيئات.
ثانيا:
لما تبين أنه لا يمكن أن يحبط الحسنات كلها إلا ما يناقض الإيمان مناقضة تامة وهو الكفر، فهل يمكن أن يحبط شيء من المعاصي بعض الحسنات ويمحوها؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى “مجموع الفتاوى” (10/ 638):
” فإذا كانت السيئاتُ لا تحبط جميع الحسناتِ، فهل تحبط بقدرها، وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟
فيه قولان للمنتسبين الى السنة، منهم من ينكره، ومنهم من يثبته ” انتهى.
القول الأول: أن السيئات لا تبطل الحسنات، بل الحسنات هي التي تمحو السيئات، وذلك بفضل الله سبحانه وكرمه وإحسانه.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى “الجامع لأحكام القرآن” (3/ 295):
(” والعقيدة أن السيئاتِ لا تبطل الحسناتِ ولا تحبطها ” انتهى.
القول الثاني: أن المعاصي والبدع تحبط أجر ما يقابلها من الحسنات على سبيل الجزاء، نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية لأكثر أهل السنة. انظر “مجموع الفتاوى” (10/ 322)
وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وقال في مدارج السالكين (1/ 278):
” وقد نص أحمد على هذا في رواية فقال: ينبغي للعبد أن يتزوج إذا خاف على نفسه، فيستدين ويتزوج؛ لا يقع في محظور فيحبط عمله ” انتهى.
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه:
بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ؛ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وترجم الإمام مسلم ـ أيضا ـ بَاب مَخَافَةِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله:
وتبويب البخاري لهذا الباب يناسب أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب، كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ) الحجرات2.
قال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى قال: ثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: ما يرى هؤلاء أن أعمالا تحبط أعمالا، والله عز وجل يقول {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى قوله {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.
ومما يدل على هذا – أيضا – قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} الآية [البقرة: 264]، وقال {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب} الآية [البقرة: 266].
وفي صحيح البخاري ” أن عمر سأل الناس عنها فقالوا: الله أعلم فقال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل، قال عمر: لأي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم يبعث الله إليه الشيطان فيعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
وقال عطاء الخراساني: هو الرجل يختم له بشرك أو عمل كبيرة فيحبط عمله كله.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” من ترك صلاة العصر حبط عمله ” [رواه البخاري (553)].
وفي ” الصحيح ” – أيضا – أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان فقال الله: ” من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، قد غفرت لفلان وأحبطت عملك ” [مسلم (2621)].
وقالت عائشة رضي الله عنها: أبلغي زيدا أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. [رواه الدارقطني (3/ 52) والبيهقي (5/ 330)].
وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات، ثم تعود بالتوبة منها. وخرج ابن أبي حاتم في ” تفسيره ” من رواية أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح، فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} [محمد: 33] فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال.
وبإسناده، عن الحسن في قوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال: بالمعاصي. وعن معمر، عن الزهري في قوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال الكبائر.
وبإسناده، عن قتادة في هذه الآية قال: من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سيء فليفعل ولا قوة إلا بالله؛ فإن الخير ينسخ الشر، وإن الشر ينسخ الخير، وإن ملاك الأعمال: خواتيمها …
قال ابن رجب رحمه الله: والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة كثيرة جدا يطول استقصاؤها. حتى قال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة. ..
وعن عطاء قال: إن الرجل ليتكلم في غضبه بكلمة يهدم بها عمل ستين سنة أو سبعين سنة. وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد، عنه: ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله.
وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة، فقد أبطل فيما قال ولم يقف على أقوال السلف الصالح في ذلك. نعم المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان وخلدوا بها في النار. وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك. [شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري (206 – 210) باختصار].
قال ابن القيم رحمه الله: ” ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر وليس الشأن في العمل إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه ” [الوابل الصيب (18)].
والله أعلم