*مختلف الحديث (54)
بإشراف سيف بن غدير النعيمي
جمع واختصار سيف سيف بن دورة الكعبي
كيف التوفيق بين حديث ابن عمر في الأدب المفرد في قصة الرجل الذي لبس خاتما من ذهب فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبس خاتما من حديد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (هذا شر … )
صححه الشيخ الألباني في الأدب المفرد.
مع حديث سهل بن سعد الساعدي (اتخذ ولو خاتم من حديد).
صحيح البخاري برقم: (5030)
———————
جواب سعيد الجابري:
والنهي عن لبس خاتم الحديد ينبغي أن يحمل على ما إذا كان حديدا صرفا لخبر معيقيب، قال: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملوي عليه فضة. أخرجه أبو داود ((4224))، والنسائي في المجتبى (8) / (175)، وإسناده صحيح.
قال الحافظ ابن حجر: قوله صلى الله عليه وسلم فيه: اذهب فالتمس خاتما ولو من حديد، فليس فيه استدلال على جواز لبس خاتم الحديد، ولا حجة فيه، لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس، فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته. انظر “فتح الباري ((10) / (323)).
قال المناوي في فيض القدير (6) / (328): والنهي عن الحديد للتنزيه عند الجمهور.
أما الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع فقال: قال بعض العلماء: مباح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: التمس ولو خاتما من حديد. والحديث في الصحيحين.
وأجاب القائلون بالإباحة عن هذا الحديث – يعني حديث النهي – بأنه ضعيف، وشاذ؛ لأنه مخالف لما هو أوثق منه، والأوثق منه ما في الصحيحين «التمس ولو خاتما من حديد».
وقيل: إنه مكروه؛ لأن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال: …..
(قال ابن عثيمين) والراجح عندي إباحة التحلي بالحديد، وغيره إلا الذهب، وعدم كراهة ذلك.
المرجع: (الشرح الممتع)
قال الشيخ عبدالمحسن العباد: ما في خاتم الحديد.
أما الحديد فإنه قد جاء ما يدل على النهي عنه، ومنه هذا الحديث وأحاديث أخرى.
واما قوله: [(التمس ولو خاتما من حديد)] كان قبل التحريم، أو أنه بعد التحريم، ولكنه يمكن أن يحول إلى شيء آخر، ولا يستعمل حلية للرجال ولا للنساء.
وليس منه لبس الساعة في اليد، فالساعة فيها حديد، لكن ليس المقصود منها الزينة فحسب، بل يراد بها معرفة الوقت.
وبعض أهل العلم قال: إنه يجوز اتخاذ الخاتم من الحديد، ويستدلون على ذلك بقصة الواهبة نفسها وفيه (التمس ولو خاتما من حديد) فالمقصود من ذلك هو التملك، ولا يلزم أن يكون تملك ذلك للبسه، وعلى هذا فالقول بعدم جواز اتخاذ الخاتم من الحديد هو الأظهر.
وأما حديث: خاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حديد ملوي عليه فضة،
والحديث ضعفه الألباني،
ولا أدري ما هو وجه التضعيف عند الشيخ الألباني رحمه الله لهذا الحديث.
وقلت (سعيد):
وصحح الحديث الشيخ محمد علي آدم في المجتبى وقال: إسناده صحيح، وهو حديث متصل.
وقال الشيخ عبدالمحسن العباد: ولكن إن صح الحديث فإنه يحمل على أنه إما أن يكون قبل النهي وقبل التحريم، أو أنه لم يكن حديدا خالصا، والنهي إنما جاء عن الحديد الخالص.
وعلى كل حال فاجتناب الحديد هو الذي دل عليه الدليل.
وقررت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء رقم الفتوى ((11137))
عدم صحة أحاديث النهي في اتخاذ خاتم الحديد، وقالت: الراجح عدم كراهة لبس الخاتم من الحديد، ولكن لبس الخاتم من الفضة أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاتمه من فضة كما ثبت ذلك في الصحيحين.
———–
جواب أحمد بن علي:
مختلف الحديث 54
قال الألباني في آداب الزفاف:
“تنبيه”: أفاد الحديث تحريم خاتم الحديد لأنه جعله شرا من خاتم الذهب فلا يغتر بإفتاء بعض أفاضل المفتين بإباحته اعتمادا منه على حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل خطب امرأة ليس عنده مهر لها:
“التمس ولو خاتما من حديد”. وقد خرجته في الإرواء 1983 فإن هذا ليس نصا في إباحة الحديد ولهذا قال الحافظ في الفتح 10/ 266:
“واستدل به على جواز لبس الخاتم الحديد ولا حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته”.
