مختلف الحديث رقم: {(96)}
بإشراف سيف بن غدير وسيف بن دورة الكعبي
[ومن كتاب الصلاة]
عَنَْ أَنَس قَالَ: “وَجَدْتُ النَّبِيَّ -ِ?- فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ نَاسٌ، فَقُمْتُ، فَقَالَ لِي: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: لِطَعَامٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ لِمَنْ معه: قُومُوا. فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ”.
صحيح البخاري 1/ 408 رقم: 3578، صحيح مسلم 3/ 1612 رقم: 2040.
هل هذا الحديث يعارض النهي الوارد عن رفع الصوت في المسجد؟
——
جواب سيف بن غدير
مختلف الحديث رقم: ((96))
وجدت هذا البحث:
المسألة الأولى:
حكم الكلام المحرم في المسجد:
لا خلاف بين أهل العلم في تحريم الغيبة، والنميمة، والكلام البذيء في داخل المسجد، ويزداد التحريم إذا كان هناك رفع للصوت وتشويش على المتعبدين، ويستدل لذلك بما يلي:
1 – قال تعالى: ” في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه … ” [آية 36 من سورة النور].
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره (6/ 62) [أي أمر لله – تعالى – برفعها، أي: بتطهيرها من الدنس، واللغو، والأفعال، والأقوال التي لا تليق فيها، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة: ” في بيوت أذن الله أن ترفع ” قال: نهى الله – سبحانه – عن اللغو فيها، وكذا قال عكرمة، وأبو صالح، والضحاك، ونافع بن جبير، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وسفيان بن حسين، وغيرهم من علماء التفسير].
ونقل البغوي – رحمه الله – في تفسيره (6/ 50) عن الحسن، قولَه: أي تعظَّم (1)، أي: لا يذكر فيه الخنا من القول.
2 – عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بنى رحبةً في ناحية المسجد، تسمى: (البطيحاء)، وقال: من كان يريد أن يَلْغَطَ، أو ينشد شعراً، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة (2).
وجه الاستدلال: أن عمر – رضي الله عنه – أمر من أراد أن يلغط، بالخروج من المسجد، وما ذاك إلا لعلمه – رضي الله عنه – بالنهي عن ذلك.
قال الباجي في المنتقى (1/ 312): [ولما رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كثرة جلوس الناس في المسجد، وتحدثهم فيه، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط، وهو: المختلط من القول، وارتفاع الأصوات، وربما جرى أثناء ذلك إنشاد شعر، بنى هذه البطيحاء إلى جانب المسجد، وجعلها كذلك، ليتخلَّص المسجد لذكر الله – تعالى – وما يحسن من القول، و يتنزَّهَ من اللغط، وإنشاد الشعر، ورفع الصوت فيه، ولم يُرِدْ أن ذلك محرمٌ فيه، وإنما ذلك على معنى الكراهية، وتنزيه المساجد، لا سيما مسجدُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فيجب له من التعظيم، والتنزيه ما لا يجب لغيره].
3 – قياس الأولى: فإذا كانت مثل هذه الأشياء منهيٌ عنها خارج المسجد، ففيه أولى، وذلك لحرمة المكان.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في مجموع الفتاوى (22/ 200): [وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسنٌ، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً، وكذلك المكروه، ويكره فيه فضول المباح].
4 – قياس الكلام المحرَّم على أكل البصل، والثوم، والكراث، قال القرطبي: [قال العلماء: وإذا كانت العلَّة في إخراجه من المسجد أنَّه يُتَأَذَّى به، ففي القياس: أنَّ كلَّ من تأذى به جيرانه في المسجد، بأن يكون ذَرِبَ اللسان سفيهاً عليهم … وكلُّ مايتأذى به الناس كان لهم إخراجه، ماكانت العلة موجودةً فيه حتى تزول].
وقال أيضاً: [قال أبو عمر بن عبد البر: وقد شاهدتُ شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام – رحمه الله – أفتى في رجلٍ شكاه جيرانه، واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه، ويده، فَشُوُوِرَ فيه؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه، وألا يشهد معهم الصلاة! إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه.
فذاكرته يوماً أمره، وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك، وراجعته فيه القول، فاستدل بحديث الثوم، وقال: هو عندي أكثرُ أذىً من أكل الثوم، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد]. (3)
الحواشي:
1 – إلى هنا انتهى كلام الحسن، وما بعده من كلام البغوي – رحمهما الله -، وانظر تفسير عبد الرزاق (2/ 442).
2 – أخرجه مالك بلاغاً (1/ 175)، ووصله البيهقي في سننه (10/ 103) من طريق الإمام مالك، قال الألباني – رحمه الله – في تعليقه على إصلاح المساجد (112): رجاله ثقات، ولكنه منقطع بين سالم، وجده عمر. ا هـ.
قلت: وقد ذكر ابن عبد البر في الإستذكار (6/ 355) أن هذا الحديث في رواية القعنبي، ومطرف، وأبي مصعب موصولاً، هكذا: مالك، عن أبي النضر، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر بن الخطاب … ، ثم ذكر أن طائفةً رووه كما رواه يحيى، والله أعلم.
3 – الجامع لأحكام القرآن (12/ 267) وما بعدها.
—–
المسألة الثانية: حكم الكلام المشروع في المسجد:
وهذا شامل لقراءة القرآن، والصلاة، وتعليم العلم، والمواعظ، ونحو ذلك.
فيمكن أن نجعل هذه المسألة في مبحثين:
المبحث الأول: إذا كان الكلام المشروع بدون رفعٍ للصوت، ولا إزعاجٍ للآخرين، فهذا مما لا خلاف في جوازه؛ حيث إن المساجد لم تبن إلا لعمارتها بالذكر، وقراءة القرآن، والصلاة، كما جاء في حديث الأعرابي.
المبحث الثاني: أن يكون برفع الصوت، وقد يحصل منه إزعاجٌ للآخرين، فلا يخلو من حالتين:
الأولى: أن يكون مما أمر الله – سبحانه -، وحثَّ رسوله – صلى الله عليه وسلم – على رفع الصوت فيه، كالقراءة في الصلاة الجهرية، والخطب … فلم أجد – حسب بحثي – مَنْ مَنَعَ رفع الصوت، ولو وجد لكانت ظاهر النصوص تدفع كلامه.
الثانية: وهي ماعدا الحالة الأولى، كالمواعظ، والذكر، وقراءة القرآن، ونحوها؛ فللعلماء في ذلك قولان:
الأول: المنع منه، سواءً منعَ كراهةٍ، أو تحريم.
ومما يمكن أن يستدل لهم به:
1 – عن عبد الله بن عمر، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتكف، وخطب الناس، فقال: ” أمَا إنَّ أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعضٍ بالقراءة في الصلاة”.
وجه الاستدلال: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى الصحابة من جهر بعضهم على بعضٍ بالقراءة، مع أن قراءة القرآن من الأمور المشروعة في المسجد.
* يرد عليه: أن هذا خاص بالجهر في الصلاة.
2 – عن واثلة بن الأسقع، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراركم، وبَيْعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلَّ سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجَمِّرُوْهَا في الجمع ” 3.
وجه الاستدلال: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث، نهى عن رفع الصوت.
* يرد عليه: أن الحديث ضعيف.
3 – قال صلى الله عليه وسلم ” لا ضرر ولا ضرار “.
