مشكل الحديث 30
مجموعة عبدالله البلوشي أبو عيسى
وسيف بن محمد بن دورة الكعبي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3
والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن غدير النعيمي
——–
[ومن كتاب الصلاة]
مشكل الحديث رقم: {30}
كيف التوفيق بين ما جاء عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابنَ أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتُهما، حتى سمعهما رسول الله ? وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجفَ حجرته فنادى: (يا كعب)، قال: لبيك يا رسول الله، قال: (ضع من دينك هذا) وأومأ إليه: أي الشطر، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله ?: (قم فاقضه)
البخاري، كتاب الصلاة، باب التقاضي والملازمة في المسجد، برقم 457.
مع ما جاء من نهي النبي ?-من رفع الأصوات في المساجد، قال ? كما عند الإمام مسلم في صحيحه: “إياكم وهيشات الأسواق” وحديث الدعاء على من نشد ضالة في المسجد. فيقال: لا ردها الله عليك.
ومن يبيع أو يشتري يقال له: لا اربح الله تجارتك
————–
جواب عبدالله البلوشي أبوعيسى:
*المواضع التي ذكر فيها البخاري -رحمه الله- حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه-:*
*أولا: في كتاب الصلاة، باب التقاضي والملازمة في المسجد:*
عَنْ كَعْبٍ، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: يَا كَعْبُ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ: أَيِالشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ.
قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث:
“وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَتَفَاحَشْ وَقَدْ أَفْرَدَ لَهُ الْمُصَنِّفُ بَابًا يَاتِي قَرِيبًا وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ مَنْعُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا وَعَنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ رَفْعِهِ بِاللَّغَطِ وَنَحْوِهِ فَلَا.
وقَالَ الْمُهَلَّبُ لَوْ كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ لَمَا تَرَكَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَبَيَّنَ لَهُمَا ذَلِكَ.
قُلْتُ وَلِمَنْ مَنَعَ أَنْ يَقُولَ لَعَلَّهُ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِهِ وَاقْتَصَرَ عَلَى التَّوَصُّلِ بِالطَّرِيقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى تَرْكِ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ الْمُقْتَضِي لِتَرْكِ الْمُخَاصَمَةِ الْمُوجِبَةِ لِرَفْعِ الصَّوْتِ.” انتهى كلامه
___________________
*ثانيا: في كتاب الصلاة: باب رفع الصوت في المساجد، وأورد فيه أثرا وحديث كعب بن مالك.*
قال ابن حجر -رحمه الله-:
“قَولُهُ بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِلْمِ أَمْ فِي غَيْرِهِ
وَفَرَّقَ غَيْرُهُ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَرَضٍ دِينِيٍّ أَوْ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ وَبَيْنَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ
وَسَاقَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ حَدِيثَ عُمَرَ الدَّالَّ عَلَى الْمَنْعِ وَحَدِيثَ كَعْبٍ الدَّالَّ عَلَى عَدَمِهِ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَنْعَ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَعَدَمِهِ فِيمَا تُلْجِئُ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ فِي بَابِ التَّقَاضِي وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ لَكِنَّهَا ضَعِيفَة أخرج بن مَاجَهْ بَعْضَهَا فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَيْهَا.” انتهى كلامه
(1). قال البخاري -رحمه الله-: عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَاتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا – أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ – قَالاَ: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ البَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن حجر -رحمه الله-:
“قَوْلُهُ لَوْ كُنْتُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ وَفِيهِ الْمَعْذِرَةُ لِأَهْلِ الْجَهْلِ بِالْحُكْمِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَخْفَى مِثْلُهُ.
قَوْلُهُ لَأَوْجَعْتُكُمَا زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ جَلْدًا وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَتَبَيَّنُ كَوْنُ هَذَا الْحَدِيثِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَتَوَعَّدُهُمَا بِالْجَلْدِ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرٍ تَوْقِيفِيٍّ.
قَوْلُهُ تَرْفَعَانِ هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ لِمَ تُوجِعُنَا قَالَ لِأَنَّكُمَا تَرْفَعَانِ وَفِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِرَفْعِكُمَا أَصْوَاتَكُمَا.” انتهى كلامه
قال ابن رجب -رحمه الله- في شرح الأثر:
“الأصوات في المسجد على وجهين:
أحدهما: أن يكون بذكر الله وقراءة القرآن والمواعظ وتعليم العلم وتعليمه، فما كان من ذلك لحاجة عموم أهل المسجد إليه، مثل الأذان والإقامة وقراءة الإمام في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فهذا كله حسن مأمور به.
وقد كان النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا خطب علا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول: ((صبحكم ومساكم))، وكان إذا قرأ في الصلاة بالناس تسمع قراءته خارج المسجد، وكان بلال يؤذن بين يديه ويقيم في يوم الجمعة في المسجد.
وقد كره بعض علماء المالكية في مسجد المدينة خاصة لمن بعد النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يزيد في رفع صوته في الخطب والمواعظ على حاجة إسماع الحاضرين، تأدبا مع النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حاضر يسمع ذلك، فيلزم التأدب معه، كما لو كان حيا.
وما لا حاجة إلى الجهر فيه، فإن كان فيه أذى لغيره ممن يشتغل بالطاعات كمن يصلي لنفسه ويجهر بقراءته، حتى يغلط من يقرأ إلى جانبه أن يصلي، فإنه منهي عنه.
وقد خرج النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ليلة على أصحابه وهم يصلون في المسجد ويجهرون بالقراءة، فقال: ((كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)).