قلت: ولو فرض أنه نص في الإباحة فينبغي أن يحمل على ماقبل التحريم جمعا بينه وبين هذا الحديث المحرم كما هو الشأن في الجمع بين الأحاديث المبيحة لتحلي الرجال بالذهب والأحاديث المحرمة لها وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى.
وقد ذهب إلى ما أفاده هذا الحديث أحمد وابن راهويه رحمهما الله فقال إسحاق بن منصور المروزي لأحمد: الخاتم من ذهب أو حديدي يكره؟ فقال: إي والله قال إسحاق كما قال كما في مسائل المروزي ص 224. وانظر تعليقنا على الحديث المتقدم ص 215.
وبه قال مالك كما رواه ابن وهب في الجامع غنه 101 وهو قول عمر رضي الله عنه كما في طبقات ابن سعد 4/ 114 وجامع بن وهب 100 ورواه عبد الرزاق والبيهقي في الشعب كما في الجامع الكبير 13/ 191/1.
ولا مخالفة أيضا بين الحديث وبين مارواه معيقيب رضي الله عنه قال:
“كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم حديدا ملويا عليه فضة قال: وربما كان في يدي فكان معيقيب على خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
رواه أبو داود 2/ 198 والنسائي 2/ 290 بسند صحيح وله شواهد ثلاثة مرسلة في طبقات ابن سعد 1/ 2/163 – 164 أوردها الحافظ في الفتح 10/ 265 وشاهد رابع في الطبراني 1/ 206/2.
أقول: لا مخالفة بينها وبين الحديث لأنه يمكن الجمع بحمل المنع على ماكان صرفا كما قال الحافظ على أن القول مقدم على الفعل كما سبق فالأخذ به أولى من الأخذ بحديث معيقيب عند تعذر الجمع. والله أعلم.
وأما مارواه النسائي 2/ 290 من طريق داود بن منصور قال: ثنا ليث بن سعد عن عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري قال:
أقبل رجل من البحرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فلم يرد عليه وكان في يده خاتم من ذهب .. فقال صلى الله عليه وسلم: “إنه كان في يده جمرة من نار! .. ” قال فماذا أتختم: قال: “حلقة من حديد أو ورق أو صفر”.
فهو حديث ضعيف …
….
جواب الأخ خميس:
ضعَّف الإمام ابن عبد البر ما ورد في النهي عن خاتم الحديد وأنه ” حلية أهل النار ” فقال – رحمه الله -:
وعن عمر بن الخطاب أنه قال في خاتم الذهب وخاتم الحديد ” جمرة من نار ” أو قال: ” حلية أهل النار “، وقد روي مثل هذا مرفوعاً، ولا يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن عمر، وليس بثابت، والأصل: أن الأشياء على الإباحة حتى يثبت النهي، وهذا في كل شيء، إلا أن النهي عن التختم بالذهب صحيح، ولا يختلف في صحته.
” التمهيد ” (17/ 114).
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
ولا حرج في لبس الحديد من الساعة والخاتم لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال للخاطب: ” التمس ولو خاتماً من حديد “.
أما ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم في التنفير من ذلك: فشاذ، مخالف لهذا الحديث الصحيح.
” منقول من فتاوى لبعض أهل العلم “.
أما الحافظ ابن حجر فقد ردَّ على من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم ” التمس ولو خاتماً من حديد ” بالجواز فقال في ” فتح الباري ” (10/ 323): ” لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس، فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته “.
جواب سيف بن دورة الكعبي:
ورد النهي عن خاتم الحديد في سنن أبي داود 4217 من حديث عبدالله بن مسلم السلمي المروزي عن أبي طيبة عن عبدالله بن بريدة عن أبيه (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه يومي، فقال له: ما لي أجد منك ريح الأصنام …. ) فضعفه الألباني، وقلنا في تحقيقنا للسنن: ضعيف، فيه عبدالله بن مسلم السلمي المروزي.
وورد أيضا عند أحمد 6518 من طريق ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا وهو الحديث الأول في مختلف الحديث.
قال باحث:
هذا الحديث: رواه أحمد في مسنده في موضعين بالسند نفسه، ومسدَّد في مسنده من طريق يحيى، والبخاري في الأدب المفرد من طريق سليمان بن بلال، ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان كلاهما من طريق همام بن يحيى ثلاثتهم عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب به؛ واختصره همَّامٌ بلفظ: ” نهى عن خاتم الذهب وعن خاتم الحديد ” وهذا إسناد محتمل واختلف العلماء في صحة حديث ابن عجلان هذا، فالبيهقي استنكر لفظ المسند إذ فيه: أن خاتم الحديد شرٌ من الذهب، فقال البيهقي: (وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، مرفوعا في كراهية التختم بالحديد، وقوله حين اتخذه: هذا أخبث وأخبث، وليس بالقوي) ا. هـ، وحديث ابن عجلان هذا ضعفه أيضاً ابنُ عبد البر في التمهيد، وغمزه ابن رجب في أحكام الخواتم.