وجه الاستدلال: أن في رفع الصوت سواءً بالقراءة، أو بالعلم ضرراً على من بجواره، والضرر مدفوعٌ كما بيَّن ذلك هذا الحديث، وما رأيك بمسجدٍ كلُّ من فيه يجهر بصوته، فماذا عساه أن يكون؟!.
4 – عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد، فحصبني رجلٌ، فنظرتُ، فإذا عمر بن الخطاب، فقال اذهب، فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما، أو من أين أنتما؟ قالا: من الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم!.
وجه الاستدلال: أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – زجر هذين الرجلين؛ بل هَمَّ أن يوجعهما ضرباً، مما يدل على أنهما فعلا مخالفةً شرعية.
قال ابن حجر في الفتح (1/ 668) [قوله ” لأوجعتكما ” زاد الإسماعيلي ” جلداً ” ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي].
* يرد عليه: أن قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –: (ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -) يظهر منه أن ذلك خاصٌ بمسجدِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لوجوده – صلى الله عليه وسلم -، وحرمته ميتاً، كحرمته حياً، وقد قال بهذا بعض أهل العلم؛
ومما يؤكد هذا – أيضاً – ما ورد في مصنف عبد الرزاق (1711) عن نافعٍ قال: كان عمر بن الخطاب يقول: لا تكثروا اللغط، يعني في المسجد، قال: فدخل المسجد ذات يوم فإذا هو برجلين قد ارتفعت أصواتهما، فبادراه، فأدرك أحدهما، فضربه، وقال: ممن أنت؟ قال: من ثقيف، قال: إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت.
* يجاب عنه: بما قاله الحافظ ابن حجر (1/ 668) [أن هذا الأثر فيه انقطاع، لأن نافعاً لم يدرك ذلك الزمن].
* يجاب عنه: بأنَّ نافعاً أخذه من ابن عمر، بدليل ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وأيضاً بالرواية الأخرى عند الصنعاني (1712).
وحتى لو لم ترد هذه الروايات، فأثر السائب الذي في البخاري كافٍ في الاستدلال.
5 – أثر عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه أنكر على جماعةٍ في المسجد، يهللون، ويكبرون، ويسبحون جهراً، وقال لهم: ما أراكم إلا مبتدعين.
* يرد عليه: أن إنكار بن مسعود – رضي الله عنه – عليهم، لم يكن على جهرهم، وإنما على الصفة التي كانوا يتعبدون بها، بدليل: أنه ذكر أن فعلهم هذا بدعة، ثم ليس هناك ما يدل على كون ذلك جهراً.
القول الثاني: جواز ذلك، ويستدل لهم بالآتي:
1 – حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَدْ ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو في بيته؛ حتى كشف سِجْفَ حجرته، فنادى: ” ياكعب ” قال: لبيك، يارسول الله. قال: ” ضع من دينك هذا ” وأومأ إليه، أي الشطر. قال: قد فعلت يارسول الله. قال: ” قم فاقضه “.
وجه الاستدلال: قال ابن حجر في الفتح (1/ 658): [قال المهلب: لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولبيَّن لهما].
* يرد عليه: قال ابن حجر (1/ 658): [قلت: ولمن منع أن يقول: لعله تقدَّم نهيه عن ذلك، فاكتفى به، واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية إلى ترك ذلك، بالصلح المقتضي لترك المخاصمة الموجبة لرفع الصوت].
* يجاب عنه: ينبغي أولاً: إثبات أن النهي عن رفع الصوت كان قبل هذه الحادثة.
* ثم ثانياً: ما الدليل على النهي عن رفع الصوت؟.
فإن قيل: قد تقدمت أحاديث النهي عن رفع الصوت.
قلنا: لا تخلو أدلتكم من ثلاث حالات:
1 – إما حديثٌ ضعيف، لا يصلح الاحتجاج به.
2 – وإما مالا دلالة فيه، أو فيه دلالةُ عامة، يمكن أن تخص.
3 – وإما دليلٌ صحيحٌ، معارضُ بأدلةٍ أخرى مثله، فَيُجْمَعُ بينها.
* يرد عليه أيضاً: أن قصة كعب ليست في الأمور الشرعية.
يجاب عنه: أنَّ هذا إذا كان جائزاً في الأمور الدنيوية، فالأمور الشرعية أولى بالجواز.
2 – حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ما كنَّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا بالتكبير.
وجه الاستدلال: أنَّ هذا ذكر مشروعٌ ورد رفع الصوت به في المسجد، مع أنَّ المسجد بعد انقضاء الفريضة لا يخلوا ممن يقضي ما فاته، ففيه تشويش عليهم.
* يرد عليه:
1 – أن الخلاف قائمٌ في جواز رفع الصوت بالذكر، فلا يصح الاستدلال في موضعِ نزاعٍ أصلاً.
2 – حَمَلَه بعضهم على أنَّ هذا كان في أول الأمر، لأجل تعليم صفة الذكر، ولم يداوموا عليه.
* ويجاب عن ذلك:
1 – أن الذي ترجح عندنا هو مشروعية الجهر بالذكر، فالحق واحد.
2 – أما الاعتراض الثاني، فيقلب عليهم، بأن يقال: إذا كان هذا الفعل مشروعاً في مدَّةٍ معينةٍ، مع أن فيه منكراً آخر – على حدِّ زعمهم – وهو رفع الصوت في المسجد، والتشويش على المصلين، دلَّ على أنَّ ما فيه مصلحةٌ راجحةٌ – مما هو مشروع – يجوز فيه رفع الصوت، وهذا هو الراجح.
الراجح: التفريق بين ماله مصلحةٌ راجحة، وبين ما مفسدته راجحة، فالجواز في الأول، وتتوجه الكراهة في الثاني، إن لم يصل إلى التحريم، وبهذا تجتمع الأدلة، والله أعلم.
قال ابن حجر في الفتح (1/ 668): [أشار بالترجمة إلى الخلاف في ذلك … وساق البخاري في الباب حديث عمر الدال على المنع، وحديث كعب الدال على عدمه، إشارةً منه إلى أن المنع فيما لا منفعة فيه، وعدمه فيما تلجئ الضرورة إليه].
قال ابن عَلَّان في الفتوحات (2/ 59): [نقل ابن العماد عن المصنف أنه أفتى في قوم يجهرون بالقراءة، وعندهم قومٌ يصلون، ويتشوشون بذلك. بأن المستمعين إذا كانوا أكثر من المصلين لم يحرم، أو بالعكس حرم؛ نظراً لكثرة المصلحة، وقِلَّتها.
ثم نَظَّرَ فيه، وبحث المنع من الجهر بحضرة المصلي مطلقاً، قال: لأن المسجد وقفٌ على المصلين، أي أصالةً، لا على الوعّاظ، والقراء. ا هـ.
قال في شرح العُباب: والذي في فتاوى النووي: (كُرِهَ) بدل (حَرُمَ)، وهو ما صرَّح به في المجموع وغيره، وقد يحمل بعد القول بالكراهة على ما إذا خفَّ الضرر، وبالحرمة على ما إذا اشتدَّ، كما هو معلومٌ من تحريم الإضرار، وإن أمكن توجيه إطلاق الكراهة بأن لنحو المصلي مندوحةٌ من الصلاة في ذلك المحل، أو في ذلك الزمن].
————-
حكم الكلام المباح في المسجد:
وذلك كالكلام في أمور الدنيا، وإنشاد الشعر، ونحو ذلك.