وفي رواية: ((فلا يؤذ بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)).
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد.
وكذلك رفع الصوت بالعلم زائدا على الحاجة مكروه عند أكثر العلماء، وقد سبق ذكره مستوفى في أوائل ((كتاب: العلم)) في باب رفع الصوت بالعلم.
الوجه الثاني: رفع الصوت بالاختصام ونحوه من أمور الدنيا، فهذا هو الذي نهى عنه عمر وغيره من الصحابة.
ويشبه: إنشاد الضالة في المسجد، وفي صحيح مسلم، عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كراهته والزجر عنه، من رواية أبي هريرة وبريدة.
وأشد منه كراهة: رفع الصوت بالخصام بالباطل في أمور الدين؛ فإن الله ذم الجدال في الله بغير علم، والجدال بالباطل، فإذا وقع ذلك في المسجد ورفعت الأصوات به تضاعف قبحه وتحريمه.
وقد كره مالك رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره.
ورخص أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك في رفع الصوت في المسجد بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس؛ لأنه مجمعهم ولا بد لهم منه.
وهذا مبني على جواز القضاء في المساجد.” انتهى كلامه
……………………
(2). قال البخاري: حدثنا … [وذكر حديث كعب بن مالك].
قال ابن رجب -رحمه الله- في شرح الحديث:
“ويستدل بهذا الحديث من يجيز رفع الأصوات بالخصومات في المساجد عند الحكام وغيرهم؛ فإن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم ينكر ذلك عليهما، إنما أصلح بينهما، وأمر صاحب الحق بأن يضع شيئا منه، ثم أمر المدين بالقضاء لما بقي عليه، وهذا إصلاح.
ومن كره ذلك أجاب: بأن ما وقع من النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هو قطع لما وقع بينهما من التشاجر، ورفع الأصوات في المسجد، فهو في معنى الإنكار؛ لأن المقصود من الإنكار إزالة ما ينكر، وقد حصل بذلك لا سيما والنبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إنما خرج من بيته لسماع أصواتهما المرتفعة، فدل على أنه قصد إزالة ذلك، ومنعهما منه، فأزال ذلك وأزال المشاجرة بينهما، وأصلح ذات بينهما، وأمر كل واحد منهما بالإحسان إلى صاحبه برفق ورأفة من غير عنف.
ولعل هذين كانا غير عالمين بكراهة رفع الصوت في المسجد، فلهذا أزال ما وقع منهما من المكروه برفق ورأفة – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تسليما كثيرا.” انتهى كلامه
___________________
*ثالثا: في كتاب الصلح: باب: هل يشير الإمام بالصلح، وأورد فيه حديثين:*
(1). سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ المُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ، لاَ يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ.
(2). حديث كعب بن مالك.
قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح ضمن شرح الحديث الأول:
وَفِيهِ الصَّفْحُ عَمَّا يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ مِنَ اللَّغَطِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ.
__________________
*رابعا: كتاب الصلح، باب الدين والعين: وأورد فيه حديث كعب*
=========================
*بعض أقوال العلماء في أحكام رفع الأصوات في المساجد*
سئل الشيخ عبدالمحسن العباد -حفظه الله- في شرح حديث كعب بن مالك من سنن أبي داود:
في الحديث أنه ارتفعت الأصوات ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ذلك، فهل في هذا دليل على أن رفع الصوت للحاجة في المسجد جائز؟
نعم يدل على أن رفع الصوت للحاجة سائغ، لكن كونه يترك وتغض الأصوات في المسجد لا شك أن هذا هو الذي ينبغي.
وسئل في موضع آخر:
ما حكم التجمع في داخل المسجد من بعض الطلبة بحيث يكثر الكلام وترتفع الأصوات ويحدثون ضجة داخل المسجد؟
رفع الأصوات وحصول اللغط في المساجد غير سائغ، ينبغي أن تصان عنه المساجد، وإنما تكون لقراءة القرآن وللذكر والدعاء ولتعلم العلم النافع، هذا هو الذي يكون في المساجد، والضجة قد تصلح في الأسواق، ولا يليق بالإنسان أن يحصل منه شيء لا يليق في المساجد، مثل رفع الأصوات، ومثل اللغط، ومثل التشويش على المصلين أو القارئين، أو الذاكرين.
قال صاحب تحفة الأحوذي شرح الترمذي: “وَقَدْ نَصَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا يَعْنِي الْعُلَمَاءَ الْحَنَفِيَّةَ بِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ بِالذِّكْرِ حَرَامٌ”.
قال المناوي في فيض القدير: “أوصى الله نبيه به صلى الله عليه وسلم في قوله {واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهاق مبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبط عن رفع الصوت والترغيب عنه وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان ذكره الزمخشري وإذا كره من الرجال فمن النساء أولى”.
ورجح الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في شرح رياض الصالحين أن إنكار عمر -رضي الله عنه- رفع الصوت في المسجد النبوي، يشمل جميع المساجد، لأن هذا الاحترام احترام للمسجد من حيث هو مسجد، وليس خاصا بالمسجد النبوي.
=======================
*الخلاصة:*
(1). المساجد بيوت الله وإنما بنيت لذكر الله وإقامة الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك، وينبغي أن تصان وتنزه عن الأمور التي تشوش على المصلين والذاكرين، ومن ذلك رفع الأصوات بغير حاجة.
(2). رفع الصوت تنفر منه النفوس والطباع السليمة، لغير حاجة كخطبة أو نحوها.
