مشكل الحديث 33
مجموعة أبي عيسى البلوشي. سيف بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
ومراجعة حسين البلوشي
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
———-”———-”———
حديث ْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ، فَقَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا، قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ لِلْأَرْضِ: أَدِّي مَا أَخَذْتِ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟، فَقَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ أَوَ قَالَ مَخَافَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ ”
فهذا الرجل حديثه مشكل حيث شك هذا الرجل في أصول الدين.
ِ
——-”———”——–
ورد في مسند أحمد
3785 – حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله، ” أن رجلا لم يعمل من الخير شيئا قط إلا التوحيد، فلما حضرته الوفاة، قال لاهله: إذا أنا مت، فخذوني واحرقوني، حتى تدعوني حممة، ثم اطحنوني، ثم اذروني في البحر، في يوم راح، قال: ففعلوا به ذلك، قال: فإذا هو في قبضة الله، قال: فقال الله عز وجل له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك، قال: فغفر الله له ”
قال محققو المسند:
صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم، وهو ابن أبي النجود، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح. يحيى بن إسحاق: هو السيلحيني، وأبو وائل: هو شقيق بن سلمة. والحديث وإن كان موقوفا له حكم الرفع.
قلت سيف: على شرط المتمم على الذيل
أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعا 3478 ومسلم 2756 بنحوه
وذكر الإمام أحمد سند حديث أبي هريرة من طريق حماد بعد أثر ابن مسعود مباشرة وقال: بمثله.
فلعله يشير أن حديث أبي هريرة يعل الرواية السابقة، أو يقصد انه محفوظ على الوجهين، خاصة أن أبا يعلى أخرجه من طريق أبي كريب عن معاوية بن هشام عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود موقوفا وفيه زياده (وكان نباشا).
——-
وورد في مسند أحمد
20039 – حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا بهز، ويزيد قال: أخبرنا بهز المعنى، حدثني أبي، عن جدي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إنه كان عبد من عباد الله أعطاه الله مالا وولدا، وكان لا يدين الله دينا. قال يزيد: فلبث حتى ذهب عمر وبقي عمر تذكر فعلم أن لم يبتئر عند الله خيرا دعا بنيه فقال: يا بني أي أب تعلموني؟ قالوا: خيره يا أبانا. قال: فوالله لا أدع عند رجل منكم مالا هو مني إلا أنا آخذه منه، أو لتفعلن ما آمركم به. قال: فأخذ منهم ميثاقا. قال: إما لا فإذا مت فخذوني فألقوني في النار حتى إذا كنت حمما فدقوني “. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على فخذه، كأنه يقول: ” اسحقوني، ثم ذروني في الريح لعلي أضل الله “. قال: ” ففعل به ذلك ورب محمد حين مات. قال: فجيء به أحسن ما كان، فعرض على ربه فقال: ” ما حملك على النار؟ ” قال: خشيتك يا رباه. قال: ” إني لأسمعن الراهبة، قال يزيد: أسمعك راهبا، فتيب عليه ” قال بهز: فحدثت بهذا الحديث الحسن، وقتادة وحدثانيه: ” فتيب عليه “، أو ” فتاب الله عليه ” شك يحيى
عن عمران وهو صحيح لغيره لكن السند حسن
قلت سيف:
على شرط المتمم على الذيل
وأنزلنا درجته من الذيل للمتمم
من أجل أنها مخالفة لما في الصحيحين وغيرهما
ففي بعض روايات معاويه بن حيده (لعلي أضل الله) وفي بعض روايات لصحابه آخرين مثل أبي هريرة (فلئن قدر علي ربي) أخرجه البخاري ومسلم بنحوه وغيرهما وكذلك ورد من حديث حذيفة
ومن حديث أبي سعيد بنحوه أخرجه البخاري
وفي بعضها شك في البعث (وإن يقدم على الله يعذبه) من حديث أبي سعيد
وشرحه في:
190 عون الصمد شرح الذيل والمتمم له على الصحيح المسند:
الرجل أنكر قدرة الله و هذا كفر باتفاق المسلمين، لكن بسبب جهله لم يكفر، و تبين أن الرجل مؤمن لأن الله غفر له و لو كان كافرا لم يغفر الله له.
قال أبو محمد: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله.
” الفصل في الملل والأهواء ” ج (3) / (140)
قال ابن عبدالبر: والدليل على أن الرجل كان مؤمنا قوله حين قال له: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب.
والخشية لا تكون إلا لمؤمن يصدق بل ما تكاد تكون إلا من مؤمن عالم قال الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر (28)
قالوا كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه ويستحيل أن يخاف من لا يؤمن به. ” الاستذكار ” ((3) / (95)).
