دراسة فقهية مقارنة
حكم تأدية النوافل في السفر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه ومن اهتدى بهداه وبعد: فهذا بحث موجز في حكم تأدية النوافل في السفر وقد جعلت الموضوع في مبحثين: المبحث الأول: في أقوال أهل العلم في المسألة المبحث الثاني: في أدلة كل قول من أقوالهم المبحث الأول: في أقوال أهل العلم في المسألة النوافل قسمان: القسم الأول: غير الرواتب كالنوافل المطلقة وكالوتر والضحى فهذه لا خلاف في استحباب الإتيان بها في السفر, قال الإمام النووي في شرحه على مسلم 5/ 198: (وقد اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة … )
اه وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي 3/ 96 في معرض الحديث عن النوافل في السفر: (وأما النوافل المطلقة فقد اتفق العلماء على استحبابها) اه وقال الزرقاني في شرحه على الموطأ1/ 428: (قال الباجي: لا خلاف بين الأمة في جواز التنفل للمسافر بالليل) اه والقسم الثاني: الرواتب وهذه قسمان: الأول: مجمع على مشروعية الإتيان به في السفر وهو ركعتا الفجر لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة وكذا عن الصحابة حتى ابن عمر فقد أخرج الطبراني في الأوسط 7/ 264: (عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه أنه أرسل إلى عائشة رضي الله عنها فسألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت كان يصلي ويدع ولكن لم أره ترك الركعتين قبل صلاة الفجر في سفر ولا حضر ولا صحة ولا سقم) اه وفي مصنف ابن أبي شيبة 1/ 426: (فصل ركعتا الفجر تصليان في السفر: حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه عن عائشة قالت: (أما ما لم يدع صحيحا ولا مريضا في سفر ولا حضر غائبا ولا شاهدا تعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فركعتان قبل الفجر) حدثنا أبو بكر قال نا أبو أسامة قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كان يصلي ركعتي الفجر في السفر. حدثنا هشيم قال: أخبرنا ابن عون عن مجاهد قال سألته أكان ابن عمر يصلي ركعتي الفجر قال ما رأيته يترك شيئا في سفر ولا حضر) اه
الثاني: مختلف في مشروعية الإتيان به في السفر وهو ما عدا ذلك وقد اختلف أهل العلم فيه على أقوال: القول الأول: أن الإتيان بها في السفر مشروع وهو مذهب جماهير أهل العلم وعليه أكثر الصحابة والأئمة وهو مذهب المالكية والشافعية وهو قول في مذهب الحنفية والحنابلة وذلك لما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من فعل ذلك والقول الثاني: أن ذلك مشروع في حالة الأمن دون الخوف بحيث لا يمكنه المكث لأداء السنن وهو معتمد مذهب الحنفية والقول الثالث: أن ذلك مشروع في حالة النزول دون حالة السير وهو قول لبعض الحنفية والقول الرابع: أنه مخير بين الإتيان بها والترك [وهذا هو شأن النوافل في الحضر] وهو معتمد مذهب الحنابلة القول الخامس: أنه لا يشرع الإتيان بها وهو مذهب ابن عمر وبعض السلف وهو ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وذهب إليه بعض الحنفية وإليك الآن أقوالهم مفصلة بحسب المذاهب الأربعة ضمن الفروع التالية: الفرع الأول من أقوال الحنفية: في بدائع الصنائع 1/ 93: (ومن الناس من قال بترك السنن في السفر. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: ” لو أتيت بالسنن في السفر لأتممت الفريضة ” وذلك عندنا محمول على حالة الخوف على وجه لا يمكنه المكث لأداء السنن) اه وفي حاشية تبيين الحقائق 1/ 211: (في المحيط: اختلف في السنن [في السفر] …
فقيل: الترك أفضل ترخصا وقد روي عن أبي بكر وغيره من الصحابة تركها وقيل الفعل أفضل تقربا وقال الهندواني: حال النزول الفعل أفضل وحال السير الترك أفضل وقيل: يصلي سنة الفجر لقوتها وقيل سنة المغرب أيضا , وفي المبسوط لا بأس بترك السنن , وهذا يدل على أن الفعل أفضل, وتأويل ما روي عن بعض الصحابة أنه حال السير على وجه لا يمكنه المكث لأدائها) اه وفي مجمع الأنهر 1/ 161: (واختلفوا في ترك السنن فقيل: الأفضل هو الترك ترخصا وقيل الفعل تقربا وقيل الفعل نزولا والترك سيرا, والمختار الفعل أمناً والترك خوفا لأنها شرعت لإكمال الفرض والمسافر محتاج إليه وتستثنى منه سنة الفجر عند البعض وقيل: سنة المغرب) اه وفي شرح الحصكفي 2/ 131: (ويأتي) المسافر (بالسنن) إن كان (في حال أمن وقرار وإلا) بأن كان في خوف وفرار (لا) يأتي بها هو المختار لأنه ترك لعذر تجنيس ([1]) قيل إلا سنة الفجر) اه وفي حاشية ابن عابدين عليه: (قوله ويأتي المسافر بالسنن) أي الرواتب … (قوله هو المختار) وقيل الأفضل الترك ترخيصا , وقيل الفعل تقربا. وقال الهندواني: الفعل حال النزول والترك حال السير , وقيل يصلي سنة الفجر خاصة , وقيل سنة المغرب أيضا بحر قال في شرح المنية والأعدل ما قاله الهندواني. ا هـ.
قلت: والظاهر أن ما في المتن هو هذا وأن المراد بالأمن والقرار النزول وبالخوف والفرار السير لكن قدمنا في فصل القراءة أنه عبر عن الفرار بالعجلة لأنها في السفر تكون غالبا من الخوف تأمل) اه وفي فتح القدير 1/ 481: (فإن كثيرا من المشايخ على نفي الاستنان في السفر فلا يصلي السنة فيه وقيل يصليها لأن ما ذكرنا من المعقول من شرعيتها مشترك بين المسافر والمقيم ولا ضرر على المسافر فيه إذ يمكنه أداؤها راكبا على ما مر لكن ثبت عن ابن عمر أنه سئل عن سنة الظهر في السفر فقال: لو كنت مسبحا لأتممت, ولأنا لا نقول لا يتنقل على الدابة في السفر, بل الكلام في ثبوت سنية المعهودة حتى يلزمه إساءة بالترك فهذا هو المنفي فإن الشارع لما أسقط شطر الفرض عنه تخفيفا عليه للسفر فمن المحال أن يطلب منه غيره بحيث يلزمه إساءة بتركه) اه الفرع الثاني من أقوال المالكية: في الاستذكار 2/ 252 – 253: (باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والصلاة على الدابة) ذكر فيه مالك عن نافع عن بن عمر أنه كان لا يصلي مع صلاة الفريضة في السفر شيئا قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل فإنه كان يصلي على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت وذكر عن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن أنهم كانوا يتنفلون في السفر وعن نافع أيضا أن عبد الله كان يرى ابنه يتنفل في السفر فلا ينكر عليه وهذا الخبر خلاف ما روي عن بن عمر لو تنفلت في السفر لأتممت إلا أن بن عمر قد احتج لفعله ذلك بما نذكره عنه بعد في هذا الباب إن شاء الله وهذه الآثار كلها دالة على أن الإنسان مخير في النافلة وفي صلاة السنة الركعتين قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب إن شاء فعل ذلك فحصل على ثوابه وإن شاء قصر ومعلوم أن المرء مخير في فعل النافلة في الحضر فكيف في السفر …
ثم ذكر أثر ابن عمر ثم قال: هذا المعنى محفوظ عن بن عمر من وجوه وقد رويت آثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان ربما تنفل في السفر وأنه كان يرتحل من منزل ينزله حتى يصلي ركعتين وأهل العلم لا يرون بالنافلة في السفر بأسا كما قال مالك رحمه الله) اه وفي شرح الزرقاني على الموطأ1/ 428: (وجاءت آثار عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان ربما تنفل في السفر قال البراء: سافرت مع رسول الله ثمان عشرة سفرة فما رأيته يترك الركعتين قبل الظهر رواه أبو داود والترمذي والمشهور عن جميع السلف جوازه وبه قال الأئمة الأربعة قال النووي: وأجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة محتمة فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها وأما النافلة فإلى خيرة المصلي فالرفق به أن تكون مشروعة ويخير فيها انتهى وتعقب بأن مراد ابن عمر بقوله لو كنت مسبحا لأتممت أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه لكنه فهم من القصر التخفيف فلذا كان لا يصلي الراتبة ولا يتم) اه
