تهذيب تفسير ابن كثير [سورة الحجرات (49): آية 12]
قام به سيف بن محمد بن دورة الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
—–
[سورة الحجرات (49): آية 12]
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهـتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12)
—-
يقول تعالى ناهـيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهـو التهمة والتخون للاهـل والاقارب والناس في غير محله لان بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثير منه احتياطا وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا.
وروى مالك عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هـريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا»
رواه البخاري ومسلم
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» رواه مسلم.
وروى أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن زيد رضي الله عنه قال: أتي ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له: هـذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال عبد الله رضي الله: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. (1) سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
و عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهـم» فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها، ورواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري به. الصحيح المسند 1116
وروى أبو داود أيضا: عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة، وعمرو بن الاسود والمقدام بن معد يكرب وأبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الامير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهـم» (2)
ولا تجسسوا أي على بعضكم بعضا والتجسس غالبا يطلق في الشر ومنه الجاسوس.
وأما التحسس فيكون غالبا في الخير كما قال عز وجل إخبارا عن يعقوب أنه قال يا بني اذهـبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله [يوسف: 87]
وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا»
وقال الاوزاعي: التجسس البحث عن الشيء. والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهـم له كارهـون أو يستمع على أبوابهم، والتدابر: الصرم، رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا) فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرهـا الشارع
كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هـريرة قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» «3» ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به وقال: حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة عن العلاء.
وهـكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ومسروق وقتادة وأبو إسحاق ومعاوية بن قرة.
وروى أبو داود: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال غير مسدد: تعني قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» قالت: وحكيت له إنسانا فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا» «4» ورواه الترمذي
والغيبة محرمة بالاجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا من رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة!»
وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما معاوية فصعلوك، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه»
وكذا ما جرى مجرى ذلك، ثم بقيتها على الترحيم الشديد، وقد ورد فيها الزجر الاكيد، ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الانسان الميت كما قال عز وجل: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهـتموه
[الحجرات: 12]
أي كما تكرهـون هـذا طبعا فاكرهـوه ذاك شرعا، فإن عقوبته أشد من هـذا، وهـذا من التنفير عنها والتحذير منها كما قال صلى الله عليه وسلم في العائد في هـبته: «كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه»
وقد قال: «ليس لنا مثل السوء»
وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هـذا في شهركم هـذا في بلدكم هـذا»
وروى أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الاعلى، حدثنا أسباط بن محمد عن هـشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هـريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (5)
وحدثنا عثمان بن أبي شيبة: حدثنا الاسود بن عامر، حدثنا أبو بكر بن عياش عن الاعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة الاسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» (6) تفرد به أبو داود
وقد روي من حديث البراء بن عازب. فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا إبراهـيم بن دينار، حدثنا مصعب بن سلام عن حمزة بن حبيب الزيات، عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها- أو قال- في خدورهـا، فقال: يا معشر من آمن بلسانه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته» (7).
[طريق أخرى]
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الايمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» قال: ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك «8».
وروى أبو داود: عن المستورد أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم، ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة»»
تفرد به أبو داود. (9)
و عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوهـهم وصدورهـم، قلت: من هـؤلاء يا جبرائيل؟ قال:
هـؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» «10» تفرد به أبو داود وهـكذا رواه الامام أحمد عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي به.
[طريق أخرى]
قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا إبراهـيم بن الاشعث، حدثنا الفضيل بن عياض عن سليمان عن أبي سفيان وهـو طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن نفرا من المنافقين اغتابوا ناسا من المسلمين فلذلك بعثت هـذه الريح» وربما قال «فلذلك هـاجت هـذه الريح» (11)
وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختار من طريق حبان بن هـلال عن حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الاسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما فقالا: إن هـذا لنؤوم فأيقظاه، فقالا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يقرئانك السلام ويستأدمانك فقال صلى الله عليه وسلم: «إنهما قد ائتدما» فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لارى لحمه بين ثناياكما» فقالا رضي الله عنهما: استغفر لنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم «مراه فليستغفر لكما». (12)
وقوله عز وجل: (واتقوا الله) أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه إن الله تواب رحيم أي تواب على من تاب إليه رحيم لمن رجع إليه واعتمد عليه. قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ويعزم على أن لا يعود، وهـل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون:
لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه فطريقه إذا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، فتكون تلك بتلك
——-
(1) الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين834
قال ابو زرعة: أخطأ فيه أسباط إنما هو إن الله نهانا رواه أبو معاوية وغيره إن الله نهانا وهو الصحيح
علل الحديث: (6/ 289)
قال الدارقطني: الصحيح من قول ابن مسعود
العلل: (5/ 75)
(2) حسنه محققو المسند 39/ 237 فجبير وعمرو بن الأسود تابعيان مخضرمان، وكثير بن مرة
ويشهد له حديث معاوية السابق
(3) أخرجه مسلم في “صحيحه” برقم: (2589)
(4) هو في الصحيح المسند 1594
(5) أخرجه مسلم في البر حديث 32، وأبو داود في الأدب باب 35،
(6) أخرجه أبي داود برقم (4880) ..