(3). رفع الصوت في المساجد مخالف للهدي النبوي، وأما من استدل بحديث كعب بن مالك على جوازه بدعوى عدم إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أجاب عنه ابن رجب بقوله: ” ما وقع من النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هو قطع لما وقع بينهما من التشاجر، ورفع الأصوات في المسجد، فهو في معنى الإنكار؛ لأن المقصود من الإنكار إزالة ما ينكر، وقد حصل بذلك لا سيما والنبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إنما خرج من بيته لسماع أصواتهما المرتفعة، فدل على أنه قصد إزالة ذلك، ومنعهما منه، فأزال ذلك وأزال المشاجرة بينهما، وأصلح ذات بينهما، وأمر كل واحد منهما بالإحسان إلى صاحبه برفق ورأفة من غير عنف.”
(4). إن سلمنا أن رفع الصوت في المساجد يحمل على الكراهة لا التحريم، فينبغي الإنكار على فاعله اقتداء بفعل خليفة المسلمين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (لكن بالرفق).
=====
جواب سيف بن محمد بن دورة الكعبي سيف الكعبي:
=====
وهذا بحث من شبكة سحاب مع بعض الإضافات والاختصار:
حكم الكلام في المسجد
قال ابن حزم في المحلّى/3:
(498 – مسألة: والتّحدّث في المسجد بما لاأثم فيه من أمور الدّنيا، مُباح، وذكر الله تعالى أفضل، وإنشاد الشّعر فيه مُباح، والتّعلّم للصّبيان وغيرهم مُباح … إلى آخر كلامه.
وساق عدداً من الأحاديث منها:
1) حديث كعب ابن مالك عن أبيه ; أنّه تقاضى ابن أبي الحدرد ديناً …. وسبق الحديث
2) عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ عُمر مرّ بحسّان- رضي الله عنهما- وهو ينشد الشّعر في المسجد فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم ألتفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (أجب عني، الّلهمّ أيّده بروح القدس قال: الّلهمّ نعم) [مسلم 7/ 162 – 163وأبو داود2/ 316 والنّسائي ح296 وغيرهم وانظر الصّحيحة 933 و 1954].
وذكر الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله ابن باز – رحمه الله – حول معنى حديث المطالبة بالدين: ((وهذا فيه جواز طلب قضاء الدين في المسجد، كأن يقول: أعطني ديني، وهذا ليس كالبيع، [أو] يقول: اقضني ديني جزاك الله خيراً))
وذكر النّووي في المجموع شرح المهذّب مسائل حول المسجد منها:
(المسألة الحادية عشرة (2/ 175):تكره الخصومة في المسجد ورفع الصّوت قيه ونشد الضّالّة وكذا البيع والشّراء والإجارة وغيرها من العقود …
وساق عدداً من الأحاديث منها: عن السّائب بن يزيد قال: (كنت في المسجد فحَصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بهذين الرّجلين …. ) [البخاري /كتاب الصّلاة، باب رفع الصّوت في المساجد]. وسبق ذكره
وذكر في المسألة الخامسة عشر (2/ 177): يستحب عقد حلق العلم في المساجد وذكر المواعظ والرّقائق ونحوهما والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة.
ثم ذكر فرع عن هذه المسألة: يجوز التّحدّث بالحديث المباح في المسجد وبأمور الدّنيا وغيرها من المباحات وإن حصل فيه ضحك ونحوه مادام مباحاً لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلّى عليه وسلّم لا يقوم من مصلاه الّذي صلّى فيه حتّى تطلع الشّمس فإذا طلعت قام. قال وكانوا يتحدّثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسّم. أخرجه مسلم.
قلت سيف:
ولفظ أحمد: ((شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد، وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم معهم) أحمد بلفظه 5/ 91، والترمذي بنحوه، في كتاب الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر، برقم 2850، وقال: ((حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني
قال النووي – رحمه الله -: ((فيه جواز الضحك والتبسّم)).وقال القرطبي -رحمه الله-: ((يمكن أن يقال: إنهم في ذلك الوقت كانوا يتكلمون؛ لأن الكلام فيه جائز غير ممنوع، إذ لم يرد في ذلك منع، وغاية ما هنالك أن الإقبال في ذلك الوقت على ذكر الله تعالى أفضل وأولى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الكلام مطلوب الترك في ذلك الوقت، والله تعالى أعلم)).قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -: ((وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في المسجد فحسن، وأما المحرَّم فهو في المسجد أشد تحريماً، وكذلك المكروه، ويكره فيه فضول المباح)).مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، 22/ 200، 262. انتهى كلامي
قال القرطبي (التّفسير12/ 267و287) في تفسير قوله تعالى:”في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال” (النّور:36) (المسألة الرابعة: وممّا تُصان منه المساجد وتنزّه عنه، الرّوائح الكريهة والأقوال السّيّئة.
وذكر من ضمن هذه المسألة: (قال أبو عمر ابن عبد البرّ: وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام –رحمه الله- أفتى في رجل شكاه جيرانه واتّفقوا عليه أنّه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده فشووِر فيه؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وألّا يشهد معهم الصّلاة؛ إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السّلامة منه؛ فذاكرته يوماً أمره وطالبته بالدّليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته فيه القول؛ فاستدلّ بحديث الثّوم، وقال: هو عندي أكثر أذى من آكل الثّوم وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد …
وذكر في المسألة السّادسة: وتُصان المساجد أيضاً عن البيع والشِّراء وجميع الاشتغال، لقوله صلّى الله عليه وسلّم للرّجل الّذي دعا إلى الجمل الأحمر: (لا وجدت إنّما بنيت المساجد لما بنيت له) [أخرجه مسلم (كتاب المساجد /باب النهي عن نشد الضّآلّة في المسجد) من حديث بريدة] ….
ثم قال: وهذا يدلّ على أنّ لا يعمل في المسجد غير الصّلوات والأذكار وقراءة القرآن.
وكذا جاء مفسّراً من حديث أنس قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ جاء أعرابيّ فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مَه مَه؛ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: (لاتزرموه دعوه) فتركوه حتّى بال، ثمّ انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعاه فقال له: إنّ هذه المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القذر إنّما هي لذكر الله والصّلاة وقراءة القرآن) أو كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. [أخرجه مسلم كتاب الطّهارة/باب وجوب غسل البول وغيره من النّجاسات].
وممّا يدلّ على هذا من الكتاب قوله الحقّ:”ويذكر فيها اسمه” …
كما ذكر في المسألة السّابعة (12/ 271): … أمّا تناشد الأشعار فاختلف في ذلك، فمن مانع مطلقاً، ومن مجيز مطلقاً، والأولى التّفصيل، وهو أن ينظر الى الشّعر فإن كان ممّا يقتضي الثّناء على الله عزّ وجلّ أو على رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو الذّبّ عنهما كما كان شعر حسّان، أو يتضمّن الحضّ على الخير والوعظ والزّهد في الدّنيا والتّقلّل منها، فهو حسن في المساجد وغيرها
وما لم يكن كذلك لم يجز؛ لأنّ الشّعر في الغالب لايخلو عن الفواحش والكذب والتّزيّن بالباطل … والمساجد منزّهة من ذلك؛
روى الدّارقطني حديث عائشة قالت: ذكر الشّعر عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (هو كلامٌ حسنه حسن وقبيحه قبيح) [هذا الحديث رواه أبو يعلى وفيه عبدالرّحمن بن ثابت بن ثوبان وهو صدوق يخطئ فإسناد الحديث حسن أمّا رواية الدّارقطني فهي ضعيفة الإسناد ورواه عبدالله بن عمرو مرفوعاً (انظر الصّحيحة 447)].
جاء في ” فتح الباري ” لابن رجب (3/ 334) ” وقال ابن عبد البر: إنما يُنشد الشعر في المسجد غِبّاً؛ من غير مداومة ” انتهى، ومعنى (غبًّا) أي: مرة بعد أخرى بلا مداومة.
ويتأكد النهي إذا كانت الأشعار من الموضوعات التي يهيم فيها الشعراء من غزل ومدح وهجاء.
وأما إنشاد الشعر المباح فيه: فلا بأس به.
قال ابن رجب في ” فتح الباري ” (3/ 335): ” وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد ” انتهى.
وإذا كان الشعر محتوياً على المعاني العالية، كالدفاع عن الإسلام وتبيين فضائله والدعوة إليه , وكذا المتون العلمية ونحوها: فذلك مشروع.
قال حسان بن ثابت شاعر الرسول لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لما نهاه عن إنشاد الشعر في المسجد: ” كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ (أي: المسجد)، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ (يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم) ” رواه البخاري (3212).
قال النووي في ” المجموع ” (2/ 177) ” لَا بَاسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ مَدْحًا لِلنُّبُوَّةِ أَوْ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَ حِكْمَةً، أَوْ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَوْ الزُّهْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ من أنواع الخير: فأما ما فيه شيء مَذْمُومٌ، كَهَجْوِ مُسْلِمٍ أَوْ صِفَةِ الْخَمْرِ أَوْ ذِكْرِ النِّسَاءِ أَوْ الْمُرْدِ أَوْ مَدْحِ ظَالِمٍ أَوْ افْتِخَارٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: فَحَرَامٌ ” انتهى.
قال القرطبي المسألة الثّامنة: وأمّا رفع الصّوت فإن كان ممّا يقتضي مصلحة للرّافع صوته دعي عليه بنقيض قصده؛ لحديث بريدة المتقدّم؛ وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (من سمع رجلا ً ينشد ضالّة في المسجد فليقل: لاأدّاها الله إليك؛ فإنّ المساجد لم تبنَ لهذا … ) [أخرجه مسلم كناب المساجد/باب النّهي عن نشد الضّالّة وما يقوله من سمع النّاشد، وأخرجه أبوداود وابن ماجه وهو صحيح؛ انظر صحيح الجامع 6302].انتهى كلام القرطبي بتصرّف.
فإن سأل عن الشيء دون رفع صوت , كأن يسأل من حوله أو يسأل الإمام بصوت منخفض: فلا بأس بذلك.
قال الباجي في ” المنتقى شرح الموطأ ” (1/ 312): ” قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَنْشُدُ الضَّالَّةَ فِي الْمَسْجِدِ: لَا يَقُومُ رَافِعًا صَوْتَهُ، وَأَمَّا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ جُلَسَاءَهُ، غَيْرَ رَافِعٍ لِصَوْتِهِ: فَلَا بَاسَ بِذَلِكَ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مَمْنُوعٌ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَمَّا سُؤَالُهُ جَلِيسَهُ فَمِنْ جِنْسِ الْمُحَادِثَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ، مَا لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ اللَّغَط مِنْ الْإِكْثَارِ ” انتهى.
ينظر جواب السؤال رقم: (138263).