قال ابن تيمية: فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شك وأنه لا يبعثه وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده فخاف من عقابه فغفر الله له بخشيته
فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل
الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالا من الرجل فيغفر الله خطأه أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم. ” الإستقامة” (ج (1) / (165)).
قال ابن تيمية كما في المجموع [ج (3) / (231)]: فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك.
والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا.
و قال في منهاج السنة النبوية: أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية.
قال زين الدين العراقي: {الخامسة} قوله «فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه» ظاهره نفي قدرة الله على إحيائه وإعادته وفي القول به إشكال فإن ذلك كفر والشاك في قدرة الله تعالى كافر مع كون الحديث يدل على إسلامه من وجهين:
أحدهما: إخباره بأنه إنما فعل هذا من خشية الله تعالى والكافر لا يخشى الله تعالى.
والثاني إخباره – عليه الصلاة والسلام – بأن الله غفر له والكافر لا يغفر له مع ما انضم إلى ذلك من الرواية التي في مسند أحمد الصريحة في أنه كان موحدا. ” طرح التثريب” (ج (3) / (267)).
—
العذر بالجهل له شروط:
(1). مثل النشأة في الأزمنة والأمكنة التي يقل فيها العلم،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول.
ولهذا جاء في الحديث: ((يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوماً ولا حجا، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقولون لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا. فقال: ولا صوم ينجيهم من النار)).
(2). العذر بالأشياء التي قد تخفى على بعض الناس:
قال ابن باز رحمه الله: أما الأشياء التي قد تخفى على الناس، مثل ما جرى للشخص الذي قال لأولاده: إذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني ثم ذروني في البحر في يوم عاصف، فإنه إن قدر علي الله ليعذبني، أو كما قال، وسأله الله عن ذلك بعدما مات، فقال: حملني على هذا مخافتك، فغفر الله له، قال العلماء إن هذا خفي عليه كمال القدرة، كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وجهل هذا الأمر، وظن أنه بهذا الحرق والسحق، والذر في البحر أنه يفوت الله ويضيع، فهذا الجهل الذي جهل الشيء الدقيق، عفا الله عنه سبحانه وتعالى؛ لأنه حمله عليه خوف الله والحذر من عقابه سبحانه وتعالى ….
=====
قال ابن تيميه رحمه الله في كتاب الإيمان الأوسط:
والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكى عنه في ذلك قولان، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع، وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا قد أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والاتحاد.
والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول. فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له واستتابته ـ
كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ـ
ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع …. اهـ.
——
وهذه بعض تعليقات مأخوذة من أحد البحوث.
الرد على تأويلات حديث الرجل الذى وصى بحرقه بعد موته!
حديث أبي هريرة قال:” كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذ أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحد فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت؟ قال يا رب خشيتك فغفر له” متفق عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
في مجموع الفتاوى (11/ 409):” ” فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلا بذلك ضالا في هذا الظن مخطئا، فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد وذلك كفر – إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره -“.
وقال في مجموع الفتاوى (3/ 231):”والتكفير هو من الوعيد. فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة.
ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة.
وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال:” إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ففعلوا به ذلك فقال الله له: ما حملك على ما فعلت. قال خشيتك: فغفر له”. فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك”
وقال في الكيلانية (1/ 92) و (مجموع الفتاوى 1/ 491)،:” فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم؛ بعد ما أحرق وذري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك وهذان أصلان عظيمان: ” أحدهما ” متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير.
و ” الثاني ” متعلق باليوم الآخر. وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على أعماله ومع هذا فلما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل عملا صالحا – وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه – غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. وكرر الاستدلال به في المجموع (7/ 619) (8/ 12) (12/ 490) (23/ 347) والمنهاج (5/ 337) والاستقامة (1/ 164) الرد على البكري (2/ 394) الصفدية (1/ 233) بغية المرتاد (1/ 308 – 310) (1/ 342).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله:
في معرض حديثه عن حكم من جحد فرضاً من فرائض الإسلام: ( … . و أما من جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه: فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً) (مدارج السالكين 1/ 367.).