ثانيا دليل من قال بعدم المشروعية ودليل من قال بعدم المشروعية حديث ابن عمر المشهور: ففي صحيح مسلم 1/ 479: (عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: صحبت بن عمر في طريق مكة قال فصلى لنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلس وجلسنا معه فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى فرأى ناسا قياما فقال ما يصنع هؤلاء قلت يسبحون, قال: لو كنت مسبحا لأتممت صلاتي يا بن أخي إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وقد قال الله (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) اه وأجاب الجمهور عن حديث ابن عمر وعما ورد في ترك النوافل في السفر بأجوبة: أن المثبت مقدم على النافي كما هي القاعدة أن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأحيان لبيان الجواز أو لغير ذلك من الأسباب أن ذلك كان في حالة السير دون النزول أن عدم الفعل لا يدل على عدم المشروعية ويبقى الأمر على عموم استحباب النوافل فيشمل ذلك السفر والحضر أن ذلك من العمل الصالح الذي يشرع في السفر والحضر أنه لا فرق بين النوافل المطلقة وغيرها في ذلك بل الرواتب آكد أنه لا فرق بين الرواتب والضحى والوتر وسنة الفجر أو لعله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولم يره ابن عمر أن مراده هو أن التطوع رخصة في السفر فقبل الرخصة ولم يتطوع وليس مراده أن التطوع في السفر ممنوع قال الإمام النووي في شرح مسلم 5/ 198: (ولعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه بن عمر فان النافلة في البيت أفضل أو لعله تركها في بعض الأوقات تنبيها على جواز تركها وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرعت لكان اتمام الفريضة أولى فجوابه أن الفريضة متحتمة فلو شرعت تامة لتحتم اتمامها وأما النافلة فهي إلى خيرة المكلف فالرفق أن تكون مشروعة ويتخير ان شاء فعلها وحصل ثوابها وأن شاء تركها ولا شيء عليه) اه وفي تحفة الأحوذي 3/ 96: (وروي عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه كان يتطوع في السفر) أخرجه الترمذي في هذا الباب قال بعض العلماء: هذا محمول على التذكر وما روى عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يتطوع في السفر محمول على النسيان والله تعالى أعلم, وروى مالك في الموطأ بلاغا عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يرى ابنه عبيد الله يتنفل في السفر فلا ينكر ذلك عليه قوله (فرأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتطوع الرجل في السفر وبه يقول أحمد وإسحاق) المراد من التطوع النوافل الراتبة وأما النوافل المطلقة فقد اتفق العلماء على استحبابها (ومعنى من لم يتطوع في السفر قبول الرخصة) يعني أن من قال بعدم التطوع في السفر مراده أن التطوع رخصة في السفر فقبل الرخصة ولم يتطوع وليس مراده أن التطوع في السفر ممنوع, (وهو قول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر) اه كلام المباركفوري هذا هو آخر المطاف والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي اليمن – صنعاء ذو الحجة / 1427 هـ[1] كذا في الأصل