ومثل ذلك:: النهي عن رفع الصوت بتعريف الضالة، كأن يجد رجل شيئا في المسجد، فيرفع صوته: إني وجدت كذا، أو: من ضاع منه كذا؟
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: ” إِذَا وَجَدْتَ لُقَطَةً فَعَرِّفْهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْتَرِفُهَا , وَإِلَّا فَشَانُكَ بِهَا ” رواه عبد الرزاق (18620).
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله: ” يُعَرِّفُ اللُّقَطَةَ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: لَا أُحِبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ أَنْ تُعَرَّفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ مَشَى هَذَا الَّذِي وَجَدَهَا إلَى الْحِلَقِ فِي الْمَسْجِدِ، يُخْبِرُهُمْ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ: لَمْ أَرَ بِهِ بَاسًا ” انتهى من ” التاج والإكليل ” (8/ 42).
فالمساجد منزّهة عن مشابهة الأسواق والمقاهي فعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى عليه وسلّم: (لًيٍِلِني منكم أولو الأحلام والنًّهى ثمّ الذّين يلونهم –ثلاثاً-وإيّاكم وهيشات الأسواق) [أخرجه مسلم كتاب الصلاة/باب تسوية الصّفوف وإقامتها؛ وأخرجه التّرمذي ح228؛وأبوداود ح674 وصحّحه الألباني].
ومعنى وإيّاكم وهيشات الأسواق ذكره النّووي في شرحه للحديث: (أي اختلاطها، والمنازعة، والخصومات وإرتفاع الأصوات، والفتن الّتي فيها).
وهذا مدخلٌ من مداخل الشّيطان، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إنّ الشّيطان قد أيسَ أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب ولكن في التّحريش بينهم) [أخرجه مسلم 8/ 138، والتّرمذي 3/ 127، وأحمد 3/ 313، وأبو يعلى 2/ 609 وهو صحيح (الصّحيحة:1608)].
فالشّيطان يحرّش بين المصلّين بالخصومات والشّحناء والحروب والإغراء بين النّاس بأنواع المعاصي والفتن وغيرها.
وجاءت أحاديث في الّنهي عن التّشويش على المصلّي: منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قبّةٍ له، فكشف الستور وقال: (ألا إنّ كلّكم مناج ربّه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولايرفعنّ بعضكم على بعض في القراءة. أو قال: في الصلاة) [أخرجه أبوداود وهو صحيح الإسناد-انظر الصّحيحة 1597 و1603].
قال القاسمي: (وقرأت في حواشي متن الشّيخ خليل “: أنّ من رفع صوته بالقراءة في المسجد، يُقام، ويخرج منه إذا داوم على ذلك، وإلاّ فيؤمر بالسّكوت، أو القراءة سرّاً). (إصلاح المساجد).
فإذا كان النّهي عن الجهر بالقراءة وهو ذكرُ فالنّهي عن رفع الصّوت أثناء الكلام من باب أولى.
أمّا مايفعله بعض النّاس من الجلوس جماعة في المسجد للحديث في أمر الدّنيا، وما جرى لفلانٍ، وما جرى على فلانٍ. فنسوق إليهم هذا الحديث: عن ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (سيكون في آخر الزّمان، قومُ يجلسون في المساجد حِلقاً حِلقاً، إمامهم الدّنيا، فلاتجالسوهم، فإنّه ليس لله فيهم حاجة) [أخرجه ابن حبّان والطّبراني وإسناده حسن انظر الصّحيحة1163].
قال عمر رضي الله عنه: (المصلّون أحق ّ بالسّواري من المتحدّثين إليها) [أورده البخاري في صحيحه بصيغة الجزم (الفتح1/ 577) ووصله في التأريخ (1/ 255) وأورده ابن أبي شيبة في مصنّفه (2/ 271)].
مسألة: حكم الكلام المحرم في المسجد:
لا خلاف بين أهل العلم في تحريم الغيبة، والنميمة، والكلام البذيء في داخل المسجد، ويزداد التحريم إذا كان هناك رفع للصوت وتشويش على المتعبدين، ويستدل لذلك بما يلي:
1 – قال تعالى: ” في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه … ” [آية 36 من سورة النور].
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره (6/ 62) [أي أمر لله – تعالى – برفعها، أي: بتطهيرها من الدنس، واللغو، والأفعال، والأقوال التي لا تليق فيها، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة: ” في بيوت أذن الله أن ترفع ” قال: نهى الله – سبحانه – عن اللغو فيها، وكذا قال عكرمة، وأبو صالح، والضحاك، ونافع بن جبير، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وسفيان بن حسين، وغيرهم من علماء التفسير].
ونقل البغوي – رحمه الله – في تفسيره (6/ 50) عن الحسن، قولَه: أي تعظَّم، انتهى قال البغوي أي: لا يذكر فيه الخنا من القول.
2 – عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بنى رحبةً في ناحية المسجد، تسمى: (البطيحاء)، وقال: من كان يريد أن يَلْغَطَ، أو ينشد شعراً، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة – أخرجه مالك بلاغاً (1/ 175)، ووصله البيهقي في سننه (10/ 103) من طريق الإمام مالك، قال الألباني – رحمه الله – في تعليقه على إصلاح المساجد (112): رجاله ثقات، ولكنه منقطع بين سالم، وجده عمر. ا هـ.
قلت سيف: ونقول خبر تاريخي وبناء قائم ومثل ذلك يشتهر أن عمر بناه
فيتساهل بالإرسال خاصه أن عمر بن الخطاب جد لسالم مع ما اتصف به سالم من ملازمة أبيه عبدالله بن عمر
لكن هل قال عمر: أنه لمن أراد اللغط والشعر.