وقال الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:
في هذه المسألة قوله في الدرر السنية (10/ 239 – 240):”إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله، ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها، فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر، وذلك لأن الكفر: إما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة، واستدلوا بقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، وبقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً) إلى قوله: (بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
واستدلوا أيضا: بما ثبت في الصحيحين والسنن، وغيرها من كتب الإسلام، من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن رجلا ممن كان قبلكم، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا الرجل قائم. قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال خشيتك ومخافتك، فما تلافاه أن رحمه”. فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل به ذلك، لا يقدر الله على بعثه، جهلا منه لا كفرا ولا عنادا، فشك في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه، وكل من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى من يعرفه بذلك من أهل العلم، والله أعلم”.
وقال الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله-:
( … و أما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان … .) ثم استدل على ذلك بسؤال الصحابة – رضي الله عنهم – عن القدر ثم قال: (ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، … . ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه) (التمهيد 18/ 46،47.).
وقال ابن الوزير رحمه الله في تعليقه على الحديث:
( … . وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد ولذلك خاف العقاب، و أما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالاً فلا يكون كفراً إلا لو علم أن الأنبياء جاءوا بذلك و أنه ممكن مقدور ثم كذبهم أو أحداً منهم لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} (الإسراء، آية: 15.) وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل) (إيثار الحق على الخلق 436.).
وقال الإمام الخطابي رحمه الله:
(قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله) (فتح الباري 6/ 523.)
إذاً يمكن أن نستخلص من كلام الأئمة أمرين مهمين:
الأول: أن عمل هذا الرجل هو كفر لأن فيه إنكاراً لقدرة الله تعالى على إعادته بعدما يحرق، ولكنه عذر بسبب جهله الذي قاده إلى هذا الظن الفاسد.
الثاني: أن هذا الرجل معه أصل الإيمان وهذا واضح في الحديث، وهكذا فهم الأئمة، انظر إلى قول شيخ الإسلام في النص السابق: ( … . فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل صالحاً – وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه – غفر الله له بما كان فيه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح)
وقول الخطابي: ( … . وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله)، وقول ابن حزم: ( … وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله)
الرد على من خالف الحديث:
ذكر بعض العلماء بعض التأويلات لهذا الحديث تخالف ما سبق وسنشير إلى هذه التأويلات ونرد عليها رداً علمياً
التأويل الأول:
أن قوله لئن قدر الله عليّ، أي قضاه، يقال منه قدر بالتخفيف، وقدر بالتشديد بمعنى واحد، أو قدر بمعنى ضيق علي من مثل قوله تعالى: {فقدر عليه رزقه} (سورة الفجر، آية: 16.) وقوله تعالى: {فظن أن لن نقدر عليه} (سورة الانبياء، آية: 87.) علي أحد الأقوال في تفسيرها
والرد:
المتأمل لسياق الحديث يتبين له ضعف هذا القول، فكيف يقال لئن قدر الله علي العذاب ليعذبني أو لئن ضيق علي ليعذبني، فهذا لا معنى له، وكذلك لو كان المعنى مما سبق فما فائدة أمره لأهله بإحراقه ثم ذره.
ورد شيخ الإسلام قائلاً:
(ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي بمعنى قضي، أو بمعنى ضيق فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، و أنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مفراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، و لأن التقدير والتضييق موافقان للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايراً، لأن يقدر الرب.
قال: فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، فلا يكون الشرط هو الجزاء) (مجموع الفتاوى 11/ 410، وانظر بقية الرد).
التأويل الثاني:
أنه قال ذلك في حال دهشته ولم يقله قاصداً لحقيقة المعنى وهذا القول رجحه ابن حجر – حيث قال في الفتح: ( … وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلب الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل، والذاهل والناسي الذي لا يؤخذ بما يصدر منه) (الفتح 6/ 523، ومسلم بشرح النووي 17/ 71.)
والرد:
هذا التفسير فيه ضعف ظاهر من وجهين:
الأول: أنه لو كان غير مدرك ولا عاقل لما يقول لفهم أولاده ذلك ولما نفذوا هذه الوصية.
الثاني: أن هذا الحديث يذكر لبيان سعة رحمة الله عز وجل حيث غفر لهذا الرجل رغم هذا الجهل الكبير، فلو كانت المغفرة لرجل أخطأ في كلام قاله دون شعور منه ولا إدراك لما يقول لما كان للمغفرة في هذه الحالة مزية، ولصار في حكم من سقط عنه التكليف، وحينئذ لا يعتبر قد ارتكب خطأ، ولذلك من فقه الإمام الزهري أنه لما روى هذا الحديث الذي تتبين فيه سعة رحمة الله وفضله، روى بعده حديث المرأة التي دخلت النار لهرة حبستها (حديث من أحاديث الخوف والوعيد) ثم قال: (ذلك لئلا يتكل رجل، ولا ييأس رجل) (انظر مسلم بشرح النووي 17/ 72: قال النووي: (معناه أن ابن شهاب لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه من سعة الرحمة وعظم الرجاء فضم إليه حديث الهرة الذي فيه من التخويف ضد ذلك ليجتمع الخوف والرجاء) 17/ 73.)