واختار بعض أهل العلم صحة هذا الحديث فقال ابن مفلح في الفروع: (حديث حسن)، وجزم بصحته الشيخ الألباني في صحيح الأدب المفرد وفي آداب الزفاف.
سؤال: هل الإمام أحمد يصحِّحُ حديثَ بُرَيْدَة وحديثَ عمرو بن شعيب المتَقَدِّمَيْنِ؟
سُئِلَ الإمامُ أحمد رحمه الله من أكثر من واحد من تلاميذه عن خواتم الحديد، وكل أجوبة الإمام أحمد تدل على أنه كان يكرهه شديداً، وانضاف إلى ذلك في بعض أجوبة الإمام أحمد أنه كان يذكُرُ حديثَ عمرو بن شعيب، وتارة كان يجزم هو بأن خواتم الحديد حلية أهل النار.
– ففي مسائل إسحاق بن منصور الكوسج قال: (قلت: الخاتم من ذهب أو حديد يُكره؟ قال: إي والله يُكره، والحديد يُكره، قال إسحاق: كلاهما كما قال)، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية ونحوه في الفروع: (ويُكره للرجل والمرأة خاتمُ حديد وصفر ونحاس ورصاص؛ نص عليه في رواية إسحاق وجماعة) ا. هـ.
– وفي الفروع: (وسأله الأثرم عن خاتم الحديد، فذكر خبر عمرو بن شعيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ” هذه حلية أهل النار “، وابنُ مسعود قال: ” لُبْسَةُ أهل النار “، وابن عمر قال: ” ما طَهُرَت كفٌّ فيها خاتم حديد “، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بُرَيْدَةَ رضي الله عنه لرجلٍ لبسَ خاتماً من صُفْر: ” ما لي أجدُ منكَ ريح الأصنام “، فقد احتج بخبر بريدة) ا. هـ كلام ابن مفلح.
هذا ما نقله ابن مفلح من جواب الإمام أحمد للأثرم في خاتم الحديد، وقد سار الحنابلة بعد ابن مفلح على ذكر هذا النقل عن الأثرم، ويغلب عندي أنهم أخذوه من كلام ابن مفلح ونقله، بينما نجد أن ابن عبد البر في التمهيد يذكر جواب الإمام أحمد للأثرم بلفظ مختلفٍ تماماً، فقال ابن عبد البر في التمهيد: (وحدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر الأثرم قال: قلت لأبي عبدالله يعني أحمد بن حنبل: ما ترى في خاتم الحديد؟ فقال: اختلفوا فيه؛ لَبِسَهُ ابنُ مسعود، وقال ابن عمر: ما طَهُرَت كفٌّ فيها خاتمٌ من حديد)، وهذا الإسناد هو الذي روى من خلاله ابنُ عبد البر أحاديثَ الأثرم وسؤالاته، وقال عنه ابن عبد البر في موضع آخر: (وهذا إسناد صحيح كل مذكورٍ فيه ثقة معروف بالعلم)، وعبد الله بن محمد شيخ ابن عبد البر هو ابن عبد المؤمن، وعبد الحميد هو ابن أحمد الوراق، كما هو ظاهر في سياق أسانيد أخرى من التمهيد، فالإمام أحمد اقتصر في جوابه هنا على ذكر الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم ولم يذكر غير ذلك، وهذا ما فعله ابن رجب في كتابه أحكام الخواتم، إذ ذكر سؤال الأثرم للإمام أحمد، وكان جواب الإمام أحمد أن ذكر حديث عمرو بن شعيب، ثم حكى اختلاف الصحابة كما حكاه ابن عبد البر، ثم قال الإمام أحمد: اختلفوا فيه.