يعني نتجاوز عن الإرسال في هذه الجملة.
يحتمل ذلك احتمال كبير لأن عمر كان ينكر على حسان الشعر في المسجد. وأنكر على رجلين من أهل الطائف رفعا اصواتهما. وقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا.
يشهد له:
ما ذكره صاحب تاريخ المدينة: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ نَادَى فِي الْمَسْجِدِ: إِيَّاكُمْ وَاللَّغَطَ، وَيَقُولُ: ارْتَفِعُوا فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ.
أسامة بن زيد، صدوق يهم
وجه الاستدلال: أن عمر – رضي الله عنه – أمر من أراد أن يلغط، بالخروج من المسجد، وما ذاك إلا لعلمه – رضي الله عنه – بالنهي عن ذلك.
قال الباجي في المنتقى (1/ 312): [ولما رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كثرة جلوس الناس في المسجد، وتحدثهم فيه، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط، وهو: المختلط من القول، وارتفاع الأصوات، وربما جرى أثناء ذلك إنشاد شعر، بنى هذه البطيحاء إلى جانب المسجد، وجعلها كذلك، ليتخلَّص المسجد لذكر الله – تعالى – وما يحسن من القول، و يتنزَّهَ من اللغط، وإنشاد الشعر، ورفع الصوت فيه، وإنما ذلك على معنى، تنزيه المساجد، لا سيما مسجدُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فيجب له من التعظيم، والتنزيه ما لا يجب لغيره].
3 – قياس الأولى: فإذا كانت مثل هذه الأشياء منهيٌ عنها خارج المسجد، ففيه أولى، وذلك لحرمة المكان.
– قياس الكلام المحرَّم على أكل البصل، والثوم، والكراث، قال القرطبي: [قال العلماء: وإذا كانت العلَّة في إخراجه من المسجد أنَّه يُتَأَذَّى به، ففي القياس: أنَّ كلَّ من تأذى به جيرانه في المسجد، بأن يكون ذَرِبَ اللسان سفيهاً عليهم … وكلُّ مايتأذى به الناس كان لهم إخراجه، ماكانت العلة موجودةً فيه حتى تزول].
وقال أيضاً: [قال أبو عمر بن عبد البر: وقد شاهدتُ شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام – رحمه الله – أفتى في رجلٍ شكاه جيرانه، واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه، ويده، فَشُوُوِرَ فيه؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وألا يشهد معهم الصلاة! إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه.
فذاكرته يوماً أمره، وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك، وراجعته فيه القول، فاستدل بحديث الثوم، وقال: هو عندي أكثرُ أذىً من أكل الثوم، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد].
رفع الصوت بالذكر بعد الفروغ من الصلاة
استدل من قال برفع الصوت بعد الصلاة بحديث ابن عباس، فما هو وما معناه؟؟
1. أما الحديث: فهو:
عن ابن جريج قال أخبرني عمرو أن أبا معبد مولى ابن عباس أخبره أن ابن عباس رضي الله عنهما أخبره أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته.
رواه البخاري (805) ومسلم (583).
وفي رواية:
عن ابن عباس قال: كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير.
رواه البخاري (806) ومسلم (583).
أخذ بعض الأئمة بظاهر الحديث، فقالوا: يستحب رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، ومنهم ابن حزم، فقال:
ورفع الصوت بالتكبير إثر كل صلاة حسن.
” المحلى ” (4/ 260).
ومنهم الطبري، فقال:
فيه الإبانه عن صحة ما كان يفعله الأمراء من التكبير عقب الصلاة.
بواسطة: ” فتح الباري ” (2/ 325).
وخالف جمهور أهل العلم في هذا، وقول الجمهور هو الصواب، وقد ردوا على أولئك الأئمة الذين قالوا بجواز أو استحباب الجهر بالذكر.
قلت: وفي موضع آخر نقل الأئمة عن الطبري كراهة رفع الصوت في الذكر والدعاء.
فعند حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ” كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس اربَعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه معكم إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده “.
رواه البخاري (2830) ومسلم (2704).
قال الحافظ ابن حجر:
قال الطبري فيه كراهية رفع الصوت بالدعاء والذكر وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعين انتهى.
” قال الشافعي:
وأختار للإمام والمأموم أن يذكر الله بعد الانصراف من الصلاة، ويخفيان الذكر إلا أن يكون إماماً يجب أن يُتعلم منه فيجهر حتى يرى أنه قد تُعلم منه، ثم يسر؛ فإن الله عز وجل يقول {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} يعنى – والله تعالى أعلم -: الدعاء، {ولا تجهر} ترفع، {ولا تخافت} حتى لا تُسمع نفسك.
وأحسب ما روى ابن الزبير من تهليل النبي صلى الله عليه وسلم، وما روى ابن عباس من تكبيره كما رويناه – قال الشافعي: –
وأحسبه إنما جهر قليلاً ليتعلم الناس منه؛ وذلك لأن عامة الروايات التي كتبناها مع هذا وغيرها ليس يذكر فيها بعد التسليم تهليل، ولا تكبير.
وقد يذكر أنه ذكر بعد الصلاة بما وصفت ويذكر انصرافه بلا ذكر.
وذكرتْ أم سلمة مكثه ولم تذكر جهراً، وأحسبه لم يمكث إلا ليذكر ذكراً غير جهر.