التأويل الثالث:
منهم من يقول الحديث من المتشابه ولابد ان يرد إلا المحكم
والرد:
فيقال له فإن دليلك انه من المتشابه ولابد له أن يأول؟! فصرف اللفظ عن ظاهرة بدون دليل يعتبر تحريف وليس تأويل.
التأويل الرابع:
منهم من يقول الحديث فيه احتمالات كثيرة والقاعدة تقول من دخله الإحتمال بطل به الإستدلال
والرد:
فيقال له كثير من آيات القرآن واحاديث النبى مختلف فى تفسيرها وشرحها فلو طبقنا القاعدة لكثرة الشروح والتفسير لتركنا نصوصا كثيرةوهذا لم يقل به عالم قط
التأويل الخامس:
منهم من يقول الحديث له رويات كثيرة ضعيفة وصحيحة ومختلفة فيجب عدم الاخذ به فى العقائد!
والرد:
فيقال له وكتير من الاحاديث لها رويات كثيرة ومنها ضعيفة ومختصرة ومطولة ومختلفة فالعلماء يتركون الضعيف ويجمعون الرويات الصحيحة مع بعضها ويأخذون بها ولا حجة لترك الحديث إذاً
التأويل السادس:
منهم من أكثر من الأقوال المذكورة في تأويله حتى تلك الواردة عمن لا يعرف، وقد أبلغها بعضهم إلى سبعة أقوال، ليبين أن تفسير ابن تيمية وابن حزم من قبله ومن تبعهما ليس متفقا عليه، أو لبيان أن العلماء قد استشكلوا لفظ الحديث لكونه قد عارض القواطع عندهم.
والرد:
أنه ليس من شرط صحة الاحتجاج بالحديث أن يتفق الناس أولهم وآخرهم، سلفيهم وخلفيهم على معناه، والأصل إعمال الحديث وحمله على ظاهره، وأما الاستشكال فيكون مقبولا إذا ما عورض الحديث بأدلة نقلية أخرى، أما إذا كان مصدره ما يسميه الخلف معقولات قطعية فإنه لا عبرة به.
التأويل السابع:
جاءت بعض الرويات الصحيحة ليس فيها قوله لئن قدر الله عليه فالحديث ليس حجة على العذر بالجهل
الرد:
هذة أحاديث مطلقة والرويات الأخرى تقيدها ووجوب جمع الرويات للحديث الواحد ثم العمل به
التأويل الثامن:
قد يقال إن هذا شريعة من قبلنا فلا يعتبر حجة
الرد:
حتى وإن كان من شريعة من قبلنا فهو حجة لإن عقيدة الأنبياء واحدة لا تتبدل ولا تتغير ولا تقبل النسخ وإما الحرام والحلال فهذه من يدخلها النسخ وغيره
——
*الحديث الأول أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع:*
كتاب أحاديث الأنبياء/ باب حديث الغار
كتاب أحاديث الأنبياء/ باب ما ذكر عن بني إسرائيل
كتاب الرقاق/ باب الخوف من الله
كتاب التوحيد / باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}
فتأمل تبويب البخاري رحمه الله للحديث (الخوف من الله)
________
*قال الطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار بعد أن أورد إشكال مغفرة الله لهذا الرجل:*
ومن قوله لهم بعد ذلك: فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدا فوجدنا ذلك محتملا أن يكون كان من شريعة ذلك القرن الذي كان ذلك الموصي منه القربة بمثل هذا إلى ربهم جل وعز؛ خوف عذابه إياهم في الآخرة؛ ورجاء رحمته إياهم فيها بتعجيلهم لأنفسهم ذلك في الدنيا كما يفعل من أمتنا من يوصي منهم بوضع خده إلى الأرض في لحده رجاء رحمة الله عز وجل إياه بذلك،
فقال قائل: وكيف جاز لك أن تحمل تأويل هذا الحديث على ما تأولته عليه في ذلك؟ من وصية ذلك الموصي ما ينفي عنه الإيمان بالله؛ لأن فيه فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدا , ومن نفى عن الله تعالى القدرة في حال من الأحوال كان بذلك كافرا،
وكان جوابنا له في ذلك أن الذي كان من ذلك الموصي من قوله لبنيه: فوالله لا يقدر علي رب العالمين ليس على نفي القدرة عليه في حال من الأحوال، ولو كان ذلك كذلك لكان كافرا ولما جاز أن يغفر الله له، ولا أن يدخله جنته ; لأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به , ولكن قوله: فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدا هو عندنا والله أعلم على التضييق أي لا يضيق الله علي أبدا فيعذبني بتضييقه علي لما قد قدمت في الدنيا من عذابي نفسي الذي أوصيتكم به فيها،
والدليل على ما ذكرنا قول الله تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه} إلى قوله: {فقدر عليه رزقه} أي فضيق عليه رزقه، وقوله في نبيه ذي النون وهو يونس عليه السلام: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر} عليه في معنى أن لن نضيق عليه، وقوله: {يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} فكان البسط هو التوسعة , وكان قوله: {ويقدر} هو التضييق , فكان مثل ذلك قول ذلك الموصي: فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدا أي: لا يضيق علي أبدا؛ لما قد فعلته بنفسي رجاء رحمته وطلب غفرانه , ثقة منه به , ومعرفة منه برحمته وعفوه وصفحه بأقل من ذلك الفعل، وهذا حديث , فقد روي من غير هذه الجهة بخلاف هذا اللفظ , مما معنى هذا اللفظ الذي روي به هذا الحديث الذي ذكرنا.