ويمكن أن نقسم هذه المسألة إلى مبحثين:
المبحث الأول: إذا كان الكلام المباح بدون تشويش على المتعبدين، فاختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الكلام في أمور الدنيا ممنوع، إما كراهةً، أو تحريماً، واستدلوا بما يلي:
1 – عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حِلَقَاً حلقاً، إمامهم الدنيا، فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة ” أخرجه الطبراني، وحسنه الألباني – رحمه الله – كما في السلسلة الصحيحة (1163).
وجه الاستدلال: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذم هؤلاء، وأخبر أن سبب ذمهم جعل الدنيا حديثهم.
* يرد عليه: أنَّ الحديث ضعيفٌ، لا يصح.
فهذا الحديث جاء عن: عبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك – رضي الله عنهما – مرفوعاً،
وروي نحوه موقوفاً عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -،
وروي نحوه عن الحسن البصري مرسلاً.
فأما رواية عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه –: فأخرجها الطبراني في الكبير (10/ 198 برقم 10452)، وأبو إسحاق المزكي في الفوائد المنتخبة (1/ 49 / 2) – أفاده الألباني –، وابن عدي في الكامل (2/ 59)، وأخرجه بنحوه أبو نعيم في الحلية (4/ 116)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 412) كلهم من طريق بزيع أبي الخليل الخصاف، حدثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً.
قال الباحث:
بزيع أبي الخليل الخصاف:
قال أبو حاتم (الجرح والتعديل 2/ 421): ذاهب الحديث. واتهمه بعض الأئمة
قال أبو نعيم في الحلية: غريب من حديث الأعمش، تفرد به ابن صدران عن بزيغ، وبزيغ الخصاف البصري، واهي الحديث.
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية: هذا حديث لا يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمتهم به بزيع.
وقال الدارقطني – كما نقل ذلك ابن الجوزي –: لم يحدث به غيره، قال: وبزيع متروك.
قال الهيثمي في المجمع (2/ 24): رواه الطبراني في الكبير، وفيه بزيع أبو الخليل، ونسب إلى الوضع.
قال الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 152 / ح 1163):: بزيع متروك … .
وقد تقدم نقل ما قيل فيه، وفي روايته عن الثقات؛ بل نص بعض الأئمة على بطلان روايته عن الأعمش.
ولكن بزيعاً هذا قد توبع، فقد تابعه عيسى بن يونس، أخرجها ابن حبان في صحيحه (15/ 162 / ح 6761) قال: أخبرنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوهاب النصري، حدثنا أبو التقى، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش به.
الباحث:
أبو التقي: هو عبد الحميد بن إبراهيم الحضرمي، الحمصي؛ كما بين ذلك ابن حبان في صحيحه بعد روايته للحديث.
قال ابن أبي حاتم (6/ 8): سألت محمد بن عوف حمصي عنه، فقال: كان شيخاً ضريراً لا يحفظ، وكنا نكتب نسخة عند إسحاق (ابن زبريق) لابن سالم، فنحمله إليه، ونلقنه فكان لا يحفظ الإسناد، ويحفظ بعض المتن، فيحدثنا، وإنما حملنا الكتاب عنه شهوة الحديث.
قال عنه النسائي: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة (تهذيب الكمال (16/ 408).
وقال ابن حجر في التقريب (3775): صدوق، إلا أنه ذهبت كتبه فساء حفظه.
والخلاصة: أنه لا يحتج به، فإنه لم يوثقه – حسب إطلاعي – إلا ابن حبان، والأئمة على تضعيفه، وهذا محمد بن عوف وهو بلديه وأعرف الناس به، قال ما تقدم.
وأما حديث أنس بن مالك؛ فقد جاء عنه من طريقين:
الأول: ما رواه أبو عبد الله الفلاكي في ” الفوائد ” (88/ 1) – أفاده الألباني – قال: أخبرنا أحمد بن صالح المقري، ثنا محمد بن عبيد، ثنا عصام، ثنا سفيان، عن أبي حازم، عن أنس مرفوعاً بلفظ: ” يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم، ليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم “.
الباحث:
أحمد بن صالح المقري: لم أعرفه، ولعله: أحمد بن صالح بن عمر، أبو بكر المقرئ، ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 426 دار الكتب العلمية)
محمد بن عبد: هو ابن عامر السمرقندي، أبو بكر التميمي.
قال الخطيب في تاريخ بغداد (3/ 190 دار الكتب العلمية): قدم بغداد، وحدَّث بها وبغيرها عن يحيى بن يحيى النيسابوري … وعصام … أحاديث منكرة وباطلة.
وقال الذهبي في الميزان (3/ 633): معروف بوضع الحديث، وضعفه في المغني (2/ 343) بالوضع أيضاً.
عصام: هو ابن يوسف البلخي
ونقل ابن حجر في لسان الميزان (5/ 436) أن ابن سعد قال: كان عندهم ضعيفاً في الحديث.
قال ابن عدي في الكامل (5/ 371): وقد روى عصام هذا عن الثوري، وعن غيره أحاديث لا يتابع عليها.
قال الألباني: وهذا إسنادٌ واهٍ جداً …
الثانية: ما أخرجه الحاكم في مستدركه (5/ 461 رقم 7986 ط. دار المعرفة: عبد السلام علوش)، قال: حدثني: علي بن بندار الزاهد، حدثنا محمد بن المسيب، حدثني أحمد بن بكر البالسي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا سفيان الثوري، عن عون بن أبي ححيفة، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعاً: ” يأتي الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا، ليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم “.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه!
وسكت عنه الذهبي.
الباحث:
أحمد بن بكر البالسي: أبو سعيد.
قال الدار قطني كما في اللسان (1/ 411): غيره أثبت منه، قال ابن حجر: وأورد له في غرائب حديثاً في سنده خطأ، وقال: أحمد بن بكر ضعيف.
وقال ابن حبان (8/ 51): كان يخطئ.
وقال ابن عدي في الكامل (1/ 188): روى مناكير عن الثقات.
وقال أبو الفتح الأزدي – كما في اللسان (1/ 411) –: كان يضع الحديث.
وذكره الذهبي في المغني (1/ 60).
زيد بن الحباب: أبو الحسن الكوفي: قال ابن حجر في التقريب (2136): وهو صدوق يخطئ في حديث الثوري.
قلت سيف: لكن نبه باحث آخر إلى إلى أن الثوري اختلف فبعضهم يجعله عن أنس مرفوعا وبعضهم يجعله من قول الحسن
وأما أثر عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – موقوفاً عليه: فقد ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 379)، ولم أجده مسنداً.
وأما ما جاء عن الحسن البصري، فقد جاء عنه من وجهين:
الوجه الأول: مرسلاً: أخرجه البيهقي في الشعب (4/ 387 / رقم 2701ط الجديدة) (6/ 220 / رقم 2701 ط القديمة) قال: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو بكر القطان، حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا محمد بن يوسف، قال: أخبرنا سفيان عن بعض أصحابه عن الحسن قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ” يأتي على الناس زمان يكون حديثه في مساجدهم في أمر دنياهم، فلا تجالسوهم، فليس لله فيهم حاجة “.
قال البيهقي: هكذا جاء مرسلاً.
قال المحقق: إسناده فيه رجل مبهم لم يسمَّ، والحديث مرسل.
الوجه الثاني: من كلامه: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 528 / 17159) قال: حدثنا معاوية بن هشام، قال حدثنا سفيان، عن أبي حازم، عن الحسن قال: يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم أمر دنياهم، ليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم.