فإن قال قائل: ومثل ماذا؟
قلت: مثل أنه صلى على المنبر، يكون قيامه وركوعه عليه وتقهقر حتى يسجد على الأرض وأكثر عمره لم يصلِّ عليه، ولكنه – فيما أرى – أحبَّ أن يُعلم مَن لم يكن يراه ممن بَعُد عنه كيف القيام والركوع والرفع يعلمهم أن في ذلك كله سعة.
وأستحب أن يذكر الإمامُ اللهَ شيئاً في مجلسه قدر ما يتقدم مَن انصرف مِن النساء قليلاً كما قالت أم سلمة، ثم يقوم.
وإن قام قبل ذلك أو جلس أطول من ذلك فلا شيء عليه.
” الأم ” (1/ 127).
وقد أيد الأئمة قول الشافعي، ومنهم الحافظين النووي وابن حجر، والشاطبي وغيرهم.
انظر ” الفتح ” – المواضع السابقة -، ” شرح مسلم ” (5/ 84).
قال الشاطبي:
إن الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن مِن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم يكن قوله ولا إقراره.
وروى البخاري من حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يمكث إذا سلَّم يسيراً.
قال ابن شهاب: حتى ينصرف النساء فيما نرى.
وفي مسلم: عن عائشة رضي الله عنها: كان إذا سلَّم لم يقعد إلا بمقدار ما يقول:
” اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام “.
” الاعتصام ” (1/ 351).
قال الشيخ جمال الدين القاسمي:
في بعض المساجد إذا سلَّم الإمام مِن فريضة العصر: يزعق المؤذن بالتأمين ودعاءٍ بعده، وفي بعضها متى سلَّم الإمام منها: أخذ المقتدون في الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة الكمالية، وفي ذلك مخالفة، إذ السنة الاشتغال عقب الفريضة بالأوراد المأثورة بعدها سرّاً، كل مصلٍّ لنفسه.
وكذلك مِن أدب الدعاء خفض الصوت فيه، قال تعالى {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية}، وهؤلاء أعرضوا عن التضرع والخفية بالعياط والزعقات .. .
” إصلاح المساجد ” (ص 154).
قلت: والصلاة الكمالية صلاة مبتدعة، وفيها ألفاظ غير شرعية، مثل ” عدد كمال الله “.
وقال الشيخ علي محفوظ:
من البدع المكروهة ختم الصلاة على الهيئة المعروفة مِن رفع الصوت به، وفي المسجد، والاجتماع له، والمواظبة له، حتى اعتقد العامة أنه مِن تمام الصلاة، وأنه سنة لا بدَّ منها، مع أنه مستحب انفراداً سرّاً.
فهذه الهيئة محدثة، لم تُعهد عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ولا عن الصحابة، وقد اتخذها الناس شعاراً للصلوات المفروضة عقب الجماعة … .
وكيف يجوز رفع الصوت به والله تعالى يقول في كتابه الحكيم {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين}، فالإسرار أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء قال تعالى عن زكريا (إذ نادى ربه نداء خفيا). …
” الإبداع في مضار الابتداع ” (ص 283).
ومما يستدل به على رد القول بالجهر بالذكر في الصلاة: أن الشرع نهانا عن أن يجهر بعضنا على بعض لئلا يحصل تشويش على المصلي أو القاراء، ولا يخلو مسجد – الآن – ممن يتأخر عن الصلاة، وفي الجهر بالذكر: تشويش عليهم.
عن أبي حازم التمار عن البياضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن.
رواه أحمد (18543) ومالك (178).
وأحمد (5326) من حديث ابن عمر
و ذكر شيخ الإسلام رحمه الله فوائد عظيمة في إخفاء الذكر، أحببنا أن نختم به جواب السؤال هذا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
والسنَّةُ في الدعاء كله المخافتة، قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف/55]، وقال تعالى عن زكريا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم/3].
بل السنَّةُ في الذكر كله ذلك كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف/205] وفي الصحيحين أنَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفرٍ فجعلوا يرفعون أصواتهم فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّها النَّاسُ أربعوا على أنفسكم فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً وإنما تدعون سميعاً قريباً إنَّ الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته … )) [22/ 468 – 469].
فوائد إخفاء الدعاء
قال – رحمه الله -: إذا عرف هذا: فقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} يتناول نوعي الدعاء: لكنَّه ظاهرٌ في دعاء المسألة متضمِّنٌ دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه وإسراره. قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت أي: ما كانت إلا همساً بينهم وبين ربهم عز وجل وذلك أنَّ الله عز وجل يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وأنه ذكر عبداً صالحاً ورضي بفعله فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
أحدها: أنَّه أعظم إيماناً؛ لأنَّ صاحبَه يعلم أنَّ الله يسمع الدعاء الخفي.
وثانيها: أنَّه أعظم في الأدب والتعظيم لأنَّ الملوك لا تُرفع الأصوات عندهم ومن رفع صوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
وثالثها: أنَّه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبُّه ومقصوده فإنَّ الخاشعَ الذليلَ إنما يسال مسألةَ مسكينٍ ذليلٍ، قد انكسر قلبُه وذلَّت جوارحُه وخشع صوتُه؛ حتى إنَّه ليكاد تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أنْ ينكسر لسانُه فلا يطاوعه بالنطق وقلبه يسأل طالباً مبتهلاً. ولسانه لشدة ذلته ساكتاً وهذه الحال لا تأتي مع رفع الصوت بالدعاء أصلاً.
ورابعها: أنَّه أبلغ في الإخلاص.