________
*قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري:*
(قوله باب الخوف من الله عز وجل)
هو من المقامات العلية وهو من لوازم الإيمان قال الله تعالى وخافون إن كنتم مؤمنين. وقال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون.
وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء
وتقدم حديث أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه
وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله يخافون ربهم من فوقهم والأنبياء بقوله الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا الا الله وإنما كان خوف المقربين أشد لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم فيراعون تلك المنزلة ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة فالعبد إن كان مستقيما فخوفه من سوء العاقبة لقوله تعالى يحول بين المرء وقلبه أو نقصان الدرجة بالنسبة وإن كان مائلا فخوفه من سوء فعله وينفعه ذلك مع الندم والإقلاع فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد عليها وأن يحرم التوبة أو لا يكون ممن شاء الله أن يغفر له فهو مشفق من ذنبه طالب من ربه أن يدخله فيمن يغفر له
ويدخل في هذا الباب الحديث الذي قبله وفيه أيضا ورجل دعته امرأة ذات جمال ومال فقال إني أخاف الله
وحديث الثلاثة أصحاب الغار فإن أحدهم الذي عف عن المرأة خوفا من الله وترك لها المال الذي أعطاها وقد تقدم بيانه في ذكر بني إسرائيل من أحاديث الأنبياء
وأخرج الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة قصة الكفل وكان من بني إسرائيل وفيه أيضا أنه عف عن المرأة وترك المال الذي أعطاها خوفا من الله ثم ذكر قصة الذي أوصى بأن يحرق بعد موته من حديث حذيفة وأبي سعيد وقد تقدم شرحه في ذكر بني إسرائيل أيضا
*وقال في موضع آخر من الفتح (باختصار):*
ومن اللطائف أن من جملة الأجوبة عن ذلك ما ذكره شيخنا ابن الملقن في شرحه أن الرجل قال ذلك لما غلبه من الخوف وغطى على فهمه من الجزع فيعذر في ذلك وهو نظير الخبر المروي في قصة الذي يدخل الجنة آخر من يدخلها فيقال إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها فيقول للفرح الذي دخله أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح.
قلت وتمام هذا أن أبا عوانة أخرج في حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق أن الرجل المذكور في حديث الباب هو آخر أهل الجنة دخولا الجنة فعلى هذا يكون وقع له من الخطإ بعد دخول الجنة نظير ما وقع له من الخطإ عند حضور الموت لكن أحدهما من غلبة الخوف والآخر من غلبة الفرح.
قلت والمحفوظ أن الذي قال أنت عبدي هو الذي وجد راحلته بعد أن ضلت وقد نبهت عليه فيما مضى …….
قالت المعتزلة غفر له لأنه تاب عند موته وندم على فعله.
وقالت المرجئة غفر له بأصل توحيده الذي لا تضر معه معصية
وتعقب الأول بأنه لم يرد أنه رد المظلمة فالمغفرة حينئذ بفضل الله لا بالتوبة لأنها لا تتم إلا بأخذ المظلوم حقه من الظالم وقد ثبت أنه كان نباشا
وتعقب الثاني بأنه وقع في حديث أبي بكر الصديق المشار إليه أولا أنه عذب فعلى هذا فتحمل الرحمة والمغفرة على إرادة ترك الخلود في النار
وبهذا يرد على الطائفتين معا على المرجئة في أصل دخول النار وعلى المعتزلة في دعوى الخلود فيها وفيه أيضا رد على من زعم من المعتزلة أنه بذلك الكلام تاب فوجب على الله قبول توبته قال بن أبي جمرة كان الرجل مؤمنا لأنه قد أيقن بالحساب وأن السيئات يعاقب عليها.
وأما ما أوصى به فلعله كان جائزا في شرعهم ذلك لتصحيح التوبة فقد ثبت في شرع بني إسرائيل قتلهم أنفسهم لصحة التوبة قال وفي الحديث جواز تسمية الشيء بما قرب منه لأنه قال حضره الموت وإنما الذي حضره في تلك الحالة علاماته وفيه فضل الأمة المحمدية لما خفف عنهم من وضع مثل هذه الآصار ومن عليهم بالحنيفية السمحة وفيه عظم قدرة الله تعالى أن جمع جسد المذكور بعد أن تفرق ذلك التفريق الشديد.
قلت وقد تقدم أن ذلك إخبار عما يكون يوم القيامة وتقرير ذلك مستوفى.
*وقال في موضع آخر من الفتح:*
قال الخطابي قد يستشكل هذا فيقال كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى والجواب أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله قال بن قتيبة قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك ورده ابن الجوزي. وقال جحده صفة القدرة كفر اتفاقا وإنما قيل إن معنى.
قوله لئن قدر الله على أي ضيق وهي كقوله ومن قدر عليه رزقه أي ضيق.
وأما قوله لعلي أضل الله فمعناه لعلي أفوته يقال ضل الشيء إذا فات وذهب وهو كقوله لا يضل ربي ولا ينسى
ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال أنت عبدي وأنا ربك أو يكون قوله لئن قدر علي بتشديد الدال أي قدر علي أن يعذبني ليعذبني أو على أنه كان مثبتا للصانع وكان في زمن الفترة فلم تبلغه شرائط الإيمان وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول ولم يقله قاصدا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه وأبعد الأقوال قول من قال إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر.
_______
*في مجموع فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله، المجلد الحادي عشر (لم أنقل الجواب كاملا خشية الإطالة):*
سئل الشيخ – رحمه الله -:
عن قوم داوموا على ” الرياضة ” مرةً فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام ولو تجوهروا لسقطت عنهم وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام ولسنا نحن من العوام فندخل في حجر التكليف لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة. فهل هذا القول كفر من قائله؟ أم يبدع من غير تكفير. وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي – صلى الله عليه وسلم -؟.
فأجاب:
لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه. وهو شر من قول اليهود والنصارى؛ فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض. وأولئك هم الكافرون حقًا كما ذكر أنهم يقرون بأن لله أمرًا ونهيًا ووعدًا ووعيدًا وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت. هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة. وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم – كما هو الغالب على متكلمهم ومتفلسفهم – كانوا شرًا من منافقي هذه الأمة حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق فهم شر ممن يظهر إيمانًا ويبطن نفاقًا.
والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية؛ فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل؛ لا يلتزمون لله أمرًا ولا نهيًا بحال؛ بل هؤلاء شر من المشركين المستمسكين ببقايا من الملل: كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه وإن كانوا مع ذلك مشركين وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدًى لا أمر عليهم ولا نهي.
فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي بحيث لا يجب عليها شيء ولا يحرم عليها شيء فهؤلاء أكفر أهل الأرض وهم من جنس فرعون وذويه وهم مع هذا لا بد أن يلتزموا بشيء يعيشون به إذ لا يمكن النوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمر ونهي فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته؛ ففرعون هو الذي قال لموسى: {وما رب العالمين} ثم كانت له آلهة يعبدها. كما قال له قومه: {ويذرك وآلهتك}.
ولكن كثير من هؤلاء لا يطلقون السلب العام ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقًا بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم أو حل بعض المحرمات لهم فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناءً عنها بما هو فيه من التوجه والحضور ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه؛ لأن الكعبة تطوف به أو لغير هذا من الحالات الشيطانية. ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي زعمًا منه استغناؤه عن الصيام. ومنهم من يستحل الخمر زعمًا منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة: فتباح لهم دون العامة.
وهذه ” الشبهة ” كانت قد وقعت لبعض الأولين فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك فإن قدامة بن مضعون شربها هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وقال عمر لقدامة: أخطأت استك الحفرة. أما إنك لو اتقيت وأمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر؛ وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب: أن الله سبحانه لما حرم الخمر – وكان تحريمها بعد وقعة أحد – قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟. فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين.
