لطائف التفسير (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
[سورة البقرة 3]
أهمية الإيمان بالغيب حتى أنه قدمه على الصلاة
——–‘——
قال الشيخ السعدي:
ـ فصل ـ
82. سؤال: ما هو الغيب الذي أثنى الله على المؤمنين به، وأخبر عن سعادتهم وفلاحهم واستحقاقهم النعيم المقيم؟ فلعل العبد يعرفه ويتعرف محالَّه ومواضِعه؛ فيجتهد في تحقيق الإيمان ليكون من المفلحين. فإن أكثر الناس – بل أكثر المؤمنين – ليس عندهم في هذا الباب إلا أمورٌ مجملة، وألفاظٌ غير محققة، وهذا نفعه دون نفع التنويع والتفصيل والتوضيح والتبيين بكثير كثير؛ فأفتونا بحسب قدرتكم واستطاعتكم؛ فإنا لا نطلب منكم شططاً، وإلا فقد تقرر أن هذه المسألة لا يتمكن خواص الخلق من إيفاء حقها وبيان أمرها، فأفتونا مأجورين.
الجواب: وبالله أستعين، وإليه أضرع في الهداية فيها وفي غيرها: الغيب هو خلاف الشهادة، ولهذا تقسم الأشياء قسمين: غيبية ومحسوسة، فالأمور المحسوسة المشاهدة لم يُعلّق الشارعُ عليها حكماً من أحكام الإيمان، الذي يفرق به بين أهل السعادة وغيرهم، وذلك كالسماء والأرض وما فيها من المخلوقات المشاهدة، والطبائع المعلومة المعقولة؛ إنما يذكر الله تعالى من هذا النوع الأدلةَ والبراهينَ على ما أخبر به وأخبرت به رسله، القسم الثاني: وهو الغيب الذي أمر بالإيمان به، ومدح المؤمنين به في غير موضع من كتابه، وضابط هذا القسم: أنه كل ما أخبر الله به، وأخبرت به رسله على وجهٍ يدعو الناسَ إلى تصديقه والإيمان به، وذلك أنواع كثيرة: أجلها وأعلاها وأفضلها وأنفعها وأيسرها: ما أخبر به في كتبه، وأخبرت به رسلُه من أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، ونعوته الجليلة الجميلة، وأفعاله الحميدة، وفي الكتاب والسنة من هذا النوع شيء كثير جداً بحسب الحاجة إليه؛ فإنه لا أعظم حاجة وضرورة من معرفة النفوس بربها ومليكها، الذي لا غنى لها عنه طرفة عين، ولا صلاح لها ولا زكاء إلا بمعرفته وعبادته، وكلما كان العبد أعرف بأسماء ربه، وما يستحقه من صفات الكمال، وما يتنزه عنه مما يضاد ذلك؛ كان أعظم إيماناً بالغيب، واستحق من الثناء والمدح بحسب معرفته، وموضعُ هذا: تدبر أسمائه الحسنى التي وصف وسمى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسله، فيتأملها العبد اسماً اسماً، ويعرف معنى ذلك، وأن له تعالى في ذلك الاسم أكمله وأعظمه، وأن هذا الكمال والعظمة ليس له منتهى، ويعرف أن كل ما ناقض هذا الكمال بوجه من الوجوه فإن الله تعالى منزه مقدس عنه، لما كان هذا النوع هو أصل الإيمان بالغيب وأعظمه وأجله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة» () أي ضبط ألفاظها، وأحصى معانيها، وتعقلها في قلبه، وتعبد
الله بها، وتقرب بمعرفتها إلى رب العالمين؛ فينبغي للمؤمن الناصح لنفسه أن يبذل ما استطاع من مقدوره في معرفة أسماء الله وصفاته وتقديسه، ويجعل هذه المسألة أهم المسائل عنده، وأولاها بالإيثار، وأحقها بالتحقيق؛ ليفوز من الخير بأوفر نصيب، ولهذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الأنصاري عن سبب ملازمته لقراءة سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في صلاته فقال: “لأنها صفة الرحمن، فأحب أن أقرأ بها” فقال: «حبك إياها أدخلك الجنة» متفق عليه ().