وخامسها: أنَّه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء فإنَّ رفعَ الصوت يفرقه فكلَّما خفض صوته كان أبلغَ في تجريد همَّته وقصده للمدعو سبحانه.
وسادسها – وهو من النكت البديعة جداً -: أنَّه دالٌّ على قربِ صاحبه للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} فلمَّا استحضر القلبُ قربَ الله عز وجل، وأنَّه أقرب إليه من كلِّ قريبٍ أخفى دعاءه ما أمكنه.
وقد أشار النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المعنى بقوله في الحديث الصحيح: لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: ((أربِعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ} [البقرة/186] وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قرباً عامّاً مِن كلِّ أحدٍ فهو قريبٌ من داعيه وقريبٌ من عابديه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} فيه الإرشاد والإعلام بهذا القرب.
وسابعها: أنَّه أدعى إلى دوامِ الطلب والسؤال فإنَّ اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنَّه قد يمل اللسان وتضعف قواه وهذا نظير من يقرأ ويكرر فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له بخلاف من خفض صوته.
وثامنها: أنَّ إخفاءَ الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات؛ فإنَّ الداعي إذا أخفى دعاءَه لم يدرِ به أحدٌ فلا يحصل على هذا تشويشٌ ولا غيرُه وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولا بد ومانَعَتْه وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفرغ عليه همته فيضعف أثر الدعاء ومن له تجربةٌ يعرف هذا فإذا أسرَّ الدعاء أَمِن هذه المفسدة.
وتاسعها: أنَّ أعظم النعمة الإقبال والتعبد ولكلِّ نعمةٍ حاسدٌ على قدرها دقَّت أو جلَّت ولا نعمةٌ أعظم من هذه النعمة فإنَّ أنفُسَ الحاسدين متعلقةٌ بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد. وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} الآية [يوسف/5]. وكم من صاحبِ قلبٍ وجمعيَّةٍ وحالٍ مع الله تعالى قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار؛ ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السرِّ مع الله تعالى ولا يطلع عليه أحدٌ. والقوم أعمُّ شيئاً كتماناً لأحوالهم مع الله عز وجل وما وهب الله من محبته والأُنس به وجمعية القلب ولا سيما فعله للمهتدي السالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه -بحيث لا يخشى عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حاله مع الله تعالى ليقتدى به ويؤتم به – لم يبال وهذا بابٌ عظيمُ النَّفع إنما يعرفه أهله.
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله تعالى فهو من عظيمِ الكنوز التي هي أحقُّ بالإخفاء عن أعين الحاسدين وهذه فائدةٌ شريفةٌ نافعةٌ.
وعاشرها: أنَّ الدعاء هو ذكرٌ للمدعو سبحانه وتعالى متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه فهو ذكرٌ وزيادةٌ كما أنَّ الذكرَ سُمِّيَ دعاءً لتضمنه للطلب كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الدعاء الحمد لله)) فسمَّى الحمدَ لله دعاءً وهو ثناءٌ محضٌ، لأنَّ الحمدَ متضمِّنٌ الحبَّ والثناء. والحبُّ أعلى أنواع الطلب فالحامد طالبٌ للمحبوب فهو أحقُّ أنْ يسمَّى داعياً من السائل الطالب، فنفس الحمد والثناء متضمِّن لأعظم الطلب فهو دعاءٌ حقيقةً بل أحقُّ أنْ يسمَّى دعاءً من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه.
والمقصود أنَّ كلَّ واحدٍ من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} فأمر تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنْ يذكره في نفسه، قال مجاهد وابن جريج: أُمروا أنْ يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح وتأمَّل كيف قال في آية الذكر: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ {الآية. وفي آية الدعاء {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والإنكسار وهو روح الذكر والدعاء.
” مجموع الفتاوى ” (15/ 15 – 19).
قلت: عن عائشة: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} أنزلت في الدعاء.
رواه البخاري (5968) ومسلم (447).
والله أعلم
تنبيه:
لعب الحبشة بالحراب في المسجد:
ما قام به أولئك الفتية من اللعب بالحراب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم: لم يكن ألعاباً بهلوانية كما قال السائل , بل كانت ألعاب الحرب.
ففي ” صحيح البخاري ” (5190) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ” كَانَ الحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ “.
قال ابن حجر في ” فتح الباري ” (2/ 445): ” وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اللَّعِبِ بِالسِّلَاحِ، عَلَى طَرِيقِ التَّوَاثُبِ؛ لِلتَّدْرِيبِ عَلَى الْحَرْبِ، وَالتَّنْشِيطِ عَلَيْهِ.
وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ جَوَازُ الْمُثَاقَفَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ تَمْرِينِ الْأَيْدِي عَلَى آلَاتِ الْحَرْبِ ” انتهى.
جاء في ” مرقاة المفاتيح ” (5/ 2120) ” وَإِنَّمَا سُومِحُوا: لِأَنَّ لَعِبَهُمْ بِالْحِرَابِ كَانَ يُعَدُّ مِنْ عُدَّةِ الْحَرْبِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَصَارَ عِبَادَةً بِالْقَصْدِ، كَالرَّمْيِ ” انتهى.
ومن أسباب الغلط أن يحمل الشخص ألفاظ النصوص على العرف الذي نشأ عليه , وليس على عرف أهل زمان الوحي، الذين جرت عليهم تلك الأمور، ونزل فيهم الشرع.
ينظر ” مجموع الفتاوى ” لابن تيمية (7/ 106).
والله أعلم.