والذي تميل له نفسي هو أن ما نقله ابن عبد البر وابن رجب من كلام الأثرم أصح وأظهر؛ لأن الإمام أحمد يبعد أن يحتج بخبر أبي طيبة أو يذكره مستدلاً به وحالُه من عَرفتَ، وحديثُه استنكره الترمذي والنسائي وغيرهما، ولأن المعروف عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يلبس خاتم الحديد كما صحَّ عنه وسيأتي ذكرُ الآثار عنه، ولأن المرداوي يقول في الإنصاف: (إذا علمت ذلك؛ فالصحيح من المذهب أن المراد بالكراهة هنا: كراهة تنزيه، قال ابن رجب: عند أكثر الأصحاب)، فهل يُمكن أن ينضاف ما نقله ابن مفلح عن الأثرم إلى ما نقله الكوسج إلى ما نقله مهنَّا -وسيأتي-، ثم يذهب أكثر الأصحاب إلى أن المذهب هو كراهة التنزيه فحسب؟ هذا بعيد. والله أعلم
– وفي الإنصاف: (ونقل مُهَنَّا ” أكره خاتم الحديد؛ لأنه حِليَةُ أهلِ النار “) ا. هـ.
فهذه خلاصة النقول عن الإمام أحمد وعند تأملها يتبين لنا بظهور أن الإمام أحمد ينهى عن خاتم الحديد، ويكرهه ويراه حلية لأهل النار وهذا ظاهر معروف في نصوص الكتاب، ومنها قول الله تعالى: (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) (غافر:71)، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ: من الآية33)، ولكنه إذا تأملنا سؤال الأثرم على ما حكاه ابن عبد البر وابن رجب، نجد أن الإمام أحمد لا يحتج احتجاجاً ظاهرا بحديث عمرو بن شعيب؛ فإنه ذكره ثمَّ ذكر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، ثم ختم جوابه بقوله – كما في نقل ابن رجب -: (اختلفوا فيه)، وعند أئمة الإسلام كأحمد وغيره ليس مع النص الصريح الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم كلامٌ لأحد، فكيف بعد ذكره الحديث يختم جوابه بقوله: (اختلفوا فيه) هذا مما يوهن النص ويضعف دلالته أو ثبوته …. يتقوَّى كلُّ ماتقدم إن علمنا موقف الإمام أحمد من مرويات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ فقال أبو الحسن الميمونى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: (عمرو بن شعيب له أشياء مناكير، و إنما يُكْتَبُ حديثُه يُعتبَرُ به، فأمَّا أن يكون حجة فلا)، و قال أبو بكر الأثرم: سئل أبو عبد الله عن عمرو بن شعيب، فقال: (أنا أكتب حديثه، و ربما احتججنا به، و ربما وجس فى القلب منه شاء، و مالك يروي عن رجل عنه)، وقال أبو داود عن أحمد بن حنبل: (أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، و إذا شاءوا تركوه)، – قال الذهبي معلقاً على عبارة الإمام أحمد المتقدمة -: (هذا محمول على أنَهم يتردّدُون في الاحتجاج به، لا أنهم يفعلون ذلك على سبيل التشهِّي) ا. هـ.
فهذا موقف الإمام أحمد من مرويات عمرو بن شعيب وعند تأملها نجد موقفه هذا متوافق مع الحديث الذي بين أيدينا وكيف تعامل معه الإمام رحمه الله، وأما ما نقله الترمذي عن البخاري عن ابن المديني وأحمد وإسحاق وأبي عبيد أنهم يحتجون بخبر عمرو بن شعيب ولا يتركونه، فهذا النقل تعرض الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء لردِّه بوضوح؛ ويمكن أن يُرْجَعَ إليه في ترجمة عمرو بن شعيب من السير.
هذا آخر ما ظهر لي في جواب هذا السؤال، وإن كان ابن مفلح وابن رجب يجزمان باحتجاج الإمام أحمد بحديث عمرو بن شعيب هذا، بل بالغ ابنُ مِفْلِح وذكرَ أن الإمامَ أحمد يحتج بخبر بريدة، وهذا بعيد والغالب أنه نشأ بسبب نقل ابن مفلح لسؤال الأثرم وجواب الإمام بالمعنى؛ والله أعلم.
** وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا سُرَيْجٌ حدثنا عبد الله بن المؤمَّل عن ابن أبي مُلَيْكَة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه لبس خاتماً من ذهب فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه كرهه فطرحه، ثم لبس خاتماً من حديد، فقال: هذا أخبث وأخبث فطرحه، ثم لبس خاتماً من وَرِقٍ فسكت عنه.
– عبد الله بن المؤمل: ضعفه عامة الأئمة وجزموا بنكارة حديثه بل ترك بعضهم حديثه لكثرة النكارة فيها، وقد ذكر ابن عدي في الكامل أحاديث كثيرة منكرة لابن المؤمل ثم قال: ((ولابن المؤمل هذا غير ما ذكرت من الحديث، وعامة ما يرويه الضعف عليه بَيِّن)) ا. هـ.
*وقال أبوبكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن سفيان عن طارق عن حكيم بن جابر أن عمر رضي الله عنه رأى على رجل خاتم حديد فكرهه.
