تفسير ابن كثير سورة الطور الآيات 28 – 21
قام به سيف الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
سورة الطور الآيات 28 – 21
—–
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين (21) وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23) ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون (24) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (25) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم (28))
———-
يخبر تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل، بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك ; ولهذا قال: (ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء)
قال الثوري، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر بهم عينه ثم قرأ: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء)
رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مرة به. ورواه البزار، عن سهل بن بحر، عن الحسن بن حماد الوراق، عن قيس بن الربيع، عن عمرو بن مرة، عن سعيد، عن ابن عباس مرفوعا، فذكره، ثم قال: وقد رواه الثوري، عن عمرو بن مرة، عن سعيد عن ابن عباس موقوفا (1).
وروى ابن أبي حاتم: عن ابن عباس في قول الله عز وجل: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) قال: هم ذرية المؤمن، يموتون على الإيمان: فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوا شيئا.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: يقول: والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي، ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة وأولادهم الصغار تلحق بهم (2)
وهذا راجع إلى التفسير الأول، فإن ذاك مفسر أصرح من هذا. وهكذا يقول الشعبي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، وقتادة، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والضحاك، وابن زيد. وهو اختيار ابن جرير.
هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء، فقد روى الإمام أحمد:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك ” (3)
إسناده صحيح، ولم يخرجوه من هذا الوجه، ولكن له شاهد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ”
وقوله: (كل امرئ بما كسب رهين) لما أخبر عن مقام الفضل، وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد، بل (كل امرئ بما كسب رهين) أي: مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أبا أو ابنا، كما قال: (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين) [المدثر: 38 – 41].
وقوله: (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) أي: وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى، مما يستطاب ويشتهى.
وقوله (يتنازعون فيها كأسا) أي: يتعاطون فيها كأسا، أي: من الخمر. قاله الضحاك. (لا لغو فيها ولا تأثيم) أي: لا يتكلمون عنها بكلام لاغ أي: هذيان، ولا إثم أي: فحش، كما تتكلم به الشربة من أهل الدنيا.
وقال ابن عباس: اللغو: الباطل. والتأثيم: الكذب.
وقال مجاهد: لا يستبون ولا يؤثمون.
وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان.
فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها – كما تقدم – صداع الرأس، ووجع البطن، وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هذيانا وفحشا، وأخبر بحسن منظرها، وطيب طعمها ومخبرها فقال: (بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) [الصافات: 46، 47]، وقال (لا يصدعون عنها ولا ينزفون) [الواقعة: 19]، وقال هاهنا: (يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم)
وقوله: (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون): إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة كأنهم اللؤلؤ الرطب، المكنون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم، كما قال (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين) [الواقعة: 17، 18].
وقوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي: أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وهذا كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم.
(قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) أي: قد كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه، (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) أي: فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف.
(إنا كنا من قبل ندعوه) أي: نتضرع إليه فاستجاب [الله] لنا وأعطانا سؤلنا، (إنه هو البر الرحيم)
وروى ابن أبي حاتم: عن عائشة ; أنها قرأت هذه الآية: (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) فقالت: اللهم من علينا وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم. قيل للأعمش: في الصلاة؟ قال: نعم. (4)
——–
(1) الصواب الموقوف لكن ذهب محقق ط الفتح تفسير ابن كثير.
(2) مسلسل بالعوفيين ووضعناه لبيان ابن كثير بعده.
(3) هو في الصحيح المسند 1389.
قال صاحبنا ابوصالح: وحسن الاسناد الالباني كما في الصحيحة 1598.
(4) ظاهر السند أنه صحيح
لكن أبو الضحى مرة يسقط مسروق
ومرة يقول حدثني من، سمع عائشة
ومسروق ثقة. ورواه البيهقي من طريقين بذكر مسروق. وهنا عند ابن أبي حاتم من طريق وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق.