سُورَةِ الأحقاف تفسير آيات 7 – 9 تهذيب تفسير ابن كثير
(بالتعاون مع الإخوة بمجموعات؛ السلام،1،2،3 والمدارسة، والاستفادة وأهل الحديث همو أهل النبي صلى الله عليه وسلم) تهذيب سيف بن دورة الكعبي وأحمد بن علي وبعض طلاب العلم (من لديه تعقيب أو فائدة من تفاسير أخرى فليفدنا)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ((7)) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ((8)) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ((9))}.
……………………..
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ: أَنَّهُمْ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ بَيِّنَاتٍ، أَيْ: فِي حَالِ بَيَانِهَا وَوُضُوحِهَا وَجَلَائِهَا، يَقُولُونَ: {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} أَيْ: سِحْرٌ وَاضِحٌ، وَقَدْ كَذَبوا وَافْتَرَوْا وضَلّوا وَكَفَرُوا {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يَعْنُونَ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ اللَّهُ [تَعَالَى] {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أَيْ: لَوْ كَذَبْتُ عَلَيْهِ وَزَعَمْتُ أنه أرسلني -وليس كذلك-لعاقبني أشد الْعُقُوبَةِ، وَلَمْ يَقْدرْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، لَا أَنْتُمْ وَلَا غَيْرُكُمْ أَنْ يُجِيرَنِي مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الْجِنِّ: (22)، (23)]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الْحَاقَّةِ: (44) – (47)]؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، وَتَرْهِيبٌ شَدِيدٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} تَرْغِيبٌ لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، أَيْ: وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ إِنْ رَجَعْتُمْ وَتُبْتُمْ، تَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ، وَغَفَرَ [لَكُمْ] وَرَحِمَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا. قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الْفُرْقَانِ: (5)، (6)].
وَقَوْلُهُ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أَيْ: لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ طَرَقَ الْعَالَمَ، بَلْ قَدْ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِي، فَمَا أَنَا بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ حَتَّى تَسْتَنْكِرُونِي وَتَسْتَبْعِدُوا بَعْثَتِي إِلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ قَبْلِي جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى الْأُمَمِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} مَا أَنَا بِأَوَّلِ رَسُولٍ. وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نَزَلَ بَعْدَهَا {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الْفَتْحِ: (2)]. وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، قَالُوا: وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: هَذَا قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَا هُوَ فَاعِلٌ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا هُوَ فَاعِلٌ بِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الْفَتْحِ (5)].
هَكَذَا قَالَ، وَالَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. (1)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}: مَا أَدْرِي بِمَاذَا أُومَرَ، وَبِمَاذَا أُنْهَى بَعْدَ هَذَا؟
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الهذلِيّ (2)، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} قَالَ: أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمَعَاذَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا، أُخْرَجُ كَمَا أُخْرِجَتِ الْأَنْبِيَاءُ [مِنْ] قَبْلِي؟ أَمْ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي؟ وَلَا أَدْرِي أَيُخْسَفُ بِكُمْ أَوْ تُرمون بِالْحِجَارَةِ؟
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَوّل عَلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ جَازِمٌ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَدْرِ مَا كَانَ يئُول إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ إِلَى مَاذَا: أَيُؤْمِنُونَ أَمْ يَكْفُرُونَ، فيعذبون فَيُسْتَاصَلُونَ بِكُفْرِهِمْ؟ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ -وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِمْ-أَخْبَرَتْهُ -وَكَانَتْ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَتْ: طَارَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ عثمانُ بْنُ مَظْعُونٍ. فَاشْتَكَى عُثْمَانُ عِنْدَنَا فَمرَّضناه، حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ أدْرَجناه فِي أَثْوَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، شَهَادَتِي عَلَيْكَ، لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ ” فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي! ” قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا. وَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ذَاكَ عَمَلُهُ”.
فَقَدِ انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: “مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ”. وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْفُوظُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهَا: “فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ” (3). وَفِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِمُعَيَّنٍ بِالْجَنَّةِ إِلَّا الَّذِي نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى تَعْيِينِهِمْ، كَالْعَشَرَةِ، وَابْنِ سَلَامٍ، والغُميصاء، وَبِلَالٍ، وَسُرَاقَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَالِدِ جَابِرٍ، وَالْقُرَّاءِ السَّبْعِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَابْنِ رَوَاحَةَ، وَمَا أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ: إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عليَّ مِنَ الْوَحْيِ، {وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أَيْ: بَيِّنُ النّذَارة، وَأَمْرِي ظَاهِرٌ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ وَعَقْلٍ.
……………….
(1) صحيح دون الشطر الثاني من قوله: هنيئا كما بين قتادة فهو عن عكرمة كما في رواية البخاري 4172 وغيره، وبين ذلك غير واحد من أهل العلم المعاصرين.
(2) الهذلي متروك.
وهذا القول اختاره ابن جرير كما قاله ابن كثير ونقل ذلك أيضاً القرطبي عن النحاس ورجحه.
وراجع دفع إيهام الاضطراب فقد ذكر القولين القول بالنسخ ودلل له، ونقل أيضاً قول من قال أن المقصود في الدنيا.
(3) بين البخاري ترجيح قول (ما يفعل به) تحت حديث 1243