الحكم على الحديث:
هذا الحديث صححه ابن حبان، والألباني، والحاكم،
وضعفه الدارقطني، وأبو نعيم، وابن الجوزي، والهيثمي،
الباحث: فالحديث ضعيفٌ مرفوعاً، والله أعلم.
* ويرد عليه أيضاً: أنَّ هذا الحديث مُعارَضٌ بأحاديث أصحَّ منه؛ بل وفي الصحيحين، وسيأتي ذكرها.
* ويرد عليه أيضاً: أنه قال: ” إمامهم الدنيا “، فالحديث العارِض، أو غير الكثير، ليس داخلاً في النهي.
2 – ما جاء من الأحاديث في النهي عن إنشاد الشعر في المسجد، ومن هذه الأحاديث:
أ – عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد.
ب – عن حكيم بن حزام، بنحو حديث عمرو بن شعيب.
ج – روى أبو القاسم البغوي في ((معجمه)) من طريق ابن إسحاق، عن يعقوب بن عقبة، عن الحارث بن عبد الرحمن بن هشام، عن أبيه، قال: أتى ابن الحُمَامة السلمي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في المسجد، فقال: إني أثنيت على ربي – تعالى -، ومدحتك قال: أمسك عليه، ثم قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فخرج به من المسجد، فقال: ما أثنيت على ربك فهاته، وأمَّا مدحي فدعه عنك، فأنشد حتى إذا فرغ دعا بلالاً، فأمره أن يعطيه شيئاً، ثم أقبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الناس، فوضع يده على حائط المسجد، فمسح به وجهه وذراعيه، ثم دخل.
د – عن ثوبان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” من رأيتموه ينشد شعراً في المسجد، فقولوا: فضَّ الله فاك، ثلاث مرات “.
قلت سيف الكعبي: الحديث قال الألباني: ضعيف جدا. الضعيفة 2131.
وقال صاحب حاشية خفيفة على سلسلتي الألباني:
قلت: وهذا إسناد ضعيف جداًّ; عباد بن كثير، وهو الثقفي البصري; متروك، ويحتمل أنه الرملي الفلسطيني، وهو نحوه في الضعف. وقد خالفه في إسناده ومتنه عبد العزيز بن محمد الدراوردي فقال: أخبرنا يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة به ; دون الفقرة الأولى منه. أخرجه الترمذي وغيره، وصححوا إسناده كما بينته في”الإرواء” (1295).وقال الحافظ في “الإصابة”:”وهو المحفوظ”.يعني أن قول عباد في إسناده:”عن أبيه عن جده ثوبان” خطأ، والصواب قول الدراوردي: “عن أبي هريرة “.
قلت: وكذا قوله في متن الحديث:” … فقولوا: فض الله فاك ” زيادة منكرة ; لتفرد عباد بها.
(تنبيه):وقع في هذا الحديث أوهام لبعض العلماء:
1 – قال الحافظ في “الإصابة”:”روى ابن منده من طريق محمد بن حمير عن عباد بن كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان … “.
قلت: فسقط من إسناده يزيد بن خصيفة شيخ عباد بن كثير، و ترتب عليه خطأ آخر، و هو:
2 – قال الحافظ: ” وعباد فيه ضعف، وخالفه يزيد بن خصيفة، فقال: عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، و هو المحفوظ، أخرجه النسائي و الترمذي “.
قلت: و إنما المخالف الدراوردي، لأن مدار الروايتين على ابن خصيفة كما رأيت، ومنشأ هذا الخطأ ذلك السقط الذي سبق بيانه.
3 – وقع الحديث معزوا للترمذي و النسائي في ” الفتح الكبير ” (3/ 193) تبعاً لأصله “الزيادة على الجامع الصغير” (ق 109/ 1)، وهو خطأ محض، سببه -والله أعلم – أن السيوطي قال في أصله: ” الجامع الكبير ” (2/ 247/2):” رواه الطبراني في ” الكبير ” و ابن السني و ابن منده عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن جده، و الترمذي و النسائي عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قالوا: و هو المحفوظ “.
قلت: و الترمذي و النسائي، إنما أخرجا الحديث من الوجه المذكور بدون الزيادةالتي في أوله كما سبق ذكره، و بغير هذا اللفظ.
فيبدو أن السيوطي رحمه الله لما ألف ” الزيادة ” نقل الحديث من ” الجامع الكبير”، ولم ينتبه أنه عند الترمذي و النسائي مختصر، و بغير لفظ الطبراني، فعزاه إلى روايتهما عن أبي هريرة، و إنما هو من رواية الطبراني فقط عن ثوبان أبي عبد الرحمن، و عند ابن السني الفقرة الأولى فقط، فاقتضى التنبيه).
قلت: علَّةُ ضعف هذا الحديث هي الإرسال: “مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ”، قاله الدارقطني:
ففي كتاب “العلل” للدارقطني (10/ 64 – 65 – سؤال 1870) ما نصه: (وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا رَبَّحَ اللَّهُ تِجَارَتِكَ “.
فَقَالَ: يَرْوِيهِ يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:
فَرَوَاهُ الدَّرَاوِرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْهُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ وَابْنُ أَبِي مَذْعُورٍ، عَنِ الدَّرَاوِرْدِيِّ فِيهِ، لَا أَعْلَمُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَرْسَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، عَنِ الدَّرَاوِرْدِيِّ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ:
فَرَوَاهُ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ ابْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَخَالَفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ فَرَوَاهُ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ ابْنِ ثَوْبَانَ مُرْسَلًا، وَهُوَ الصَّوَابُ).
قال عمر بن شبة في “تاريخ المدينة”: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَنْ نَشَدَ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لا أَدَّاهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، وَمَنْ بَاعَ فِيهِ سِلْعَةً فَقُولُوا: لا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ “.
وقال عمر بن شبة أيضاً: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِهِ. انتهى
هـ – ما جاء عن بعض الصحابة من كراهة ذلك، انظر فتح الباري لابن رجب (2/ 513)
* يرد عليه: أن هذه الأحاديث والآثار، معارضة بما ثبت في الصحيحين من إنشاد حسان للشعر، بل وبأمرٍ من الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وكذلك إنشاد كعب بن زهير؛ فإما أن نعطل بعض النصوص، أو نجمع بينها، ولا شك أن الثاني هو الذي عليه المحققين من الأئمة، فنقول:
أن الذي نهى عنه – صلى الله عليه وسلم -، وكرهه السلف ما كان من الشعر الباطل والماجن، وما سوى ذلك، فلا بأس به.
أو يقال: المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالباً على المسجد، حتى يتشاغل به من فيه.
قال القرطبي في الجامع (12/ 271): [أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك،
فمن مانع مطلقاً،
ومن مجيز مطلقاً؛
والأولى التفصيل، وهو: أن يُنْظَرَ إلى الشعر فإنْ كان مما يقتضي الثناء على الله – عز وجل – أو على رسوله – صلى الله عليه وسلم -، أو الذب عنهما كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحضَّ على الخير، والوعظ، والزهد في الدنيا، والتقلل منها، فهو حسنٌ في المساجد وغيرها …
وما لم يكن كذلك لم يجز؛ لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش، والكذب، والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك، فأقل ما فيه اللغو والهَذّر، والمساجد منزهةٌ عن ذلك، لقوله تعالى: ” في بيوتٍ أذن الله أن ترفع “، وقد يجوز إنشاده في المساجد (!!) كقول القائل: … ، وقول الآخر:
إذا سقط السماء بأرض قومٍ * رعيناه، وإن كانوا غِضَابا.