هذا السند: قوي متصل إلى عمر رضي الله عنه وصح الخبر عنه بهذا السند القوي و يقويه كل ما تقدَّم من المراسيل كمرسل مكحول الشامي ومرسل ابن سيرين ومرسل صاحب السقاية البَصْرِيَّيْنِ ومرسلُ يزيد بن قسيط المدني.
قلت (سيف) كلهم عن عمر رضي الله عنه، وبعضها في زجر عمر الشديد.
الخلاصة:
أحاديث النهي عن التختم بالحديد هي أحاديث ضعيفة منكرة لا يصح منها شيء، على ما اختاره البخاري – يقصد على ظاهر تبويبه – وابن عبد البر والنووي وابن رجب والشيخ ابن باز رحم الله الجميع، وغاية ما يصحُّ في هذا الباب مما يصلح لأن يُحتَجَّ به هو الأثر عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأصح الألفاظ عنه في النهي هو لفظ ابن أبي شيبة من طريق حكيم بن جابر الأحمسي الكوفي، وفيه: ” أن عمر رأى على رجل خاتم حديد فكرهه “.
-أحاديث الجواز صحَّ منها حديث سهل بن سعد رضي الله عنه وهو متفق عليه وكفى به جلالة؛ وهو حديث ظاهر الدلالة على جواز التختم بالحديد كما تقدم، وصحَّ أيضاً حديث المعيقيب رضي الله عنه فهو سند جيد وله شاهد عن مكحول مرسلاً وشاهدٌ عن خالد بن سعيد الأموي رضي الله عنه عند ابن سعد في الطبقات،-يقصد حديث كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملوي عليه فضة – وصحَّ أيضاً أثرُ ابنِ مسعود رضي الله عنه وقد جزم به عنه الإمام أحمد كما تقدم في سؤال الأثرم.
فالراجح:
خاتم الحديد هو أردأ وأدنى التحلِّي عند النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، ولذا جاء حديث سهل: ” التمس ولو خاتماً من حديد “، فهذا مبالغة في تقليل المهر والقناعة بالحقير اليسير، ولذا أصح ما يقال في توجيه قوله صلى الله عليه وسلم: ” حلية أهل النار ” – لو صحَّ – وأثر الفاروق عمر رضي الله عنه أنَّ كراهة هذا الخاتم لرائحته ونتنه، وهذا ما فهمه ابن سيرين عنه رحمه الله إذ هو أحد من روى الكراهة عن الفاروق عمر رضي الله عنه، ثم قال ابن سيرين في موضع آخر: (لا بأس – أي بخاتم الحديد – إلا أن يكره ريحه)، وبهذا نعلم أن القول بكراهة التنزيه قول قويٌّ له حظ من الأثر والنظر، فالحديد يصدأ وله نتن ورائحة كريهة ويؤذي الجلد ويترك آثاراً على الجسم خاصة مع الحرّ وكأنها تعذيب للبدن، وهو حلية للكفار في نار جهنم يُكْسَوْنَ الحديد في مختلف أجزاء البدن فيعذِّبهم الله به يوم القيامة إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون؛ فيُكره لبس الحديد والتحلي به لهذه المعاني كلها.
مع القول بقوة كراهة التنزيه في التحلي بالحديد؛ إلا أن هذه الكراهة كما قال الإمام البيهقي تزول بأن يخلط الحديد مع غيره بحيث لا يكون الحلي حديداً صرفاً، ويدل على هذا الأثر والنظر، فمن الأثر: حديث المعيقيب رضي الله عنه، ومن النظر: أنه من المعلوم أن الحديد إن طُلِيَ بموادَّ عازلة أو خُلِطَ بغيرِه من المعادن كالألمنيوم والنيكل فإنَّ نَتَنَهُ يُؤْمَنُ ولا تكون له رائحة أو صدأ أو سخونة على الجسد، وبهذا يتبين لنا أن ما يستعمل من الحديد في بعض الحليّ كالإكسسوارات والساعات ومن باب أولى النظارات وغيرها مما ليست من الحلي كل هذا من الجائز المباح الذي لا شبهة فيه ولا كراهة.
كل ما قيل في الحديد فهو يقال أيضاً في النحاس والرصاص، على أن النحاس والرصاص أخفُّ حكماً من الحديد، إذ لم يرد فيهما شيء يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام رضي الله عنه، وغاية ما ورد إنما هو حديث بريدة رضي الله عنه في النحاس الأصفر ولا يصح، فاستخدام النحاس والرصاص وغيرهما في التحلي جائز من باب أولى. انتهي مختصراً وجزاه الله خيرا على البحث القيم.