وهذا كما أنه لما صرف القبلة وأمرهم باستقبال الكعبة بعد أن كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس فقال الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس. فبين سبحانه أن من عمل بطاعة الله أثابه الله على ذلك وإن نهى عن ذلك في وقت آخر ومن استحل ما لم يحرمه لم يكن عليه جناح إذا كان من المؤمنين المتقين وإن حرم الله ذلك في وقت آخر. فأما بعد أن حرم الخمر فاستحلالها بمنزلة الصلاة إلى الصخرة بعد تحريم ذلك وبمنزلة التعبد بالسبت واستحلال الزنا وغير ذلك مما استقرت الشريعة على خلاف ما كان وإلا فليس لأحد أن يستمسك من شرع منسوخ بأمر. ومن فعل ذلك كان بمنزلة المستمسك بما نسخ من الشرائع؛ فلهذا اتفق الصحابة على أن من استحل الخمر قتلوه ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة.
فكتب عمر إلى قدامة يقول له: {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} ما أدري أي ذنبيك أعظم استحلالك المحرم أولًا؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيًا؟
وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة: كالفواحش والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك. أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح. فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن أضمر ذلك كان زنديقًا منافقًا لا يستتاب عند أكثر العلماء؛ بل يقتل بلا استتابة إذا ظهر ذلك منه.
ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش: كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن زعمًا منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن وإن كان محرمًا في الشريعة. وكذلك من يستحل ذلك من المردان ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى وقد يستحلون الفاحشة الكبرى كما يستحلها من يقول: إن التلوط مباح بملك اليمين. فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين وهم بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق. ويسبي حريمهم ويغنم أموالهم وغير ذلك من المحرمات التي يعلم أنها من المحرمات تحريمًا ظاهرًا متواترًا.
لكن من الناس من يكون جاهلًا ببعض هذه الأحكام جهلًا يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه؛ أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية.
بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة ثم علم. هل يجب عليه قضاء ما تركه في حال الجهل؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره: أحدهما: لا يجب عليه القضاء وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني: يجب عليه القضاء وهو المشهور عند أصحاب الشافعي
بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجبًا قبل بلوغ الحجة: مثل ترك الصلاة عند عدم الماء يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويحسب أن ذلك هو المراد بالآية كما جرى ذلك لبعض الصحابة أو مس ذكره أو أكل لحم الإبل ولم يتوضأ ثم تبين له وجوب ذلك وأمثال هذه المسائل هل يجب عليه القضاء؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.
وأصل ذلك هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه؟ على ” ثلاثة أقوال ” في مذهب أحمد وغيره. قيل: يثبت مطلقًا وقيل: لا يثبت مطلقًا؛ وقيل: يفرق بين الخطاب الناسخ؛ والخطاب المبتدأ. كأهل القبلة والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية: أن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه؛ فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها مع اتفاقهم على انتفاء الإثم؛ لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان فإذا كان هذا في التأثيم فكيف في التكفير
وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة فلا يعلم كثيرًا مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك ومثل هذا لا يكفر؛ ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول؛ ولهذا جاء في الحديث {يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاةً ولا زكاةً ولا صومًا ولا حجًا إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقول أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله وهم لا يدرون صلاةً ولا زكاةً ولا حجًا. فقال: ولا صوم ينجيهم من النار}.
وقد دل على هذا الأصل ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قال رجل – لم يعجل حسنةً قط – لأهله إذا مات فحرقوه ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين. فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم؛ فغفر الله له} وفي لفظ آخر {أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم أذروني في البحر. فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا. قال: ففعلوا ذلك به. فقال للأرض: أد ما أخذت فإذا هو قائم. فقال له: ما حملك على ما صنعت. قال: خشيتك يا رب. أو قال: مخافتك فغفر له بذلك} وفي طريق آخر {قال الله لكل شيء أخذ منه شيئًا: أد ما أخذت منه}. وقد أخرج البخاري هذه القصة من حديث حذيفة وعقبة بن عمرو أيضًا عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كان رجل فيمن كان قبلكم كان يسيء الظن بعمله. فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ففعلوا فجمعه الله. ثم قال: ما حملك على الذي فعلت؟ فقال: ما حملني إلا مخافتك. فغفر له}. وفي طريق آخر: {أن رجلًا حضره الموت فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أكلت لحمي ووصلت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومًا فذروني في اليم. فجمعه الله فقال: له لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك. فغفر الله له} قال عقبة بن عمرو أنا سمعته – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – يقول ذلك. وكان نباشًا.
فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر. لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلًا بذلك ضالًا في هذا الظن مخطئًا. فغفر الله له ذلك. والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك وأدنى هذا أن يكون شاكًا في المعاد وذلك كفر – إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره – هو بين في عدم إيمانه بالله تعالى ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي بمعنى قضى أو بمعنى ضيق فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد. وقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في الريح في البحر فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا.
فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها وأنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك فلو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له؛ ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب وهو قد جعل تفريقه مغايرًا لأن يقدر الرب. قال: فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. فلا يكون الشرط هو الجزاء؛ ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذابًا كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك: ولأن لفظ ” قدر ” بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة. ومن استشهد على ذلك بقوله: {وقدر في السرد} وقوله: {ومن قدر عليه رزقه} فقد استشهد بما لا يشهد له. فإن اللفظ كان بقوله: {وقدر في السرد} أي اجعل ذلك بقدر ولا تزد ولا تنقص وقوله: {ومن قدر عليه رزقه} أي جعل رزقه قدر ما يغنيه من غير فضل إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش. وأما ” قدر ” بمعنى قدر. أي أراد تقدير الخير والشر فهو لم يقل: إن قدر علي ربي العذاب بل قال: لئن قدر علي ربي والتقدير يتناول النوعين فلا يصح أن يقال؛ لئن قضى الله علي؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره؛ ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فعله مانعًا من ذلك في ظنه.
ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة ليس هذا موضع بسطها فغاية ما في هذا أنه كان رجلًا لم يكن عالمًا بجميع ما يستحقه الله من الصفات وبتفصيل أنه القادر وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك فلا يكون كافرًا.
ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: {ألا أحدثكم عني وعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلنا: بلى قالت: لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعها عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت فأخذ رداءه رويدًا وانتقل رويدًا وفتح الباب رويدًا فخرج ثم أجافه رويدًا فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع. فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت وأسرع فأسرعت فهرول وهرولت وأحضر وأحضرت فسبقته فدخلت فليس إلا أن اضطجعت فقال: ما لك يا عائشة حشيا رابيةً؟ قالت: لا شيء. قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير. قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته. قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم فلهزني في صدري لهزةً أوجعتني. ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله قالت: قلت مهما يكتم الناس يعلمه الله قال: نعم قال: فإن جبريل – عليه السلام – أتاني حين رأيت فناداني – فأخفاه منك فأجبته وأخفيته منك ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك وظننت أنك رقدت وكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي – فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله للاحقون}.
فهذه عائشة أم المؤمنين: سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم نعم وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرةً وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب ولهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع.
فقد تبين أن هذا القول كفر ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشايخها لا يحتاج إلى بسطها. بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت. وأما قول القائل: هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم؟. فيقال: هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقًا بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين؛ لأنهم جميعًا أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت بل لا يصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله وإقرار بأنه إله العالم فإن هذا الإقرار يستلزم أن يكون الإنسان عبدًا لله خاضعًا له ومن سوغ لإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله فقد أنكر أن يكون الله إلهه.
_______
*وقال شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية:*
وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في مسألة التكفير وما فيها من اضطراب الناس في غير هذا الموضع وبينا أن من تأول قوله في هذا الحديث (قدر) بمعنى ضيق أو بمعنى قضى فلم يصب مقصود الحديث
وبينا أن المؤمن الذي لا ريب في إيمانه قد يخطاء في بعض الأمور العلمية الاعتقادية فيغفر له كما يغفر له ما يخطاء فيه من الأمور العملية
وأن حكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حق الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}
وأن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة
وذكرنا حديث حذيفة الذي فيه “يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولان: أدركنا آباءنا وهم يقولون: (لا إله إلا الله) فقيل لحذيفة: ما يغني عنهم قول لا إله إلا الله وهم لايعرفون صلاة ولا زكاة ولا صوما ولا حجا؟ قال: تنجيهم من النار تنجيهم من النار
وذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} دعاء قد استجابه الله كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس ففي صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: “لما أنزلت على رسول الله {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: {سمعنا وعصينا} بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال: نعم {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم”.
وفي صحيح مسلم أيضا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: “لما نزلت هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: قد فعلت {ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال: قد فعلت {وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} {قال: قد فعلت”.
________