واسناده حسن
وقال الدارقطني: القول قول أبي بكر بن عياش ومن تابعه
العلل الواردة في الأحاديث النبوية: (6/ 309)
(7) حسن بالشواهد
(8) في الصحيح المسند 725
(9) إسناده حسن في المتابعات والشواهد رجاله ثقات وصدوقيين عدا وقاص بن ربيعة العنسي؛ لم يوثقه معتبر
وله شواهد من حديث أنس بن مالك، وحديث الحسن البصري
فأما حديث أنس بن مالك، أخرجه ابن أبي شيبة في “مصنفه” برقم: (35904) موقوف
وأما حديث الحسن البصري، أخرجه عبد الرزاق في “مصنفه” برقم: (21000) مرسل
(10) هو في الصحيح المسند 112
(11) قال محققو المسند في بعض طرقه إسناده قوي وبلفظ أنها لموت منافق في مسلم 2782 (تحقيقنا لنضرة النعيم)
(12) قال سيف وصاحبه: على شرط الذيل على أحاديث معلة.
الحديث ضعيف، لا يصح إلا مرسلا
وقد روى هذا الحديث الخرائطي في “مساوئ الأخلاق” (ص: 95) والضياء في “المختارة” (1697) من طريق عَبَّاد بْن الْوَلِيدِ بْنِ الْغُبَرِيِّ: ثنا حِبَّانُ بْنُ هِلالٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أنبا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسٍ فذكره
قال الشيخ الألباني رحمه الله في “الصحيحة” (2608):
” وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير أبي بدر الغبري، قال أبو حاتم وتبعه الحافظ: ” صدوق “، وذكره ابن حبان في ” الثقات “، وروى عنه جمع من الحفاظ الثقات، وقد توبع، فقال الضياء عقبه: ” وقد رواه عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ” أن العرب كانت تخدم بعضهم بعضا في الأسفار … ” فذكره ” انتهى.
ولكن الذي ذكره الضياء معلقا، وصله أبو القاسم الأصبهاني في “الترغيب والترهيب” (2231) من طريق جعفر بن محمد الصائغ، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، ثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به مرسلا.
وعفان ثقة حافظ متقن، من رجال الشيخين، وهو من أوثق الناس في حماد بن سلمة، قال يحيى بن معين: من أراد أن يكتب حديث حماد بن سلمة، فعليه بعفان بن مسلم.
“شرح علل الترمذي” (2/ 707)، وراجع: “التهذيب” (7/ 205 – 209).
فروايته مقدمة على رواية الغبري الذي غاية ما قيل فيه إنه صدوق.
وعلى ذلك فرواية عفان المرسلة تُعِل رواية الغبري الموصولة، ولا تشهد لها.
وللحديث شاهد آخر رواه أبو الشيخ الأصبهاني في “التوبيخ والتنبيه” (249): حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى عَامِرٍ، عن أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: ” زُعِمَ أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ يَخْدِمُهُمَا،
قال الألباني:
” هذا مرسل، والسند إليه ضعيف ” انتهى من “الصحيحة” (6/ 107).
والحديث رواه الحكيم الترمذي في “نوادر الأصول” (1/ 283) إسناد واه (ضعيف جدا):
قال في التقريب (ص596)
فهذا إسناد واهٍ لا يصلح ولا في الشواهد
والحاصل: أن الحديث ضعيف، لا يصح إلا مرسلا، والرواية الأولى لا تصلح في الشواهد لشدة ضعفها، ورواية الوصل من حديث حماد بن سلمة معلولة بالإرسال