فهذا النوع، وإن لم يكن فيه حَمْدٌ، ولا ثناء يجوز (؟!)، لأنه خالٍ من الفواحش والكذب].
وقد رجح ابن رجب في شرح البخاري، أحاديث الجواز؛ حيث قال (2/ 513): [وجمهور العلماء على جواز إنشاد الشعر المباح في المساجد … والصحيح في الجواب: أن أحاديث الرخصة صحيحة كثيرة، فلا تقاوم أحاديث الكراهة في أسانيدها، وصحتها]. ا هـ، وانظر الفتح لابن حجر (1/ 653).
3 – أن المساجد لم تبنَ لأحاديث الدنيا، وإنما هي لقراءة القرآن، والذكر، والصلاة، كما جاء في حديث الأعرابي.
* يرد عليه: ما جاء في أحاديث كثيرة، من – مثلاً – إنشاد الشعر، والتحدث في أمور الجاهلية، والنوم فيه، ولعب الحبشة، وقضاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – بين كعب، وابن أبي حَدْرَدْ، وربط الأسير المشرك فيه، ونوم أهل الصفَّة فيه؛ بل وأجاز بعض أهل العلم الحدث في المسجد إذا لم يكن هناك تلويثٌ، ولا إضرارٌ بمن حوله فهل هذه الأشياء، وغيرها مما بنيت له المساجد؟!
فالأولى: حمل كلام المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث، على التوجيه والإرشاد إلى أصل الحكمة التي بنيت من أجلها المساجد، لا على قصرها على ما ذكر.
القول الثاني: أن الكلام المباح في المسجد، لا بأس به، إذا لم يكن هناك تشويشٌ على المتعبدين، وذلك لما يلي:
1 – حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يقوم من مصلاه الذي صلَّى فيه الصبح، حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، قال: وكانوا يتحدثون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم.
* يرد عليه: أن كلامهم في أمور الجاهلية كان لتذكر نعمة الإسلام، وما امتن الله عليهم به.
* يجاب عنه: أن هذا غير مسلم، لأمور:
1 – أن هذا مخالفٌ لفهم أهل العلم، قال القاضي عياض في إكمال المعلم (2/ 646):
[قوله: ((وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية)) دليل على جواز التحدث بأخبار الزمان، وأمور الأمم … ].
قال النووي – رحمه الله – في المجموع (2/ 204): [يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد، وبأمور الدنيا، وغيرها من المباحات، وإن حصل فيه ضحكٌ ونحوه، ما دام مباحاً، لحديث جابر بن سمرة … ].
2 – أنَّ هذا لو كان صحيحاً، لقال: فيحمدون الله على ما هداهم، ويشكرونه، لا أنهم يتضاحكون.
3 – إنشاد حسان بن ثابت – رضي الله عنه – الشعر في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإقراره – صلى الله عليه وسلم – له.
* يرد عليه: أن هذا ليس من أمور الدنيا، أو المباحات؛ بل مما يتقرب به إلى الله، لما فيه من الذب عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، والرد على المشركين، والمنافقين.
* يجاب عنه: بأن كعب بن زهير – رضي الله عنه – كما تقدم، أنشد شعراً عند الرسول – صلى الله عليه وسلم –وفيه ذبٌ عنه، وراجع كلام السفاريني في غذاء الألباب (1/ 184).
قلت سيف الكعبي: قصيدة زهير (بانت سعاد) فأخرجها ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني وكذلك البيهقي في الكبرى وهي مسلسلة بالمجاهيل. وقال ابن عبدالبر: لا يعلم في ثبوت صحبته إلا هذا الخبر … .
4 – عن أنس – رضي الله عنه – قال: وجدت النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد معه ناس، فقمت، فقال لي: ” أرسلك أبو طلحة “؟ قلت: نعم فقال: ” لطعام “؟ فقلت: نعم، فقال لمن معه: ” قوموا “، فانطلق، وانطلقت بين أيديهم.
وجه الاستدلال: قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 616):
[والغرض منه: أنَّ مثل ذلك من الأمور المباحة، ليس مما يمنع في المساجد].
5 – تفسير الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد صلاة الصبح، للرؤى.
وجه الاستدلال: أن تفسير الرؤى ليس من الأمور الدينية، أو التعبدية؛ بل هو إلى الأمور العادية الدنيوية ألصق.
6 – معلومٌ أن المسجد هو مكان اجتماع المسلمين، وملتقاهم، وكان مأوى أهل الصفة، وغير ذلك من الأمور التي ليست من قبيل العبادات؛ بل من الأمور الدنيوية البحتة.
الراجح: أن الكلام في الأمور المباحة، جائزٌ، لا بأس به، إلا أن الأولى تنزيه المسجد عنه، وعدم الإكثار منه، بحيث يكون مقراً للجلسات، والاجتماعات، وعلى هذا يحمل ما تقدم من أدلة المانعين، وبه تجتمع الأدلة – إن شاء الله -، والله أعلم.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 376): [ويسن أن يصان عن لغطٍ، وكثرةِ حديثٍ لاغٍ، ورفع صوتٍ بمكروه، وظاهر هذا: أنه لا يكره إذا كان مباحاً، أو مستحباً، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي – رحمهما الله – … ].
القسم الثاني: حكم الكلام المباح، وذلك برفع الصوت:
القول الأول: المنع من رفع الصوت في المسجد بالكلام المباح، ويستدل لهم بجميع الأدلة التي ذكرت في مبحث: حكم رفع الصوت بالكلام المشروع، ويزاد هنا:
1 – حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا “. أخرجه مسلم 568 من حديث أبي هريرة
وجه الاستدلال: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بالدعاء على ناشد الضالة بعدم وجدانها، وذلك لأنه رفع صوته، على ما سيأتي تحريره.
2 – أن الكلام المشروع إذا كان منهياً عنه، فغيره من الكلام أولى.
3 – بناء عمر – رضي الله عنه – للرحبة، وقال: ” من أراد أن يلغط، أو ينشد شعراً، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة “.
انفرد يحيى بن يحيى الليثي في روايته عن مالك بلاغا وغيره يقولون عن مالك عن أبي النضر عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب. .. لكن قال الألباني في إصلاح المساجد 112 منقطع بين سالم وجده عمر.
4 – أن ترك رفع الصوت بالكلام المباح، أبرأ للذمَّة، وهو الذي عليه أكثر العلماء.
القول الثاني: أن رفع الصوت في المسجد، لا بأس به، ويستندون إلى حديث كعب بن مالك مع ابن أبي حَدْرَدْ المتقدم، وهو مما يَرِد على الأدلة السابقة، وتأويل بعض العلماء له، يحتاج إلى نظرٍ وتأمل.
الراجح: أن رفع الصوت بالكلام المباح، أقل أحواله الكراهة، وقد يصل إلى التحريم في بعض المسائل، مثل: إذا كان فيه تشويش على المتعبدين، وكإنشاد الضالة، ونحوهما والله – تعالى – أعلم
———–
مسألة: حكم إنشاد الضالة:
ورد في النهي عن إنشاد الضالة عِدَّةُ أحاديث، منها:
1 – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا “.
وورد نحوه عن بريدة، وعن جابر.
2 – وعن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ” نهى عن إنشاد الضالة في المسجد “.
3 – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالةً، فقولوا: لا ردها الله عليك “.