83. ثبت أن حبَّ العبدِ لصفات الرحمن، وملازمة تذكرها، واستحضار ما دلت عليه من المعاني الجليلة، والتفهم في معانيها؛ من أسباب دخول الجنة، وطريق ذلك: أن يجمع العبدُ الأسماءَ الحسنى الواردة في القرآن، وهي قريب من ثمانين اسماً – وفي السُّنة زيادة على ذلك – فيتدبرها، ويعطي كل اسمٍ منها عمومَ ذلك المعنى وكماله وأكمله، فإذا تدبر اسمَ الله عرف أن الله تعالى له جميع معاني الإلهية، وهي كمال الصفات والانفراد بها، وعدم الشريك في الأفعال؛ لأن المألوه إنما يُؤلَه لما قام به من صفات الكمال، فيحب ويخضع له لأجلها، والباري جل جلاله لا يفوته من صفات الكمال شيء بوجه من الوجوه، أو يُؤلَه ويُعبد لأجل نفعه وتوليه ونصره، فيجلب النفع لمن عبده، ويدفع عنه الضرر، ومن المعلوم أن الله تعالى هو المالك لذلك كله، وأن أحداً من الخلق لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فإذا تقرر عنده أن اللهَ وحده المألوه؛ أوجب له أن يعلق بربه حبَّه وخوفَه ورجاءَه، وأناب إليه في كل أموره، وقطع الالتفات إلى غيره من المخلوقين، ممن ليس له من نفسه كمالٌ ولا له فعال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويتدبر ـ مثلاً ـ اسمَ العليم، فيعلم أن العلم كله بجميع وجوهه واعتباراته لله تعالى، فيعلم تعالى الأمور المتقدمة والأمور المتأخرة، أزلاً وأبداً، ويعلم جليلَ الأمور وحقيرَها، وصغيرَها وكبيرها، ويعلم تعالى ظواهرَ الأشياء وبواطنَها، غيبَها وشهادتَها، ما يعلم الخلقُ منها وما لا يعلمون؛ ويعلم تعالى الواجبات والمستحيلات والجائزات، ويعلم تعالى ما تحت الأرض السفلى كما يعلم ما فوق السماوات العلى، ويعلم تعالى جزئيات الأمور وخبايا الصدور، وخفايا ما وقع ويقع في أرجاء العالم وأنحاء ملكه، فهو الذي أحاط علمُه بجميع الأشياء في كل الأوقات، ولا يعرِض تعالى لعلمه خفاءٌ ولا نسيان، ويتلو هذه الآيات المقرّرِةِ له: كقوله في غير موضع {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 43]، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4]، {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10]، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 5، 6]، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] {وَعِنْدَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63]، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبإ: 2]، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234] {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153] {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وغير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على هذا المعنى، فإنَّ تَدبُّر بعضَ ذلك يكفي المؤمنَ البصيرَ معرفةً بإحاطة علم الله تعالى، وكمال عظمته، وجليل قدره، وأنه الرب العظيم المالك الكريم.
وكذلك: يتدبر اسمَه الرحمن، وأنه تعالى واسعُ الرحمة، له كمالُ الرحمة، ورحمتُه قد ملأتِ العالم العلوي والسفلي وجميعَ المخلوقات، وشملت الدنيا والآخرة، ويتدبر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [الروم: 50]، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].
ويتلو سورة النحل الدالة على أصول النعم وفروعها، التي هي نفحةٌ وأثرٌ من آثار رحمة الله؛ ولهذا قال في آخرها: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81] ثم تدبّر سورة الرحمن من أولها إلى آخرها؛ فإنها عبارة عن شرح وتفصيل لرحمة الله تعالى، فكل ما فيها من ضروب المعاني وتصاريف الألوان من رحمة الرحمن، ولهذا اختتمها في ذكر ما أعد الله للطائعين في الجنة من النعيم المقيم الكامل، الذي هو أثر من رحمته تعالى؛ ولهذا يسمي اللهُ الجنةَ الرحمة كقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107]، وفى الحديث: «أن الله قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» ()، وقال: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، وفي الحديث الصحيح «لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها»، وفي الحديث الآخر: «إن الله كتَب كتاباً عنده فوق عرشه أن رحمتي سبقت غضبي» ().
وفي الجملة: فالله خلق الخلق برحمته، وأرسل إليهم الرسل برحمته، وأمرهم ونهاهم وشرع لهم الشرائع برحمته، وأسبغ عليهم النعمة الظاهرة والباطنة برحمته، ودبرهم أنواع التدبير وصرفهم بأنواع التصريف برحمته، وملأ الدنيا والآخرة من رحمته، فلا طابت الأمور ولا تيسرت الأشياء ولا حصلت المقاصد وأنواع المطالب إلا برحمته، ورحمته فوق ذلك وأجل وأعلى وللمحسنين المتقين من رحمته النصيب الوافر والخير المتكاثر: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] وهكذا يتدبر العبدُ صفات ربه وآثارها وأحكامها؛ حتى ينصبغ قلبُه بمعرفته، ويستنير فؤادُه ويمتلئ من عظمة خالقه وشواهد صفاته، ولنقتصر على هذا التنبيه اللطيف على هذه الأسماء الثلاثة؛ ليُحتَذى في باقيها على هذا الحذو، ويتدبر – مثلاً – آيةَ الكرسي، وأولَ سورة آل عمران، وأولَ سورة الحديد وغافر، وآخرَ سورة الحشر، وسورةَ الإخلاص ونحوها من الآيات المشتملة على هذا العلم العظيم، وما يتأيد بها من الأحاديث النبوية؛ لينال حظاً جزيلاً من الإيمان بالغيب، وليكون من الذين يخشون ربهم بالغيب.
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بجميع رسل الله الذين أرسلهم على وجه الإجمال والتفصيل لأشخاصهم ولدعوتهم وشرعهم، وكذلك الإيمان بجميع الكتب التي أنزلها الله هداية للعباد على ما اجتباهم برسالته، ولهذا سمى الله الوحي الذي أنزله على رسوله غيباً، فقال: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]، ويذكر تعالى من أدلة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الأخبار بوقائع الأنبياء المتقدمين وما جرى لهم فيقول: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49]، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص:44]، وما أشبه هذا مما فيه التبيان لصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بهذه الغيوب، فتمام الإيمان بالغيب: أن يؤمن العبدُ بجميع رسل الله ويعرف من صفاتهم ومن دعوتهم ما يحقق به هذا الأمر.
وكذلك: يؤمن بجميع الكتب، خصوصاً هذا القرآن العظيم، الذي كلف العبد بالإيمان به إجمالاً وتفصيلاً.
وكيفية الإيمان على وجهِ الإجمالِ والتفصيل: أن يؤمن ويصدِّق بأنه كلامُ الله، أنزله مع جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا اللسان العربي؛ لينذر الخلق ويهدي إلى الحق في جميع المطالب، ويلتزم العبد التزاماً لا تردد فيه تصديقَ إخباراته كلِّها، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإحلال حلاله وتحريم حرامه، ثم يُحقق هذا الأصلَ بتفاصيله، فيتفهّم ما دلت عليه أخبارُه، ويجعلها عقيدة لقلبه راسخة، لا تزلزلها الشُبَه، ولا تُغيّرها العَوارض، ويجتهد في كل ما أُمِر به من أعمال القلوب والجوارح أن يقوم به على وجه الكمال والتكميل، علماً وعملاً وحالاً؛ وما لا يقدر عليه ينوي فعلَه لو قَدَر عليه. وكذلك النواهي: يأخذ نفسَه في كل ما نهي عنه أن لا يقربه ولا يحوم حوله؛ امتثالاً لأمر الله، ورجاء لثوابه، فبحسب قيام العبد بهذا يكون إيمانه بالغيب، فمستقلٌ ومستكثرٌ ومتوسطٌ، ويدخل في هذا النوع: الإيمان بأخباره بما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة.
ومن أنواع الإيمان بالغيب: الإيمان باليوم الآخر، وبما وعد اللهُ العبادَ من الجزاء، فدخل في هذا: الإيمانُ بجميع ما يكون بعد الموت من فتنة القبر وأحواله، ومِن صفات يوم القيامة وأهوالِه، ومن صفات النار وأهلها، وما أعد اللهُ لهم فيها، ومن صفات الجنة وأهلها، وما أعد الله فيها لأهلها، فيفهمها فهماً صحيحاً مأخوذاً من الكتاب ودلالته البينة، ومن السنة الصحيحة ودلالتها الظاهرة، فبحسب ما يصل إلى العبد من نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب، وفهمها على وجهها؛ يكون إيمان العبد بالغيب.
وإذا استقر الإيمان بالوعد والوعيد في قلب العبد، وحصل فيه من ذلك تفاصيلُ كثيرة؛ أوجب له الرغبة في فعل ما يقرّبه إلى ثواب الله، والرهبة من الأسباب الموجبة للإهانة، وعلم أن الله تعالى قائمٌ على كل نفس بما عملت من خير وشر، وأنه واسع الفضل، كامل العدل، قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَاتِيًّا} [مريم:61]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9].
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالملائكة الكرام، الذين جعلهم الله عباداً مُكْرَمين، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 28]، وأنهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، وأنه تعالى جعلهم يدبرون بأمره وإذنه أمورَ الدنيا والآخرة، فهم أكثرُ جنود الله، وهم رسله في أحكامه الدينية وأحكامه القدرية، وأن الله جعل للعبد منهم مُعَقِّباتٍ يحفظونه من أمر الله، ويحفظون عليه أعماله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 9 – 12] ولهم صفاتٌ وأفعالٌ مذكورة في الكتاب والسنة لا يتم الإيمانُ بالغيب إلا بالإيمان بها؛ فرجع الإيمان بالغيب إلى أصول الإيمان الستة بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، على هذا الوجه الذي ذكرنا، والأصل الذي نبهنا أدنى تنبيه عليه، فمن حقق الإيمان بذلك كله كان من المؤمنين بالغيب حقيقة، المتقين المفلحين.
راجع
المواهب الربانية من الآيات القرآنية
الشيخ العلامة
عبد الرحمن بن ناصر السعدي