تهذيب تفسير ابن كثير سورة الفتح الآيات من 1 – 3
سيف الكعبي وأحمد بن علي
روى َ الإِمَامُ أَحْمَدُ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرِهِ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَرَجَّعَ فِيهَا قَالَ مُعَاوِيَةُ لَولا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْنَا لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ، أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفتح (48): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
——–
نَزَلَتْ هـذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، حِينَ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى المسجد الحرام فيقضي عُمْرَتَهُ فِيهِ، وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ ثُمَّ مَالُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، وَأَنْ يَرْجِعَ عَامَهُ هـذَا ثُمَّ يَأْتِيَ مِنْ قَابِلٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ عَلَى تَكَرُّهٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ تَفْسِيرِ هـذه السورة إن شاء الله تعالى، فَلَمَّا نَحَرَ هـدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ وَرَجَعَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هـذِهِ السُّورَةَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهـمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الصُّلْحَ فَتْحًا بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَمَا آلَ الأمْرُ إِلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَعُدُّونَ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَالَ الأعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا كُنَّا نَعُدُّ الْفَتْحَ إِلاَّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. (1)
وَروى الْبُخَارِيُّ: َ عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ. وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهـا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتانا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهـا ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ ماء فتوضأ ثم تَمَضْمَضَ وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا فَتَرَكْنَاهـا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرَكَائِبُنَا.
وَروى الإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، قَالَ فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألححت رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثَلاث مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي فحركت بعيري فَتَقَدَّمْتُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ، قَالَ: فَإِذَا أَنَا بِمُنَادٍ يُنَادِي يَا عُمَرُ، أَيْنَ عُمَرُ قَالَ: فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٍ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نزل علي البارحة سُورَةٌ هـيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ المديني هـذا إسناد مدني جَيِّدٌ لَمْ نَجِدْهُ إِلا عِنْدَهـمْ.
وَروى الإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أنزلت علي الليلة آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الأَرْضِ» ثُمَّ قَرَأَهـا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هـنِيئًا مَرِيئًا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَقَدْ بين الله عز وجل ما يَفْعَلُ بِكَ فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟
فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ- حتى بلغ- فَوْزاً عَظِيماً أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ بِهِ. (والألباني صححه دون جملة هنيئا مريئا فهي من مراسيل عكرمة)
وَروى الإِمَامُ أَحْمَدُ: عن الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» أَخْرَجَاهُ وَبَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلاَّ أَبَا دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ زِيَادٍ بِهِ.
وَروى الإِمَامُ أَحْمَد: عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ رَجُلاَهُ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ – رضي الله عنها -: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتصنع هـذا وقد غفر الله لك ما تقدم لك من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهـبٍ بِهِ.
فَقَوْلُهُ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أَيْ بَيِّنًا ظَاهـرًا وَالْمُرَادُ بِهِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ جَزِيلٌ، وَآمَنَ النَّاسُ وَاجْتَمَعَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَكَلَّمَ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْكَافِرِ وَانْتَشَرَ الْعِلْمُ النافع والإيمان.
وقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ هـذَا مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ الَّتِي لاَ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وليس في حديث صحيح فِي ثَوَابِ الأعْمَالِ لِغَيْرِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَهـذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهـوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ وَالاسْتِقَامَةِ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ لاَ مِنَ الأوَّلِينَ وَلاَ مِنَ الآخِرِينَ، وَهـوَ أَكْمَلُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلاَقِ وَسَيِّدُهـمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَمَّا كَانَ أطوع خلق الله تعالى لله وأشدهـم تَعْظِيمًا لأَوَامِرِهِ وَنَوَاهـيهِ قَالَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ الناقة: «حبسها حابس الفيل» ثم قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا يُعَظِّمُونَ بِهِ حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا» (أخرجه البخاري2731) فَلَمَّا أَطَاعَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ قَالَ اللَّهُ تعالى لَهُ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ بِمَا يُشَرِّعُهُ لَكَ مِنَ الشَّرْعِ الْعَظِيمِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أَيْ بِسَبَبِ خُضُوعِكَ لأَمْرِ الله عز وجل يَرْفَعُكَ اللَّهُ وَيَنْصُرُكَ عَلَى أَعْدَائِكَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ عز وجل إلا رفعه الله تعالى
===========
(1) إنما ذكر ابن جرير في هذا الموضع حديث أنس وحديث جابر وسهل بن حنيف والبراء ومجمع بن جارية ولم يذكر ابن مسعود. وانظر كون صلح الحديبية يعتبر فتحا فتح الباري 7/ 507 السلفية