4 – عن أبي عثمان قال: سمع ابن مسعود رجلاً ينشد ضالةً في المسجد، فغضب، وسبَّه، فقال له رجلُ: ما كنت فحَّاشاً يا ابن مسعود! قال: إنَّا كنَّا نؤمر بذلك.
5 – عن عمرو بن دينار، أنه سمع طاووساً، يقول: نشد رجلٌ ضالته في المسجد، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” لا وجد ضالته “.
هذا ما استطعت جمعه من الأحاديث، والآثار الواردة في النهي عن إنشاد الضالة2.
وقد نص الأبي في شرح مسلم (2/ 246) على أن النهي للكراهة، وكذلك البغوي في شرح السنة (2/ 374)، وأبو داود في سننه.
ولعل هذا النهي للتحريم أقرب منه للكراهة فقط، وذلك لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعا على هذا الرجل، وأمر من سمعه بالدعاء عليه.
والنهي هاهنا، والدعاء عليه بسبب رفع صوته، وتشويشه، لا لأن نشدان الضالة في المسجد لا يجوز، وذلك لما يلي:
1 – أن في بعض روايات مسلم: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ” لما صلَّى، قام رجلٌ، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر “.
وجه الاستدلال: أن هذا الرجل قام بعد انقضاء الصلاة، والناس مشغولين بالأذكار، وبعضهم يقضي ما فاته من الصلاة، فقام هذا الرجل: ونادى على مَن وجد جمله.
2 – أن في بعض روايات مسلم: جاء أعرابي بعدما صلَّى النبي – صلى الله عليه وسلم – صلاة الفجر، فأدخل رأسه من باب المسجد …
وجه الاستدلال: أن هذا الرجل على هذه الصفة لا يمكن له أن يسأل بعيره إلا برفع صوته، من أجل أن يُخبِر من في المسجد عن فقدانه جَمَلَه.
3 – نص بعض أهل العلم على ذلك:
أ – قال السهارنفوري في بذل المجهود (3/ 315): قال أبو داود: (باب كراهية إنشاد الضالة في المسجد) أي: طلبها برفع الصوت.
ب – وقال أيضاً (3/ 316) ” من سمع رجلاً ينشد ضالةً ” أي: يطلبها برفع الصوت.
ج – قال القرطبي في المفهم (2/ 174) قوله: ” فليقل: لا ردَّها الله عليك ” دعاءٌ على الناشد في المسجد بعدم الوجدان، فهو معاقبةٌ له في ماله على نقيض مقصوده، فَلْيُلْحَق به ما في معناه، فمن رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحةً ترجع إلى الرافع صوته، دعيَ عليه على نقيض مقصوده، ذلك بسبب جريمة رفع الصوت في المسجد، وإليه ذهب مالك.
د – قال في عون المعبود (2/ 97)، وفيه النهي عن رفع الصوت بنشد الضالة، ومافي معناه من البيع، والشراء، والإجارة، والعقود.
هـ – بوَّب ابن حبان في صحيحه على هذا الحديث: (ذكر الزجر عن رفع الأصوات في المساجد؛ لأجل شيء من أسباب هذه الدنيا الفانية).
و – قال الأصمعي: في كل شيءٍ رفعت به صوتك، فقد أنشدتَ ضالةً كانت أو غيرها، انظر شرح سنن ابن ماجة لمغلطاي (4/ 1300).
* يَرِدُ على ما تقدم، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – علَّل دعائه على ناشد الضالة، بأن المساجد لم تُبْنَ لهذا، أي لم تبن لنشد الضالة، ونحوها، ولم يعلل سبب نهيه ودعائه بأنَّ هذا من أجل رفع صوته.
يجاب عنه:
1 – أنه ينبغي عند استنباط الحكم من النص، أن يُنْظَرَ إلى الحالة التي حَكم عليها النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة ملابسات الحادثة، ونحو ذلك من أجل أن يكون حكمنا صواباً.
2 – أن عندنا أصلٌ، وهو جواز الكلام بحديث الدنيا إذا كان مباحاً.
3 – أنا لو طردنا هذه العلَّة التي ذكروها، لعارضنا الأحاديث الأخرى، وذلك لأنَّا سننهى عن مناشدة الأشعار، وعن كلام الدنيا المباح، وعن النوم في المسجد، وعن المقاضاة في المسجد … إلخ، والتي هي في بادئ الرأي ليس مما بنيت المساجد له.
فيتلخص لنا: أن نشدان الضالة – بدون إزعاج، ولا رفع للصوت – أنه دائرٌ بين الكراهة، والتحريم، أما إذا كان برفعٍ للصوت فهو للتحريم أقرب – والله أعلم -.
قال الباجي في المنتقى (1/ 312): [مسألة: قال مالك في المبسوط، في الذي ينشد الضالة في المسجد، لا يقوم رافعاً صوته، وأما أن يسأل عن ذلك جلساءه غير رافعٍ لصوته، فلا بأس بذلك.
ووجه ذلك: أن رفع الصوت ممنوعٌ في المساجد، لما ذكرناه1، فأمَّا سؤاله جليسه فمن جنس المحادثة، وذلك غير ممنوعٍ، مالم يبلغ ذلك اللغط من الإكثار].
———-
مسألة: حكم السؤال في المسجد:
الصحيح في المسألة: ما قاله شيخ الإسلام، كما في مجموع الفتاوى (22/ 206): [ … فإن كان به ضرورة، وسأل في المسجد، ولم يؤذِ أحداً بتخطيه رقاب الناس، ولا غير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه، ويَذْكر من حاله، ولم يجهر جهراً يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به، ونحو ذلك جاز، والله أعلم].
وحديث عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنه – أصلٌ في المسألة – لو صحَّ –، حيث قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ ” قال أبو بكر: دخلت المسجد، فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة بين يدي عبد الرحمن، فأخذتها، فدفعتها إليه.
وجه الاستدلال: أن النبي – صلى الله عليه وسلم -، لم يتعرض أو ينكر على أبي بكر فعله، أو ينهَ عن السؤال في المسجد، ولو كان السؤال غير جائزٍ لم يؤخر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بيانَ حكمه، فدل ذلك على جوازه، والله أعلم.
وانظر لهذه المسألة: مجموع الفتاوى (22/ 206)، وبذل العسجد لسؤال المسجد للسيوطي وهي ضمن فتاواه (1/ 88)، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي (353)، وفتاوى اللجنة (6/ 284)، والآداب الشرعية (3/ 385) وغذاء الألباب (2/ 323).
——
مسألة: حكم تعريف اللقطة في المسجد:
ينبغي قبل الخوض في بيان الحكم الشرعي للمسألة، التنبيه على أمور:
1 – أن بعض الفقهاء لم يتعرض للكلام عن مكان تعريف اللقطة.
2 – أن بعض من أشار إلى هذه المسألة، يقول: (وتعرف على أبواب المساجد .. )، ولم يتعرض لخصوص مسألتنا، ولا شك أنَّ تعريفها على أبواب المساجد أولى، خروجاً من الخلاف
3 – أن من تكلم عن مسألتنا تجده يقول: (تعريف اللقطة: هو المناداة .. ) ثم يجمعون بين (المساجد، والأسواق، ومجامع الناس) مما يجعل المرء قد يتوقف في طرد الحكم على تعريفها بكتابة ورقة، أو سؤال آحاد الناس.
فأقدم بمقدمة تبين مقصود الفقهاء من قولهم: (تعريف اللقطة)، فأقول – مستعيناً بالله – 3.
1 – قال في غمز عيون البصائر (2/ 211): [تعريف اللقطة: هو المناداة في الأسواق، والمساجد، والشوارع: مَنْ ضاع له شيء، فليطلبه عندي .. ].
2 – قال في درر الحكَّام شرح غرر الأحكام (2/ 131): [ .. بأن ينادي: إني وجدت لقطةً .. ].
3 – وكذلك نصَّ ابن الهمام في فتح القدير على المناداة (6/ 115).
4 – قال في تكملة حاشية ابن عابدين المسمَّاة بـ (قرة عيون الأخيار): [قوله: (أي نادى بها .. إلخ) أشار إلى أن المراد بالتعريف: الجهر به .. ].
5 – قال ابن جزي المالكي في القوانين الفقهية (224): (فيجب تعريفه سنةً باتفاق، وينادي عليه في أبواب المساجد، ودبر الصلوات … ).
6 – قال في الإقناع (3/ 45): [وتعريفه على الفور .. بالنداء عليه .. في مجامع الناس؛ كالأسواق، والحمامات، وأبواب المساجد .. ].
7 – قال المجد ابن تيمية في المحرر (1/ 371): [ويجب تعريف لقطةٍ … بالنداء في مجامع الناس].
8 – قال في المحلَّى (7/ 110): [لكن تعريفه هو: أن يقول في المجامع: الذي يرجو وَجْدَ صاحبه فيها، أو لا يرجو: مَنْ ضاع له مال، فَلْيُخْبِر بعلامته].
ومعلومٌ أنَّ هذا لو كان بصوتٍ منخفض لم يكن قد أدَّى الذي عليه، وإنما هو محتالٌ لإبراء ذمته.
* أدلة المانعين من تعريف اللقطة في المسجد:
1 – أخرج النسائي في سننه الكبرى (3/ 420 ط القديمة)، ومن طريقه ابن حزم في المحلَّى (7/ 116) عن رجلٍ من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سئل عن الضالة، فقال: ” اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد، فإن جاء صاحبها، فادفعها إليه، وإن لم يأتِ، فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها “.
* يرد عليه: أن الحديث ضعيف، فقد قال فيه ابن حزم: وهذا حديثٌ هالك، لأن الليث لم يسم من أخذ عنه، وقد يرضى الفاضل مالا يُرضى … ثم هو خطأ، لأنه قال فيه: عن عبد الله بن يزيد، وإنما هو عن يزيد، لا عن عبد الله بن يزيد.
وكأن سياق النسائي لروايات الحديث تشير إلى تضعيفه.
2 – أمر عمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد.
* يرد عليه: أن هذا اجتهاد من عمر – رضي الله عنه -، وهذا كما لَحِظَ على حسان – رضي الله عنه – إنشاد الشعر، ولم يوافق عليه.
ثم لا شك أن الأولى تعريفها خارج المسجد خروجاً عن الخلاف.
ثم عمر – رضي الله عنه – لم يبين حكم تعريفها داخل المسجد، وإنما نصَّ على أن يعرفها الرجل عند باب المسجد فقط، وهذا غير كافٍ للاستدلال.
3 – قياس تعريف اللقطة على نشدان الضالة:
* يرد عليه:
1 – قد تقدم ترجيح أن نشدان الضالة يحرم إذا كان برفع الصوت، ويكره إذا كان بدون رفع للصوت، والكراهة من أجل أدلة النهي عن نشدان الضالة الأخرى، وهنا لا يوجد أدلة بخصوص تعريف اللقطة.
2 – أن قياس تعريف اللقطة على إنشاد الضالة قياس مع الفاروق، وذلك لأن ناشد الضالة يطلب لنفسه، ومُعَرِّفُ اللقطة لا يطلب لنفسه؛ بل لغيره، وقد ثبت في غير ما حديث طلب النبي – صلى الله عليه وسلم – من الصحابة التبرع إما لفقراء، أو تجهيز جيش، وهو في هذه الحالة لم يطلب – صلى الله عليه وسلم – لنفسه.
ثم حتى ولو كان يطلب لنفسه فليس هناك حرجٌ – إذا كان بدون رفعٍ للصوت –، والدليل على ذلك: سؤال الفقير في المسجد، كما تقدم في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر.
4 – أن المساجد لم تُبْنَ لهذا، وقد تقدمت الإجابة عليه في مبحث إنشاد الضالة.
فتبيَّن لنا أنه لم يوجد دليل ينهض لتحريم تعريف اللقطة في المسجد،
فننظر إلى القاعدة في الكلام المباح في المسجد، وهي: أن الكلام المباح جائزٌ بدون رفعٍ للصوت، ولا تشويش على المتعبدين،
وأما برفع الصوت فأقل أحواله الكراهة، وقد يصل إلى التحريم، كما تقدم، والله أعلم.
وسئل الإمام مالك – رحمه الله – عن تعريف اللقطة في المساجد، فقال لا أحب رفع الصوت في المساجد، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب أمر أن تعرف اللقطة على أبواب المساجد، وأحبُّ إليَّ أن لا تعرف في المساجد، ولو مشى هذا إلى الخلق في المساجد يخبرهم بالذي وجد، ولا يرفع صوته لم أَرَ بذلك بأساً.
قال القسطلاني في إرشاد الساري (5/ 424): [ .. ويجب أن يكون محل التحريم، أو الكراهة إذا وقع ذلك برفع الصوت، كما أشارت إليه الأحاديث، أما لو سأل الجماعة في المسجد بدون ذلك، فلا تحريم ولا كراهة].
-===========
جواب سيف بن محمد بن دورة الكعبي:
نقلاً من كتاب صلاة المؤمن للشيخ سعيد بن وهف القحطاني الجزء الثاني صفحة 585 – 587:
19 – الكلام في المسجد لا بأس به إذا كان مباحاً؛ لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان لا يقوم من مصلاّه الذي صلى فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسّم)) (أخرجه مسلم). ولفظ أحمد: ((شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد، وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم معهم)) أحمد بلفظه 5/ 91، وصححه الألباني.
قال النووي – رحمه الله -: ((فيه جواز الضحك والتبسّم.
وقال القرطبي -رحمه الله-: ((يمكن أن يقال: إنهم في ذلك الوقت كانوا يتكلمون؛ لأن الكلام فيه جائز غير ممنوع، إذ لم يرد في ذلك منع، وغاية ما هنالك أن الإقبال في ذلك الوقت على ذكر الله تعالى أفضل وأولى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الكلام مطلوب الترك في ذلك الوقت، والله تعالى أعلم)) (راجع المفهم).قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -: ((وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. في المسجد فحسن، وأما المحرَّم فهو في المسجد أشد تحريماً، وكذلك المكروه، ويكره فيه فضول المباح)) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، 22/ 200، 262.
20 – رفع الأصوات في المساجد ممنوع؛ لأنه يشوّش على المصلين، ولو بقراءة القرآن؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقرآن، فكشف الستر وقال: ((ألا إن كلكم مناج ربَّه، فلا يؤذينَّ بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة)) أو قال: ((في الصلاة)) أخرجه أبوداود برقم 1332، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 147،ورواه أحمد بنحوه في المسند،2/ 67، عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه أحمد شاكر في شرحه للمسند، برقم 928، و5349.
وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه من قال: ((كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله)).البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد، برقم 470.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه تقاضى ابنَ أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجفَ حجرته فنادى: ((يا كعب))، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ((ضع من دينك هذا)) وأومأ إليه: أي الشطر، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((قم فاقضه)) البخاري، كتاب الصلاة، باب التقاضي والملازمة في المسجد، برقم 457.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: ((وفي الحديث جواز رفع الصوت في المسجد، وهو كذلك ما لم يفحش … والمنقول عن مالك منعه في المسجد مطلقاً، وعنه التفرقة بين رفع الصوت بالعلم والخير، وما لا بد منه فيجوز، وبين رفعه باللغط ونحوه فلا)). ونقل الحافظ ابن حجر – رحمه الله – عن المهلب قوله: ((لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيَّن لهما ذلك)) قال ابن حجر: ((قلت: ولمن منع أن يقول: لعله تقدم نهيه عن ذلك، فاكتفى به، واقتصر على التوصل بالطريق المؤدية إلى ترك ذلك بالصلح المقتضي لترك المخاصمة، الموجبة لرفع الصوت))،وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن عبد الله ابن باز – رحمه الله – يقول: ((وهذا فيه جواز طلب قضاء الدين في المسجد، كأن يقول: أعطني ديني، وهذا ليس كالبيع، [أو] يقول: اقضني ديني جزاك الله خيراً))، وسمعته يقول عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لكعب وابن أبي حدرد: ((هذا من باب الإصلاح، والصواب أنهما إذا اتفقا على تعجيل الدين والوضع منه فلا بأس … )).
—–
وذكر ابن عبدالبر أن شيخه أحمد بن عبدالملك بن هشام أمر بإخراج رجل ذرب اللسان من المسجد وقاسه على إخراج من أكل ثوم و البصل.
وكذلك ذكر هذا القياس القرطبي
—
وهذا جواب لبعض أهل الفتوى حول تعظيم المساجد:
ومن تعظيم الله تعالى للمساجد شرع لها أحكاما تخصها، ونهى عن أشياء أن لا تفعل في المساجد، ومن ذلك:
1. نِشدان الضالة، أي: رفع الصوت بالسؤال عن الشيء الضائع، قال النبي صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا) رواه مسلم (568).
ومعنى النِشدان: رفع الصوت.
قال الأصمعي: ” في كل شيء رفعت به صوتك , فقد أنشدت، ضالة كانت أو غيرها “.
انتهى من ” شرح سنن ابن ماجه لمغلطاي ” (1/ 1279).
قال الباجي في ” المنتقى شرح الموطأ ” (1/ 312): ” قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَنْشُدُ الضَّالَّةَ فِي الْمَسْجِدِ: لَا يَقُومُ رَافِعًا صَوْتَهُ، وَأَمَّا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ جُلَسَاءَهُ، غَيْرَ رَافِعٍ لِصَوْتِهِ: فَلَا بَاسَ بِذَلِكَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: ” إِذَا وَجَدْتَ لُقَطَةً فَعَرِّفْهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْتَرِفُهَا , وَإِلَّا فَشَانُكَ بِهَا ” رواه عبد الرزاق (18620).
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله: ” يُعَرِّفُ اللُّقَطَةَ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: لَا أُحِبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ عُمَرُ أَنْ تُعَرَّفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ مَشَى هَذَا الَّذِي وَجَدَهَا إلَى الْحِلَقِ فِي الْمَسْجِدِ، يُخْبِرُهُمْ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ: لَمْ أَرَ بِهِ بَاسًا ” انتهى من ” التاج والإكليل ” (8/ 42).
2. البيع والشراء في المسجد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ) رواه الترمذي (1321) وصححه الألباني.
3. ومن ذلك تناشد الأشعار. وسبق الكلام عليه.
4. الحديث في أمر الدنيا، بحيث يكون هو غالب شأنهم، مع ما يصحبه من التشويش، واللغط، ورفع الصوت، حتى يصير المسجد بذلك كأنه منتدى لأحاديث الدنيا , فإن المساجد لم تبن لذلك.
وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: ” بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي المَسَاجِدِ “.
ثم روى فيه (470) بإسناده: عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: ” كُنْتُ قَائِمًا فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَاتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا – أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ – قَالاَ: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ البَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “.
قال ابن مفلح في ” الآداب الشرعية ” (3/ 382): ” وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ لَغَطٍ وَكَثْرَةِ حَدِيثٍ لَاغٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ بِمَكْرُوهٍ ” انتهى.
وأما إن كان الحديث الدنيوي ليس غالباً على حديث الجالسين في المسجد، ولم يكن فيه تشويش على المصلين والذاكرين، ولا لغط ورفع صوت: فلا بأس به كما جاء في حديث جابر سمرة ” كَانَ: النبي صلى الله عليه وسلم لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ، أَوِ الْغَدَاةَ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا [أي: الصحابة] يَتَحَدَّثُونَ فَيَاخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ، وَيَتَبَسَّمُ ” رواه مسلم (670).
قال النووي في ” المجموع ” (2/ 177): ” يَجُوزُ التَّحَدُّثُ بِالْحَدِيثِ الْمُبَاحِ فِي الْمَسْجِدِ وَبِأُمُورِ الدُّنْيَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُبَاحَاتِ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ ضَحِكٌ وَنَحْوُهُ مَا دَامَ مُبَاحًا لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ” انتهى.
5 – رفع الصوت في المسجد عموماً , ولو بقراءة قرآن أو الذكر، إذا كان يشوش على الحاضرين في المسجد , إلا ما رخص الشرع برفع الصوت فيه، كالأذان والصلاة الجهرية والخطبة , ونحو ذلك.
وفي الحديث: (وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ [يعني: في المساجد]) رواه مسلم (432).
قال النووي في ” شرح صحيح مسلم ” (4/ 156) ” أَيِ اخْتِلَاطُهَا وَالْمُنَازَعَةُ وَالْخُصُومَاتُ وَارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ وَاللَّغَطُ وَالْفِتَنُ الَّتِي فِيهَا ” انتهى.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: ” اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ، وَقَالَ: (أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ , أَوْ قَالَ: فِي الصَّلَاةِ) رواه أبو داود (1332)، وصححه الألباني.
قال النووي في ” المجموع ” (2/ 175): ” تُكْرَهُ الْخُصُومَةُ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ ” انتهى.
ثانيا:
ما قام به أولئك الفتية من اللعب بالحراب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم: لم يكن ألعاباً بهلوانية كما قال السائل , بل كانت ألعاب الحرب.
ففي ” صحيح البخاري ” (5190) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ” كَانَ الحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ “.
قال ابن حجر في ” فتح الباري ” (2/ 445): ” وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ اللَّعِبِ بِالسِّلَاحِ، عَلَى طَرِيقِ التَّوَاثُبِ؛ لِلتَّدْرِيبِ عَلَى الْحَرْبِ، وَالتَّنْشِيطِ عَلَيْهِ.
” انتهى.
جاء في ” مرقاة المفاتيح ” (5/ 2120) ” وَإِنَّمَا سُومِحُوا: لِأَنَّ لَعِبَهُمْ بِالْحِرَابِ كَانَ يُعَدُّ مِنْ عُدَّةِ الْحَرْبِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَصَارَ عِبَادَةً بِالْقَصْدِ، كَالرَّمْيِ ” انتهى.
ومن أسباب الغلط أن يحمل الشخص ألفاظ النصوص على العرف الذي نشأ عليه , وليس على عرف أهل زمان الوحي، الذين جرت عليهم تلك الأمور، ونزل فيهم الشرع.
ينظر ” مجموع الفتاوى ” لابن تيمية (7/ 106).
والله أعلم